الباحث القرآني

﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ إنْ كانَ ما فُرِضَ صَوْمُهُ هُنا هو رَمَضانُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ أيّامًا مَعْدُوداتٍ عُنِيَ بِهِ رَمَضانُ، وهو قَوْلُ ابْنِ أبِي لَيْلى وجُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، ووَصَفَها بِقَوْلِهِ - مَعْدُوداتٍ - تَسْهِيلًا عَلى المُكَلَّفِ بِأنَّ هَذِهِ الأيّامَ يَحْصُرُها العَدُّ لَيْسَتْ بِالكَثِيرَةِ الَّتِي تَفُوتُ العَدَّ، ولِهَذا وقَعَ الِاسْتِعْمالُ بِالمَعْدُودِ كِنايَةً عَلى القَلائِلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِي أيّامٍ مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ٢٠٣]، ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، ﴿وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠] . وإنْ كانَ ما فُرِضَ صَوْمُهُ هو ثَلاثَةُ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وقِيلَ: هَذِهِ الثَّلاثَةُ ويَوْمُ عاشُوراءَ، كَما كانَ ذَلِكَ مَفْرُوضًا عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ عَنى بِها هَذِهِ الأيّامَ، وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ: هي الأيّامُ البِيضُ، وقِيلَ: هي الثّانِي عَشَرَ، والثّالِثَ عَشَرَ، والرّابِعَ عَشَرَ، وقِيلَ: الثّالِثَ عَشَرَ ويَوْمانِ بَعْدَهُ، ورُوِيَ في ذَلِكَ حَدِيثُ: «إنَّ البِيضَ هي الثّالِثَ عَشَرَ ويَوْمانِ بَعْدَهُ» فَإنْ صَحَّ لَمْ يُمْكِنْ خِلافُهُ. ورَوى المُفَسِّرُونَ أنَّهُ كانَ في ابْتِداءِ الإسْلامِ صَوْمُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ واجِبًا، وصَوْمُ يَوْمِ عاشُوراءَ، فَصامُوا كَذَلِكَ في سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضانَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أوَّلُ ما نُسِخَ بَعْدَ الهِجْرَةِ أمْرُ القِبْلَةِ والصَّوْمُ، ويُقالُ: نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وأيّامٍ، وقِيلَ: كانَ صَوْمُ تِلْكَ الأيّامِ تَطَوُّعًا، ثُمَّ فُرِضَ، ثُمَّ نُسِخَ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي الفَضْلِ المُرْسِيُّ في (رِيِّ الظَّمْآنِ): احْتَجَّ مَن قالَ أنَّها غَيْرُ رَمَضانَ بِقَوْلِهِ ﷺ: «صَوْمُ رَمَضانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ»، فَدَلَّ عَلى أنَّ صَوْمًا آخَرَ كانَ قَبْلَهُ، ولِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ المَرِيضَ والمُسافِرَ في هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَهُما في الآيَةِ الآتِيَةِ بَعْدَهُ، فَإنْ كانَ هَذا الصَّوْمُ هو صَوْمَ رَمَضانَ لَكانَ هَذا تَكْرِيرًا: ولِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (فِدْيَةٌ) يَدُلُّ عَلى التَّخْيِيرِ، وصَوْمُ رَمَضانَ واجِبٌ عَلى التَّعْيِينِ، فَكانَ غَيْرَهُ، وأكْثَرُ المُحَقِّقِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالأيّامِ شَهْرُ رَمَضانَ: لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] يَحْتَمِلُ يَوْمًا ويَوْمَيْنِ وأكْثَرَ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وإذا أمْكَنَ حَمْلُهُ عَلى رَمَضانَ فَلا وجْهَ لِحَمْلِهِ عَلى غَيْرِهِ، وإثْباتِ النَّسْخِ: وأمّا الخَبَرُ فَيُمْكِنُ أنْ يُحْمَلَ عَلى نَسْخِ كُلِّ صَوْمٍ وجَبَ في الشَّرائِعِ المُتَقَدِّمَةِ، أوْ يَكُونَ ناسِخًا لِصِيامٍ وجَبَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، وأمّا ما ذُكِرَ مِنَ التَّكْرارِ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ لِبَيانِ إفْطارِ المُسافِرِ والمَرِيضِ في رَمَضانَ في الحُكْمِ، بِخِلافِ التَّخْيِيرِ في المُقِيمِ، فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِما القَضاءُ، فَلَمّا نُسِخَ عَنِ المُقِيمِ الصَّحِيحِ وأُلْزِمَ الصَّوْمَ، كانَ مِنَ الجائِزِ أنْ نَظُنَّ أنَّ حُكْمَ الصَّوْمِ، لَمّا انْتَقَلَ إلى التَّخْيِيرِ عَنِ التَّضْيِيقِ، يَعُمُّ الكُلَّ حَتّى يَكُونَ المَرِيضُ والمُسافِرُ فِيهِ بِمَنزِلَةِ المُقِيمِ مِن حَيْثُ تَغَيُّرُ الحُكْمِ في الصَّوْمِ، لِذا بَيَّنَ أنَّ حالَ المَرِيضِ والمُسافِرِ في رُخْصَةِ الإفْطارِ ووُجُوبِ القَضاءِ كَحالِهِما أوَّلًا، فَهَذِهِ فائِدَةُ الإعادَةِ، وهَذا هو الجَوابُ عَنِ الثّالِثِ، وهو قَوْلُهم، لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِدْيَةٌ﴾ (p-٣١)يَدُلُّ عَلى التَّخْيِيرِ إلى آخِرِهِ: لِأنَّ صَوْمَ رَمَضانَ كانَ واجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ صارَ مُعَيَّنًا. وعَلى كِلا القَوْلَيْنِ لا بُدَّ مِنَ النَّسْخِ في الآيَةِ، أمّا عَلى الأوَّلِ فَظاهِرٌ، وأمّا عَلى الثّانِي فَلِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضانَ واجِبًا مُخَيَّرًا، والآيَةُ الَّتِي بَعْدُ تَدُلُّ عَلى التَّضْيِيقِ، فَكانَتْ ناسِخَةً لَها، والِاتِّصالُ في التِّلاوَةِ لا يُوجِبُ الِاتِّصالَ في النُّزُولِ، انْتَهى كَلامُهُ. وانْتِصابُ قَوْلِهِ: ﴿أيّامًا﴾ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، وتَقْدِيرُهُ: صُومُوا أيّامًا مَعْدُوداتٍ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِقَوْلِهِ - الصِّيامُ - وهو اخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، إذْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، قالَ: وانْتِصابُ أيّامًا بِالصِّيامِ كَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، انْتَهى كَلامُهُ، وهو خَطَأٌ: لِأنَّ مَعْمُولَ المَصْدَرِ مِن صِلَتِهِ، وقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُما بِأجْنَبِيٍّ وهو قَوْلُهُ: ﴿كَما كُتِبَ﴾ [البقرة: ١٨٣]، فَكَما كُتِبَ لَيْسَ لِمَعْمُولِ المَصْدَرِ، وإنَّما هو مَعْمُولٌ لِغَيْرِهِ عَلى أيِّ تَقْدِيرٍ قَدَّرْتَهُ مِن كَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ، ولَوْ فَرَّعْتَ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِلصِّيامِ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ تَعْرِيفَ الصِّيامِ جِنْسٌ، فَيُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ، لَمْ يَجُزْ أيْضًا: لِأنَّ المَصْدَرَ إذا وُصِفَ قَبْلَ ذِكْرِ مَعْمُولِهِ لَمْ يَجُزْ إعْمالُهُ، فَإنْ قَدَّرْتَ الكافَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مِنَ الصِّيامِ، كَما قَدْ قالَ بِهِ بَعْضُهم، وضَعَّفْناهُ قَبْلُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَوْمًا كَما كُتِبَ، جازَ أنْ يَعْمَلَ في أيّامًا الصِّيامُ: لِأنَّهُ إذْ ذاكَ العامِلُ في صَوْمًا هو المَصْدَرُ، فَلا يَقَعُ الفَصْلُ بَيْنَهُما بِما لَيْسَ لِمَعْمُولٍ لِلْمَصْدَرِ، وأجازُوا أيْضًا انْتِصابَ أيّامًا عَلى الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ كُتِبَ، وأنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلى السَّعَةِ ثانِيًا، والعامِلُ فِيهِ كُتِبَ، وإلى هَذا ذَهَبَ الفَرّاءُ والحَوْفِيُّ، وكِلا القَوْلَيْنِ خَطَأٌ. أمّا النَّصْبُ عَلى الظَّرْفِ فَإنَّهُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ، والكِتابَةُ لَيْسَتْ واقِعَةً في الأيّامِ، لَكِنَّ مُتَعَلَّقَها هو الواقِعُ في الأيّامِ، فَلَوْ قالَ الإنْسانُ لِوَلَدِهِ وكانَ وُلِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: سَرَّنِي وِلادَتُكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، لَمْ يَكُنْ أنْ يَكُونَ يَوْمُ الجُمُعَةِ مَعْمُولًا لَسَرَّنِي: لِأنَّ السُّرُورَ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إذْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلسُّرُورِ الَّذِي أسْنَدَهُ إلى نَفْسِهِ، وأمّا النَّصْبُ عَلى المَفْعُولِ اتِّساعًا فَإنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ وُقُوعِهِ ظَرْفًا لِكُتِبَ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ. والصَّوْمُ: نَفْلٌ وواجِبٌ، والواجِبُ مُعَيَّنُ الزَّمانِ، وهو صَوْمُ رَمَضانَ والنَّذْرُ المُعَيَّنُ، وما هو في الذِّمَّةِ، وهو قَضاءُ رَمَضانَ، والنَّذْرُ غَيْرُ المُعَيَّنِ، وصَوْمُ الكَفّارَةِ. وأجْمَعُوا عَلى اشْتِراطِ النِّيَّةِ في الصَّوْمِ، واخْتَلَفُوا في زَمانِها، فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ: أنَّ رَمَضانَ، والنَّذْرَ المُعَيَّنَ، والنَّفْلَ، يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وبِنِيَّةٍ إلى الزَّوالِ، وقَضاءَ رَمَضانَ، وصَوْمَ الكَفّارَةِ لا يَصِحُّ إلّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ خاصَّةً. ومَذْهَبُ مالِكٍ عَلى المَشْهُورِ: أنَّ الفَرْضَ والنَّفْلَ لا يَصِحُّ إلّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ. ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ: أنَّهُ لا يَصِحُّ واجِبٌ إلّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ. ومَذْهَبُ مالِكٍ: أنَّ نِيَّةً واحِدَةً تَكْفِي عَنْ شَهْرِ رَمَضانَ. ورُوِيَ عَنْ زُفَرَ أنَّهُ إذا كانَ صَحِيحًا مُقِيمًا فَأمْسَكَ فَهو صائِمٌ، وإنْ لَمْ يَنْوِ، ومَن صامَ رَمَضانَ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ أوْ بِنِيَّةِ واجِبٍ آخَرَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: ما تَعَيَّنَ زَمانُهُ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وقالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ: لا يَصِحُّ إلّا بِنِيَّةِ الفَرْضِ، والمُسافِرُ إذا نَوى واجِبًا آخَرَ وقَعَ عَمّا نَوى، وقالَ أبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ: يَقَعُ عَنْ رَمَضانَ، فَلَوْ نَوى هو أوِ المَرِيضُ التَّطَوُّعَ، فَعَنْ أبِي حَنِيفَةَ: يَقَعُ عَنِ الفَرْضِ، وعَنْهُ أيْضًا: يَقَعُ التَّطَوُّعُ، وإذا صامَ المُسافِرُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوالِ جازَ، قالَ زُفَرُ: لا يَجُوزُ، ولا يَجُوزُ النَّفْلُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوالِ، وقالَ الشّافِعِيُّ: يَجُوزُ. ولَوْ أوْجَبَ صَوْمَ وقْتٍ مُعَيَّنٍ فَصامَ عَنِ التَّطَوُّعِ، فَقالَ أبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَلى المَنذُورِ، ولَوْ صامَ عَنْ واجِبٍ آخَرَ في وقْتِ الصَّوْمِ الَّذِي أوْجَبَهُ وقَعَ عَنْ ما نَوى، ولَوْ نَوى التَّطَوُّعَ وقَضاءَ رَمَضانَ، فَقالَ أبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَنِ القَضاءِ، ومُحَمَّدٌ قالَ: عَنِ التَّطَوُّعِ، ولَوْ نَوى قَضاءَ رَمَضانَ وكَفّارَةَ الظِّهارِ كانَ عَلى القَضاءِ في قَوْلِ أبِي يُوسُفَ، وقالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ عَلى النَّفْلِ، ولَوْ نَوى الصّائِمُ الفِطْرَ فَصَوْمُهُ تامٌّ، وقالَ الشّافِعِيُّ: يَبْطُلُ صَوْمُهُ. ودَلائِلُ هَذِهِ المَسائِلِ تُذْكَرُ في كُتُبِ الفِقْهِ. * * * ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ (p-٣٢)ظاهِرُ اللَّفْظِ اعْتِبارُ مُطْلَقِ المَرَضِ بِحَيْثُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ، وعَطاءٌ، والبُخارِيُّ، وقالَ الجُمْهُورُ: هو الَّذِي يُؤْلِمُ ويُؤْذِي، ويُخافُ تَمادِيهِ وتَزَيُّدُهُ: وسُمِعَ مِن لَفْظِ مالِكٍ أنَّهُ المَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلى المَرْءِ ويَبْلُغُ بِهِ التَّلَفَ إذا صامَ، وقالَ مَرَّةً: شِدَّةُ المَرَضِ والزِّيادَةِ فِيهِ: وقالَ الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ: إذا لَمْ يَقْدِرْ مِنَ المَرَضِ عَلى الصِّيامِ أفْطَرَ: وقالَ الشّافِعِيُّ: لا يُفْطِرُ إلّا مَن دَعَتْهُ ضَرُورَةُ المَرَضِ إلَيْهِ، ومَتى احْتَمَلَ الصَّوْمُ مَعَ المَرَضِ لَمْ يُفْطِرْ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ خافَ إنْ تَزْدادَ عَيْنُهُ وجَعًا أوْ حُمًّى شَدِيدَةً أفْطَرَ. وظاهِرُ اللَّفْظِ اعْتِبارُ مُطْلَقِ السَّفَرِ زَمانًا وقَصْدًا. وقَدِ اخْتَلَفُوا في المَسافَةِ الَّتِي تُبِيحُ الفِطْرَ، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، والثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ: ثَلاثَةُ أيّامٍ. ورَوى البُخارِيُّ أنَّ ابْنَ عُمَرَ، وابْنَ عَبّاسٍ كانا يُفْطِرانِ ويَقْصُرانِ في أرْبَعَةِ بُرُدٍ، وهي سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أبِي حَنِيفَةَ: يَوْمانِ وأكْثَرُ ثَلاثٌ، والمُعْتَبَرُ السَّيْرُ الوَسَطُ لا غَيْرُهُ مِنَ الإسْراعِ والإبْطاءِ: وقالَ مالِكٌ: مَسافَةُ الفِطْرِ مَسافَةُ القَصْرِ، وهي يَوْمٌ ولَيْلَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقالَ: ثَمانِيَةٌ وأرْبَعُونَ مِيلًا، وقالَ مَرَّةً: اثْنانِ وأرْبَعُونَ، ومَرَّةً سِتَّةٌ وأرْبَعُونَ: وفي المَذْهَبِ: ثَلاثُونَ مِيلًا، وفي غَيْرِ المَذْهَبِ ثَلاثَةُ أمْيالٍ. وأجْمَعُوا عَلى أنَّ سَفَرَ الطّاعَةِ مِن جِهادٍ وحَجٍّ وصِلَةِ رَحِمٍ وطَلَبِ مَعاشٍ ضَرُورِيٍّ مُبِيحٌ، فَأمّا سَفَرُ التِّجارَةِ والمُباحُ فَفِيهِ خِلافٌ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والقَوْلُ بِالإجازَةِ أظْهَرُ، وكَذَلِكَ سَفَرُ المَعاصِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ أيْضًا، والقَوْلُ بِالمَنعِ أرْجَحُ، انْتَهى كَلامُهُ. واتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُسافِرَ في رَمَضانَ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُبَيِّتَ الفِطْرَ، قالُوا: ولا خِلافَ أنَّهُ لا يَجُوزُ لِمُؤَمِّلِ السَّفَرِ أنْ يُفْطِرَ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ، فَإنْ أفْطَرَ فَقالَ أشْهَبُ: لا يَلْزَمْهُ شَيْءٌ سافَرَ أوْ لَمْ يُسافِرْ. وقالَ سَحْنُونٌ: عَلَيْهِ الكَفّارَةُ سافَرَ أوْ لَمْ يُسافِرْ، وقالَ عِيسى، عَنِ ابْنِ القاسِمِ: لا يَلْزَمُهُ إلّا قَضاءُ يَوْمِهِ، ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ أنَّهُ أفْطَرَ وقَدْ أرادَ السَّفَرَ، ولَبِسَ ثِيابَ السَّفَرِ، ورَحَّلَ دابَّتَهُ، فَأكَلَ ثُمَّ رَكِبَ. وقالَ الحَسَنُ يُفْطِرُ إنْ شاءَ في بَيْتِهِ يَوْمَ يُرِيدُ أنْ يَخْرُجَ، وقالَ أحْمَدُ: إذا بَرَزَ عَنِ البُيُوتِ، وقالَ إسْحاقُ: لا بَلْ حَتّى يَضَعَ رِجْلَهُ في الرَّحْلِ. ومَن أصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اعْتَلَّ أفْطَرَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، ولَوْ أصْبَحَ في الحَضَرِ ثُمَّ سافَرَ فَلَهُ أنْ يُفْطِرَ، وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، والشَّعْبِيِّ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ، وقِيلَ: لا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وإنْ نَهَضَ في سَفَرِهِ، وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، ويَحْيى الأنْصارِيِّ، ومالِكٍ، والأوْزاعِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وأبِي ثَوْرٍ، وأصْحابِ الرَّأْيِ. واخْتَلَفُوا إنْ أفْطَرَ، فَكُلُّ هَؤُلاءِ قالَ: يَقْضِي ولا يُكَفِّرُ. وقالَ ابْنُ كِنانَةَ: يَقْضِي ويَكَفِّرُ، وحَكاهُ الباجِيُّ عَنِ الشّافِعِيِّ، وقالَ بِهِ ابْنُ العَرَبِيِّ واخْتارَهُ، وقالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ: لِأنَّ اللَّهَ أباحَ لَهُ الفِطْرَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، ومَن أوْجَبَ الكَفّارَةَ فَقَدْ أوْجَبَ ما لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ إباحَةُ الفِطْرِ لِلْمُسافِرِ، ولَوْ كانَ بَيَّتَ نِيَّةَ الصَّوْمِ في السَّفَرِ فَلَهُ أنْ يُفْطِرَ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، قالَهُ الثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ وسائِرُ فُقَهاءِ الكُوفَةِ، وقالَ مالِكٌ: عَلَيْهِ القَضاءُ والكَفّارَةُ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا: أنَّهُ لا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ أصْحابِهِ. ومَوْضِعُ ”﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾“ نَصْبٌ؛ لِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى خَبَرِ - كانَ - ومَعْنى - أوْ - هُنا التَّنْوِيعُ، وعَدَلَ عَنِ اسْمِ الفاعِلِ وهو - أوْ ”مُسافِرًا“ إلى - أوْ عَلى سَفَرٍ، إشْعارًا بِالِاسْتِيلاءِ عَلى السَّفَرِ لِما فِيهِ مِنَ الِاخْتِيارِ لِلْمُسافِرِ، بِخِلافِ المَرَضِ فَإنَّهُ يَأْخُذُ الإنْسانَ مِن غَيْرِ اخْتِيارٍ، فَهو قَهْرِيٌّ بِخِلافِ السَّفَرِ: فَكَأنَّ السَّفَرَ مَرْكُوبُ الإنْسانِ يَسْتَعْلِي عَلَيْهِ، ولِذَلِكَ يُقالُ: فُلانٌ عَلى طَرِيقٍ، وراكِبُ طَرِيقٍ إشْعارًا بِالِاخْتِيارِ، وأنَّ الإنْسانَ مُسْتَوْلٍ عَلى السَّفَرِ مُخْتارٌ لِرُكُوبِ الطَّرِيقِ فِيهِ. * * * ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِرَفْعُ ”عِدَّةٌ“ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، وقَدَّرَ قَبْلُ، أيْ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، وبَعْدُ، أيْ: أمْثَلُ لَهُ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: فالواجِبُ، أوْ: فالحُكْمُ عِدَّةٌ. وقُرِئَ ”فَعِدَّةً“ بِالنَّصْبِ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً، وعِدَّةٌ هُنا بِمَعْنى مَعْدُودٍ، كالرَّعْيِ (p-٣٣)والطَّحْنِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: فَصَوْمُ عِدَّةِ ما أفْطَرَ، وبَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ مَحْذُوفٌ بِهِ يَصِحُّ الكَلامُ، والتَّقْدِيرُ: فَأفْطَرَ فَعِدَّةٌ، ونَظِيرُهُ في الحَذْفِ: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] أيْ: فَضَرَبَ فانْفَلَقَ. ونَكَّرَ (عِدَّةٌ) ولَمْ يَقُلْ - فَعِدَّتُها - أيْ: فَعِدَّةُ الأيّامِ الَّتِي أُفْطِرَتِ اجْتِزاءً، إذِ المَعْلُومُ أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ غَيْرُ ما أفْطَرَ فِيهِ مِمّا صامَهُ، والعِدَّةُ هي المَعْدُودُ، فَكانَ التَّنْكِيرُ أخْصَرَ، و﴿مِن أيّامٍ﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَعِدَّةٌ، وأُخَرَ: صِفَةٌ لِأيّامٍ، وصِفَةُ الجَمْعِ الَّذِي لا يَعْقِلُ تارَةً يُعامَلُ مُعامَلَةَ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ، وتارَةً يُعامَلُ مُعامَلَةَ جَمْعِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ. فَمِنَ الأوَّلِ: ﴿إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، ومِنَ الثّانِي: ﴿إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤]، فَـ ”﴿مَعْدُوداتٍ﴾ [آل عمران: ٢٤]“: جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ. وأنْتَ لا تَقُولُ: يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ، إنَّما تَقُولُ مَعْدُودٌ: لِأنَّهُ مُذَكَّرٌ، لَكِنْ جازَ ذَلِكَ في جَمْعِهِ، وعُدِلَ عَنْ أنْ يُوصَفَ الأيّامُ بِوَصْفِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ، فَكانَ يَكُونُ: مِن أيّامٍ أُخْرى، وإنْ كانَ جائِزًا فَصِيحًا كالوَصْفِ بِأُخَرَ: لِأنَّهُ كانَ يُلْبِسُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ (فَعِدَّةٌ)، فَلا يُدْرى أهُوَ وصْفٌ لِعِدَّةٍ، أمْ لِأيّامٍ، وذَلِكَ لِخَفاءِ (p-٣٤)الإعْرابِ لِكَوْنِهِ مَقْصُورًا، بِخِلافِ: (أُخَرَ)، فَإنَّهُ نَصٌّ في أنَّهُ صِفَةٌ لِأيّامٍ، لِاخْتِلافِ إعْرابِهِ مَعَ إعْرابِ ”فَعِدَّةٌ“، أفَلا يَنْصَرِفُ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ في النَّحْوِ، وهي جَمْعُ أُخْرى مُقابِلَةُ أُخَرَ، وأُخَرُ مُقابِلُ آخَرِينَ، لا جَمْعُ أُخْرى لِمَعْنى أُخْرَةٍ، مُقابِلَةُ الأُخَرِ المُقابِلِ لِلْأُوَلِ، فَإنَّ أُخَرَ تَأْنِيثُ أُخْرى لِمَعْنى أُخْرَةٍ مَصْرُوفَةٌ. وقَدِ اخْتَلَفا حُكْمًا ومَدْلُولًا. أمّا اخْتِلافُ الحُكْمِ: فَلِأنَّ تِلْكَ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ، وأمّا اخْتِلافُ المَدْلُولِ: فَلِأنَّ مَدْلُولَ أُخْرى، الَّتِي جَمْعُها أُخَرُ الَّتِي لا تَنْصَرِفُ، مَدْلُولُ غَيْرٍ، ومَدْلُولَ أُخْرى الَّتِي جَمْعُها يَنْصَرِفُ مَدْلُولُ مُتَأخِّرَةٍ، وهي قابِلَةُ الأُولى. قالَ تَعالى: ﴿قالَتْ أُولاهم لِأُخْراهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٩] فَهي بِمَعْنى: الآخِرَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٣]، وأُخَرُ الَّذِي مُؤَنَّثُهُ أُخْرى مُفْرَدُهُ آخَرُ الَّتِي لا تَنْصَرِفُ بِمَعْنى غَيْرٍ، لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما اتَّصَلَ بِهِ إلّا مِن جِنْسِ ما قَبْلُهُ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَ وبِرَجُلٍ آخَرَ، ولا يَجُوزُ: اشْتَرَيْتُ هَذا الفَرَسَ وحِمارًا آخَرَ: لِأنَّ الحِمارَ لَيْسَ مِن جِنْسِ الفَرَسِ، فَأمّا قَوْلُهُ: ؎صَلّى عَلى عَزَّةَ الرَّحْمانُ وابْنَتِها لَيْلى، وصَلّى عَلى جاراتِها الأُخَرِ فَإنَّهُ جَعَلَ ابْنَتَها جارَةً لَها، ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى مَسْألَةِ أُخْرى في كِتابِنا (التَّكْمِيلِ) . قالُوا: واتَّفَقَتِ الصَّحابَةُ ومَن بَعْدَهم مِنَ التّابِعِينَ، وفُقَهاءُ الأمْصارِ عَلى جَوازِ الصَّوْمِ لِلْمُسافِرِ، وأنَّهُ لا قَضاءَ عَلَيْهِ إذا صامَ: لِأنَّهم كَما ذَكَرْنا، قَدَّرُوا حَذْفًا في الآيَةِ، والأصْلُ أنْ لا حَذْفَ، فَيَكُونُ الظّاهِرُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ عَلى المَرِيضِ والمُسافِرِ عِدَّةً مِن أيّامٍ أُخَرَ، فَلَوْ صاما لَمْ يُجْزِهِما، ويَجِبُ عَلَيْهِما صَوْمُ عِدَّةِ ما كانا فِيهِ مِنَ الأيّامِ الواجِبِ صَوْمُها عَلى غَيْرِهِما. قالُوا: ورُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ: مَن صامَ في السَّفَرِ فَعَلَيْهِ القَضاءُ، وتابَعَهُ عَلَيْهِ شَواذٌّ مِنَ النّاسِ، ونَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عُمَرَ وابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الفِطْرَ في السَّفَرِ عَزِيمَةٌ، ونَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: الصّائِمُ في السَّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَرِ، وقالَ بِهِ قَوْمٌ مِن أهْلِ الظّاهِرِ، وفَرَّقَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ بَيْنَ المَرِيضِ والمُسافِرِ، فَقالَ فِيما لَخَّصْناهُ في كِتابِنا المُسَمّى بِـ - الأنْوارِ الأجْلى في اخْتِصارِ المُحَلّى - ما نَصُّهُ: ويَجِبُ عَلى مَن سافَرَ ولَوْ عاصِيًا مِيلًا فَصاعِدًا الفِطْرُ إذا فارَقَ البُيُوتَ في غَيْرِ رَمَضانَ، ولْيُفْطِرِ المَرِيضُ ويَقْضِيَ بَعْدُ، ويُكْرَهُ صَوْمُهُ ويُجْزِئُ، وحُجَجُ هَذِهِ الأقْوالِ في كُتُبِ الفِقْهِ. وثَبَتَ بِالخَبَرِ المُسْتَفِيضِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «صامَ في السَّفَرِ»، ورَوى ذَلِكَ عَنْهُ أبُو الدَّرْداءِ، وسَلَمَةُ بْنُ المُحَنَّقِ، وأبُو سَعِيدٍ، وجابِرٌ، وأنَسٌ، وابْنُ عَبّاسٍ عَنْهُ إباحَةَ الصَّوْمِ والفِطْرِ في السَّفَرِ، «بِقَوْلِهِ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأسْلَمِيِّ وقَدْ قالَ: أصُومُ في السَّفَرِ ؟ قالَ: ”إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ“» وعَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ: أنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وتَقْدِيرُهُ: فَأفْطِرْ، وأنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسافِرِ أنْ يُفْطِرَ وأنْ يَصُومَ. واخْتَلَفُوا في الأفْضَلِ، فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ في بَعْضِ ما رُوِيَ عَنْهُما: إلى أنَّ الصَّوْمَ أفْضَلُ، وبِهِ قالَ مِنَ الصَّحابَةِ: عُثْمانُ بْنُ أبِي العاصِ الثَّقَفِيُّ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَهَبَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ إلى الصَّوْمِ، وقالَ: إنَّما نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ ونَحْنُ جِياعٌ نَرُوحُ إلى جُوعٍ، وذَهَبَ الأوْزاعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ إلى أنَّ الفِطْرَ أفْضَلُ، وبِهِ قالَ مِنَ الصَّحابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ. ومِنَ التّابِعِينَ: ابْنُ المُسَيَّبِ، والشَّعْبِيُّ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ مُجاهِدٌ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وغَيْرُهُما: أيْسَرُهُما أفْضَلُهُما. وكَرِهَ ابْنُ حَنْبَلٍ الصَّوْمَ في السَّفَرِ، ولَوْ صامَ في السَّفَرِ ثُمَّ أفْطَرَ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ القَضاءُ فَقَطْ، قالَهُ الأوْزاعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وزادَ اللَّيْثُ، والكَفّارَةُ. وعَنْ مالِكٍ القَوْلانِ. ولَوْ أفْطَرَ مُسافِرٌ ثُمَّ قَدِمَ مِن يَوْمِهِ، أوْ حائِضٌ ثُمَّ طَهُرَتْ في بَعْضِ النَّهارِ، فَقالَ جابِرُ بْنُ يَزِيدَ، والشّافِعِيُّ، ومالِكٌ فِيما رَواهُ ابْنُ القاسِمِ: يَأْكُلانِ ولا يُمْسِكانِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، والأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: يُمْسِكانِ بَقِيَّةَ يَوْمِها عَنْ ما يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ، وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ في (p-٣٥)المُسافِرِ: يُمْسِكُ ويَقْضِي، وفي الحائِضِ: إنْ طَهُرَتْ تَأْكُلُ. والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ﴾، أنَّهُ يَلْزَمُهُ عِدَّةُ ما أفْطَرَ فِيهِ، فَلَوْ كانَ الشَّهْرُ الَّذِي أفْطَرَ فِيهِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، قَضى تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، وبِهِ قالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ، وذَهَبَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ إلى أنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِن غَيْرِ مُراعاةِ عَدَدِ الأيّامِ. ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ يَقْضِي بِالأهِلَّةِ، ورُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا وإنْ كانَ رَمَضانُ ثَلاثِينَ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وخِلافُ ما أجْمَعُوا عَلَيْهِ مِن أنَّهُ إذا كانَ ما أفْطَرَ فِيهِ بَعْضَ رَمَضانَ، فَإنَّهُ يَجِبُ القَضاءُ بِالعَدَدِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ قَضاءُ جَمِيعِهِ بِاعْتِبارِ العَدَدِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ التَّتابُعُ، وبِهِ قالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ وفُقَهاءِ الأمْصارِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، ومُجاهِدٍ، وعُرْوَةَ: أنَّهُ لا يُفَرِّقُ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: ”فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ مُتَتابِعاتٍ“، وظاهِرُ الآيَةِ: أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ الزَّمانُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ المُبادَرَةُ إلى القَضاءِ. وقالَ داوُدُ: يَجِبُ عَلَيْهِ القَضاءُ ثانِيَ شَوّالٍ، فَلَوْ لَمْ يَصُمْهُ ثُمَّ ماتَ أثِمَ، وهو مَحْجُوجٌ بِظاهِرِ الآيَةِ، وبِما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضانَ فَلا أسْتَطِيعُ أنْ أقْضِيَهُ، إلّا في شَعْبانَ لِشُغْلٍ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ: مَن أخَّرَ القَضاءَ حَتّى دَخَلَ رَمَضانُ آخَرُ، أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ إلّا القَضاءُ فَقَطْ عَنِ الأوَّلِ، ويَصُومُ الثّانِي. وبِهِ قالَ الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وداوُدُ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، يَجِبُ عَلَيْهِ الفِدْيَةُ مَعَ القَضاءِ. وقالَ يَحْيى بْنُ أكْثَمَ القاضِي رُوِيَ وُجُوبُ الإطْعامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، ولَمْ أجِدْ لَهم مِنَ الصَّحابَةِ مُخالِفًا. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ لا قَضاءَ عَلَيْهِ إذا فَرَّطَ في رَمَضانَ الأوَّلِ، ويُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنهُ مُدًّا مِن بُرٍّ، ويَصُومُ رَمَضانَ الثّانِيَ. ومَن أخَّرَ قَضاءَ رَمَضانَ حَتّى ماتَ، فَقالَ مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ: لا يَصُومُ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ لا في رَمَضانَ ولا في غَيْرِهِ. وقالَ اللَّيْثُ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، وأبُو عُبَيْدٍ، وأهْلُ الظّاهِرِ: يُصامُ عَنْهُ، وخَصَّصُوهُ بِالنَّذْرِ. وقالَ أحْمَدُ، وإسْحاقُ: يُطْعَمُ عَنْهُ في قَضاءِ رَمَضانَ. * * * ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: ”يُطِيقُونَهُ“ مُضارِعُ أطاقَ، وقَرَأ حُمَيْدٌ يُطْوِقُونَهُ مِن أطْوَقَ، كَقَوْلِهِمْ أطْوَلَ في أطالَ، وهو الأصْلُ. وصِحَّةُ حَرْفِ العِلَّةِ في هَذا النَّحْوِ شاذَّةٌ مِنَ الواوِ ومِنَ الياءِ، والمَسْمُوعُ مِنهُ: أجْوَدُ، وأعْوَلُ، وأطْوَلُ، وأغْيَمَتِ السَّماءُ، وأخْيَلَتْ، وأغْيَلَتِ المَرْأةُ، وأطْيَبُ، وقَدْ جاءَ الإعْلالُ في جَمِيعِها وهو القِياسُ، والتَّصْحِيحُ كَما ذَكَرْنا شاذٌّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، إلّا أبا زَيْدٍ الأنْصارِيَّ فَإنَّهُ يَرى التَّصْحِيحَ في ذَلِكَ مَقِيسًا اعْتِبارًا بِهَذِهِ الألْفاظِ النَّزْرَةِ المَسْمُوعِ فِيها الإعْلالُ والنَّقْلُ عَلى القِياسِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ في المَشْهُورِ عَنْهُ: يُطَوَّقُونَهُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِن طَوَّقَ عَلى وزْنِ قَطَّعَ. وقَرَأتْ عائِشَةُ، ومُجاهِدٌ، وطاوُسٌ، وعَمْرُو بْنُ دِينارٍ: يَطَّوَّقُونَهُ مِنَ اطَّوَّقَ، وأصْلُهُ تَطَوَّقَ عَلى وزْنِ تَفَعَّلَ، ثُمَّ أدْغَمُوا التّاءَ في الطّاءِ، فاجْتَلَبُوا في الماضِي والأمْرِ هَمْزَةَ الوَصْلِ. قالَ بَعْضُ النّاسِ: هو تَفْسِيرٌ لا قِراءَةٌ، خِلافًا لِمَن أثْبَتَها قِراءَةً، والَّذِي قالَهُ النّاسُ خِلافُ مَقالَةِ هَذا القائِلِ، وأوْرَدَها قِراءَةً. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ، مِنهم عِكْرِمَةُ: يَطِيقُونَهُ، وهي مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُجاهِدٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، وقُرِئَ أيْضًا هَكَذا لَكِنْ بِضَمِّ ياءِ المُضارِعِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ورَدَّ بَعْضُهم هَذِهِ القِراءَةَ، وقالَ: هي باطِلَةٌ: لِأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّوْقِ. قالُوا: ولازِمَةٌ فِيهِ، ولا مَدْخَلَ لِلْياءِ في هَذا المِثالِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْدِيدُ الياءِ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ ضَعِيفٌ، انْتَهى. وإنَّما ضَعُفَ هَذا أوِ امْتَنَعَ عِنْدَ هَؤُلاءِ: لِأنَّهم بَنَوْا عَلى أنَّ الفِعْلَ عَلى وزْنِ تَفَعَّلَ، فَأشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ولَيْسَ كَما ذَهَبُوا إلَيْهِ، بَلْ هو عَلى وزْنِ: تَفْعِيلٌ مِنَ الطَّوْقِ، كَقَوْلِهِمْ: تُدِيرُ المَكانَ وما بِها دَيّارُ، فَأصْلُهُ: تُطْيِوْقُونَ، اجْتَمَعَتْ ياءٌ وواوٌ، وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ فِيها الياءُ، فَقِيلَ: تَطَيَّقَ يَتَطَيَّقُ، فَهَذا تَوْجِيهُ هَذِهِ القِراءَةِ وهو تَوْجِيهٌ نَحْوِيٌّ واضِحٌ. (فَهَذِهِ سِتُّ قِراءاتٍ) يَرْجِعُ (p-٣٦)مَعْناها إلى الِاسْتِطاعَةِ والقُدْرَةِ، فالمَبْنِيُّ مِنها لِلْفاعِلِ ظاهِرٌ، والمَبْنِيُّ مِنها لِلْمَفْعُولِ، مَعْناهُ: يُجْعَلُ مُطِيقًا لِذَلِكَ، ويَحْتَمِلُ قِراءَةُ تَشْدِيدِ الواوِ والياءِ أنْ يَكُونَ لِمَعْنى التَّكْلِيفِ، أيْ: يَتَكَلَّفُونَهُ أوْ يُكَلَّفُونَهُ، ومَجازُهُ أنْ يَكُونَ مِنَ الطَّوْقِ بِمَعْنى القِلادَةِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: مُقَلَّدُونَ ذَلِكَ، أيْ: يُجْعَلُ في أعْناقِهِمْ، ويَكُونُ كِنايَةً عَنِ التَّكْلِيفِ، أيْ: يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ. وعَلى هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ حَمَلَ المُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الصَّوْمِ، فاخْتَلَفُوا، فَقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وابْنُ عُمَرَ، وسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، والشَّعْبِيُّ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ شِهابٍ، والضَّحّاكُ: كانَ الصِّيامُ عَلى المُقِيمِينَ القادِرِينَ مُخَيَّرًا فِيهِ، فَمَن شاءَ صامَ ومَن شاءَ أفْطَرَ وأطْعَمَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ، وقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُطِيقُونَهُ، أوِ ”الصَّوْمَ“، لِكَوْنِهِمْ كانُوا شَبابًا ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ بِالشَّيْخُوخَةِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ والسُّدِّيُّ. وقِيلَ: المَعْنى وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ، وهو بِصِفَةِ المَرَضِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ، فَخُيِّرَ هَذا بَيْنَ أنْ يَصُومَ وبَيْنَ أنْ يُفْطِرَ ويَفْدِيَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَلْيَصُمْهُ)، فَزالَتِ الرُّخْصَةُ إلّا لِمَن عَجَزَ مِنهم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ تَكُونَ ”لا“ مَحْذُوفَةً، فَيَكُونَ الفِعْلُ مَنفِيًّا، وقَدَّرَهُ: وعَلى الَّذِينَ لا يُطِيقُونَهُ. قالَ: حَذَفَ لا وهي مُرادَةٌ. قالَ ابْنُ أحْمَدَ: ؎آلَيْتُ أمْدَحُ مُقْرِفًا أبَدًا يَبْقى المَدِيحُ ويَذْهَبُ الرَّفْدُ (وقالَ الآخَرُ): ؎فَخالِفْ، فَلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ∗∗∗ مِنَ الأرْضِ إلّا أنْتَ لِلذُّلِّ عارِفُ (وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ): ؎فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أبْرَحُ قاعِدًا ∗∗∗ ولَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصالِي وتَقْدِيرُ - لا - خَطَأٌ: لِأنَّهُ مَكانُ إلْباسٍ. ألا تَرى أنَّ الَّذِي يَتَبادَرُ إلَيْهِ الفَهْمُ، هو أنَّ الفِعْلَ مُثْبَتٌ، ولا يَجُوزُ حَذْفُ - لا - وإرادَتُها إلّا في القَسَمِ، والأبْياتُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِها هي مِن بابِ القَسَمِ، وعِلَّةُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ. وقِيلَ: ﴿الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ المُرادُ: الشَّيْخُ الهَرِمُ والعَجُوزُ، أيْ: يُطِيقُونَهُ بِتَكَلُّفٍ شَدِيدٍ، فَأباحَ اللَّهُ لَهُمُ الفِطْرَ والفِدْيَةَ، والآيَةُ عَلى هَذا مُحْكَمَةٌ، ويُؤَيِّدُهُ تَوْجِيهُ مَن وجَّهَ يُطَوَّقُونَهُ عَلى مَعْنى يَتَكَلَّفُونَ صَوْمَهُ ويَتَجَشَّمُونَهُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وأنَّها نَزَلَتْ في الشَّيْخِ الفانِي والعَجُوزِ الهَرِمَةِ. وزَيْدٌ عَنْ عَلِيٍّ: والمَرِيضُ الَّذِي لا يُرْجى بُرْؤُهُ، والآيَةُ عِنْدَ مالِكٍ إنَّما هي في مَن يُدْرِكُهُ رَمَضانُ وعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضانَ المُتَقَدِّمِ، فَقَدْ كانَ يُطِيقُ في تِلْكَ المُدَّةِ الصَّوْمَ، فَتَرَكَهُ، فَعَلَيْهِ الفِدْيَةُ. وقالَ الأصَمُّ: يَرْجِعُ ذَلِكَ إلى المَرِيضِ والمُسافِرِ: لِأنَّ لَهُما حالَيْنِ: حالٌ لا يُطِيقانِ فِيهِ الصَّوْمَ، وقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَها في قَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾، وحالٌ يُطِيقانِ، وهي حالَةُ المَرَضِ والسَّفَرِ الَّذَيْنِ لا يَلْحَقُ بِهِما جَهْدٌ شَدِيدٌ لَوْ صاما، فَخُيِّرَ بَيْنَ أنْ يُفْطِرَ ويَفْدِيَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وعَلى المَرْضى والمُسافِرِينَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ. والظّاهِرُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ القَوْلُ الأوَّلُ، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ فَرْضَ الصِّيامِ عَلى المُؤْمِنِينَ قَسَمَهم إلى قِسْمَيْنِ: مُتَّصِفٌ بِمَظِنَّةِ المَشَقَّةِ، وهو المَرِيضُ والمُسافِرُ، فَجَعَلَ حُكْمَ هَذا أنَّهُ إذا أفْطَرَ لَزِمَهُ القَضاءُ، ومُطِيقٌ لِلصَّوْمِ، فَإنْ صامَ قَضى ما عَلَيْهِ، وإنْ أفْطَرَ فَدى، ثُمَّ نُسِخَ هَذا الثّانِي، وتَقَدَّمَ أنَّ هَذا كانَ، ثُمَّ نُسِخَ. والقائِلُونَ بِأنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هُمُ الشُّيُوخُ والعُجَّزُ، تَكُونُ الآيَةُ مُحْكَمَةً عَلى قَوْلِهِمْ، واخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذا الحُكْمُ بِهَؤُلاءِ، وقِيلَ: يَتَناوَلُ الحامِلَ والمُرْضِعَ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ الشَّيْخَ الهَرِمَ إذا أفْطَرَ عَلَيْهِ الفِدْيَةُ، هَكَذا نَقَلَ بَعْضُهم، ولَيْسَ هَذا الإجْماعُ بِصَحِيحٍ: لِأنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ نَقَلَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: لا أرى الفِدْيَةَ عَلى الشَّيْخِ الضَّعِيفِ واجِبَةً، ويُسْتَحَبُّ لِمَن قَوِيَ عَلَيْها. وتَقَدَّمَ قَوْلُ مالِكٍ ورَأْيُهُ في الآيَةِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: عَلى الحامِلِ والمُرْضِعِ، (p-٣٧)إذا خافَتا عَلى ولَدَيْهِما الفِدْيَةُ، لِتَناوُلِ الآيَةِ لَهُما، وقِياسًا عَلى الشَّيْخِ الهَرِمِ، والقَضاءُ. ورُوِيَ في البُوَيْطِيُّ: لا إطْعامَ عَلَيْهِما، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا تَجِبُ الفِدْيَةُ، وأبْطَلَ القِياسَ عَلى الشَّيْخِ الهَرِمِ: لِأنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ القَضاءُ، ويَجِبُ عَلَيْهِما. قالَ: فَلَوْ أوْجَبْنا الفِدْيَةَ مَعَ القَضاءِ كانَ جَمْعًا بَيْنَ البَدَلَيْنِ، وهو غَيْرُ جائِزٍ، وبِهِ قالَ ابْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ، وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ، وقالَ عَلِيٌّ: الفِدْيَةُ بِلا قَضاءٍ، وذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ إلى أنَّ الحامِلَ تُفْطِرُ وتَفْدِي ولا قَضاءَ عَلَيْها، وذَهَبَ الحَسَنُ، وعَطاءٌ، والضَّحّاكُ، والزُّهْرِيُّ، ورَبِيعَةُ، ومالِكٌ، واللَّيْثُ إلى أنَّ الحامِلَ إذا أفْطَرَتْ تَقْضِي، ولا فِدْيَةَ عَلَيْها، وذَهَبَ مُجاهِدٌ، وأحْمَدُ إلى أنَّها تَقْضِي وتَفْدِي. وتَقَدَّمَ أنَّ هَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وأمّا المُرْضِعُ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ فِيها إذا أفْطَرَتْ. وقالَ مالِكٌ في المَشْهُورِ تَقْضِي وتَفْدِي. وقالَ في مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ: لا إطْعامَ عَلى المُرْضِعِ. واخْتَلَفُوا في مِقْدارِ ما يُطْعِمُ مَن وجَبَ عَلَيْهِ الإطْعامُ، فَقالَ إبْراهِيمُ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ومالِكٌ والشّافِعِيُّ فِيما حَكاهُ عَنْهُ المُزَنِيُّ. يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا: وقالَ الثَّوْرِيُّ: نِصْفُ صاعٍ مِن بُرٍّ، وصاعٌ مِن تَمْرٍ أوْ زَبِيبٍ، وقالَ قَوْمٌ: عَشاءٌ وسَحُورٌ، وقالَ قَوْمٌ: قُوتُ يَوْمٍ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وجَماعَةٌ، يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صاعٍ مِن بُرٍّ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وقَيْسِ بْنِ الكاتِبِ الَّذِي كانَ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الجاهِلِيَّةِ، وعائِشَةِ، وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ: أنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صاعٍ. وظاهِرُ الآيَةِ: أنَّهُ يَجِبُ مُطْلَقُ طَعامٍ، ويَحْتاجُ التَّقْيِيدُ إلى دَلِيلٍ. ولَوْ جُنَّ في رَمَضانَ جَمِيعِهِ أوْ في شَيْءٍ مِنهُ، فَقالَ الشّافِعِيُّ: لا قَضاءَ عَلَيْهِ ولَوْ أفاقَ قَبْلَ أنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ إذْ مَناطُ التَّكْلِيفِ العَقْلُ، وقالَ مالِكٌ وعُبَيْدُ اللَّهِ العَنْبَرِيُّ: يَقْضِي الصَّوْمَ ولا يَقْضِي الصَّلاةَ: وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، ومُحَمَّدٌ، وأبُو يُوسُفَ، وزُفَرُ: إذا جُنَّ في رَمَضانَ كُلِّهِ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ، وإنْ أفاقَ في شَيْءٍ مِنهُ قَضاهُ كُلَّهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”﴿فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾“، بِتَنْوِينِ الفِدْيَةِ، ورَفْعِ ”طَعامُ“، وإفْرادِ ”مِسْكِينٍ“، وهِشامٌ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ قَرَأ: ”مَساكِينَ“ بِالجَمْعِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ ذَكْوانَ، بِإضافَةِ الفِدْيَةِ والجَمْعِ وإفْرادِ الفِدْيَةِ لِأنَّها مَصْدَرٌ. ومَن نَوَّنَ كانَ ”طَعامُ“ بَدَلًا مِن ”فِدْيَةٌ“، وكانَ في ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِلْفِدْيَةِ ما هي. ومَن لَمْ يُنَوِّنْ فَأضافَ كانَ في ذَلِكَ تَبْيِينٌ أيْضًا وتَخَصُّصٌ بِالإضافَةِ، وهي إضافَةُ الشَّيْءِ إلى جِنْسِهِ: لِأنَّ الفِدْيَةَ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الواجِبِ، والطَّعامُ يَعُمُّ الفِدْيَةَ وغَيْرَها، وفي (المُنْتَخَبِ) أنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الإضافَةُ مِن بابِ إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ. قالَ: لِأنَّ الفِدْيَةَ لَها ذاتٌ، وصِفَتُها أنَّها طَعامٌ، وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ: لِأنَّ طَعامًا لَيْسَ بِصِفَةٍ، وهو هُنا إمّا أنْ يَكُونَ يُرادُ بِهِ المَصْدَرُ كَما يُرادُ بِعَطاءٍ الإعْطاءُ، أوْ يَكُونَ يُرادُ بِهِ المَفْعُولُ كَما يُرادُ بِالشَّرابِ المَشْرُوبُ، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ لا يَحْسُنُ بِهِ الوَصْفُ. أمّا إذا كانَ مَصْدَرًا فَإنَّهُ لا يُوصَفُ بِهِ إلّا عِنْدَ إرادَةِ المُبالَغَةِ، ولا مَعْنى لَها هُنا، وأمّا إذا أُرِيدَ بِهِ المَفْعُولُ: فَلِأنَّهُ لَيْسَ جارِيًا عَلى فِعْلٍ ولا مُنْقاسًا، فَلا تَقُولُ: في مَضْرُوبٍ ضَرابٌ، ولا في مَقْتُولٍ قَتالٌ، وإنَّما هو شَبِيهُ الرَّعْيِ والطَّحْنِ والدَّهْنِ، لا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنها، ولا يَعْمَلُ عَمَلَ المَفْعُولِ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَجُوزُ فِيها مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعامٌ خُبْزُهُ ولا شَرابٌ ماؤُهُ، فَيُرْفَعُ ما بَعْدَها بِها ؟ وإذا تَقَرَّرَ هَذا فَهو ضَعْفٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ، ومَن قَرَأ مَساكِينَ، قابَلَ الجَمْعَ بِالجَمْعِ، ومَن أفْرَدَ فَعَلى مُراعاةِ إفْرادِ العُمُومِ، أيْ: وعَلى كُلِّ واحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ إطْعامُ مِسْكِينٍ، ونَظِيرُهُ ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أيْ: فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهم ثَمانِينَ جَلْدَةً. وتَبَيَّنَ مِن إفْرادِ المِسْكِينِ أنَّ الحُكْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُ فِيهِ مِسْكِينٌ، ولا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الجَمْعِ. * * * ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهو خَيْرٌ لَهُ﴾ أيْ: مَن زادَ عَلى مِقْدارِ الفِدْيَةِ في الطَّعامِ لِلْمِسْكِينِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وعَلى عَدَدِ مَن يَلْزَمُهُ إطْعامُهُ، فَيُطْعِمُ مِسْكِينَيْنِ فَصاعِدًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وطاوُسٌ، وعَطاءٌ، والسُّدِّيُّ. أوْ جَمَعَ بَيْنَ الإطْعامِ والصَّوْمِ، قالَهُ ابْنُ (p-٣٨)شِهابٍ. وانْتِصابُ (خَيْرًا) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ عَلى إسْقاطِ الحَرْفِ، أيْ: بِخَيْرٍ، لِأنَّ تَطَوَّعَ لا يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ضُمِّنَ تَطَوَّعَ مَعْنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، فانْتَصَبَ خَيْرًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وتَقْدِيرُهُ: ومَن فَعَلَ مُتَطَوِّعًا خَيْرًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ انْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: تَطَوُّعًا خَيْرًا، ودَلَّ وصْفُ المَصْدَرِ بِالخَيْرِيَّةِ عَلى خَيْرِيَّةِ المُتَطَوَّعِ بِهِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِراءَةِ مَن قَرَأ ”يَطَّوَّعْ“، فَجَعَلَهُ مُضارِعَ اطَّوَّعَ، وأصْلُهُ ”تَطَوَّعَ“ فَأُدْغِمَ، واجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ. ويَلْزَمُ في هَذِهِ القِراءَةِ أنْ تَكُونَ - مَن - شَرْطِيَّةً، ويَجُوزُ ذَلِكَ في قِراءَةِ مَن جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا، والضَّمِيرُ في - فَهو - عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن ”تَطَوَّعَ“، أيْ: فالتَّطَوُّعُ خَيْرٌ لَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨] أيِ: العَدْلُ، وخَيْرٌ خَبَرٌ لِهو، وهو هُنا أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، والمَعْنى: أنَّ الزِّيادَةَ عَلى الواجِبِ، إذا كانَ يَقْبَلُ الزِّيادَةَ، خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِصارِ عَلَيْهِ، وظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ العُمُومُ في كُلِّ تَطَوُّعٍ بِخَيْرٍ، وإنْ كانَتْ ورَدَتْ في أمْرِ الفِدْيَةِ في الصَّوْمِ، وظاهِرُ التَّطَوُّعِ: التَّخْيِيرُ في أمْرِ الجَوازِ بَيْنَ الفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّ الفِعْلَ أفْضَلُ. ولا خِلافَ في ذَلِكَ، فَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أفْسَدَهُ، لَزِمَهُ القَضاءُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، ولا قَضاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ. ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وقَرَأ أُبَيٌّ: والصَّوْمُ خَيْرٌ لَكم. هَكَذا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ. ونَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنَّ قِراءَتَهُ: والصِّيامُ خَيْرٌ لَكم، والخِطابُ لِلْمُقِيمِينَ المُطِيقِينَ الصَّوْمَ، أيْ: خَيْرٌ لَكم مِنَ الفِطْرِ والفِدْيَةِ، أوْ لِلْمَرِيضِ والمُسافِرِ، أيْ: خَيْرٌ لَكم مِنَ الفِطْرِ والقَضاءِ، أوْ: لِمَن أُبِيحَ لَهُ الفِطْرُ مِنَ الجَمِيعِ. أقْوالٌ ثَلاثَةٌ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأوَّلِ الآيَةِ، وهو ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] أيْ: وأنْ تَصُومُوا ذَلِكَ المَكْتُوبَ خَيْرٌ لَكم، والظّاهِرُ الأوَّلُ، وفِيهِ حَضٌّ عَلى الصَّوْمِ. ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ مِن ذَوِي العِلْمِ والتَّمْيِيزِ، ويَجُوزُ أنْ يُحْذَفَ اخْتِصارًا لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ أيْ: ما شَرَعْتُهُ وبَيَّنْتُهُ لَكم مِن أمْرِ دِينِكم، أوْ فَضْلِ أعْمالِكم وثَوابِها، أوْ كَنّى بِالعِلْمِ عَنِ الخَشْيَةِ أيْ: تَخْشَوْنَ اللَّهَ: لِأنَّ العِلْمَ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب