الباحث القرآني

قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بِتَخْفِيفِ الياءِ مَن ( أمانِي ) في المَوْضِعَيْنِ، واسْمُ لَيْسَ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لَيْسَ دُخُولُ الجَنَّةِ أوِ الفَضْلُ أوِ القُرْبُ مِنَ اللَّهِ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ كَما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ الآتِي، وقِيلَ: ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى وعْدِ اللَّهِ، وهو بَعِيدٌ، ومِن أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ قَوْلُهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقَوْلُهم: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقَوْلُهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] . قَوْلُهُ: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قِيلَ: المُرادُ بِالسُّوءِ الشِّرْكُ، وظاهِرُ الآيَةِ أعَمُّ مِن ذَلِكَ، فَكُلُّ مَن عَمِلَ سُوءًا أيِّ سُوءٍ كانَ فَهو مَجْزِيٌّ بِهِ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ المُسْلِمِ والكافِرِ، وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ ما تَرْجُفُ لَهُ القُلُوبُ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وقَدْ كانَ لَها في صُدُورِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ نُزُولِها مَوْقِعٌ عَظِيمٌ كَما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ (p-٣٣٢)﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ بَلَغَتْ مِنَ المُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: قارِبُوا وسَدِّدُوا، فَفي كُلِّ ما يُصابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفّارَةٌ حَتّى النَّكْبَةِ يَنْكُبُها والشَّوْكَةِ يُشاكُها» . قَوْلُهُ: ( ولا يَجِدْ ) لَهُ قَرَأهُ الجَماعَةُ بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى الجَزاءِ، ورَوى ابْنُ بَكّارٍ عَنِ ابْنِ عامِرٍ ( ولا يَجِدُ ) بِالرَّفْعِ اسْتِئْنافًا؛ أيْ: لَيْسَ لِمَن يَعْمَلُ السُّوءَ مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا يُوالِيهِ ولا نَصِيرًا يَنْصُرُهُ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ﴾ أيْ: بَعْضَها حالَ كَوْنِهِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وحالَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا، والحالُ الأُولى لِبَيانِ مَن يَعْمَلُ، والحالُ الأُخْرى لِإفادَةِ اشْتِراطِ الإيمانِ في كُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ، فَأُولَئِكَ إشارَةٌ إلى العَمَلِ المُتَّصِفِ بِالإيمانِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ ( يُدْخَلُونَ ) بِضَمِّ حَرْفِ المُضارَعَةِ عَلى البِناءِ لِلْمَجْهُولِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِها عَلى البِناءِ لِلْمَعْلُومِ ( ﴿ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ) أيْ: لا يُنْقَصُونَ شَيْئًا حَقِيرًا، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النَّقِيرِ ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أيْ: أخْلَصَ نَفْسَهُ لَهُ حالَ كَوْنِهِ مُحْسِنًا؛ أيْ: عامِلًا لِلْحَسَناتِ ( ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ ) أيْ: دِينَهُ حالَ كَوْنِ المُتَّبِعِ حَنِيفًا أيْ: مائِلًا عَنِ الأدْيانِ الباطِلَةِ إلى دِينِ الحَقِّ، وهو الإسْلامُ ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ أيْ: جَعَلَهُ صَفْوَةً لَهُ وخَصَّهُ بِكَراماتِهِ، قالَ ثَعْلَبٌ: إنَّما سُمِّي الخَلِيلُ خَلِيلًا؛ لِأنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ القَلْبَ فَلا تَدَعُ فِيهِ خَلِيلًا إلّا مَلَأتْهُ، وأنْشَدَ قَوْلَ بَشّارٍ: ؎قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وبِهِ سُمِّي الخَلِيلُ خَلِيلًا وخَلِيلٌ فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ كالعَلِيمِ بِمَعْنى العالِمِ، وقِيلَ: هو بِمَعْنى المَفْعُولِ كالحَبِيبِ بِمَعْنى المَحْبُوبِ، وقَدْ كانَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ ومُحِبًّا لَهُ، وقِيلَ: الخَلِيلُ مِنَ الِاخْتِصاصِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ اخْتَصَّ إبْراهِيمَ بِرِسالَتِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ واخْتارَهُ لَها، واخْتارَ هَذا النَّحّاسُ، وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى الخَلِيلِ الَّذِي لَيْسَ في مَحَبَّتِهِ خَلَلٌ. ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ اتَّخَذَ إبْراهِيمَ خَلِيلًا لِطاعَتِهِ لا لِحاجَتِهِ ولا لِلتَّكَثُّرِ بِهِ والِاعْتِضادِ بِمُخالَلَتِهِ ﴿وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها؛ أيْ: أحاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴿لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلّا أحْصاها﴾ [الكهف: ٤٩] وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: قالَتِ العَرَبُ: لا نُبْعَثُ ولا نُحاسَبُ، وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١] وقالُوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قالَ: احْتَجَّ المُسْلِمُونَ وأهْلُ الكِتابِ، فَقالَ المُسْلِمُونَ: نَحْنُ أهْدى مِنكم، وقالَ أهْلُ الكِتابِ: نَحْنُ أهْدى مِنكم، فَنَزَلَتْ فَفَلَجَ عَلَيْهِمُ المُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قالَ: تَفاخَرَ النَّصارى وأهْلُ الإسْلامِ، فَقالَ هَؤُلاءِ نَحْنُ أفْضَلُ مِنكم، وقالَ هَؤُلاءِ: نَحْنُ أفْضَلُ مِنكم فَنَزَلَتْ، وقَدْ ورَدَ مَعْنى هَذِهِ الرِّواياتِ مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَصَرَةٍ ومُطَوَّلَةٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ لَهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «أمّا أنْتَ وأصْحابَكَ يا أبا بَكْرٍ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ في الدُّنْيا حَتّى تَلْقَوُا اللَّهَ لَيْسَ لَكم ذُنُوبٌ، وأمّا الآخَرُونَ فَيُجْمَعُ لَهم ذَلِكَ حَتّى يُجْزُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ» وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وأبِي سَعِيدٍ أنَّهُما سَمِعا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ حَتّى الهَمِّ يُهَمُّهُ إلّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِن سَيِّئاتِهِ» وقَدْ ورَدَ في هَذا المَعْنى أحادِيثُ كَثِيرَةٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ ابْنَ عُمَرَ لَقِيَهُ فَسَألَهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ( ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ﴾ ) قالَ: الفَرائِضُ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنْ جُنْدَبٍ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ قَبْلَ أنْ يَتَوَفّى: «إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَما اتَّخَذَ إبْراهِيمَ خَلِيلًا» وأخْرَجَ الحاكِمُ أيْضًا وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أتَعْجَبُونَ أنْ تَكُونَ الخُلَّةُ لِإبْراهِيمَ والكَلامُ لِمُوسى والرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب