الباحث القرآني
﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ١١٦] تَقَدَّمَ مِثْلُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، ونَزَلَتْ قِيلَ في طُعْمَةَ. وقِيلَ في نَفَرٍ مِن قُرَيْشٍ أسْلَمُوا، ثُمَّ انْقَلَبُوا إلى مَكَّةَ مُرْتَدِّينَ. وقِيلَ في شَيْخٍ قالَ: لَمْ أُشْرِكْ بِاللَّهِ مُنْذُ عَرَفْتُهُ؛ إلّا أنَّهُ كانَ يَأْتِي ذُنُوبًا، وأنَّهُ نَدِمَ، واسْتَغْفَرَ، إلّا أنَّ آخِرَ ما تَقَدَّمَ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا، وآخِرُ هَذِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا خُتِمَتْ كُلُّ آيَةٍ بِما يُناسِبُها. فَتِلْكَ كانَتْ في أهْلِ الكِتابِ، وهم مُطَّلِعُونَ مِن كُتُبِهِمْ عَلى ما لا يَشُكُّونَ في صِحَّتِهِ مِن أمْرِ الرَّسُولِ، ووُجُوبِ اتِّباعِ شَرِيعَتِهِ، ونَسْخِها لِجَمِيعِ الشَّرائِعِ، ومَعَ ذَلِكَ قَدْ أشْرَكُوا بِاللَّهِ مَعَ أنَّ عِنْدَهم ما يَدُلُّ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى والإيمانِ بِما نَزَلَ؛ فَصارَ ذَلِكَ افْتِراءً واخْتِلافًا مُبالَغًا في العِظَمِ والجُرْأةُ عَلى اللَّهِ.
وهَذِهِ الآيَةُ هي في ناسٍ مُشْرِكِينَ لَيْسُوا بِأهْلِ كُتُبٍ ولا عُلُومٍ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ جاءَهم بِالهُدى مِنَ اللَّهِ وبانَ لَهم طَرِيقُ الرُّشْدِ؛ فَأشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَضَّلُوا بِذَلِكَ ضَلالًا يُسْتَبْعَدُ وُقُوعُهُ، أوْ يَبْعُدُ عَنِ الصَّوابِ. ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَهُ: ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا﴾، وجاءَ بَعْدَ تِلْكَ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: ٤٩]، وقَوْلُهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [النساء: ٥٠]، ولَمْ يَخْتَلِفْ أحَدٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ في أنَّ المُرادَ بِهِمُ اليَهُودُ، وإنْ كانَ اللَّفْظُ عامًّا. ولَمّا كانَ الشِّرْكُ مِن أعْظَمِ الكَبائِرِ؛ كانَ الضَّلالُ النّاشِئُ عَنْهُ بَعِيدًا عَنِ الصَّوابِ؛ لِأنَّ غَيْرَهُ مِنَ المَعاصِي، وإنْ كانَ ضَلالًا لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِن أنْ يُراجِعَ صاحِبُهُ الحَقَّ؛ لِأنَّ لَهُ رَأْسَ مالٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ، وهو الإيمانُ، بِخِلافِ المُشْرِكِ. ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ [الحج: ١٢]، وناسَبَ هُنا ذِكْرُ الضَّلالِ لِتَقَدُّمِ الهُدى قَبْلَهُ.
﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا﴾ المَعْنى: ما يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، ويَتَّخِذُونَهُ إلَهًا إلّا مُسَمَّياتٍ تَسْمِيَةَ الإناثِ. وكَنّى بِالدُّعاءِ عَنِ العِبادَةِ؛ لِأنَّ مَن عَبَدَ شَيْئًا دَعاهُ عِنْدَ حَوائِجِهِ ومَصالِحِهِ. وكانُوا يُحَلُّونَ الأصْنامَ بِأنْواعِ الحُلِيِّ ويُسَمُّونَها أُنْثى، وإناثٌ جَمْعُ أُنْثى كَرِبابٍ جَمْعُ رُبّى. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ: المُرادُ الخَشَبُ والحِجارَةُ؛ فَهي مُؤَنَّثاتٌ لا تَعْقِلُ؛ فَيُخْبَرُ عَنْها كَما يُخْبَرُ عَنِ المُؤَنَّثِ مِنَ الأشْياءِ. فَيَجِيءُ قَوْلُهُ ﴿إلّا إناثًا﴾ عِبارَةً عَنِ الجَماداتِ. وقالَ أبُو مالِكٍ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهم: كانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي أصْنامَها بِأسْماءٍ مُؤَنَّثَةٍ كاللّاتِ (p-٣٥٢)والعُزّى ومَناةَ ونايِلَةَ. ويُرَدُّ عَلى هَذا بِأنَّها كانَتْ تُسَمّى أيْضًا بِأسْماءٍ مُذَكَّرَةٍ: كَهُبَلَ، وذِي الخُلَصَةِ.
وقالَ الضَّحّاكُ وغَيْرُهُ: المُرادُ ما كانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِن تَأْنِيثِ المَلائِكَةِ وعِبادَتِهِمْ إيّاها؛ فَقِيلَ لَهم: هَذا عَلى إقامَةِ الحُجَّةِ مِن فاسِدِ قَوْلِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِن أحْياءِ العَرَبِ إلّا ولَهم صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ يُسَمُّونَهُ أُنْثى بَنِي فُلانٍ، وفي هَذا تَعْبِيرُهم بِالتَّأْنِيثِ؛ لِنَقْصِهِ وخَساسَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّذْكِيرِ. وقالَ الرّاغِبُ: أكْثَرُ ما عَبَدَتْهُ العَرَبُ مِنَ الأصْنامِ كانَتْ أشْياءَ مُنْفَعِلَةً غَيْرَ فاعِلَةٍ؛ فَبَكَّتْهُمُ اللَّهُ تَعالى أنَّهم مَعَ كَوْنِهِمْ فاعِلِينَ مِن وجْهٍ يَعْبُدُونَ ما لَيْسَ هو إلّا مُنْفَعِلًا مِن كُلِّ وجْهٍ، وعَلى هَذا نَبَّهَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] .
وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: إنْ تَدْعُونَ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ ورُوِيَتْ عَنْ عاصِمٍ. وفي مُصْحَفِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (إلّا أوْثانًا) جَمْعُ وثَنٍ، وهو الصَّنَمُ. وقَرَأ بِذَلِكَ أبُو السِّوارِ والهَنائِيُّ. وقَرَأ الحَسَنُ: (إلّا أُنْثى) عَلى التَّوْحِيدِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو حَيْوَةَ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، وأبُو العالِيَةِ، وأبُو نَهِيكٍ، ومُعاذٌ القارِئُ (أُنْثًا) . قالَ الطَّبَرِيُّ: فِيما حَكى إناثٌ كَثِمارٍ وثَمَرٍ. وقالَ غَيْرُهُ: أنَثٌ جَمْعُ أنِيثٍ، كَغَرِيرٍ وغَرَرٍ. وقالَ المَغْرِبِيُّ: إلّا إناثًا إلّا ضِعافًا عاجِزِينَ لا قُدْرَةَ لَهم؛ يُقالُ: سَيْفٌ أنِيثٌ، ومِيناثَةٌ بِالهاءِ، ومَيْناثٌ غَيْرُ قاطِعٍ. قالَ الشّاعِرُ:
؎فَتُخْبِرُنِي بِأنَّ العَقْلَ عِنْدِي جُرازٌ لا أقَلَّ ولا أنِيثُ
أنَّثَ في أمْرِهِ: لانَ، والأنِيثُ المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ مِنَ الرِّجالِ. وقَرَأ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو الجَوْزاءِ: (إلّا وثَنًا) بِفَتْحِ الواوِ والثّاءِ مِن غَيْرِ هَمْزَةٍ. وقَرَأ ابْنُ المُسَيَّبِ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، وعَطاءٍ: (إلّا أثَنًا) يُرِيدُونَ وثَنًا، فَأبْدَلَ الهَمْزَةَ واوًا، وخَرَجَ عَلى أنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ؛ إذْ أصْلُهُ وثَنٌ، فَجُمِعَ عَلى وِثانٍ كَجَمَلٍ وجِمالٍ، ثُمَّ وِثانٍ عَلى وُثُنٍ كَمِثالٍ ومُثُلٍ، وحِمارٍ وحُمُرٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ فِعالًا في جَمْعِ فِعْلٍ إنَّما هو لِلتَّكْثِيرِ، والجَمْعُ الَّذِي هو لِلتَّكْثِيرِ لا يُجْمَعُ؛ وإنَّما يُجْمَعُ جُمُوعَ التَّقْلِيلِ، والصَّوابُ أنْ يُقالَ: وُثْنٌ جَمْعُ وثَنٍ دُونَ واسِطَةٍ، كَأسَدٍ وأُسْدٍ انْتَهى. ولَيْسَ قَوْلُهُ: وإنَّما يُجْمَعُ جُمُوعُ التَّقْلِيلِ بِصَوابٍ كامِلٍ، الجُمُوعُ مُطْلَقًا لا يَجُوزُ أنْ تُجْمَعَ بِقِياسٍ سَواءٌ كانَتْ لِلتَّكْثِيرِ أمْ لِلتَّقْلِيلِ، نَصَّ عَلى ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ. وقَرَأ أيُّوبُ السِّجِسْتانِيُّ: (إلّا وُثُنًا) بِضَمِّ الواوِ والثّاءِ مِن غَيْرِ هَمْزَةٍ، كَشُقَقٍ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: إلّا أثْنًا بِسُكُونِ الثّاءِ، وأصْلُهُ وثْنًا، فاجْتَمَعَ في هَذا اللَّفْظِ ثَمانِي قِراءاتٍ: إناثًا، وأُنْثًا، وأوْثانًا، ووَثْنًا، ووُثُنًا، واثِنًا، وأثَنًا.
﴿وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ المُرادُ بِهِ إبْلِيسُ قالَهُ الجُمْهُورُ، وهو الصَّوابُ؛ لِأنَّ ما قالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنٌ أنَّهُ هو. وقِيلَ الشَّيْطانُ المُعَيَّنُ بِكُلِّ صَنَمٍ: أُفْرِدَ لَفْظًا، وهو مَجْمُوعٌ في المَعْنى، الواحِدُ يَدُلُّ عَلى الجِنْسِ. قِيلَ كانَ يَدْخُلُ في أجْوافِ الأصْنامِ، فَيُكَلِّمُ داعِيَها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَعَنَهُ اللَّهُ صِفَةً، وأنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ. وقِيلَ هو دُعاءٌ، ولا يَتَعارَضُ الحَصْرانِ؛ لِأنَّ دُعاءَ الأصْنامِ ناشِئٌ عَنْ دُعائِهِمُ الشَّيْطانَ، لَمّا عَبَدُوا الشَّيْطانَ أغْراهم بِعِبادَةِ الأصْنامِ أوْ لِاخْتِلافِ الدُّعاءَيْنِ؛ فالأوَّلُ عِبادَةٌ والثّانِي طَواعِيَةٌ. وقالَ ابْنُ عِيسى: هو مِثْلُ: ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ [الأنفال: ١٧] يَعْنِي أنَّ نِسْبَةَ دُعائِهِمُ الأصْنامَ هو عَلى سَبِيلِ المَجازِ. وأمّا في الحَقِيقَةِ فَهم يَدْعُونَ الشَّيْطانَ.
﴿وقالَ لَأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾؛ أيْ نَصِيبًا واجِبًا؛ اقْتَطَعْتُهُ لِنَفْسِي مِن قَوْلِهِمْ: فَرَضَ لَهُ في العَطاءِ، وفَرْضُ الجُنْدِ: رِزْقُهم. والمَعْنى: لَأسْتَخْلِصَنَّهم لِغَوايَتِي، ولَأخُصَّنَّهم بِإضْلالِي، وهُمُ الكَفَرَةُ والعُصاةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَفْرُوضُ هُنا مَعْناهُ المُنْحازُ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الفَرْضِ، وهو الحَزُّ في العُودِ وغَيْرِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ واجِبًا إنِ اتَّخَذَهُ، وبَعْثُ النّارِ هو نَصِيبُ إبْلِيسَ. قالَ الحَسَنُ: مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتِسْعُونَ، قالُوا: ولَفْظُ نَصِيبٍ يَتَناوَلُ القَلِيلَ فَقَطْ. والنَّصُّ أنَّ أتْباعَ إبْلِيسَ هُمُ (p-٣٥٣)الكَثِيرُ بِدَلِيلِ: ﴿لَأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٢] ﴿فاتَّبَعُوهُ إلّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [سبإ: ٢٠]، وهَذا مُتَعارِضٌ.
وأُجِيبَ أنَّ التَّفاوُتَ إنَّما يَحْصُلُ في نَوْعِ البَشَرِ، أمّا إذا ضَمَمْتَ أنْواعَ المَلائِكَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ إلى المُؤْمِنِينَ كانَتِ الكَثْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وأيْضًا فالمُؤْمِنُونَ؛ وإنْ كانُوا قَلِيلِينَ في العَدَدِ؛ نُصِيبُهم عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. والكُفّارُ والفُسّاقُ، وإنْ كانُوا كَثِيرِينَ فَهم كالعَدَمِ. انْتَهى تَلْخِيصُ ما أُجِيبَ بِهِ. والَّذِي أقُولُ: إنَّ لَفْظَ نَصِيبٍ لا يَدُلُّ عَلى القَلِيلِ والكَثِيرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ [النساء: ٧] الآيَةَ. والواوُ: قِيلَ عاطِفَةٌ، وقِيلَ واوُ الحالِ.
﴿ولَأُضِلَّنَّهم ولَأُمَنِّيَنَّهم ولَآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ هَذِهِ خَمْسَةٌ أقْسَمَ إبْلِيسُ عَلَيْها: أحَدُها: اتِّخاذُ نَصِيبٍ مِن عِبادِ اللَّهِ، وهو اخْتِيارُهُ إيّاهم. والثّانِي: إضْلالُهم، وهو صَرْفُهم عَنِ الهِدايَةِ وأسْبابِها. والثّالِثُ: تَمْنِيَتُهُ لَهم، وهو التَّسْوِيلُ، ولا يَنْحَصِرُ في نَوْعٍ واحِدٍ؛ لِأنَّهُ يُمَنِّي كُلَّ إنْسانٍ بِما يُناسِبُ حالَهُ مِن طُولِ عُمْرٍ وبُلُوغِ وطَرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وهي كُلُّها أمانِيُّ كَواذِبُ باطِلَةٌ. وقِيلَ الأمانِيُّ تَأْخِيرُ التَّوْبَةِ. وقِيلَ هي اعْتِقادٌ أنْ لا جَنَّةَ ولا نارَ ولا بَعْثَ ولا حِسابَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَأُمَنِّيَنَّهُمُ الأمانِيَّ الباطِلَةَ مِن طُولِ الأعْمارِ، وبُلُوغِ الآمالِ، ورَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى لِلْمُجْرِمِينَ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ والخُرُوجِ مِنَ النّارِ بَعْدَ دُخُولِها بِالشَّفاعَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، انْتَهى. وهَذا عَلى مَنزَعِهِ الِاعْتِزالِيِّ، ووَلُوعِهِ بِتَفْسِيرِ كِتابِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ إشْعارِ لَفْظِ القُرْآنِ بِما يَقُولُهُ ويَنْحِلُهُ. والرّابِعُ: أمْرُهُ إيّاهُمُ النّاشِئُ عَنْهُ تَبْتِيكِ آذانِ الأنْعامِ، وهو فِعْلُهم بِالبَحائِرِ كانُوا يَشُقُّونَ آذانَ النّاقَةِ إذا ولَدَتْ خَمْسَةَ أبْطُنٍ. وجاءَ الخامِسُ ذَكَرًا، وحَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ الِانْتِفاعَ بِها؛ قالَهُ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ. وقِيلَ فِيهِ إشارَةٌ إلى كُلِّ ما جَعَلَهُ اللَّهُ كامِلًا بِفِطْرَتِهِ، فَجَعَلَ الإنْسانَ ناقِصًا بِسُوءِ تَدْبِيرِهِ. والخامِسُ أمْرُهُ إيّاهُمُ النّاشِئُ عَنْهُ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وإبْراهِيمُ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ وغَيْرُهم. أرادَ تَغْيِيرَ دِينِ اللَّهِ؛ ذَهَبُوا في ذَلِكَ إلى الِاحْتِجاجِ بِقَوْلِهِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]
أيْ لِدِينِ اللَّهِ. والتَّبْدِيلُ يَقَعُ مَوْقِعَةَ التَّغْيِيرِ؛ وإنْ كانَ التَّغْيِيرُ أعَمَّ مِنهُ. ولَفْظُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠] خَبَرٌ، ومَعْناهُ: النَّهْيُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمُ الزَّجّاجُ: هو جَعْلُ الكُفّارِ آلِهَةً لَهم ما خُلِقَ لِلِاعْتِبارِ بِهِ مِنَ الشَّمْسِ والنّارِ والحِجارَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا عَبَدُوهُ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ والحَسَنُ: هو الوَشْمُ، وما جَرى مَجْراهُ مِنَ التَّصَنُّعِ لِلتَّحْسِينِ، فَمِن ذَلِكَ الحَدِيثُ في: «لَعْنِ الواشِماتِ والمُسْتَوْشِماتِ والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفَلِّجاتِ المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللَّهِ، ولَعْنِ الواصِلَةِ والمُسْتَوْصِلَةِ»، انْتَهى.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وأنَسٌ، وعِكْرِمَةُ، وأبُو صالِحٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ أيْضًا: هو الخِصاءُ، وهو في بَنِي آدَمَ مَحْظُورٌ. وكَرِهَ أنَسٌ خِصاءَ الغَنَمِ، وقَدْ رَخَّصَ جَماعَةٌ فِيهِ لِمَنفَعَةِ السِّمَنِ في المَأْكُولِ، ورَخَّصَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ في خِصاءِ الخَيْلِ. وقِيلَ لِلْحَسَنِ: إنَّ عِكْرِمَةَ قالَ هو الخِصاءُ، قالَ: كَذَبَ عِكْرِمَةُ، هو دِينُ اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ التَّخَنُّتُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو فَقْءُ عَيْنِ الحامِي، وإعْفاؤُهُ عَنِ الرُّكُوبِ، انْتَهى. وناسَبَ هَذا أنَّهُ ذَكَرَ أثَرَ ذَلِكَ تَبْتِيكَ آذانِ الأنْعامِ فَناسَبَ أنْ يَكُونَ التَّغْيِيرُ هَذا. وقِيلَ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ هو أنَّ كُلَّ ما يُوجِدُهُ اللَّهُ لِفَضِيلَةٍ؛ فاسْتَعانَ بِهِ في رَذِيلَةٍ، فَقَدْ غَيَّرَ خَلْقَهُ. وقَدْ دَخَلَ في عُمُومِهِ ما جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى لِلْإنْسانِ مِن شَهْوَةِ الجِماعِ، لِيَكُونَ سَبَبًا لِلتَّناسُلِ عَلى وجْهٍ مَخْصُوصٍ؛ فاسْتَعانَ بِهِ في السِّفاحِ واللِّواطِ؛ فَذَلِكَ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ. وكَذَلِكَ المُخَنَّثُ إذا نَتَفَ لِحْيَتَهُ، وتَقَنَّعَ تَشَبُّهًا بِالنِّساءِ، والفَتاةُ إذا تَرَجَّلَتْ مُتَشَبِّهَةً بِالفِتْيانِ. وكُلُّ ما حَلَّلَهُ اللَّهُ، فَحَرَّمُوهُ أوْ حَرَّمَهُ تَعالى فَحَلَّلُوهُ. وعَلى ذَلِكَ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالًا﴾ [يونس: ٥٩] وإلى هَذِهِ الجُمْلَةِ أشارَ المُفَسِّرُونَ، ولِهَذا قالُوا: هو تَغْيِيرُ أحْكامِ اللَّهِ. وقِيلَ هو تَغْيِيرُ الإنْسانِ بِالِاسْتِلْحاقِ أوِ النَّفْيِ. وقِيلَ خِضابُ الشَّيْبِ بِالسَّوادِ. وقِيلَ مُعاقَبَةُ الوُلاةِ بَعْضَ الجُناةِ بِقَطْعِ الآذانِ، وشَقِّ المَناخِرِ وكَلِّ العُيُونِ، (p-٣٥٤)وقَطْعِ الأُنْثَيَيْنِ. ومَن فَسَّرَ بِالوَشْمِ أوِ الخِصاءِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا هو خاصٌّ في التَّغْيِيرِ؛ فَإنَّما ذَلِكَ عَلى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لا الحَصْرِ. وفي حَدِيثِ عِياضٍ المُجاشِعِيِّ: «وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّ الشَّياطِينَ ألْهَتْهم وأحالَتْهم عَنْ دِينِهِمْ؛ فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهم، وأمَرْتُهم أنْ لا يُشْرِكُوا بِي ما لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا، وأمَرَتْهم أنْ لا يُغَيِّرُوا خَلْقِي» .
ومَفْعُولُ أمَرَ الثّانِي مَحْذُوفٌ؛ أيْ ولَآمُرَنَّهم بِالتَّبْتِيكِ فَلَيُبَتِّكُنَّ، ولَآمُرُنَّهم بِالتَّغَيُّرِ فَلَيُغَيِّرُنَّ. وحُذِفَ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: ولَآمُرَنَّهم بِغَيْرِ ألِفٍ؛ كَذا قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقَرَأ أُبَيٌّ: وأُضِلَّنَّهم، وأُمَنِّيَنَّهم، وآمُرُنَّهم، انْتَهى. فَتَكُونُ جُمَلًا مَقُولَةً، لا مُقْسَمًا عَلَيْها. وجاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الجُمَلِ المُقْسَمِ عَلَيْها في غايَةٍ مِنَ الفَصاحَةِ؛ بَدَأ أوَّلًا بِاسْتِخْلاصِ الشَّيْطانِ نَصِيبًا مِنهم، واصْطِفائِهِ إيّاهم، ثُمَّ ثانِيًا بِإضْلالِهِمْ، وهو عِبارَةٌ عَمّا يَحْصُلُ في عَقائِدِهِمْ مِنَ الكُفْرِ، ثُمَّ ثالِثًا بِتَمْنِيَتِهِمُ الأمانِيَّ الكَواذِبَ والإطْماعاتِ الفارِغَةَ، ثُمَّ رابِعًا بِتَبْتِيكِ آذانِ الأنْعامِ، هو حُكْمٌ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، ثُمَّ خامِسًا بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، وهو شامِلٌ لِلتَّبْتِيكِ وغَيْرِهِ مِنَ الأحْكامِ الَّتِي شَرَعَها لَهم. وإنَّما بَدَأ بِالأمْرِ بِالتَّبْتِيكِ، وإنْ كانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ التَّغْيِيرِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْراجًا لِما يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ العامِّ، واسْتِيضاحًا مِن إبْلِيسَ طَواعِيَتَهم في أوَّلِ شَيْءٍ يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ، فَيَعْلَمَ بِذَلِكَ قَبُولَهم لَهُ. فَإذا قَبِلُوا ذَلِكَ أمَرَهم بِجَمِيعِ التَّغْيِيراتِ الَّتِي يُرِيدُها مِنهم، كَما يَفْعَلُ الإنْسانُ بِمَن يَقْصِدُ خِداعَهُ: يَأْمُرُهُ أوَّلًا بِشَيْءٍ سَهْلٍ؛ فَإذا رَآهُ قَدْ قَبِلَ ما ألْقاهُ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ أمَرَهُ بِجَمِيعِ ما يُرِيدُ مِنهُ. وإقْسامُ إبْلِيسَ عَلى هَذِهِ الأشْياءِ لَيَفْعَلَنَّها يَقْتَضِي عِلْمَ ذَلِكَ، وأنَّها تَقَعُ إمّا لِقَوْلِهِ تَعالى.
﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهم أجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥] أوْ؛ لِكَوْنِهِ عَلِمَ ذَلِكَ مِن جِهَةِ المَلائِكَةِ، أوْ لِكَوْنِهِ لَمّا اسْتَزَلَّ آدَمَ عَلِمَ أنَّ ذُرِّيَّتَهُ أضْعَفُ مِنهُ.
﴿ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾؛ أيْ مِن يُؤْثِرُ حَظَّ الشَّيْطانِ عَلى حَظِّهِ مِنَ اللَّهِ. وكَأنَّهُ لَمّا قالَ إبْلِيسُ: لَأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا، فَذَكَرَ أنَّهُ يَصْطَفِيهِمْ لِنَفْسِهِ، أخْبَرَ أنَّهم قَبِلُوا ذَلِكَ الِاتِّخاذَ، وانْفَعَلُوا لَهُ؛ فاتَّخَذُوهُ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ. والوَلِيُّ هُنا قالَ مُقاتِلٌ: بِمَعْنى الرَّبِّ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: مِنَ المُوالاةِ، ورَتَّبَ عَلى هَذا الِاتِّخاذِ الخُسْرانَ المُبِينَ؛ لِأنَّ مَن تَرَكَ حَظَّهُ مِنَ اللَّهِ لِحَظِّ الشَّيْطانِ فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُهُ. وقَوْلُهُ: مِن دُونِ اللَّهِ، قَيْدٌ لازِمٌ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطانَ ولِيًّا إلّا إذا لَمْ يَتَّخِذِ اللَّهَ ولِيًّا، ولا يُمْكِنُ أنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطانَ ولِيًّا، ويَتَّخِذَ اللَّهَ ولِيًّا؛ لِأنَّهُما طَرِيقانِ مُتَبايِنانِ، لا يَجْتَمِعانِ، هُدًى وضَلالَةٌ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُحَذِّرَةٌ مِنَ اتِّباعِ الشَّيْطانِ.
﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ﴾ لَفْظانِ مُتَقارِبانِ؛ والمَعْنى: أنَّ الَّذِي أقْسَمَ عَلَيْهِ مِن أنْ يُمَنِّيَهم وقَعَ بِإخْبارِ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ بِذَلِكَ، واكْتَفى مِنَ الإخْبارِ عَنْ وُقُوعِ تِلْكَ الجُمَلِ الَّتِي أقْسَمَ عَلَيْها إبْلِيسُ بِوُضُوحِها، وظُهُورِها. ولَمّا كانَ الوَعْدُ والتَّمْنِيَةُ مِن أُمُورِ الباطِنِ أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِها. والمَعْنى: أنَّهُ يَعِدُهم بِالأُمُورِ الباطِلَةِ والزَّخارِفِ الكاذِبَةِ، وأنَّهُ لا ثَوابَ، ولا عِقابَ.
﴿وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ قَرَأ الأعْمَشُ: وما يَعِدُهم بِسُكُونِ الدّالِ خُفِّفَ؛ لِتَوالِي الحَرَكاتِ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الغُرُورِ، ومَعْناهُ: هُنا الخُدَعُ الَّتِي تُظَنُّ نافِعَةً، ويَكْشِفُ الغَيْبُ أنَّها ضارَّةٌ. واحْتَمَلَ النَّصْبُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا، أوْ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، أوْ مَصْدَرًا عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ؛ لِتَضْمِينِ يَعِدُهم مَعْنى يَغُرُّهم، ويَكُونُ ثَمَّ وصْفٌ مَحْذُوفٌ؛ أيْ إلّا غُرُورًا واضِحًا أوْ نَحْوَهُ، أوْ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ وعْدًا غُرُورًا أيْ ذا غُرُورٍ.
﴿أُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ ولا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصًا﴾ أخْبَرَ تَعالى أنَّ المَكانَ الَّذِي يَأْوُونَ إلَيْهِ، ويَسْتَقِرُّونَ فِيهِ هو جَهَنَّمُ، وأنَّهم لا يَجِدُونَ عَنْها مَراغًا يَرُوغُونَ إلَيْهِ. وعَنْها لا يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ؛ لِأنَّها لا تَتَعَدّى بِـ (عْنَ)، ولا بِـ ﴿مَحِيصًا﴾، وإنْ كانَ المَعْنى عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ؛ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَبْيِينًا عَلى إضْمارِ (عَنِّي) . وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ حالًا مِن (مَحِيصٍ)، فَيَتَعَلَّقُ بِـ (مَحِيصٍ)؛ أيْ كائِنًا عَنْها، ولَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً. (p-٣٥٥)﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ لَمّا ذَكَرَ مَأْوى الكُفّارِ، ذَكَرَ مَأْوى المُؤْمِنِينَ، وأسْنَدَ الفِعْلَ إلى نُونِ العَظَمَةِ؛ اعْتِناءً بِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي يَتَوَلّى إدْخالَهُمُ الجَنَّةَ، وتَشْرِيفًا لَهم. وقُرِئَ: سَيُدْخِلُهم بِالياءِ. ولَمّا رَتَّبَ تَعالى مَصِيرَ مَن كانَ تابِعًا لِإبْلِيسَ إلى النّارِ لِإشْراكِهِ وكُفْرِهِ، وتَغْيِيرِ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى؛ رَتَّبَ هُنا دُخُولَ الجَنَّةِ عَلى الإيمانِ، وعَمَلِ الصّالِحاتِ.
﴿وعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ لَمّا ذَكَرَ أنَّ وعْدَ الشَّيْطانِ هو غُرُورٌ باطِلٌ، ذَكَرَ أنَّ هَذا الوَعْدَ مِنهُ تَعالى هو الحَقُّ الَّذِي لا ارْتِيابَ فِيهِ، ولا شَكَّ في إنْجازِهِ. والَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وسَيُدْخِلُهُمُ الخَبَرُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الِاشْتِغالِ؛ أيْ وسَنُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا سَنُدْخِلُهم. وانْتَصَبَ ﴿وعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ؛ فَوَعْدُ اللَّهِ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: سَيُدْخِلُهم، وحَقًّا مُؤَكِّدٌ لِوَعْدِ اللَّهِ.
﴿ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ القِيلُ والقَوْلُ واحِدٌ؛ أيْ لا أحَدَ أصْدَقُ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ. وهي جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ أيْضًا لِما قَبْلَها. وفائِدَةُ هَذِهِ التَّواكِيدِ المُبالَغَةُ فِيما أخْبَرَ بِهِ تَعالى عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِخِلافِ مَواعِيدِ الشَّيْطانِ، وأمانَتِهِ الكاذِبَةِ المُخَلِّفَةِ لِأمانِيهِ.
﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، وأبُو صالِحٍ، ومَسْرُوقٌ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم: الخِطابُ لِلْأُمَّةِ. قالَ بَعْضُهم: اخْتَلَفُوا مَعَ قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتابِ؛ فَقالُوا: دِينُنا أقْدَمُ مِن دِينِكم وأفْضَلُ؛ فَنَبِيُّنا قَبْلَ نَبِيِّكم. وقالَ المُؤْمِنُونَ: كِتابُنا يَقْضِي عَلى الكُتُبِ، ونَبِيُّنا خاتَمُ الأنْبِياءِ، ونَحْوُ هَذا مِنَ المُحاوَرَةِ فَنَزَلَتْ. وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ: الخِطابُ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ؛ وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: لَنْ نُبْعَثَ ولَنْ نُعَذَّبَ؛ وإنَّما هي حَياتُنا لَنا فِيها النَّعِيمُ، ثُمَّ لا عَذابَ. وقالَتِ اليَهُودُ: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ، وأحِبّاؤُهُ. إلى نَحْوِ هَذا مِنَ الأقْوالِ كَقَوْلِهِمْ.
(لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى) فَرَدَّ اللَّهُ تَعالى عَلى الفَرِيقَيْنِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في لَيْسَ: ضَمِيرُ وعْدِ اللَّهِ؛ أيْ لَيْسَ يُنالُ ما وعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوابِ بِأمانِيِّكم، ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ. والخِطابُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأنَّهُ لا يَتَمَنّى وعْدَ اللَّهِ إلّا مَن آمَنَ بِهِ؛ ولِذَلِكَ ذَكَرَ أهْلَ الكِتابِ مَعَهم لِمُشارَكَتِهِمْ لَهم في الإيمانِ. وعَنِ الحَسَنِ: لَيْسَ الإيمانُ بِالتَّمَنِّي؛ ولَكِنْ ما وقَرَ في القَلْبِ وصَدَّقَهُ العَمَلُ، إنَّ قَوْمًا ألْهَتْهم أمانِيُّ المَغْفِرَةِ حَتّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيا، ولا حَسَنَةَ لَهم، وقالُوا: نُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ، وكَذَبُوا، لَوْ أحْسَنُوا الظَّنَّ بِهِ لَأحْسَنُوا العَمَلَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِقَوْلِهِمْ: إنْ كانَ الأمْرُ كَما يَزْعُمُ هَؤُلاءِ، لَنَكُونَنَّ خَيْرًا مِنهم وأحْسَنَ حالًا؛ لَأُوتَيَنَّ مالًا ووَلَدًا، إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. وكانَ أهْلُ الكِتابِ يَقُولُونَ: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ، لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً، ويُعَضِّدَهُ تَقَدُّمُ ذِكْرِ أهْلِ الشِّرْكِ، انْتَهى.
وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ وقَعَ الِاخْتِلافُ في اسْمِ لَيْسَ، وأقَرَّ بِها، إنَّ الَّذِي يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ هو الوَعْدُ مِن أنَّهُ تَعالى يُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ويَلِيهِ أنْ يَعُودَ عَلى الإيمانِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: (والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ) كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الحَسَنُ، ثُمَّ إنَّهُ يَعُودُ عَلى ما وقَعَتْ فِيهِ مُحاوَرَةُ المُؤْمِنِينَ وأهْلِ الكِتابِ، أوْ ما قالَتْهُ قُرَيْشٌ وأهْلُ الكِتابِ عَلى ما مَرَّ ذِكْرُهُ. وقالَ الحَوْفِيُّ: اسْمُ لَيْسَ مُضْمَرٌ فِيها عَلى مَعْنى: لَيْسَ الثَّوابُ عَنِ الحَسَناتِ، ولا العِقابُ عَلى السَّيِّئاتِ بِأمانِيِّكم؛ لِأنَّ الِاسْتِحْقاقَ إنَّما يَكُونُ بِالعَمَلِ لا بِالأمانِيِّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: اسَمُ لَيْسَ مُضْمَرٌ فِيها، ولَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وإنَّما دَلَّ عَلَيْهِ سَبَبُ الآيَةِ، وذَلِكَ أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى، قالُوا: نَحْنُ أصْحابُ الجَنَّةِ. وقالَ المُشْرِكُونَ: لا نُبْعَثُ. فَقالَ: لَيْسَ بِأمانِيِّكم؛ أيْ لَيْسَ ما ادَّعَيْتُمُوهُ بِأمانِيِّكم. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ بْنُ نِصاحٍ، والحَكَمُ، والأعْرَجُ: بِأمانِيكم، ولا أمانِي أهْلِ الكِتابِ ساكِنَةَ الياءِ، جُمِعَ عَلى فَعالِلْ، كَما يُقالُ: قَراقِيرُ، وقَراقِرْ، جَمْعُ قُرْقُورٍ.
﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قالَ الجُمْهُورُ: اللَّفْظُ عامٌّ والكافِرُ والمُؤْمِنُ مُجازَيانِ بِالسُّوءِ يَعْمَلانِهِ. فَمُجازاةُ الكافِرِ النّارُ والمُؤْمِنِ بِنَكَباتِ الدُّنْيا؛ «فَقالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمّا نَزَلَتْ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما أشَدَّ هَذِهِ الآيَةَ (p-٣٥٦)جاءَتْ قاصِمَةَ الظَّهْرِ، فَقالَ: إنَّما هي المُصِيباتُ في الدُّنْيا»، وقالَتْ بِمِثْلِ هَذا التَّأْوِيلِ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وقالَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ؛ وسَألَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زِيادٍ عَنْ مَعْنى الآيَةِ، وكَأنَّهُ خافَها فَقالَ لَهُ: أيْ ما كُنْتُ أظُنُّكَ إلّا أفْقَهَ مِمّا أرى، ما يُصِيبُ الرَّجُلَ خَدْشٌ أوْ غَيْرُهُ إلّا بِذَنْبٍ، وما يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أكْثَرُ. وخَصَّصَ الحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ بِالكُفّارِ يُجازَوْنَ عَلى الصَّغائِرِ والكَبائِرِ. وقالَ الضَّحّاكُ: يَعْنِي اليَهُودَ، والنَّصارى، والمَجُوسَ، وكَفّارَ العَرَبِ، ورَأى هَؤُلاءِ أنَّ اللَّهَ تَعالى وعَدَ المُؤْمِنِينَ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ. وخَصَّصَ السُّوءَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ بِالشِّرْكِ. وقِيلَ السُّوءُ عامٌّ في الكَبائِرِ.
﴿ولا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ [النساء: ١٧٣] رَوى ابْنُ بَكّارٍ، عَنِ ابْنِ عامِرٍ، ولا يَجِدُ بِالرَّفْعِ عَلى القَطْعِ.
﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ﴾ مِنَ الأُولى هي لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ لا يَتَمَكَّنُ مِن عَمَلِ كُلِّ الصّالِحاتِ؛ وإنَّما يَعْمَلُ مِنها ما هو تَكْلِيفُهُ، وفي وُسْعِهِ. وكَمْ مُكَلَّفٍ لا يَلْزَمُهُ زَكاةٌ، ولا حَجٌّ، ولا جِهادٌ، وسَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاةُ في بَعْضِ الأحْوالِ عَلى بَعْضِ المَذاهِبِ. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ: أنَّ مِن زائِدَةٌ أيْ ومَن يَعْمَلِ الصّالِحاتِ. وزِيادَةُ (مِن) في الشَّرْطِ ضَعِيفٌ، ولا سِيَّما، وبَعْدَها مَعْرِفَةٌ. و(مِن) الثّانِيَةُ لِتَبْيِينِ الإبْهامِ في (ومَن يَعْمَلْ) . وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ”أوْ“ فِى قَوْلِهِ: ﴿لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكم مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾ [آل عمران: ١٩٥] جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وقَيَّدَ في عَمَلِ الإنْسانِ؛ لِأنَّهُ لَوْ عَمِلَ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ ما عَمِلَ فَلا يَنْفَعُهُ إلّا أنْ كانَ مُؤْمِنًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإذا أبْطَلَ اللَّهُ الأمانِيَّ، وأثْبَتَ أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ مَعْقُودٌ بِالعَمَلِ الصّالِحِ، وأنَّ مَن أصْلَحَ عَمَلَهُ فَهو الفائِزُ، ومَن أساءَ عَمَلَهُ فَهو الهالِكُ، تَبَيَّنَ الأمْرُ، ووَضَحَ، ووَجَبَ قَطْعُ الأمانِيِّ، وحَسْمُ المَطامِعِ والإقْبالُ عَلى العَمَلِ الصّالِحِ؛ ولَكِنَّهُ نُصْحٌ لا تَعِيهِ الآذانُ، ولا تُلْقى إلَيْهِ الأذْهانُ انْتَهى. والَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ، أنَّ الإيمانَ شَرْطٌ في الِانْتِفاعِ بِالعَمَلِ؛ لِأنَّ العَمَلَ شَرْطٌ في صِحَّةِ الإيمانِ.
﴿ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ظاهِرُهُ: أنَّهُ يَعُودُ إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهُمُ المُؤْمِنُونَ، ويَكُونُ حُكْمُ الكُفّارِ كَذَلِكَ. إذْ ذِكْرُ أحَدِ الفَرِيقَيْنِ يَدُلُّ عَلى الآخَرِ أنَّ كِلاهُما يُجْزى بِعَمَلِهِ، ولِأنَّ ظُلْمَ المُسِيءِ أنَّهُ يُزادُ في عِقابِهِ. ومَعْلُومٌ أنَّهُ تَعالى لا يَزِيدُ في عِقابِ المُجْرِمِ؛ فَكانَ ذِكْرُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. والمُحْسِنُ لَهُ ثَوابٌ، وتَوابِعُ لِلثَّوابِ مِن فَضْلِ اللَّهِ هي في حُكْمِ الثَّوابِ، فَجازَ أنْ يَنْقُصَ مِنَ الفَضْلِ. فَنَفْيُ الظُّلْمِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا يَقَعُ نَقْصٌ في الفَضْلِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ، في: ولا يُظْلَمُونَ إلى الفَرِيقَيْنِ، عامِلُ السُّوءِ، وعامِلُ الصّالِحاتِ. وقَرَأ: يُدْخَلُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ هُنا وفي مَرْيَمَ وأوَّلَيْ غافِرٍ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عُمَرَ وأبُو بَكْرٍ. وقَرَأ كَذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ في ثانِيَةِ غافِرٍ. وقَرَأ كَذَلِكَ أبُو عَمْرٍو في فاطِرٍ. وقَرَأ الباقُونَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ.
﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَحْوِهِ في قَوْلَيْنِ مِن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ.
﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ حَنِيفًا في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥] واتِّباعُهُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في التَّوْحِيدِ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: في القِيامِ لِلَّهِ بِما فَرَضَهُ. وقِيلَ: في جَمِيعِ شَرِيعَتِهِ إلّا ما نُسِخَ مِنها.
﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ هَذا مَجازٌ عَنِ اصْطِفائِهِ واخْتِصاصِهِ بِكَرامَةٍ تُشْبِهُ كَرامَةَ الخَلِيلِ عِنْدَ خَلِيلِهِ. وتَقَدَّمَ اشْتِقاقُ الخَلِيلِ في المُفْرَداتِ. والجُمْهُورُ: عَلى أنَّها مِنَ الخُلَّةِ وهي المَوَدَّةُ الَّتِي لَيْسَ فِيها خَلَلٌ. وقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى الهاشِمِيِّ: إنَّهُ إنَّما سُمِّيَ خَلِيلًا لِأنَّهُ تَخَلّى عَمّا سِوى خَلِيلِهِ. فَإنْ كانَ فَسَّرَ المَعْنى فَيُمْكِنُ، وإنْ كانَ أرادَ الِاشْتِقاقَ فَلا يَصِحُّ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ. «وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: يا جِبْرِيلُ بِمَ اتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا ؟ قالَ: لِإطْعامِهِ الطَّعامَ»، والكَرامَةُ الَّتِي أكْرَمَهُ اللَّهُ بِها ذَكَرُوها في قِصَّةٍ مُطَوَّلَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَضْمُونُها: (p-٣٥٧)أنَّ اللَّهَ قَلَبَ لَهُ غَرائِرَ الرَّمْلِ دَقِيقًا حُوّارًى عَجَنَ وخَبَزَ وأطْعَمَ النّاسَ مِنهُ.
وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «اتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا ومُوسى نَجِيًّا واتَّخَذَنِي حَبِيبًا ثُمَّ قالَ: وعِزَّتِي وجَلالِي لَأُوثِرَنَّ حَبِيبِي عَلى خَلِيلِي ونَجِيِّي» لَمّا أثْنى عَلى مَنِ اتَّبَعَ مِلَّةً إبْراهِيمَ أخْبَرَ بِمَزِيَّتِهِ عِنْدَهُ واصْطِفائِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أدْعى إلى اتِّباعِهِ. لِأنَّ مَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِالخُلَّةِ جَدِيرٌ بِأنْ يُتَّبَعَ أوْ لِيُبَيِّنَ أنَّ تِلْكَ الخُلَّةَ إنَّما سَبَبُها حَنِيفِيَّةُ إبْراهِيمَ عَنْ سائِرِ الأدْيانِ إلى دِينِ الحَقِّ كَقَوْلِهِ: ﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾ [البقرة: ١٢٤] أيْ قُدْوَةً لِإتْمامِكَ تِلْكَ الكَلِماتِ. ونَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّ مَن عَمِلَ بِشَرْعِهِ كانَ لَهُ نَصِيبٌ مِن مَقامِهِ. ولَيْسَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ قَبْلَها، لِأنَّ الجُمْلَةَ قَبْلَها مَعْطُوفَةٌ عَلى صِلَةِ (مَن)، ولا تَصْلُحُ هَذِهِ لِلصِّلَةِ؛ وإنَّما هي مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ الَّتِي مَعْناها الخَبَرُ، أيْ: لا أحَدَ أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ، نَبَّهَتْ عَلى شَرَفِ المَنبَعِ وفَوْزِ المُتَّبِعِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ ؟ قُلْتُ: هي جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ كَنَحْوِ ما يَجِيءُ في الشِّعْرِ مِن قَوْلِهِمْ: والحَوادِثُ جَمَّةٌ، وفائِدَتُها تَأْكِيدُ وُجُوبِ اتِّباعِ مِلَّتِهِ؛ لِأنَّ مَن بَلَغَ مِنَ الزُّلْفى عِنْدَ اللَّهِ أنِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا كانَ جَدِيرًا بِأنْ تُتَّبَعَ مِلَّتُهُ وطَرِيقَتُهُ، انْتَهى. فَإنْ عَنى بِالِاعْتِراضِ غَيْرَ المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ في الضَّوْءِ فَيُمْكِنُ أنْ يَصِحَّ قَوْلُهُ؛ كَأنَّهُ يَقُولُ: اعْتَرَضْتُ الكَلامَ. وإنْ عَنى بِالِاعْتِراضِ المُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لا يَعْتَرِضُ إلّا بَيْنَ مُفْتَقِرَيْنِ كَصِلَةٍ ومَوْصُولٍ، وشَرْطٍ وجَزاءٍ، وقَسَمٍ ومُقْسَمٍ عَلَيْهِ، وتابِعٍ ومَتْبُوعٍ، وعامِلٍ ومَعْمُولٍ. وقَوْلُهُ: كَنَحْوِ ما يَجِيءُ في الشِّعْرِ مِن قَوْلِهِمْ: والحَوادِثُ جَمَّةٌ، فالَّذِي نَحْفَظُهُ أنَّ مَجِيءَ الحَوادِثِ جَمَّةً إنَّما هو بَيْنَ مُفْتَقِرَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
؎وقَدْ أدْرَكَتْنِي والحَوادِثُ جَمَّةٌ ∗∗∗ أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعافٌ ولا عُزْلُ
ونَحْوَ قَوْلِ الآخَرِ:
؎ألا هَلْ أتاها والحَوادِثُ جَمَّةٌ ∗∗∗ بِأنَّ أمْرَأ القَيْسِ بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا
ولا نَحْفَظُهُ جاءَ آخِرَ كَلامٍ.
{"ayahs_start":117,"ayahs":["إِن یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦۤ إِلَّاۤ إِنَـٰثࣰا وَإِن یَدۡعُونَ إِلَّا شَیۡطَـٰنࣰا مَّرِیدࣰا","لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِیبࣰا مَّفۡرُوضࣰا","وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّیَنَّهُمۡ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَّخِذِ ٱلشَّیۡطَـٰنَ وَلِیࣰّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانࣰا مُّبِینࣰا","یَعِدُهُمۡ وَیُمَنِّیهِمۡۖ وَمَا یَعِدُهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا یَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِیصࣰا","وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣰّاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلࣰا","لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا","وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرࣰا","وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِینࣰا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰهِیمَ خَلِیلࣰا"],"ayah":"وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِینࣰا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰهِیمَ خَلِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق