الباحث القرآني

ولَمّا أبْطَلَ سُبْحانَهُ ما وصَمُوا بِهِ رَسُولَهُ ﷺ وذَكَرَ ما جَزاهم عَلَيْهِ. وما أعَدَّ لَهم ولَهُ ولِأتْباعِهِ، ونَفى ما زَعَمُوهُ في مَعْبُوداتِهِمْ وخَتَمَهُ بِتَعْذِيبِ الظّالِمِ، ذَكَرَ ما ظَلَمُوا فِيهِ مِن قَوْلِهِمْ ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ﴾ [الفرقان: ٧] ونَحْوِهِ، فَبَيَّنَ أنَّ ما جَعَلُوهُ مِن ذَلِكَ وصْمَةً في حَقِّهِ هو سُنَّتُهُ سُبْحانَهُ في الرُّسُلِ مِن قَبْلِهِ أُسْوَةً لِنَوْعِهِمُ البَشَرِيِّ، وأتْبَعَهُ سِرَّهُ فَقالَ زِيادَةً في (p-٣٦٥)التَّسْلِيَةِ والتَّعْزِيَةِ والتَّأْسِيَةِ: ﴿وما أرْسَلْنا﴾ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ. ولَمّا كانَ المُرادُ العُمُومَ، أعَراهُ مِنَ الجارِّ فَقالَ: ﴿قَبْلَكَ﴾ أيْ يا مُحَمَّدُ أحْدًا ﴿مِنَ المُرْسَلِينَ إلا﴾ وحالُهم ﴿إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ ما نَأْكُلُ ويَأْكُلُ غَيْرُكَ مِنَ الآدَمِيِّينَ ﴿ويَمْشُونَ في الأسْواقِ﴾ كَما تَفْعَلُ ويَفْعَلُونَ أيْ إلّا وحالُهُمُ الأكْلُ والمَشْيُ لِطَلَبِ المَعاشِ كَحالِ سائِرِ الآدَمِيِّينَ، وهو يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِما سَمِعُوا مِن أخْبارِهِمْ، وهَذا تَأْكِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ نَقْصًا، وإبْطالُ لِحُجَّتِهِمْ بِما قالُوهُ مِن ذَلِكَ، وإقامَةً لِلْحُجَّةِ عَلى عِنادِهِمْ، وأنَّهم إنَّما يَقُولُونَهُ وأمْثالَهُ لِما تَقَدَّمَ مِن رُسُوخِ التَّكْذِيبِ بِالسّاعَةِ في أنْفُسِهِمْ ﴿وجَعَلْنا﴾ أيْ بِالعَطاءِ والمَنعِ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ بِأنْ جَعَلْنا هَذا نَبِيًّا وخَصَصْناهُ بِالرِّسالَةِ، وهَذا مَلِكًا وخَصَصْناهُ بِالدُّنْيا، وهَذا فَقِيرًا وحَرَمْناهُ الدُّنْيا، لِيَظْهَرَ ما نَعْلَمُهُ مِن كُلٍّ مِنَ الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ في عالَمِ الغَيْبِ لِلنّاسِ في عالَمِ الشَّهادَةِ، فَنَخْتَبِرُ الفَقِيرَ بِصَبْرِهِ عَلى ما حُرِمَ مِمّا أُعْطِيهِ الغَنِيَّ أوْ جَزَعِهِ، والمُلْكَ ومَن في مَعْناهُ مِنَ الأشْرافِ بِصَبْرِهِمْ عَلى ما أُعْطِيَهُ الرَّسُولُ مِنَ الكَرامَةِ والبُلُوغِ بِالقُرْبِ مِنَ اللَّهِ إلى ما لا يَبْلُغُونَهُ مَعَ ما هم فِيهِ مِنَ العَظَمَةِ، فَلِأجْلٍ ذَلِكَ لَمْ أُعْطِ (p-٣٦٦)رَسُولِي الدُّنْيا، وجَعَلْتُهُ مِمَّنْ يَخْتارُ العُبُودِيَّةَ والكَفافَ بِطَلَبِ المَعاشِ في الأسْواقِ، لِأبْتَلِيَكم في الطّاعَةِ لَهُ خالِصَةً، فَإنِّي لَوْ أعْطَيْتُهُ الدُّنْيا، وجَعَلْتُهُ مِمَّنْ يَخْتارُ المُلْكَ، لَسارَعَ الأكْثَرُ إلى اتِّباعِهِ طَمَعًا في الدُّنْيا، وهَذا مَعْنى ﴿أتَصْبِرُونَ﴾ فَإنَّهُ عِلَّةُ ما قَبْلَهُ، أيْ لِنَعْلَمَ عِلْمَ شَهادَةٍ هَلْ تَصْبِرُونَ فِيما امْتَحَنّاكم بِهِ أمْ لا؟ كَما كُنّا نَعْلَمُهُ عِلْمَ الغَيْبِ، لِتَقُومَ عَلَيْكم بِذَلِكَ الحُجَّةُ في مَجارِي عاداتِكُمْ، وفِيها مَعَ العِلِّيَّةِ تَهْدِيدٌ بَلِيغٌ لِمَن تَدَبَّرَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ اسْتِئْنافًا لِلتَّهْدِيدِ. ولَمّا كانَ الِاخْتِبارُ رُبَّما أوْهَمَ نَقْصًا في العِلْمِ، وكانَ إحْسانُهُ سُبْحانَهُ إلى جَمِيعِ الخَلْقِ دُونَ إحْسانِهِ إلى سَيِّدِهِمْ وعَيْنِهِمْ، وخُلاصَتِهِمْ وزَيْنِهِمْ: مُحَمَّدٍ ﷺ، وكانَ أعْلَمَهم بِتَنْزِيهِهِ وتَعْظِيمِهِ، وكانَ امْتِحانُهم بِجَعْلِهِ نَبِيًّا عَبْدًا مَعَ كَوْنِهِ في غايَةِ الإكْرامِ لَهُ رُبَّما ظَنُّوهُ إهانَةً، نَفى ما لَعَلَّهُ يُوهِمُهُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِفْهامِ والِامْتِحانِ في حَقِّ اللَّهِ سُبْحانَهُ وحَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ، فَقالَ صارِفًا وجْهَ الخِطابِ إلَيْهِ: ﴿وكانَ رَبُّكَ﴾ أيِ المُحْسِنُ إلَيْكَ إحْسانًا لَمْ يُحْسِنْهُ إلى أحَدٍ سِواكَ، لا سِيَّما بِجَعْلِكَ نَبِيًّا عَبْدًا ﴿بَصِيرًا﴾ (p-٣٦٧)بِكُلِّ شَيْءٍ فَهو عالِمٌ بِالإنْسانِ قَبْلَ الِامْتِحانِ، لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ، وهو سُبْحانَهُ يَضَعُ الأُمُورَ في حاقَ مَواضِعِها وإنَّ رُئِيَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي عَلى كُلِّ أحَدٍ التَّسْلِيمُ لَهُ في جَمِيعِ الأُمُورِ فَإنَّهُ يَجُرُّ إلى خَيْرٍ كَبِيرٍ، والتَّدَبُّرِ لِأقْوالِهِ وأفْعالِهِ بِحُسْنِ الِانْقِيادِ والتَّلَقِّي فَإنَّهُ يُوصِلُ إلى عِلْمٍ غَزِيرٍ، وما أرادَ بِابْتِلائِكَ بِهِمْ وابْتِلائِهِمْ بِكَ في هَذا الأذى الكَبِيرِ إلّا إعْلاءَ شَأْنِكَ وإسْفالَ أمْرِهِمْ ﴿ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: ٨٨]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب