الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَطَ حُصُولَ النَّجاةِ والفَوْزَ بِالجَنَّةِ بِكَوْنِ الإنْسانِ مُؤْمِنًا شَرَحَ الإيمانَ وبَيَّنَ فَضْلَهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ الدِّينُ المُشْتَمِلُ عَلى إظْهارِ كَمالِ العُبُودِيَّةِ والخُضُوعِ والِانْقِيادِ لِلَّهِ تَعالى. والثّانِي: وهو أنَّهُ الدِّينُ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّرْغِيبِ في دِينِ الإسْلامِ. أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ: فاعْلَمْ أنَّ دِينَ الإسْلامِ مَبْنِيٌّ عَلى أمْرَيْنِ: الِاعْتِقادُ والعَمَلُ: أمّا الِاعْتِقادُ فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿أسْلَمَ وجْهَهُ﴾؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإسْلامَ: هو الِانْقِيادُ والخُضُوعُ. والوَجْهُ أحْسَنُ أعْضاءِ الإنْسانِ، فالإنْسانُ إذا عَرَفَ بِقَلْبِهِ رَبَّهُ وأقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وبِعُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ فَقَدْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ، وأمّا العَمَلُ فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ويَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الحَسَناتِ وتَرْكُ السَّيِّئاتِ، فَتَأمَّلْ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ المُخْتَصَرَةِ واحْتِوائِها عَلى جَمِيعِ المَقاصِدِ والأغْراضِ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، مَعْناهُ: أنَّهُ أسْلَمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وما أسْلَمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ كَمالَ الإيمانِ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ تَفْوِيضِ جَمِيعِ الأُمُورِ إلى الخالِقِ، وإظْهارِ التَّبَرِّي مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ، وأيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى فَسادِ طَرِيقَةِ مَنِ اسْتَعانَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَسْتَعِينُونَ بِالأصْنامِ ويَقُولُونَ: هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، والدَّهْرِيَّةُ والطَّبِيعِيُّونَ يَسْتَعِينُونَ بِالأفْلاكِ، والكَواكِبِ، والطَّبائِعِ وغَيْرِها، واليَهُودُ كانُوا يَقُولُونَ في دَفْعِ عِقابِ الآخِرَةِ عَنْهم: أنَّهم مِن أوْلادِ الأنْبِياءِ، والنَّصارى كانُوا يَقُولُونَ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ، فَجَمِيعُ الفِرَقِ قَدِ اسْتَعانُوا بِغَيْرِ اللَّهِ. وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَهم في الحَقِيقَةِ ما أسْلَمَتْ وُجُوهُهم لِلَّهِ؛ لِأنَّهم يَرَوْنَ الطّاعَةَ المُوجِبَةَ لِثَوابِهِمْ مِن أنْفُسِهِمْ، والمَعْصِيَةَ المُوجِبَةَ لِعِقابِهِمْ مِن أنْفُسِهِمْ، فَهم في الحَقِيقَةِ لا يَرْجُونَ إلّا أنْفُسَهم، ولا يَخافُونَ إلّا أنْفُسَهم، وأمّا أهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ فَوَّضُوا التَّدْبِيرَ، والتَّكْوِينَ، والإبْداعَ، والخَلْقَ إلى الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، واعْتَقَدُوا أنَّهُ لا مُوجِدَ، ولا مُؤَثِّرَ إلّا اللَّهُ، فَهُمُ الَّذِينَ أسْلَمُوا وُجُوهَهم لِلَّهِ، وعَوَّلُوا بِالكُلِّيَّةِ عَلى فَضْلِ اللَّهِ، وانْقَطَعَ نَظَرُهم عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ما سِوى اللَّهِ. (p-٤٦)وأمّا الوَجْهُ الثّانِي في بَيانِ فَضِيلَةِ الإسْلامِ: وهو أنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما دَعا الخَلْقَ إلى دِينِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ كُلِّ الخَلْقِ: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ يَدْعُو إلّا إلى اللَّهِ تَعالى، كَما قالَ: ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنْعامِ: ٧٨] . وما كانَ يَدْعُو إلى عِبادَةِ فَلَكٍ، ولا طاعَةِ كَوْكَبٍ، ولا سَجْدَةِ صَنَمٍ، ولا اسْتِعانَةٍ بِطَبِيعَةٍ، بَلْ كانَ دِينُهُ الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ والإعْراضَ عَنْ كُلِّ ما سِوى اللَّهِ. ودَعْوَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَدْ كانَ قَرِيبًا مِن شَرْعِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ في الخِتانِ، وفي الأعْمالِ المُتَعَلِّقَةِ بِالكَعْبَةِ: مِثْلُ الصَّلاةِ إلَيْها، والطَّوافِ بِها، والسَّعْيِ، والرَّمْيِ، والوُقُوفِ، والحَلْقِ، والكَلِماتِ العَشْرِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البَقَرَةِ: ١٢٤] . ولَمّا ثَبَتَ أنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ قَرِيبًا مِن شَرْعِ إبْراهِيمَ، ثُمَّ إنَّ شَرْعَ إبْراهِيمَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الكُلِّ؛ وذَلِكَ لِأنَّ العَرَبَ لا يَفْتَخِرُونَ بِشَيْءٍ كافْتِخارِهِمْ بِالِانْتِسابِ إلى إبْراهِيمَ، وأمّا اليَهُودُ والنَّصارى فَلا شَكَّ في كَوْنِهِمْ مُفْتَخِرِينَ بِهِ، وإذا ثَبَتَ هَذا لَزِمَ أنْ يَكُونَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ مَقْبُولًا عِنْدَ الكُلِّ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿حَنِيفًا﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: الأوَّلُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا لِلْمَتْبُوعِ، وأنْ يَكُونَ حالًا لِلتّابِعِ، كَما إذا قُلْتَ: رَأيْتُ راكِبًا، فَإنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الرّاكِبُ حالًا لِلْمَرْئِيِّ والرّائِي. البَحْثُ الثّانِي: الحَنِيفُ المائِلُ، ومَعْناهُ: أنَّهُ مائِلٌ عَنِ الأدْيانِ كُلِّها؛ لِأنَّ ما سِواهُ باطِلٌ، والحَقُّ أنَّهُ مائِلٌ عَنْ كُلِّ ظاهِرٍ وباطِنٍ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ فِيهِ: أنَّ الباطِلَ وإنْ كانَ بَعِيدًا مِنَ الباطِلِ الَّذِي يُضادُّهُ فَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الباطِلِ الَّذِي يُجانِسُهُ، وأمّا الحَقُّ فَإنَّهُ واحِدٌ فَيَكُونُ مائِلًا عَنْ كُلِّ ما عَداهُ، كالمَرْكَزِ الَّذِي يَكُونُ في غايَةِ البُعْدِ عَنْ جَمِيعِ أجْزاءِ الدّائِرَةِ. فَإنْ قِيلَ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نَفْسُ شَرْعِ إبْراهِيمَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صاحِبَ شَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وأنْتُمْ لا تَقُولُونَ بِذَلِكَ. قُلْنا: يَجُوزُ أنَّ تَكُونَ مِلَّةُ إبْراهِيمَ داخِلَةً في مِلَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَعَ اشْتِمالِ هَذِهِ المِلَّةِ عَلى زَوائِدَ حَسَنَةٍ وفَوائِدَ جَلِيلَةٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها، وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَلَغَ في عُلُوِّ الدَّرَجَةِ في الدِّينِ أنِ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا كانَ جَدِيرًا بِأنْ يَتَّبِعَ خُلُقَهُ وطَرِيقَتَهُ. والثّانِي: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ، ووَصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَنِيفًا، ثُمَّ قالَ عَقِيبَهُ: ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ أشْعَرَ هَذا بِأنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما اتَّخَذَهُ خَلِيلًا؛ لِأنَّهُ كانَ عالِمًا بِذَلِكَ الشَّرْعِ، آتِيًا بِتِلْكَ التَّكالِيفِ، ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾ [البَقَرَةِ: ١٢٤] . وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما جَعَلَهُ إمامًا لِلْخَلْقِ؛ لِأنَّهُ أتَمَّ تِلْكَ الكَلِماتِ. وإذْ ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما كانَ بِهَذا المَنصِبِ العالِي، وهو كَوْنُهُ خَلِيلًا لِلَّهِ تَعالى بِسَبَبِ أنَّهُ كانَ عامِلًا بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ كانَ هَذا تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَن عَمِلَ بِهَذا الشَّرْعِ لا بُدَّ وأنْ يَفُوزَ بِأعْظَمِ المَناصِبِ في الدِّينِ، وذَلِكَ يُفِيدُ التَّرْغِيبَ العَظِيمَ في هَذا الدِّينِ. (p-٤٧)فَإنْ قِيلَ: ما مَوْقِعُ قَوْلِهِ: ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ ؟ . قُلْنا: هَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، ونَظِيرُهُ ما جاءَ في الشِّعْرِ مِن قَوْلِهِ: ؎والحَوادِثُ جَمَّةٌ والجُمْلَةُ الِاعْتِراضِيَّةُ مِن شَأْنِها تَأْكِيدُ ذَلِكَ الكَلامِ، والأمْرُ هَهُنا كَذَلِكَ عَلى ما بَيَّنّاهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في اشْتِقاقِ الخَلِيلِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ خَلِيلَ الإنْسانِ هو الَّذِي يَدْخُلُ في خِلالِ أُمُورِهِ وأسْرارِهِ، والَّذِي دَخَلَ حُبُّهُ في خِلالِ أجْزاءِ قَلْبِهِ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ هو الغايَةُ في المَحَبَّةِ. قِيلَ: لَمّا أطْلَعَ اللَّهُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى المَلَكُوتِ الأعْلى والأسْفَلِ، ودَعا القَوْمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ، ومَنَعَهم عَنْ عِبادَةِ النَّجْمِ والقَمَرِ والشَّمْسِ، ومَنَعَهم عَنْ عِبادَةِ الأوْثانِ، ثُمَّ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلنِّيرانِ، ووَلَدَهُ لِلْقُرْبانِ، ومالَهُ لِلضِّيفانِ جَعَلَهُ اللَّهُ إمامًا لِلْخَلْقِ ورَسُولًا إلَيْهِمْ، وبَشَّرَهُ بِأنَّ المُلْكَ والنُّبُوَّةَ في ذُرِّيَّتِهِ، فَلِهَذِهِ الِاخْتِصاصاتِ سَمّاهُ خَلِيلًا؛ لِأنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ عِبارَةٌ عَنْ إرادَتِهِ لِإيصالِ الخَيْراتِ والمَنافِعِ إلَيْهِ. الوَجْهُ الثّانِي في اشْتِقاقِ اسْمِ الخَلِيلِ: أنَّهُ الَّذِي يُوافِقُكَ في خِلالِكَ. أقُولُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «”تَخَلَّقُوا بِأخْلاقِ اللَّهِ“» . فَيُشْبِهُ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَلَغَ في هَذا البابِ مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ أحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، لا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذا التَّشْرِيفِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: إنَّ الخَلِيلَ هو الَّذِي يُسايِرُكَ في طَرِيقِكَ، مِنَ الخَلِّ وهو الطَّرِيقُ في الرَّمْلِ، وهَذا الوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الوَجْهِ الثّانِي، أوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلى شِدَّةِ طاعَتِهِ لِلَّهِ وعَدَمِ تَمَرُّدِهِ في ظاهِرِهِ وباطِنِهِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، كَما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٣١] . الوَجْهُ الرّابِعُ: الخَلِيلُ هو الَّذِي يَسُدُّ خَلَلَكَ كَما تَسُدُّ خَلَلَهُ، وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كانَ خَلِيلًا مَعَ اللَّهِ امْتَنَعَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَسُدُّ الخَلَلَ، ومِن هَهُنا عَلِمْنا أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الخَلِيلِ بِذَلِكَ. أمّا المُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذا اللَّقَبِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا صارَ الرَّمْلُ الَّذِي أتى بِهِ غِلْمانُهُ دَقِيقًا قالَتِ امْرَأتُهُ: هَذا مِن عِنْدِ خَلِيلِكَ المِصْرِيِّ، فَقالَ إبْراهِيمُ: بَلْ هو مِن خَلِيلِيَ اللَّهِ. والثّانِي: قالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هَبَطَ مَلَكٌ في صُورَةِ رَجُلٍ وذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ شَجِيٍّ، فَقالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: اذْكُرْهُ مَرَّةً أُخْرى، فَقالَ: لا أذْكُرُهُ مَجّانًا، فَقالَ: لَكَ مالِي كُلُّهُ، فَذَكَرَهُ المَلَكُ بِصَوْتٍ أشْجى مِنَ الأوَّلِ، فَقالَ: اذْكُرْهُ مَرَّةً ثالِثَةً ولَكَ أوْلادِي، فَقالَ المَلَكُ: أبْشِرْ فَإنِّي مَلَكٌ لا أحْتاجُ إلى مالِكَ ووَلَدِكَ، وإنَّما كانَ المَقْصُودُ امْتِحانَكَ، فَلَمّا بَذَلَ المالَ والأوْلادَ عَلى سَماعِ ذِكْرِ اللَّهِ لا جَرَمَ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا. الثّالِثُ: رَوى طاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ جِبْرِيلَ والمَلائِكَةَ لَمّا دَخَلُوا عَلى إبْراهِيمَ في صُورَةِ غِلْمانٍ حِسانِ الوُجُوهِ، وظَنَّ الخَلِيلُ أنَّهم أضْيافُهُ، وذَبَحَ لَهم عِجْلًا سَمِينًا، وقُرَّبَهُ إلَيْهِمْ، وقالَ: كُلُوا عَلى شَرْطِ أنْ تُسَمُّوا اللَّهَ في أوَّلِهِ وتَحْمَدُوهُ في آخِرِهِ، فَقالَ جِبْرِيلُ: أنْتَ خَلِيلُ اللَّهِ، فَنَزَلَ هَذا الوَصْفُ. وأقُولُ: فِيهِ عِنْدِي وجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ إذا كانَ مُضِيئًا مُشْرِقًا عُلْوِيًّا قَلِيلَ التَّعَلُّقِ بِاللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ والأحْوالِ الجَسَدانِيَّةِ، ثُمَّ انْضافَ إلى مَثَلِ هَذا الجَوْهَرِ المُقَدَّسِ الشَّرِيفِ أعْمالٌ تَزِيدُهُ صِقالَةً عَنِ الكُدُوراتِ الجُسْمانِيَّةِ، وأفْكارٌ تَزِيدُهُ اسْتِنارَةً بِالمَعارِفِ القُدْسِيَّةِ (p-٤٨)والجَلايا الإلَهِيَّةِ، صارَ مِثْلُ هَذا الإنْسانِ مُتَوَغِّلًا في عالَمِ القُدُسِ والطَّهارَةِ، مُتَبَرِّئًا عَنْ عَلائِقِ الجِسْمِ والحِسِّ، ثُمَّ لا يَزالُ هَذا الإنْسانُ يَتَزايَدُ في هَذِهِ الأحْوالِ الشَّرِيفَةِ إلى أنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لا يَرى إلّا اللَّهَ، ولا يَسْمَعُ إلّا اللَّهَ، ولا يَتَحَرَّكُ إلّا بِاللَّهِ، ولا يَسْكُنُ إلّا بِاللَّهِ، ولا يَمْشِي إلّا بِاللَّهِ، فَكَأنَّ نُورَ جَلالِ اللَّهِ قَدْ سَرى في جَمِيعِ قُواهُ الجُسْمانِيَّةِ، وتَخَلَّلَ فِيها وغاصَ في جَواهِرِها، وتَوَغَّلَ في ماهِيّاتِها، فَمِثْلُ هَذا الإنْسانِ هو المَوْصُوفُ حَقًّا بِأنَّهُ خَلِيلٌ، لِما أنَّهُ تَخَلَّلَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ في جَمِيعِ قُواهُ، وإلَيْهِ الإشارَةُ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ في دُعائِهِ: ”اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا، وفي سَمْعِي نُورًا، وفي بَصَرِي نُورًا، وفي عَصَبِي نُورًا“» . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ بَعْضُ النَّصارى: لَمّا جازَ إطْلاقُ اسْمِ الخَلِيلِ عَلى إنْسانٍ مُعَيَّنٍ عَلى سَبِيلِ الإعْزازِ والتَّشْرِيفِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ إطْلاقُ اسْمِ الِابْنِ في حَقِّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى سَبِيلِ الإعْزازِ والتَّشْرِيفِ ؟ . وجَوابُهُ: أنَّ الفَرْقَ أنَّ كَوْنَهُ خَلِيلًا عِبارَةٌ عَنِ المَحَبَّةِ المُفْرِطَةِ، وذَلِكَ لا يَقْتَضِي الجِنْسِيَّةَ، أمّا الِابْنُ فَإنَّهُ مُشْعِرٌ بِالجِنْسِيَّةِ، وجَلَّ الإلَهُ عَنْ مُجانَسَةِ المُمْكِناتِ ومُشابَهَةِ المُحْدَثاتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب