الباحث القرآني

ولَمّا كَشَفَ - سُبْحانَهُ - زُورَهُمْ؛ وبَيَّنَ فُجُورَهُمْ؛ أنْكَرُ أنْ يَكُونَ أحَدٌ أحْسَنَ دِينًا مِمَّنِ اتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ؛ الَّذِي يَزْعُمُونَ أنَّهُ كانَ عَلى دِينِهِمْ؛ زَعْمًا تَقَدَّمَ كَشْفَ عَوارِهِ؛ وهَتْكُ أسْتارِهِ في ”آلِ عِمْرانَ“؛ فَقالَ - عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: ”فَمَن أحْسَنُ دائِنًا؛ ومُجازِيًا؛ وحاكِمًا مِنهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى؟!“ -: ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا﴾؛ أوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: ”لِأنَّهم أحْسَنُوا في دِينِهِمْ؛ ومَن أحْسَنُ دِينًا مِنهُمْ؟!“؛ لَكِنَّهُ أظْهَرَ الوَصْفَ؛ تَعْمِيمًا؛ وتَعْلِيقًا لِلْحُكْمِ بِهِ؛ وتَعْلِيمًا لِما يَفْعَلُ المُؤْمِنُ؛ وحَثًّا عَلَيْهِ؛ فَقالَ: ﴿مِمَّنْ أسْلَمَ﴾؛ أيْ: أعْطى؛ ولَمّا كانَ المُرادُ الإخْلاصَ الَّذِي هو أشْرَفُ الأشْياءِ؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالوَجْهِ الَّذِي هو أشْرَفُ الأعْضاءِ؛ فَقالَ: ﴿وجْهَهُ﴾؛ أيْ: قِيادَهُ؛ أيْ: الجِهَةَ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إلَيْها بِوَجْهِهِ - أيْ: قَصْدِهِ كُلِّهِ؛ المُلازِمِ لِلْإسْلامِ نَفْسِهِ - كُلَّها؛ ﴿لِلَّهِ﴾ فَلا حَرَكَةَ لَهُ ولا سَكْنَةَ إلّا فِيما يَرْضاهُ؛ لِكَوْنِهِ الواحِدَ الَّذِي لا مِثْلَ لَهُ؛ فَهو حَصْرٌ بِغَيْرِ صِيغَةِ الحَصْرِ؛ فَأفادَ فَسادَ طَرِيقِ مَن (p-٤١٣)لَفَتَ وجْهَهُ نَحْوَ سِواهُ؛ بِاسْتِعانَةٍ أوْ غَيْرِها؛ ولا سِيَّما المُعْتَزِلَةَ؛ الَّذِينَ يَرَوْنَ الطّاعَةَ مِن أنْفُسِهِمْ؛ ويَرَوْنَ أنَّها مُوجِبَةٌ لِثَوابِهِمْ؛ والمَعْصِيَةَ كَذَلِكَ؛ وأنَّها مُوجِبَةٌ لِعِقابِهِمْ؛ فَهم في الحَقِيقَةِ لا يَرْجُونَ إلّا أنْفُسَهُمْ؛ ولا يَخافُونَ غَيْرَها؛ وأهْلُ السُّنَّةِ فَوَّضُوا التَّدْبِيرَ والتَّكْوِينَ والخَلْقَ إلى الحَقِّ؛ فَهُمُ المُسْلِمُونَ. ولَمّا عَبَّرَ (تَعالى) عَنْ كَمالِ الِاعْتِقادِ بِالماضِي؛ شَرَطَ فِيهِ الدَّوامَ؛ والأعْمالَ الظّاهِرَةَ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ﴾؛ أيْ: والحالُ أنَّهُ ﴿مُحْسِنٌ﴾؛ أيْ: مُؤْمِنٌ؛ مُراقِبٌ؛ لا غَفْلَةَ عِنْدَهُ أصْلًا؛ بَلِ الإحْسانُ صِفَةٌ لَهُ راسِخَةٌ؛ لِأنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ كَأنَّهُ يَراهُ؛ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الكَلِماتُ العَشْرُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ؛ أصْلًا وفَرْعًا؛ مَعَ التَّرْغِيبِ بِالمَدْحِ الكامِلِ لِمُتَّبِعِهِ؛ وإفْهامِ الذَّمِّ الكامِلِ لِغَيْرِهِ. ولَمّا كانَ هَذا يَنْتَظِمُ مَنَ كانَ عَلى دِينِ أيِّ نَبِيٍّ كانَ؛ قَبْلَ نَسْخِهِ؛ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿واتَّبَعَ﴾؛ أيْ: بِجُهْدٍ مِنهُ؛ ﴿مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾؛ الَّذِي اشْتُهِرَ عِنْدَ جَمِيعِ الطَّوائِفِ أنَّهُ ما دَعا إلّا إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ وتَعالى - وحْدَهُ؛ وتَبَرَّأ مِمّا سِواهُ؛ مِن فَلَكٍ؛ وكَوْكَبٍ؛ وصَنَمٍ؛ وطَبِيعَةٍ؛ وغَيْرِها؛ حالَ كَوْنِ ذَلِكَ المُتَّبِعِ ﴿حَنِيفًا﴾؛ أيْ: لَيِّنًا؛ سَهْلًا؛ مَيّالًا مَعَ الدَّلِيلِ؛ و”المِلَّةُ“: ما دَعَتْ إلَيْهِ الفِطْرَةُ الأُولى؛ بِمُساعَدَةِ العَقْلِ السَّلِيمِ؛ مِن كَمالِ الإسْلامِ بِالتَّوْحِيدِ. (p-٤١٤)ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ - تَرْغِيبًا في هَذا الِاتِّباعِ -: ”فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - مِلَّةَ إبْراهِيمَ أحْسَنَ المِلَلِ؛ وخَلَقَهُ يَوْمَ خَلَقَهُ حَنِيفًا“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: المَلِكُ الأعْظَمُ؛ أخْذَ مَن هو مُعِينٌ بِذَلِكَ؛ مُجْتَهِدٌ فِيهِ؛ ﴿إبْراهِيمَ خَلِيلا﴾؛ لِكَوْنِهِ كانَ حَنِيفًا؛ وذَلِكَ عِبارَةٌ عَنِ اخْتِصاصِهِ بِكَرامَةٍ تَشْبِهُ كَرامَةَ الخَلِيلِ عِنْدَ خَلِيلِهِ؛ مِن تَرْدِيدِ الرُّسُلِ بِالوَحْيِ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ؛ وإجابَةِ الدَّعْوَةِ؛ وإظْهارِ الخَوارِقِ عَلَيْهِ؛ وعَلى آلِهِ؛ والنُّصْرَةِ عَلى الأعْداءِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الألْطافِ؛ وأظْهَرَ اسْمَهُ في مَوْضِعِ الإضْمارِ؛ تَصْرِيحًا بِالمَقْصُودِ؛ احْتِراسًا مِنَ الإبْهامِ؛ وإعْلاءً لِقَدْرِهِ؛ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب