الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولا يَجِدْ لَهُ مَن دُونِ اللهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالِحاتِ مِنَ ذَكَرٍ أو أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ﴿وَمَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا واتَّخَذَ اللهُ إبْراهِيمَ خَلِيلا﴾ اِسْمُ ﴿ "لَيْسَ"﴾ مُضْمَرٌ؛ و"اَلْأمانِيُّ": جَمْعُ "أُمْنِوْيَةٌ"؛ وزْنُها "أُفْعِوْلَةٌ"؛ وهِيَ: ما يَتَشَهّاهُ المَرْءُ ويُطْمِعُ نَفْسَهُ فِيهِ؛ وتُجْمَعُ عَلى "فَعالِيلُ"؛ فَتَجْتَمِعُ ياءانِ؛ فَلِذَلِكَ تُدْغَمُ إحْداهُما في الأُخْرى؛ فَتَجِيءُ مُشَدَّدَةً؛ وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ؛ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ؛ وأبُو جَعْفَرَ بْنُ القَعْقاعِ؛ وشَيْبَةُ بْنُ نَصّاحٍ؛ والحَكَمُ؛ والأعْرَجُ: "لَيْسَ بِأمانِيكُمْ"؛ ساكِنَةَ الياءِ؛ وكَذَلِكَ في الثانِيَةِ؛ قالَ الفَرّاءُ: "هَذا جَمْعٌ عَلى "فَعالِيلُ"؛ كَما يُقالُ: "قَراقِيرُ"؛ و"قَراقِرُ"؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ". واخْتَلَفَ الناسُ فِي: مَنِ المُخاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ والضَحّاكُ ؛ وأبُو صالِحٍ ؛ ومَسْرُوقٌ ؛ وقَتادَةُ ؛ والسُدِّيُّ ؛ وغَيْرُهُمْ: "اَلْخِطابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ"؛ وقالَ بَعْضُهُمْ: "وَسَبَبُ الآيَةِ أنَّ المُؤْمِنِينَ اخْتَلَفُوا مَعَ قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتابِ؛ فَقالَ أهْلُ الكِتابِ: دِينُنا أقْدَمُ مِن دِينِكم وأفْضَلُ؛ ونَبِيُّنا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ؛ فَنَحْنُ أفْضَلُ مِنكُمْ؛ وقالَ المُؤْمِنُونَ: كِتابُنا يَقْضِي عَلى الكُتُبِ؛ ونَبِيُّنا خاتَمُ النَبِيِّينَ؛ أو نَحْوَ هَذا مِنَ المُحاوَرَةِ؛ فَنَزَلَتِ الآيَةُ". وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ: "بَلِ الخِطابُ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ؛ وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: لَنْ نُبْعَثَ؛ ولا نُعَذَّبُ؛ وإنَّما هي حَياتُنا الدُنْيا؛ لَنا فِيها النَعِيمُ؛ ثُمَّ (p-٢٩)لا عَذابَ؛ وقالَتِ اليَهُودُ: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] ؛ إلى نَحْوِ هَذا مِنَ الأقْوالِ؛ كَقَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلا مَن كانَ هُودًا أو نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] ؛ وغَيْرِهِ؛ فَرَدَّ اللهُ تَعالى عَلى الفَرِيقَيْنِ: ﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ﴾ ؛ ثُمَّ ابْتَدَأ الخَبَرَ الصادِقَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ؛ وجاءَ هَذا اللَفْظُ عامًّا في كُلِّ سُوءٍ؛ فانْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومِهِ الفَرِيقانِ المَذْكُورانِ". واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في تَعْمِيمِ لَفْظِ هَذا الخَبَرِ؛ فَقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "هَذِهِ الآيَةُ في الكافِرِ"؛ وقَرَأ ﴿وَهَلْ نُجازِي إلا الكَفُورَ﴾ [سبإ: ١٧] ؛ قالَ: "والآيَةُ يَعْنِي بِها الكُفّارَ؛ ولا يَعْنِي بِها أهْلَ الصَلاةِ"؛ وقالَ: "واللهِ ما جازى اللهُ أحَدًا بِالخَيْرِ والشَرِّ إلّا عَذَّبَهُ؛ ولَكِنَّهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَ المُؤْمِنِينَ"؛ وقالَ ابْنُ زَيْدٍ ؛ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾: "وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ أنْ يُكَفِّرَ عنهم سَيِّئاتِهِمْ؛ ولَمْ يَعِدْ أُولَئِكَ - يَعْنِي المُشْرِكِينَ"؛ وقالَ الضَحّاكُ: " ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ اليَهُودَ؛ والنَصارى؛ والمَجُوسَ؛ وكُفّارَ العَرَبِ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: "فَهَذا تَخْصِيصٌ لِلَفْظِ الآيَةِ؛ ورَأى هَؤُلاءِ أنَّ الكافِرَ يُجْزى عَلى كُلِّ سُوءٍ يَعْمَلُهُ؛ وأنَّ المُؤْمِنَ قَدْ وعَدَهُ اللهُ تَكْفِيرَ سَيِّئاتِهِ". وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا﴾ ؛ مَعْناهُ: مَن يَكُ مُشْرِكًا"؛ والسُوءُ هُنا: اَلشِّرْكُ؛ فَهو تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ اللَفْظِ مِن جِهَةٍ أُخْرى؛ لِأنَّ أُولَئِكَ خَصَّصُوا لَفْظَ "مَن"؛ وهَذانِ خَصَّصا لَفْظَ "اَلسُّوءُ". وقالَ جُمْهُورُ الناسِ: لَفْظُ الآيَةِ عامٌّ؛ والكافِرُ والمُؤْمِنُ مُجازًى بِالسُوءِ يَعْمَلُهُ؛ فَأمّا مُجازاةُ الكافِرِ فالنارُ؛ لِأنَّ كُفْرَهُ أوبَقَهُ؛ وأمّا المُؤْمِنُ فَبِنَكَباتِ الدُنْيا؛ «قالَ أبُو بَكْرٍ الصِدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: لَمّا نَزَلَتْ: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ؛ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما أشَدَّ هَذِهِ الآيَةَ! فَقالَ: "يا أبا بَكْرٍ ؛ أما تَحْزَنُ؟ أما تَمْرَضُ؟ أما تُصِيبُكَ الأدْواءُ؟ فَهَذا بِذَلِكَ"؛» وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؛ قالَ (p-٣٠)أبُو بَكْرٍ: جاءَتْ قاصِمَةُ الظَهْرِ؛ فَقالَ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "إنَّما هي المُصِيباتُ في الدُنْيا"؛» وقالَتْ بِمِثْلِ هَذا التَأْوِيلِ عائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عنها -؛ وقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - وسَألَهُ الرَبِيعُ بْنُ زِيادٍ عن مَعْنى الآيَةِ؛ وكَأنَّهُ خافَها - فَقالَ لَهُ أُبَيٌّ: ما كُنْتُ أظُنُّكَ إلّا أفْقَهَ مِمّا أرى؛ ما يُصِيبُ الرَجُلَ خَدْشٌ ولا غَيْرُهُ إلّا بِذَنْبٍ؛ وما يَعْفُو اللهُ عنهُ أكْثَرُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فالعَقِيدَةُ في هَذا أنَّ الكافِرَ مُجازًى؛ والمُؤْمِنَ يُجازى في الدُنْيا غالِبًا؛ فَمَن بَقِيَ لَهُ سُوءٌ إلى الآخِرَةِ فَهو في المَشِيئَةِ؛ يَغْفِرُ اللهُ لِمَن يَشاءُ؛ ويُجازِي مَن يَشاءُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَلا يَجِدْ" بِالجَزْمِ؛ عَطْفًا عَلى: "يُجْزَ"؛ ورَوى ابْنُ بَكّارٍ؛ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: "وَلا يَجِدُ"؛ بِالرَفْعِ؛ عَلى القَطْعِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِ اللهِ﴾ ؛ لَفْظَةٌ تَقْتَضِي عَدَمَ المَذْكُورِ بَعْدَها مِنَ النازِلَةِ؛ ويُفَسِّرُها بَعْضُ المُفَسِّرِينَ بِـ "غَيْرِ"؛ وهو تَفْسِيرٌ لا يَطَّرِدُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالِحاتِ﴾ ؛ دَخَلَتْ ﴿ "مَن"﴾ لِلتَّبْعِيضِ؛ إذِ الصالِحاتُ عَلى الكَمالِ مِمّا لا يُطِيقُهُ البَشَرُ؛ فَفي هَذا رِفْقٌ بِالعِبادِ؛ لَكِنَّ في هَذا البَعْضِ الفَرائِضَ؛ وما أمْكَنَ مِنَ المَندُوبِ إلَيْهِ؛ ثُمَّ قَيَّدَ الأمْرَ بِالإيمانِ؛ إذْ لا يَنْفَعُ عَمَلٌ دُونَهُ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ عن قَوْمٍ أنَّ "مِن" زائِدَةٌ؛ وضَعَّفَهُ كَما هو ضَعِيفٌ؛ وقَرَأ نافِعٌ ؛ وابْنُ عامِرٍ ؛ وحَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ: "يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ"؛ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الخاءِ؛ وكَذَلِكَ حَيْثُ جاءَ مِنَ القُرْآنِ؛ ورُوِيَ مِثْلُ هَذا عن عاصِمٍ ؛ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في هَذِهِ الآيَةِ؛ وفي [مَرْيَمَ]؛ و[اَلْمَلائِكَةِ]؛ وفي [اَلْمُؤْمِنِ]: "يُدْخَلُونَ"؛ بِضَمِّ الياءِ؛ وفَتْحِ الخاءِ؛ وقَرَأ (p-٣١)بِفَتْحِ الياءِ مِن: "سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ"؛ والنَقِيرُ: اَلنُّكْتَةُ الَّتِي في ظَهْرِ نَواةِ التَمْرَةِ؛ ومِنهُ تَنْبُتُ؛ ورُوِيَ عن عاصِمٍ: اَلنَّقِيرُ ما تَنْقُرُهُ بِأُصْبُعِكَ؛ وهَذا كُلُّهُ مِثالٌ لِلْحَقِيرِ اليَسِيرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَهُنا كَمُلَ الرَدُّ عَلى أهْلِ الأمانِيِّ؛ والإخْبارُ بِحَقِيقَةِ الأمْرِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى إخْبارًا مُوافِقًا عَلى أنَّهُ لا أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ؛ أيْ: أخْلَصُ مَقْصِدَهُ وتَوَجُّهَهُ؛ وأحْسَنُ في أعْمالِهِ؛ واتَّبَعَ الحَنِيفِيَّةَ الَّتِي هي مِلَّةُ إبْراهِيمَ؛ إمامِ العالَمِ؛ وقُدْوَةِ أهْلِ الأدْيانِ؛ ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعالى إبْراهِيمَ بِأنَّهُ الَّذِي يَجِبُ اتِّباعُهُ؛ شَرَّفَهُ بِذِكْرِ الخُلَّةِ؛ وإبْراهِيمُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - سَمّاهُ اللهُ خَلِيلًا؛ إذْ كانَ خُلُوصُهُ وعِبادَتُهُ واجْتِهادُهُ عَلى الغايَةِ الَّتِي يَجْرِي إلَيْها المُحِبُّ المُبالِغُ؛ وكانَ لُطْفُ اللهِ بِهِ؛ ورَحْمَتُهُ ونُصْرَتُهُ لَهُ؛ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ إبْراهِيمَ سُمِّيَ خَلِيلًا مِن "اَلْخَلَّةُ"؛ بِفَتْحِ الخاءِ؛ أيْ: لِأنَّهُ أنْزَلَ خَلَّتَهُ وفاقَتَهُ بِاللهِ تَعالى ؛ وقالَ قَوْمٌ: سُمِّيَ خَلِيلًا لِأنَّهُ - فِيما رُوِيَ في الحَدِيثِ - جاءَ مِن عِنْدِ خَلِيلٍ كانَ لَهُ بِمِصْرَ؛ وقَدْ حَرَمَهُ المِيرَةَ الَّتِي قَصَدَ لَها؛ فَلَمّا قَرُبَ مِن مَنزِلِهِ مَلَأ غِرارَتَيْهِ رَمْلًا لِيَتَأنَّسَ بِذَلِكَ صِبْيَتُهُ؛ فَلَمّا دَخَلَ مَنزِلَهُ نامَ كَلالًا وهَمًّا؛ فَقامَتِ امْرَأتُهُ؛ وفَتَحَتِ الغِرارَةَ؛ فَوَجَدَتْ أحْسَنَ ما يَكُونُ مِنَ الحُوّارى؛ فَعَجَنَتْ مِنهُ؛ فَلَمّا انْتَبَهَ قالَ: "ما هَذا؟"؛ قالَتْ: مِنَ الدَقِيقِ الَّذِي سُقْتَ مِن عِنْدِ خَلِيلِكَ المِصْرِيِّ؛ فَقالَ: "بَلْ هو مِن عِنْدِ خَلِيلِيَ اللهِ تَعالى "؛ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ خَلِيلًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وفي هَذا ضَعْفٌ؛ ولا تَقْتَضِي هَذِهِ القِصَّةُ أنْ يُسَمّى بِذَلِكَ اسْمًا غالِبًا؛ وإنَّما هو شَيْءٌ شَرَّفَهُ اللهُ بِهِ؛ كَما شَرَّفَ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ فَقَدْ صَحَّ في كِتابِ مُسْلِمٍ ؛ وغَيْرِهِ؛ أنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب