الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ وهذا عام في جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم. وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم، وينصرونهم، ويصدقونهم، أم يكفرون بهم، ويردون عليهم، ويقاتلونهم؟ وامتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك؟ وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم، ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة، وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به، وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار ولكفار بالمؤمنين. وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم، ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم، من أتباع الرسل، فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا: ﴿لَوْ كانَ خَيْراَ ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾ هؤلاء. وقالوا لنوح عليه السلام: ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١]. قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهمْ مِن بَيْنِنا﴾ [الأنعام: ٥٣]. فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم، فيكون مثله، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء؟ قال الزجاج: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام، فيمتنع منه لئلا يقال أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه في الفضل. ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة، أن الفقير يقول: لِمَ لَمْ أكن مثل الغني؟ ويقول الضعيف: هلا كنت مثل القوي؟ ويقول المبتلى، هلا كنت مثل المعافى؟ وقال الكفار: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نؤتى مِثْلَ ما أُوتِي رُسلُ اللهِ﴾ [الأنعام: ١٢٤]. قال مقاتل: نزلت في افتتان المشركين بفقراء المهاجرين، نحو بلال، وخباب، وصهيب، وأبي ذر، وابن مسعود، وعمار، كان كفار قريش يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا؟ قال الله تعالى: ﴿إنَّهُ كانَ فَرِيق مِن عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ فاتّخَذْتُموهم سِخْرِيا حَتّى أنْسَوْكم ذِكْرِي وكُنْتُمْ مِنهم تَضْحَكُونَ إنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بَما صَبَرُوا أنّهم هُمُ الفائِزُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٩-١١١]. فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠]. قال الزجاج: أي أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون: قلت: قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر هاهنا، وفي قوله: ﴿ثُمَّ إنّ رَبّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِن بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا﴾ [النحل: ١١٠]. فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة. فالفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتنّا الَّذِينَ مِن قَبْلهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣]. فالفتنة قسمت الناس، إلى صادقٍ وكاذبٍ ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ. فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها. فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ هم عَلى النّار يفُتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكمْ هذا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات: ١٣،: ١٤]. فالنار فتنة من لم يصبر على فتنة الدنيا، قال تعالى في شجرة الزقوم: ﴿إنّا جَعَلْناها فِتْنَة لِلظّالِمينَ﴾ [الصافات: ٦٣]. قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: يكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿إنّها شَجَرَة تَخْرُجُ في أصْلِ الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٦٤]. فأخبرهم أن غذاءها من النار، أي غذيت بالنار. قال ابن قتيبة: قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار، ومن جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها، وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما يُعلم لم تبق على النار، وإنما دلَّنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة، والمعاني مختلفة، وما في الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك. والمقصود: أن هذه الشجرة فتنة لهم في الدنيا، بتكذيبهم بها، وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها. وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، كان فتنة للكفار، حيث قال عدو الله أبو جهل: أيخوفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فقال أبو الأسد: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة فأنا أمشى بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبى الأيمن، وتسعة بمنكبى الأيسر في النار، ونمضى فندخل الجنة. فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم في الدنيا، وفتنة لهم يوم القيامة. والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، كما قال الحنفاء: ﴿رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وإلَيْكَ أنَبْنا وإلَيْكَ المَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الممتحنة: ٤-٥]. وقال أصحاب موسى عليه السلام: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنْةً لِلْقَوْمِ الظّالمِينَ﴾ [يونس: ٨٥]. قال مجاهد: المعنى، لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتنوا بذلك. وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار، فيروا أنهم على حق وأنا على باطل. وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم. وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر، فقال: ﴿وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيقُولُوا أهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ فقال الله تعالى ﴿ألَيْسَ اللهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرين﴾. والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكل من النوعين فتنة للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصح وإلا فبسبيل من هلك، ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله سلم: "ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ مِنَ النِّساءِ عَلى الرِّجالِ" أو كما قال. فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوي المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده، مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به: ؎فَوَ اللهِ، لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ ∗∗∗ ِتَوْفِيقِه واللهُ بِالعَبْدِ أرْحَمُ ؎لما ثَبَتَ الإيمانُ يَوْماَ بِقَلْبِهِ ∗∗∗ عَلى هذِه العِلاّتِ، والأمْرُ أعْظَمُ ؎وَلا طاوَعَتْهُ النّفْسُ في تَرْكِ شَهْوَةٍ ∗∗∗ مَخافَةَ نارٍ جَمْرها يَتَضَرَّمُ ؎وَلا خافَ يَوْمًا منْ مَقامِ إلهِهِ ∗∗∗ عَلَيْهِ بحُكْمِ القِسْطِ، إذْ لَيْسَ يَظْلِمُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب