الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوازَ الإفْطارِ لِمَن لَحِقَهُ الِاسْمُ سَواءٌ كانَ الصَّوْمُ يَضُرُّ أوْ لا؛ إلّا أنّا لا نَعْلَمُ خِلافًا أنَّ المَرِيضَ الَّذِي لا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ غَيْرُ مُرَخَّصٍ لَهُ في الإفْطارِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " إذا خافَ أنْ تَزْدادَ عَيْنُهُ وجَعًا أوْ حُمّاهُ شِدَّةً أفْطَرَ " .
وقالَ مالِكٌ في المُوَطَّأِ: " مَن أجْهَدَهُ الصَّوْمُ أفْطَرَ وقَضى ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، والَّذِي سَمِعْتُهُ أنَّ المَرِيضَ إذا أصابَهُ المَرَضُ وشُقَّ عَلَيْهِ فِيهِ الصِّيامُ فَيَبْلُغُ مِنهُ ذَلِكَ، فَلَهُ أنْ يُفْطِرَ ويَقْضِيَ " قالَ مالِكٌ: " وأهْلُ العِلْمِ يَرَوْنَ عَلى الحامِلِ إذا اشْتَدَّ عَلَيْها الصِّيامُ الفِطْرَ والقَضاءَ ويَرَوْنَ ذَلِكَ مَرَضًا مِنَ الأمْراضِ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " أيُّ مَرَضٍ إذا مَرِضَ الرَّجُلُ حَلَّ لَهُ الفِطْرُ، فَإنْ لَمْ يُطِقْ أفْطَرَ، فَأمّا إذا أطاقَ وإنْ شَقَّ عَلَيْهِ فَلا يُفْطِرُ " .
وقالَ الشّافِعِيُّ: " إذا (p-٢١٦)ازْدادَ مَرَضُ المَرِيضِ شِدَّةً زِيادَةً بَيِّنَةً أفْطَرَ، وإنْ كانَتْ زِيادَةً مُحْتَمَلَةً لَمْ يُفْطِرْ " . فَثَبَتَ بِاتِّفاقِ الفُقَهاءِ أنَّ الرُّخْصَةَ في الإفْطارِ لِلْمَرِيضِ مَوْقُوفَةً عَلى زِيادَةِ المَرَضِ بِالصَّوْمِ، وأنَّهُ ما لَمْ يَخْشَ الضَّرَرَ فَعَلَيْهِ أنْ يَصُومَ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الرُّخْصَةَ في الإفْطارِ لِلْمَرِيضِ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ الضَّرَرِ ما رَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ القُشَيْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ وضَعَ عَنِ المُسافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ والصَّوْمَ وعَنِ الحامِلِ والمُرْضِعِ» ومَعْلُومٌ أنَّ رُخْصَتَهُما مَوْقُوفَةٌ عَلى خَوْفِ الضَّرَرِ عَلى أنْفُسِهِما أوْ عَلى ولَدَيْهِما، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ جَوازَ الإفْطارِ في مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِخَوْفِ الضَّرَرِ إذِ الحامِلُ والمُرْضِعُ صَحِيحَتانِ لا مَرَضَ بِهِما.
وأُبِيحَ لَهُما الإفْطارُ لِأجْلِ الضَّرَرِ.
وأباحَ اللَّهُ تَعالى لِلْمُسافِرِ الإفْطارَ، ولَيْسَ لِلسَّفَرِ حَدٌّ مَعْلُومٌ في اللُّغَةِ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ أقَلِّهِ وبَيْنَ ما هو دُونَهُ، فَإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ لِلسَّفَرِ المُبِيحِ لِلْإفْطارِ مِقْدارًا مَعْلُومًا في الشَّرْعِ واخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقالَ أصْحابُنا: " مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ ولَيالِيها " وقالَ آخَرُونَ: " مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ " وقالَ آخَرُونَ: " مَسِيرَةُ يَوْمٍ " ولَمْ يَكُنْ لِلُّغَةِ في ذَلِكَ حَظٌّ؛ إذْ لَيْسَ فِيها حَصْرُ أقَلِّهِ بِوَقْتٍ لا يَجُوزُ النُّقْصانُ مِنهُ؛ لِأنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ العادَةِ، وكُلُّ ما كانَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنَ العادَةِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ تَحْدِيدُهُ بِأقَلِّ القَلِيلِ؛ وقَدْ قِيلَ إنَّ السَّفَرَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّفَرِ الَّذِي هو الكَشْفُ مِن قَوْلِهِمْ " سَفَرَتِ المَرْأةُ عَنْ وجْهِها، وأسْفَرَ الصُّبْحُ إذا أضاءَ، وسَفَرَتِ الرِّيحُ السَّحابَ إذا قَشَعَتْهُ " والمِسْفَرَةُ المِكْنَسَةُ؛ لِأنَّها تُسْفِرُ عَنِ الأرْضِ بِكَنْسِ التُّرابِ، وأسْفَرَ وجْهُهُ إذا أضاءَ وأشْرَقَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨] يَعْنِي مُشْرِقَةً مُضِيئَةً؛ فَسُمِّيَ الخُرُوجُ إلى المَوْضِعِ البَعِيدِ سَفَرًا؛ لِأنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أخْلاقِ المُسافِرِ وأحْوالِهِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّهُ إذا كانَ مَعْنى السَّفَرِ ما وصَفْنا أنَّ ذَلِكَ لا يَتَبَيَّنُ في الوَقْتِ اليَسِيرِ واليَوْمِ واليَوْمَيْنِ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَتَصَنَّعُ في الأغْلَبِ لِمِثْلِ هَذِهِ المَسافَةِ فَلا يَظْهَرُ فِيهِ ما يَكْشِفُهُ البَعِيدُ مِن أخْلاقِهِ، فَإنِ اعْتَبَرَ بِالعادَةِ عَلِمْنا أنَّ المَسافَةَ القَرِيبَةَ لا تُسَمّى سَفَرًا والبَعِيدَةُ تُسَمّى، إلّا أنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الثَّلاثَةَ سَفَرٌ صَحِيحٌ فِيما يُتَعَلَّقُ بِهِ مِن أحْكامِ الشَّرْعِ.
فَثَبَتَ أنَّ الثَّلاثَ سَفَرٌ وما دُونَها لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ مَعْنى الِاسْمِ فِيهِ وفَقْدِ التَّوْقِيفِ والِاتِّفاقِ بِتَحْدِيدِهِ. وأيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ تَقْتَضِي اعْتِبارَ الثَّلاثِ في كَوْنِها سَفَرًا في أحْكامِ الشَّرْعِ، فَمِنها حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ نَهى أنْ تُسافِرَ امْرَأةٌ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» واخْتَلَفَ الرُّواةُ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ بَعْضُهم: " ثَلاثَةَ أيّامٍ " وقالَ بَعْضُهم: " يَوْمَيْنِ " فَهَذِهِ الألْفاظُ (p-٢١٧)المُخْتَلِفَةُ قَدْ رُوِيَتْ في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
واخْتُلِفَ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، فَرَوى سُفْيانُ عَنْ عَجْلانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا تُسافِرُ امْرَأةٌ فَوْقَ ثَلاثَةِ أيّامٍ إلّا ومَعَها ذُو مَحْرَمٍ» ورَوى كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يا نِساءَ المُؤْمِناتِ لا تَخْرُجُ امْرَأةٌ مِن مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وكُلُّ واحِدٍ مِن أخْبارِ أبِي سَعِيدٍ وأبِي هُرَيْرَةَ إنَّما هو خَبَرٌ واحِدٌ اخْتَلَفَتِ الرُّواةُ في لَفْظِهِ، ولَمْ يَثْبُتْ أنَّهُ ﷺ قالَ ذَلِكَ في أحْوالٍ، فالواجِبُ أنْ يَكُونَ خَبَرُ الزّائِدِ أوْلى وهو الثَّلاثُ؛ لِأنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلى اسْتِعْمالِهِ وما دُونَها مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلا يَثْبُتُ لِاخْتِلافِ الرُّواةِ فِيهِ.
وأخْبارُ ابْنِ عُمَرَ لا اخْتِلافَ فِيها، فَهي ثابِتَةٌ وفِيها ذِكْرُ الثَّلاثِ، ولَوْ أثْبَتْنا ذِكْرَ أخْبارِ أبِي سَعِيدٍ وأبِي هُرَيْرَةَ عَلى اخْتِلافِها لَكانَ أكْثَرُ أحْوالِها أنْ تَتَضادَّ، وتَسْقُطَ كَأنَّها لَمْ تَرِدْ، وتَبْقى لَنا أخْبارُ ابْنِ عُمَرَ في اعْتِبارِ الثَّلاثِ مِن غَيْرِ مُعارِضٍ.
فَإنْ قِيلَ: أخْبارُ أبِي سَعِيدٍ وأبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ مُتَعارِضَةٍ؛ لِأنّا نُثْبِتُ جَمِيعَ ما رُوِيَ فِيها مِنَ التَّوْقِيتِ، فَنَقُولُ: لا تُسافِرْ يَوْمًا ولا يَوْمَيْنِ ولا ثَلاثَةً. قِيلَ لَهُ: مَتى اسْتَعْمَلْتَ ما دُونَ الثَّلاثِ فَقَدْ ألْغَيْتَ الثَّلاثَ وجَعَلْتَ وُرُودَها وعَدَمَها بِمَنزِلَةٍ، فَأنْتَ غَيْرُ مُسْتَعْمِلٍ لِخَبَرِ الثَّلاثِ مَعَ اسْتِعْمالِكَ خَبَرَ ما دُونَها، وإذا لَمْ يَكُنْ إلّا اسْتِعْمالُ بَعْضِها وإلْغاءُ البَعْضِ فاسْتِعْمالُ خَبَرِ الثَّلاثِ أوْلى لِما فِيهِ مِن ذِكْرِ الزِّيادَةِ؛ وأيْضًا قَدْ يُمْكِنُ اسْتِعْمالُ الثَّلاثِ مَعَ إثْباتِ فائِدَةِ الخَبَرِ في اليَوْمِ واليَوْمَيْنِ، وهو أنَّها مَتى أرادَتْ سَفَرَ الثَّلاثِ لَمْ تَخْرُجِ اليَوْمَ ولا اليَوْمَيْنِ مِنَ الثَّلاثِ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّهُ لَمّا حُدَّ الثَّلاثُ فَمُباحٌ لَها الخُرُوجُ يَوْمًا أوْ يَوْمَيْنِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ وإنْ أرادَتْ سَفَرَ الثَّلاثِ، فَأبانَ ﷺ حَظْرَ ما دُونَها مَتى أرادَتْها.
وإذا ثَبَتَ تَقْدِيرُ الثَّلاثِ في حَظْرِ الخُرُوجِ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ثَبَتَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا في إباحَةِ الإفْطارِ في رَمَضانَ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَبَرَ في خُرُوجِ المَرْأةِ الثَّلاثَ اعْتَبَرَها في إباحَةِ الإفْطارِ، وكُلُّ مَن قَدَّرَهُ بِيَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ كَذَلِكَ قَدَّرَهُ في الإفْطارِ.
والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ الثَّلاثَ قَدْ تَعَلَّقَ بِها حُكْمٌ وما دُونَها لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ في الشَّرْعِ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُها في إباحَةِ الإفْطارِ؛ لِأنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالوَقْتِ المُقَدَّرِ، ولَيْسَ فِيما دُونَ الثَّلاثِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَصارَ بِمَنزِلَةِ خُرُوجِ ساعَةٍ مِنَ النَّهارِ. وأيْضًا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ رَخَّصَ في المَسْحِ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا ولَيْلَةً ولِلْمُسافِرِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيَها»، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ ورَدَ مَوْرِدَ بَيانِ الحُكْمِ لِجَمِيعِ المُسافِرِينَ؛ لِأنَّ ما ورَدَ (p-٢١٨)مَوْرِدَ البَيانِ فَحُكْمُهُ أنْ يَكُونَ شامِلًا لِجَمِيعِ ما اقْتَضى البَيانُ مِنَ التَّقْدِيرِ، فَما مِن مُسافِرٍ إلّا وهو الَّذِي يَكُونُ سَفَرُهُ ثَلاثًا، ولَوْ كانَ ما دُونَ الثَّلاثِ سَفَرًا في الشَّرْعِ لَكانَ قَدْ بَقِيَ مُسافِرٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ حُكْمُهُ ولَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ ما اقْتَضى البَيانُ وذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ البَيانِ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ المُسافِرَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الألِفِ واللّامِ عَلَيْهِ، فَما مِن مُسافِرٍ إلّا وقَدِ انْتَظَمَهُ هَذا الحُكْمُ، فَثَبَتَ أنَّ مَن خَرَجَ عَنْهُ فَلَيْسَ بِمُسافِرٍ يَتَعَلَّقُ بِسَفَرِهِ حُكْمٌ، وفي ذَلِكَ أوْضَحُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الحُكْمُ هو سَفَرُ ثَلاثٍ وأنَّ ما دُونَهُ لا حُكْمَ لَهُ في إفْطارٍ ولا قَصْرٍ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ هَذا الضَّرْبِ مِنَ المَقادِيرِ لا يُؤْخَذُ مِن طَرِيقِ المَقايِيسِ، وإنَّما طَرِيقُ إثْباتِهِ الِاتِّفاقُ والتَّوْقِيفُ، فَلَمّا عَدِمْنا فِيما دُونَ الثَّلاثِ الِاتِّفاقَ والتَّوْقِيفَ وجَبَ الوُقُوفُ عِنْدَ الثَّلاثِ لِوُجُودِ الِاتِّفاقِ فِيهِ أنَّهُ سَفَرٌ يُبِيحُ الإفْطارَ. وأيْضًا لَمّا كانَ لُزُومُ فَرْضِ الصَّوْمِ هو الأصْلُ واخْتَلَفُوا في مُدَّةِ رُخْصَةِ الإفْطارِ، لَمْ يَجُزْ لَنا عِنْدَ الِاخْتِلافِ تَرْكُ الفَرْضِ إلّا بِالإجْماعِ وهو الثَّلاثُ؛ لِأنَّ الفُرُوضَ يُحْتاطُ لَها، ولا يُحْتاطُ عَلَيْها؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وعَمّارٍ وابْنِ عُمَرَ أنَّهُ لا يُفْطِرُ في أقَلَّ مِنَ الثَّلاثِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ مِن السَّلَفِ في تَأْوِيلِهِ، فَرَوى المَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ: " أُحِيلَ الصِّيامُ عَلى ثَلاثَةِ أحْوالٍ ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ فَكانَ مَن شاءَ صامَ ومَن شاءَ أفْطَرَ وأطْعَمَ مِسْكِينًا وأجْزى عَنْهُ، ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ الأُخْرى ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] فَأثْبَتَ اللَّهُ تَعالى صِيامَهُ عَلى المُقِيمِ الصَّحِيحِ، ورَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ والمُسافِرِ، وثَبَتَ الإطْعامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ الصِّيامَ.
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ وسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ وعَلْقَمَةَ والزُّهْرِيِّ وعِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ قالَ: " كانَ مَن شاءَ صامَ ومَن شاءَ أفْطَرَ وافْتَدى وأطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، حَتّى نَزَلَ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]
ورُوِيَ فِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو ما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسى عَنْ إسْرائِيلَ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنِ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ قالَ: " مَن أتى عَلَيْهِ رَمَضانُ وهو مَرِيضٌ أوْ مُسافِرٌ فَلِيُفْطِرْ ولْيُطْعِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا صاعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ .
ووَجْهٌ آخَرُ، وهو ما رَوى مَنصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ كانَ يَقْرَؤُها: " وعَلى الَّذِينَ (p-٢١٩)يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ " قالَ: " الشَّيْخُ الكَبِيرُ الَّذِي كانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ وهو شابٌّ فَأدْرَكَهُ الكِبَرُ وهو لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَصُومَ مِن ضَعْفٍ، ولا يَقْدِرُ أنْ يَتْرُكَ الطَّعامَ فَيُفْطِرَ ويُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمِ مِسْكِينًا نِصْفَ صاعٍ " .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ مِثْلُهُ وكانَتْ عائِشَةُ تَقْرَأُ: " وعَلى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ " . ورَوى خالِدُ الحَذّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قالَ " إنَّها لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ " .
ورَوى الحَجّاجُ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنِ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قالَ: " الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَقالَتِ الفِرْقَةُ الأُولى مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، وهُمُ الأكْثَرُونَ عَدَدًا " إنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ بَدِيًّا نَزَلَ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ لِمَن يُطِيقُهُ بَيْنَ الصِّيامِ وبَيْنَ الفِدْيَةِ، وإنَّهُ نُسِخَ عَنِ المُطِيقِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] وقالَتِ الفِرْقَةُ الثّانِيَةُ: " هي غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، بَلْ هي ثابِتَةٌ عَلى المَرِيضِ والمُسافِرِ يُفْطِرانِ ويَقْضِيانِ وعَلَيْهِما الفِدْيَةُ مَعَ القَضاءِ " .
وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ وعائِشَةُ وعِكْرِمَةُ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ يَقْرَءُونَها: " وعَلى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ " فاحْتَمَلَ هَذا اللَّفْظُ مَعانِيَ، مِنها: ما بَيَّنَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّهُ أرادَ الَّذِينَ كانُوا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ كَبِرُوا فَعَجَزُوا عَنِ الصَّوْمِ فَعَلَيْهِمُ الإطْعامُ. والمَعْنى الآخَرُ: أنَّهم يُكَلَّفُونَهُ عَلى مَشَقَّةٍ فِيهِ، وهَمَ لا يُطِيقُونَهُ لِصُعُوبَتِهِ، فَعَلَيْهِمُ الإطْعامُ.
ومَعْنًى آخَرُ؛ وهو أنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ وإنْ لَمْ يَكُونُوا مُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ فَيَقُومُ لَهُمُ الفِدْيَةُ مَقامَ ما لَحِقَهم مِن حُكْمِ تَكْلِيفِ الصَّوْمِ، ألا تَرى أنَّ حُكْمَ تَكْلِيفِ الطَّهارَةِ بِالماءِ قائِمٌ عَلى المُتَيَمِّمِ، وإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتّى أُقِيمَ التُّرابُ مَقامَهُ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما كانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا مِنهُ.
وكَذَلِكَ حُكْمُ تَكْلِيفِ الصَّلاةِ قائِمٌ عَلى النّائِمِ والنّاسِي في بابِ وُجُوبِ القَضاءِ لا عَلى وجْهٍ لَزِمَهُ بِالتَّرْكِ، فَلَمّا أوْجَبَ تَعالى عَلَيْهِ الفِدْيَةَ في حالِ العَجْزِ والإياسِ عَنِ القَضاءِ أُطْلِقَ فِيهِ اسْمُ التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ إذْ كانَتِ الفِدْيَةُ هي ما قامَ مَقامَ غَيْرِهِ.
فالقِراءَتانِ عَلى هَذا الوَجْهِ مُسْتَعْمَلَتانِ إلّا أنَّ الأُولى، وهي قَوْلُهُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ لا مَحالَةَ مَنسُوخَةٌ لِما ذَكَرَهُ مَن رَوَيْنا عَنْهُ مِنَ الصَّحابَةِ وأخْبارِهِمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الفَرْضِ وصِفَتِهِ بَدِيًّا، وأنَّ المُطِيقَ لِلصَّوْمِ مِنهم كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيامِ والإفْطارِ والفِدْيَةِ. ولَيْسَ هَذا مِن طَرِيقِ الرَّأْيِ؛ لِأنَّهُ حِكايَةُ حالٍ شاهَدُوها وعَلِمُوا أنَّها بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ إيّاهم عَلَيْها.
وفِي مَضْمُونِ الخِطابِ مِن أوْضَحِ الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ ما لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنا رِوايَةٌ عَنْ السَّلَفِ في مَعْناهُ لَكانَ كافِيًا في الإبانَةِ عَنْ مُرادِهِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فابْتَدَأ تَعالى بِبَيانِ حُكْمِ المَرِيضِ والمُسافِرِ وأوْجَبَ عَلَيْهِما (p-٢٢٠)القَضاءَ إذا أفْطَرا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ هُمُ المَرْضى والمُسافِرِينَ؛ إذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حُكْمِهِما وبَيانُ فَرْضِهِما بِالِاسْمِ الخاصِّ لَهُما، فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِما بِكِنايَةٍ عَنْهُما مَعَ تَقْدِيمِهِ ذِكْرِهِما مَنصُوصًا مُعَيَّنًا؛ ومَعْلُومٌ أنَّ ما عُطِفَ عَلَيْهِ فَهو غَيْرُهُ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ لا يُعْطَفُ عَلى نَفْسِهِ.
ويَدُلَّ عَلى أنَّ المُرادَ المُقِيمُونَ المُطِيقُونَ لِلصَّوْمِ، أنَّ المَرِيضَ المَذْكُورَ في الآيَةِ هو الَّذِي يَخافُ ضَرَرَ الصَّوْمِ، فَكَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِإطاقَةِ الصَّوْمِ، وهو إنَّما رَخَّصَ لَهُ لِفَقْدِ الإطاقَةِ ولِلضَّرَرِ المَخُوفِ مِنهُ ؟ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما ذَكَرَهُ في نَسَقِ التِّلاوَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ولَيْسَ الصَّوْمُ خَيْرًا لِلْمَرِيضِ الخائِفِ عَلى نَفْسِهِ، بَلْ هو في هَذِهِ الحالِ مَنهِيٌّ عَنِ الصَّوْمِ.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ المَرِيضَ والمُسافِرَ لَمْ يُرادا بِالفِدْيَةِ وأنَّهُ لا فِدْيَةَ عَلَيْهِما، أنَّ الفِدْيَةَ ما قامَ مَقامَ الشَّيْءِ، وقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعالى عَلى إيجابِ القَضاءِ عَلى المَرِيضِ والمُسافِرِ، والقَضاءُ قائِمٌ مَقامَ الفَرْضِ فَلا يَكُونُ الإطْعامُ حِينَئِذٍ فِدْيَةً وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالفِدْيَةِ المَرِيضَ والمُسافِرَ، بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ مَنسُوخٌ بِما قَدَّمْنا.
وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ أصْلَ الفَرْضِ كانَ الصَّوْمَ، وأنَّهُ جُعِلَ لَهُ العُدُولُ عَنْهُ إلى الفِدْيَةِ عَلى وجْهِ البَدَلِ عَنِ الصَّوْمِ؛ لِأنَّ الفِدْيَةَ ما يَقُومُ مَقامَ الشَّيْءِ، ولَوْ كانَ الإطْعامُ مَفْرُوضًا في نَفْسِهِ كالصَّوْمِ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ لَما كانَ بَدَلًا كَما أنَّ المُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِما شاءَ مِنَ الثَّلاثَةِ الأشْياءِ لا يَكُونُ ما كَفَّرَ بِهِ مِنها بَدَلًا ولا فِدْيَةً عَنْ غَيْرِها.
وإنْ حُمِلَ مَعْناهُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: " المُرادُ بِهِ الشَّيْخُ الكَبِيرُ " لَمْ يَكُنْ مَنسُوخًا ولَكِنْ يَحْتاجُ إلى ضَمِيرٍ، وهو " وعَلى الَّذِينَ كانُوا يُطِيقُونَهُ ثُمَّ عَجَزُوا بِالكِبَرِ مَعَ اليَأْسِ عَنِ القَضاءِ " وغَيْرُ جائِزٍ إثْباتُ ذَلِكَ إلّا بِاتِّفاقٍ أوْ تَوْقِيفٍ.
ومَعَ ذَلِكَ فِيهِ إزالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وظاهِرِهِ مِن غَيْرِ دَلالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وعَلى أنَّ في حَمْلِهِ عَلى ذَلِكَ إسْقاطَ فائِدَةِ قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ لِأنَّ الَّذِينَ كانُوا يُطِيقُونَهُ بَعْدَ لُزُومِ الفَرْضِ، والَّذِينَ لَحِقَهم فَرْضُ الصَّوْمِ وهم عاجِزُونَ عَنْهُ بِالكِبَرِ سَواءٌ في حُكْمِهِ، ويُحْمَلُ مَعْناهُ عَلى أنَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ العاجِزَ عَنِ الصَّوْمِ المَيْئُوسَ مِنَ القَضاءِ عَلَيْهِ الفِدْيَةُ، فَسَقَطَ فائِدَةُ قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ بِذِكْرِ الإطاقَةِ حُكْمٌ ولا مَعْنًى.
وقِراءَةُ مَن قَرَأ: " يُطَوَّقُونَهُ " يَحْتَمِلُ الشَّيْخَ المَيْئُوسَ مِنهُ القَضاءُ مِن إيجابِ الفِدْيَةِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ " يُطَوَّقُونَهُ " قَدِ اقْتَضى تَكْلِيفَهم حُكْمَ الصَّوْمِ مَعَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ عَلَيْهِمْ في فِعْلِهِ وجَعَلَ لَهُمُ الفِدْيَةَ قائِمَةً مَقامَ الصَّوْمِ؛ فَهَذِهِ القِراءَةُ إذا كانَ مَعْناها ما وصَفْنا فَهي غَيْرُ (p-٢٢١)مَنسُوخَةٍ بَلْ هي ثابِتَةُ الحُكْمِ؛ إذْ كانَ المُرادُ بِها الشَّيْخَ المَيْئُوسَ مِنهُ القَضاءُ العاجِزَ عَنِ الصَّوْمِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ.
* * *
ذِكْرُ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في الشَّيْخِ الفانِي قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " الشَّيْخُ الكَبِيرُ الَّذِي لا يُطِيقُ الصِّيامَ يُفْطِرُ ويُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صاعٍ مِن حِنْطَةٍ ولا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " يُطْعِمُ " ولَمْ يَذْكُرْ مِقْدارَهُ.
وقالَ المُزَنِيُّ عَنِ الشّافِعِيِّ: " يُطْعِمُ مُدًّا مِن حِنْطَةٍ كُلَّ يَوْمٍ " . وقالَ رَبِيعَةُ ومالِكٌ: " لَيْسَ عَلَيْهِ الإطْعامُ، وإنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنا في تَأْوِيلِ الآيَةِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قِراءَتِهِ: " وعَلى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ " وأنَّهُ الشَّيْخُ الكَبِيرُ، فَلَوْلا أنَّ الآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ لَما تَأوَّلَها ابْنُ عَبّاسٍ ومَن ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ حُكْمِها مِن إيجابِ الفِدْيَةِ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أيْضًا أنَّهُ تَأوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ عَلى الشَّيْخِ الكَبِيرِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَن ماتَ وعَلَيْهِ صَوْمٌ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ ولِيُّهُ مَكانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في المَيِّتِ الَّذِي عَلَيْهِ الصِّيامُ فالشَّيْخُ أوْلى بِذَلِكَ مِنَ المَيِّتِ لِعَجْزِ الجَمِيعِ عَنِ الصَّوْمِ.
فَإنْ قِيلَ: هَلّا كانَ الشَّيْخُ كالمَرِيضِ الَّذِي يُفْطِرُ في رَمَضانَ ثُمَّ لا يَبْرَأُ حَتّى يَمُوتَ ولا يَلْزَمُهُ القَضاءُ ؟ قِيلَ لَهُ: لِأنَّ المَرِيضَ مُخاطَبٌ بِقَضائِهِ في أيّامٍ أُخَرَ فَإنَّما تَعَلَّقَ الفَرْضُ عَلَيْهِ في أيّامِ القَضاءِ، لِقَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فَمَتى لَمْ يَلْحَقِ العِدَّةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَن لَمْ يَلْحَقْ رَمَضانَ وأمّا الشَّيْخُ فَلا يُرْجى لَهُ القَضاءُ في أيّامٍ أُخَرَ فَإنَّما تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حَمْلُ الفَرْضِ في إيجابِ الفِدْيَةِ في الحالِ، فاخْتَلَفا مِن أجْلِ ذَلِكَ.
وقَدْ ذَكَرْنا قَوْلَ السَّلَفِ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ وإيجابَ الفِدْيَةِ عَلَيْهِ في الحالِ مِن غَيْرِ خِلافِ أحَدٍ مِن نُظَرائِهِمْ، فَصارَ ذَلِكَ إجْماعًا لا يَسَعُ خِلافُهُ. وأمّا الوَجْهُ في إيجابِ الفِدْيَةِ نِصْفُ صاعٍ مِن بُرٍّ فَهو ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أخُو خَطّافٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ المُسْتَمْلِي قالَ: حَدَّثَنا إسْحاقُ الأزْرَقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ ابْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن ماتَ وعَلَيْهِ رَمَضانُ فَلَمْ يَقْضِهِ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صاعٍ لِمِسْكِينٍ» .
وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في المُفْطِرِ في رَمَضانَ إذا ماتَ ثَبَتَ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ عُمُومٌ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ وغَيْرِهِ؛ لِأنَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلى ما وصَفْنا، فَجائِزٌ بَعْدَ مَوْتِهِ أنْ يُقالَ إنَّهُ قَدْ ماتَ وعَلَيْهِ صِيامُ رَمَضانَ فَقَدْ تَناوَلَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ. ومِن جِهَةٍ (p-٢٢٢)أُخْرى: أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ المُرادَ بِالفِدْيَةِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ هَذا المِقْدارُ، وقَدْ أُرِيدَ بِها الشَّيْخُ الكَبِيرُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ هو المِقْدارُ الواجِبُ عَلَيْهِ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى: أنَّهُ إذا ثَبَتَ ذَلِكَ فِيمَن ماتَ وعَلَيْهِ قَضاءُ رَمَضانَ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِقْدارَ فِدْيَةِ الشَّيْخِ الكَبِيرِ؛ لِأنَّ أحَدًا مِن مُوجِبِي الفِدْيَةِ عَلى الشَّيْخِ الكَبِيرِ لَمْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُما.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَيْسِ بْنِ السّائِبِ، الَّذِي كانَ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الجاهِلِيَّةِ، وعائِشَةَ وأبِي هُرَيْرَةَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ " أنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صاعِ بُرٍّ «وأوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ إطْعامَ سِتَّةِ مَساكِينَ كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعِ بُرٍّ» وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَقْدِيرَ فِدْيَةِ الصَّوْمِ بِنِصْفِ صاعٍ أوْلى مِنهُ بِالمُدِّ لِأنَّ التَّخْيِيرَ في الأصْلِ قَدْ تَعَلَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ والفِدْيَةِ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُما.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وجَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ " عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ " والأوَّلُ أوْلى لِما رَوَيْناهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولِما عَضَّدَهُ قَوْلُ الأكْثَرِينَ عَدَدًا مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، وما دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قَدِ اخْتُلِفَ في ضَمِيرِ كِنايَتِهِ، فَقالَ قائِلُونَ: " هو عائِدٌ عَلى الصَّوْمِ " وقالَ آخَرُونَ: " إلى الفِدْيَةِ " . والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِأنَّ مُظْهَرَهُ قَدْ تَقَدَّمَ والفِدْيَةُ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ، والضَّمِيرُ إنَّما يَكُونُ لِمُظْهَرٍ مُتَقَدِّمٍ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الفِدْيَةَ مُؤَنَّثَةٌ والضَّمِيرُ في الآيَةِ لِلْمُذَكَّرِ في قَوْلِهِ: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾
وقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ المُجَبِّرَةِ القائِلِينَ بِأنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ عِبادَهُ ما لا يُطِيقُونَ، وأنَّهم غَيْرُ قادِرِينَ عَلى الفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ ولا مُطِيقِينَ لَهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلى أنَّهُ مُطِيقٌ لَهُ قَبْلَ أنْ يَفْعَلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ فَوَصَفَهُ بِالإطاقَةِ مَعَ تَرْكِهِ لِلصَّوْمِ والعُدُولِ عَنْهُ إلى الفِدْيَةِ، ودَلالَةُ اللَّفْظِ قائِمَةٌ عَلى ذَلِكَ أيْضًا إذا كانَ الضَّمِيرُ هو الفِدْيَةُ؛ لِأنَّهُ جَعَلَهُ مُطِيقًا لَها وإنْ لَمْ يَفْعَلْها وعَدَلَ إلى الصَّوْمِ.
وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾ [البقرة: ١٨٥] يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ المُجَبِّرَةِ في قَوْلِهِمْ " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِ الكُفّارَ "؛ لِأنَّهُ قَدْ أخْبَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ القُرْآنَ هُدًى لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، كَما قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧]
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهو خَيْرٌ لَهُ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءُ كَلامٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِما قَبْلَهُ؛ لِأنَّهُ قائِمٌ بِنَفْسِهِ في إيجابِ الفائِدَةِ يَصِحُّ ابْتِداءُ الخِطابِ بِهِ، فَيَكُونُ حَثًّا عَلى التَّطَوُّعِ بِالطّاعاتِ. وجائِزٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ بِزِيادَةِ طَعامِ الفِدْيَةِ؛ لِأنَّ المِقْدارَ المَفْرُوضَ مِنهُ نِصْفُ صاعٍ، فَإنْ تَطَوَّعَ بِصاعٍ أوْ صاعَيْنِ فَهو خَيْرٌ لَهُ.
(p-٢٢٣)وقَدْ رُوِيَ هَذا المَعْنى عَنْ قَيْسِ بْنِ السّائِبِ، أنَّهُ كَبِرَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلى الصَّوْمِ فَقالَ: " يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ إنْسانٍ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ فَأطْعِمُوا عَنِّي ثَلاثًا " . وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ أحَدَ ما وقَعَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ فِيهِ مِنَ الصِّيامِ أوِ الإطْعامِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما إذا فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا فَهو فَرْضٌ لا تَطَوُّعَ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ واحِدٌ مِنهُما مُرادَ الآيَةِ. وجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ الجَمْعَ بَيْنَ الصِّيامِ والطَّعامِ فَيَكُونُ الفَرْضُ أحَدَهُما والآخَرُ التَّطَوُّعُ.
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ أوَّلَ الآيَةِ فِيمَن يُطِيقُ الصَّوْمَ مِنَ الأصِحّاءِ المُقِيمِينَ غَيْرِ المَرْضى ولا المُسافِرِينَ ولا الحامِلِ والمُرْضِعِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ المَرِيضَ الَّذِي يُباحُ لَهُ الإفْطارُ هو الَّذِي يَخافُ ضَرَرَ الصَّوْمِ، ولَيْسَ الصَّوْمُ بِخَيْرٍ لِمَن كانَ هَذا حالَهُ؛ لِأنَّهُ مَنهِيٌّ عَنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتَّلَفِ بِالصَّوْمِ؛ والحامِلُ والمُرْضِعُ لا تَخْلُوانِ مِن أنْ يَضُرَّ بِهِما الصَّوْمُ أوْ بِوَلَدَيْهِما، وأيَهُما كانَ فالإفْطارُ خَيْرٌ لَهُما والصَّوْمُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِما.
وإنْ كانَ لا يَضُرُّ بِهِما ولا بِوَلَدَيْهِما فَعَلَيْهِما الصَّوْمُ وغَيْرُ جائِزٍ لَهُما الفِطْرُ، فَعَلِمْنا أنَّهُما غَيْرُ داخِلَتَيْنِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ عائِدٌ إلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في أوَّلِ الخِطابِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ عائِدًا إلى المُسافِرِينَ أيْضًا مَعَ عَوْدِهِ عَلى المُقِيمِينَ المُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصَّوْمِ والإطْعامِ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ خَيْرًا لِلْجَمِيعِ، إذْ كانَ أكْثَرُ المُسافِرِينَ يُمْكِنُهُمُ الصَّوْمُ في العادَةِ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ وإنْ كانَ الأغْلَبُ فِيهِ المَشَقَّةُ؛ ودَلالَتُهُ واضِحَةٌ عَلى أنَّ الصَّوْمَ في السَّفَرِ أفْضَلُ مِنَ الإفْطارِ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ صَوْمَ يَوْمٍ تَطَوُّعًا أفْضَلُ مِن صَدَقَةِ نِصْفِ صاعٍ؛ لِأنَّهُ في الفَرْضِ كَذَلِكَ؛ ألا تَرى أنَّهُ لَمّا خَيَّرَهُ في الفَرْضِ بَيْنَ صَوْمِ يَوْمٍ وصَدَقَةِ نِصْفِ صاعٍ جَعَلَ الصَّوْمَ أفْضَلَ مِنها ؟ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُما في التَّطَوُّعِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
* * *
بابُ الحامِلِ والمُرْضِعِ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: " إذا خافَتا عَلى ولَدَيْهِما أوْ عَلى أنْفُسِهِما فَإنَّهُما تُفْطِرانِ وتَقْضِيانِ ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِما " .
وقالَ مالِكٌ في المُرْضِعِ إذا خافَتْ عَلى ولَدِها ولا يَقْبَلُ الصَّبِيُّ مِن غَيْرِها: " فَإنَّها تُفْطِرُ وتَقْضِي وتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِسْكِينًا، والحامِلُ إذا أفْطَرَتْ لا إطْعامَ عَلَيْها "؛ وهو قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وقالَ مالِكٌ: " وإنْ خافَتا عَلى أنْفُسِهِما فَهُما مِثْلُ المَرِيضِ " .
وقالَ الشّافِعِيُّ: " إذا خافَتا عَلى ولَدَيْهِما أفْطَرَتا وعَلَيْهِما (p-٢٢٤)القَضاءُ والكَفّارَةُ، وإنْ لَمْ تَقْدِرا عَلى الصَّوْمِ فَهُما مِثْلُ المَرِيضِ عَلَيْهِما القَضاءُ بِلا كَفّارَةٍ ورُوِيَ عَنْهُ في البُوَيْطِيِّ أنَّ الحامِلَ لا إطْعامَ عَلَيْها.
واخْتَلَفَ السَّلَفُ في ذَلِكَ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ؛ فَقالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ: " عَلَيْهِما القَضاءُ إذا أفْطَرَتا ولا فِدْيَةَ عَلَيْهِما "، وهو قَوْلُ إبْراهِيمَ والحَسَنِ وعَطاءٍ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " عَلَيْهِما الفِدْيَةُ بِلا قَضاءٍ " . وقالَ ابْنُ عُمَرُ ومُجاهِدٌ: " عَلَيْهِما الفِدْيَةُ والقَضاءُ " .
والحُجَّةُ لِأصْحابِنا ما حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدِ القاسِمِ بْنُ سَلامٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ عَنْ أيُّوبَ قالَ: حَدَّثَنِي أبُو قِلابَةَ هَذا الحَدِيثَ، ثُمَّ قالَ: هَلْ لَكَ في صاحِبِ الحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي ؟ قالَ: فَدَلَّنِي عَلَيْهِ، فَلَقِيتُهُ، فَقالَ: حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي يُقالُ لَهُ أنَسُ بْنُ مالِكٍ قالَ: «أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في إبِلٍ لِجارٍ لِي أُخِذَتْ، فَوافَقْتُهُ وهو يَأْكُلُ، فَدَعانِي إلى طَعامِهِ فَقُلْتُ: إنِّي صائِمٌ، فَقالَ: إذًا أُخْبِرَكَ عَنْ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ وضَعَ عَنِ المُسافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ والصَّوْمِ وعَنِ الحامِلِ والمُرْضِعِ» قالَ: فَكانَ يَتَلَهَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: ألا أكُونُ أكَلْتُ مِن طَعامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ دَعانِي.
قالَ أبُو بَكْرٍ: شَطْرُ الصَّلاةِ مَخْصُوصٌ بِهِ المُسافِرُ؛ إذْ لا خِلافَ أنَّ الحَمْلَ والرَّضاعَ لا يُبِيحانِ قَصْرَ الصَّلاةِ.
ووَجْهُ دَلالَتِهِ عَلى ما ذَكَرْنا إخْبارُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّ وضْعَ الصَّوْمِ عَنِ الحامِلِ والمُرْضِعِ هو كَوَضْعِهِ عَنِ المُسافِرِ، ألا تَرى أنَّ وضْعَ الصَّوْمِ الَّذِي جَعَلَهُ مِن حُكْمِ المُسافِرِ هو بِعَيْنِهِ جَعْلُهُ مِن حُكْمِ المُرْضِعِ والحامِلِ؛ لِأنَّهُ عَطَفَهُما عَلَيْهِ مِن غَيْرِ اسْتِئْنافِ ذِكْرِ شَيْءٍ غَيْرِهِ ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ حُكْمَ وضْعِ الصَّوْمِ عَنِ الحامِلِ والمُرْضِعِ هو في حُكْمِ وضْعِهِ عَنِ المُسافِرِ لا فَرْقَ بَيْنَهُما، ومَعْلُومٌ أنَّ وضْعَ الصَّوْمِ عَنِ المُسافِرِ إنَّما هو عَلى جِهَةِ إيجابِ قَضائِهِ بِالإفْطارِ مِن غَيْرِ فِدْيَةٍ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الحامِلِ والمُرْضِعِ.
وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الحامِلِ والمُرْضِعِ إذا خافَتا عَلى أنْفُسِهِما أوْ ولَدَيْهِما؛ إذْ لَمْ يَفْصِلِ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُما وأيْضًا لَمّا كانَتِ الحامِلُ والمُرْضِعُ يُرْجى لَهُما القَضاءُ وإنَّما أُبِيحَ لَهُما الإفْطارُ لِلْخَوْفِ عَلى النَّفْسِ أوِ الوَلَدِ مَعَ إمْكانِ القَضاءِ، وجَبَ أنْ تَكُونا كالمَرِيضِ والمُسافِرِ؛ فَإنَّ احْتَجَّ القائِلُونَ بِإيجابِ القَضاءِ والفِدْيَةِ بِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ لَمْ يَصِحَّ لَهم وجْهُ الدَّلالَةِ مِنهُ عَلى ما ادَّعَوْهُ وذَلِكَ لِما رَوَيْنا عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ الَّذِينَ قَدَّمْنا ذِكْرَهم أنَّ ذَلِكَ كانَ فَرْضَ المُقِيمِ الصَّحِيحِ، وأنَّهُ كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيامِ والفِدْيَةِ؛ وبَيَّنّا أنَّ ما جَرى مَجْرى ذَلِكَ فَلَيْسَ القَوْلُ فِيهِ مِن طَرِيقِ الرَّأْيِ وإنَّما يَكُونُ (p-٢٢٥)تَوْقِيفًا؛ فالحامِلُ والمُرْضِعُ لَمْ يَجْرِ لَهُما ذِكْرٌ فِيما حَكَوْا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ تَأْوِيلُها مَحْمُولًا عَلى ما ذَكَرْنا.
وقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] ومِن جِهَةٍ أُخْرى لا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ لَهم بِهِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى في سِياقِ الخِطابِ ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ خِطابٌ لِمَن تَضَمَّنَهُ أوَّلُ الآيَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ الحامِلِ والمُرْضِعِ؛ لِأنَّهُما إذا خافَتا الضَّرَرَ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ خَيْرًا لَهُما بَلْ مَحْظُورٌ عَلَيْهِما فِعْلُهُ، وإنْ لَمْ تَخْشَيا ضَرَرًا عَلى أنْفُسِهِما أوْ ولَدَيْهِما فَغَيْرُ جائِزٍ لَهُما الإفْطارُ، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّهُما لَمْ تُرادا بِالآيَةِ.
ودَلَّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن تَأوَّلَ الآيَةَ عَلى الحامِلِ والمُرْضِعِ مِنَ القائِلِينَ بِإيجابِ الفِدْيَةِ والقَضاءِ أنَّ اللَّهِ تَعالى سَمّى هَذا الطَّعامَ فِدْيَةً، والفِدْيَةُ ما قامَ مَقامَ الشَّيْءِ وأجْزَأ عَنْهُ فَغَيْرُ جائِزٍ عَلى هَذا الوَضْعِ اجْتِماعُ القَضاءِ والفِدْيَةِ؛ لِأنَّ القَضاءَ إذا وجَبَ فَقَدْ قامَ مَقامَ المَتْرُوكِ فَلا يَكُونُ الإطْعامُ فِدْيَةً، وإنْ كانَ فِدْيَةً صَحِيحَةً فَلا قَضاءَ؛ لِأنَّ الفِدْيَةَ أجْزَأتْ عَنْهُ، وقامَتْ مَقامَهُ.
فَإنْ قِيلَ: ما الَّذِي يَمْنَعُ أنْ يَكُونَ القَضاءُ والإطْعامُ قائِمَيْنِ مَقامَ المَتْرُوكِ ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ كانَ مَجْمُوعُهُما قائِمَيْنِ مَقامَ المَتْرُوكِ مِنَ الصَّوْمِ لَكانَ الإطْعامُ بَعْضَ الفِدْيَةِ ولَمْ يَكُنْ جَمِيعَها، واللَّهُ تَعالى قَدْ سَمّى ذَلِكَ فِدْيَةً، وتَأْوِيلُكَ يُؤَدِّي إلى خِلافِ مُقْتَضى الآيَةِ. وأيْضًا إذا كانَ الأصْلُ المُبِيحُ لِلْحامِلِ والمُرْضِعِ الإفْطارَ والمُوجِبُ عَلَيْهِما الفِدْيَةَ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ وقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ الَّذِينَ قَدَّمْنا قَوْلَهُما أنَّ الواجِبَ كانَ أحَدُ شَيْئَيْنِ مِن فِدْيَةٍ أوْ صِيامٍ لا عَلى وجْهِ الجَمْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى إيجابِ الجَمْعِ بَيْنَهُما عَلى الحامِلِ والمُرْضِعِ ؟
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ حَذْفَ الإفْطارِ، كَأنَّهُ قالَ: وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إذا أفْطَرُوا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَإذا كانَ اللَّهُ تَعالى إنَّما اقْتَصَرَ بِالإيجابِ عَلى ذِكْرِ الفِدْيَةِ فَغَيْرُ جائِزٍ إيجابُ غَيْرِها مَعَها لِما فِيهِ مِنَ الزِّيادَةِ في النَّصِّ، وغَيْرُ جائِزٍ الزِّيادَةُ في المَنصُوصِ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ؛ ولَيْسَتا كالشَّيْخِ الكَبِيرِ الَّذِي لا يُرْجى لَهُ الصَّوْمُ لِأنَّهُ مَيْئُوسٌ مِن صَوْمِهِ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ، والإطْعامُ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ لَهُ إذْ هو بِنَفْسِهِ قائِمٌ مَقامَ المَتْرُوكِ مِن صَوْمِهِ، والحامِلُ والمُرْضِعُ يُرْجى لَهُما القَضاءُ فَهُما كالمَرِيضِ والمُسافِرِ.
وإنَّما يَسُوغُ الِاحْتِجاجُ بِظاهِرِ الآيَةِ لِابْنِ عَبّاسٍ لِاقْتِصارِهِ عَلى إيجابِ الفِدْيَةِ دُونَ القَضاءِ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ الحامِلَ والمُرْضِعَ إذا كانَتا إنَّما تَخافانَ عَلى ولَدَيْهِما دُونَ أنْفُسِهِما فَهُما تُطِيقانِ الصَّوْمَ فَيَتَناوَلَهُما ظاهِرُ قَوْلِهِ: (p-٢٢٦)﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ وكَذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ؛ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ قالَ: حَدَّثَنا أبانُ قالَ: حَدَّثَنا قَتادَةُ، أنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ، أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ حَدَّثَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ قالَ: " أُثْبِتَتْ لِلْحامِلِ والمُرْضِعِ " .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ قالَ: " كانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الكَبِيرِ والمَرْأةِ وهُما يُطِيقانِ الصِّيامَ أنْ يُفْطِرا ويُطْعِما مَكانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، والحُبْلى والمُرْضِعُ إذا خافَتا عَلى أوْلادِهِما أفْطَرَتا وأطْعَمَتا " .
فاحْتَجَّ ابْنُ عَبّاسٍ بِظاهِرِ الآيَةِ وأوْجَبَ الفِدْيَةَ دُونَ القَضاءِ عِنْدَ خَوْفِهِما عَلى ولَدَيْهِما؛ إذْ هُما تُطِيقانِ الصَّوْمَ فَشَمِلَهُما حُكْمُ الآيَةِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ومَن أبى ذَلِكَ مِنَ الفُقَهاءِ ذَهَبَ إلى أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ وغَيْرَهُ ذَكَرُوا أنَّ ذَلِكَ كانَ حُكْمَ سائِرِ المُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ في إيجابِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ والفِدْيَةِ، وهو لا مَحالَةَ قَدْ يَتَناوَلُ الرَّجُلَ الصَّحِيحَ المُطِيقَ لِلصَّوْمِ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَتَناوَلَ الحامِلَ والمُرْضِعَ؛ لِأنَّهُما غَيْرُ مُخَيَّرَتَيْنِ؛ لِأنَّهُما إمّا أنْ تَخافا فَعَلَيْهِما الإفْطارُ بِلا تَخْيِيرٍ، أوْ لا تَخافا فَعَلَيْهِما الصِّيامُ بِلا تَخْيِيرٍ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ تَتَناوَلَ الآيَةُ فَرِيقَيْنِ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي ظاهِرُها إيجابَ الفِدْيَةِ ويَكُونُ المُرادُ في أحَدِ الفَرِيقَيْنِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الإطْعامِ والصِّيامِ، وفي الفَرِيقِ الآخَرِ إمّا الصِّيامُ عَلى وجْهِ الإيجابِ بِلا تَخْيِيرٍ أوِ الفِدْيَةِ بِلا تَخْيِيرٍ، وقَدْ تَناوَلَهُما لَفْظُ الآيَةِ عَلى وجْهٍ واحِدٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الآيَةَ لَمْ تَتَناوَلِ الحامِلَ والمُرْضِعَ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ولَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الحامِلِ والمُرْضِعِ إذا خافَتا عَلى ولَدَيْهِما؛ لِأنَّ الصِّيامَ لا يَكُونُ خَيْرًا لَهُما. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما قَدَّمْنا مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ القُشَيْرِيِّ في تَسْوِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ المَرِيضِ والمُسافِرِ وبَيْنَ الحامِلِ والمُرْضِعِ في حُكْمِ الصَّوْمِ.
* * *
بابٌ في جَوازِ تَأْخِيرِ قَضاءِ رَمَضانَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فَأوْجَبَ العِدَّةَ في أيّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ في الآيَةِ، فَقالَ أصْحابُنا جائِزٌ لَهُ أنْ يَصُومَ أيَّ وقْتٍ يَشاءُ ولا يُحْفَظُ عَنْهم رِوايَةٌ في جَوازِ تَأْخِيرِهِ إلى انْقِضاءِ السَّنَةِ. والَّذِي عِنْدِي أنَّهُ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلى أنْ يَدْخُلَ رَمَضانُ آخَرُ، وهو عِنْدِي عَلى مَذْهَبِهِمْ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الأمْرَ عِنْدَهم إذا كانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَهو عَلى الفَوْرِ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في أُصُولِ الفِقْهِ.
وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَضاءُ رَمَضانَ مُوَقَّتًا بِالسَّنَةِ لَما جازَ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ ثانِي يَوْمِ الفِطْرِ، إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ بِالتَّأْخِيرِ مِن غَيْرِ عِلْمٍ مِنهُ بِآخِرِ وقْتِ وُجُوبِ الفَرْضِ الَّذِي لا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، كَما لا يَجُوزُ وُرُودُ العِبارَةِ بِفَرْضٍ مَجْهُولٍ عِنْدَ المَأْمُورِ ثُمَّ يَلْحَقُهُ التَّعْنِيفُ واللَّوْمُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ البَيانِ لا فَرْقَ بَيْنَهُما. وإذا كانَ كَذَلِكَ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّ مَذْهَبَهم جَوازُ تَأْخِيرِ قَضاءِ رَمَضانِ عَنْ أوَّلِ أوْقاتِ إمْكانِ قَضائِهِ، ثَبَتَ أنَّ تَأْخِيرَهُ مُوَقَّتٌ بِمُضِيِّ السَّنَةِ، فَكانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ وقْتِ الظُّهْرِ لَمّا كانَ أوَّلُهُ وآخِرُهُ مَعْلُومَيْنِ جازَ وُرُودُ العِبادَةِ بِفِعْلِها مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ وجازَ تَأْخِيرُها إلى الوَقْتِ الَّذِي يُخافُ فَوْتُها بِتَرْكِها؛ لِأنَّ آخِرَ وقْتِها الَّذِي يَكُونُ مُفَرَّطًا بِتَأْخِيرِها مَعْلُومٌ. وقَدْ رُوِيَ جَوازُ تَأْخِيرِهِ في السَّنَةِ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ؛ ورَوى يَحْيى بْنُ سَعِيدِ عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: (p-٢٦١)قالَتْ عائِشَةُ: " إنْ كانَ لَيَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن شَهْرِ رَمَضانَ فَما أسْتَطِيعُ أنْ أقْضِيَهُ حَتّى يَأْتِيَ شَعْبانُ " . ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ وأبِي هُرَيْرَةَ قالا: " لا بَأْسَ بِقَضاءِ رَمَضانَ في العَشْرِ " وكَذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وقالَ عَطاءٌ وطاوُسٌ ومُجاهِدٌ: " اقْضِ رَمَضانَ مَتى شِئْتَ " . فَهَؤُلاءِ السَّلَفُ قَدِ اتَّفَقُوا عَلى جَوازِ تَأْخِيرِهِ عَنْ أوَّلِ أوْقاتِ إمْكانِ قَضائِهِ. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيمَن أخَّرَ القَضاءَ حَتّى حَضَرَ رَمَضانُ آخَرُ، فَقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا: " يَصُومُ الثّانِي عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي الأوَّلَ ولا فِدْيَةَ عَلَيْهِ " . وقالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ والشّافِعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إنْ فَرَّطَ في قَضاءِ الأوَّلِ أطْعَمَ مَعَ القَضاءِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا " .
وقالَ الثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: " لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صاعِ بُرٍّ " . وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: " كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا، وإنْ لَمْ يُفَرِّطْ بِمَرَضٍ أوْ سَفَرٍ فَلا إطْعامَ عَلَيْهِ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إذا فَرَّطَ في قَضاءِ الأوَّلِ ومَرِضَ في الآخَرِ حَتّى انْقَضى ثُمَّ ماتَ فَإنَّهُ يُطْعِمُ عَنِ الأوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ: مُدًّا لِتَضْيِيعِهِ ومُدًّا لِلصِّيامِ، ويُطْعِمُ عَنِ الآخَرِ مُدًّا لِكُلِّ يَوْمٍ " . واتَّفَقَ مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْلِهِ قَبْلَ الأوْزاعِيُّ أنَّهُ إذا مَرِضَ في رَمَضانَ ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أنْ يَصِحَّ أنَّهُ لا يَجِبُ أنْ يُطْعَمَ عَنْهُ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الحَضْرَمِيُّ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ إسْحاقَ الضَّبِّيُّ قالَ: حَدَّثَنا قَيْسُ عَنِ الأسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يَرى بَأْسًا بِقَضاءِ رَمَضانَ في ذِي الحِجَّةِ» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الحارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أبِي تَمِيمٍ الجَيَشانِيِّ قالَ: " جَمَعَنا المَجْلِسُ بَطَرابُلْسَ ومَعَنا وُهَيْبُ بْنُ مَعْقِلٍ الغِفارِيُّ وعَمْرُو بْنُ العاصِ صاحِبا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ عَمْرٌو أفْصِلُ رَمَضانَ، وقالَ الغِفارِيُّ: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ رَمَضانَ، فَقالَ عَمْرٌو: نُفَرِّقُ بَيْنَ قَضاءِ رَمَضانَ إنَّما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾
وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ البَغْلانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عِيسى بْنُ أحْمَدَ العَسْقَلانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ أرْقَمَ عَنِ الحَسَنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ أيّامٌ مِن رَمَضانَ أفَأُفَرِّقُ بَيْنَهُ ؟ قالَ: نَعَمْ أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا أكانَ يُجْزِيكَ ؟ قالَ: نَعَمْ قالَ: فَإنَّ اللَّهَ أحَقُّ بِالتَّجاوُزِ والعَفْوِ» .
فَهَذِهِ الأخْبارُ كُلُّها تُنْبِئُ عَنْ جَوازَ تَأْخِيرِ قَضاءِ رَمَضانَ عَنْ أوَّلِ وقْتِ إمْكانِ قَضائِهِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ إيجابُ الفِدْيَةِ عَلى مَن أخَّرَ قَضاءَ رَمَضانَ إلى العامِ القابِلِ، مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرانَ عَنْ أبِيهِ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى ابْنِ عَبّاسٍ فَقالَ: مَرِضْتُ رَمَضانَيْنِ، فَقالَ: (p-٢٦٢)ابْنُ عَبّاسٍ: أسْتَمَرَّ بِكَ مَرَضُكَ أوْ صَحَحْتَ فِيما بَيْنَهُما ؟ قالَ: بَلْ صَحَحْتُ فِيما بَيْنَهُما ؟ قالَ: أكانَ هَذا ؟ قالَ: لا قالَ: فَدَعْهُ حَتّى يَكُونَ فَقامَ إلى أصْحابِهِ فَأخْبَرَهم، فَقالُوا: ارْجِعْ فَأخْبِرْهُ أنَّهُ قَدْ كانَ فَرَجَعَ هو أوْ غَيْرُهُ وسَألَهُ فَقالَ: أكانَ هَذا ؟ قالَ: نَعَمْ قالَ: صُمْ رَمَضانَيْنِ وأطْعِمْ ثَلاثِينَ مِسْكِينًا وقَدْ رَوى رَوْحُ بْنُ عُبادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في رَجُلٍ فَرَّطَ في قَضاءِ رَمَضانَ حَتّى أدْرَكَهُ رَمَضانُ آخَرُ، قالَ: " يَصُومُ الَّذِي أدْرَكَهُ ويُطْعِمُ عَنِ الأوَّلِ كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا مِن بُرٍّ ولا قَضاءَ عَلَيْهِ " وهَذا يُشْبِهُ مَذْهَبَهُ في الحامِلِ أنَّها تُطْعِمُ ولا قَضاءَ عَلَيْها مَعَ ذَلِكَ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ؛ رَوى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أيُّوبَ وحُمَيْدٍ عَنْ أبِي يَزِيدَ المَدَنِيِّ، أنَّ رَجُلًا احْتُضِرَ فَقالَ لِأخِيهِ: إنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ دَيْنًا ولِلنّاسِ عَلَيَّ دَيْنٌ فابْدَأْ بِدَيْنِ اللَّهِ فاقْضِهِ ثُمَّ اقْضِ دَيْنَ النّاسِ، إنَّ عَلَيَّ رَمَضانَيْنِ لَمْ أصُمْهُما، فَسَألَ ابْنَ عُمَرَ فَقالَ: " بَدَنَتانِ مُقَلَّدَتانِ " فَسَألَ ابْنَ عَبّاسٍ وأخْبَرَهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقالَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ما شَأْنُ البُدْنِ وشَأْنُ الصَّوْمِ ؟ أطْعِمْ عَنْ أخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا " قالَ أيُّوبُ: وكانُوا يَرَوْنَ أنَّهُ قَدْ كانَ صَحَّ بَيْنَهُما وذَكَرَ الطَّحاوِيُّ عَنِ ابْنِ أبِي عِمْرانَ قالَ: سَمِعْتُ يَحْيى بْنَ أكْثَمَ أنَّهُ يَقُولُ: " وجَدْتُهُ يَعْنِي وُجُوبَ الإطْعامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحابَةِ ولَمْ أجِدْ لَهم مِنَ الصَّحابَةَ مُخالِفًا " وهَذا جائِزٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ مَن ماتَ قَبْلَ القَضاءِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ قَدْ دَلَّ عَلى جَوازِ التَّفْرِيقِ، وعَلى جَوازِ التَّأْخِيرِ وعَلى أنْ لا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ في إيجابِ الفِدْيَةِ مَعَ القَضاءِ زِيادَةً في النَّصِّ، ولا تَجُوزُ الزِّيادَةُ في النَّصِّ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ تَأْخِيرَهُ إلى آخِرِ السَّنَةِ لا يُوجِبُ الفِدْيَةَ، وأنَّ الآيَةَ إنَّما أوْجَبَتْ قَضاءَ العِدَّةِ دُونَ غَيْرِها مِنَ الفِدْيَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ قَضاءَ العِدَّةِ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ واجِبٌ بِالآيَةِ، فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ في بَعْضِ ما انْتَظَمَتْهُ الآيَةُ القَضاءَ دُونَ الفِدْيَةِ وفي بَعْضِهِ القَضاءُ والفِدْيَةُ مَعَ دُخُولِهِما فِيها عَلى وجْهٍ واحِدٍ، ألا تَرى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ عَلى بَعْضِ السُّرّاقِ المُرادُ بِالآيَةِ القَطْعُ وزِيادَةُ غُرْمٍ ؟
وكَذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْضُهم لا يُقْطَعُ إلّا في عَشَرَةٍ وبَعْضُهم يُقْطَعُ فِيما دُونَها، كَذَلِكَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ المُرادَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ مَخْصُوصًا بِإيجابِ القَضاءِ دُونَ الفِدْيَةِ وبَعْضُهم مُرادٌ بِالقَضاءِ والفِدْيَةِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى غَيْرُ جائِزٍ إثْباتُ الكَفّاراتِ إلّا مِن طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أوِ الِاتِّفاقِ، وذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيما وصَفْنا، فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُ الفِدْيَةِ قِياسًا وأيْضًا فَإنَّ الفِدْيَةَ ما قامَ مَقامَ الشَّيْءِ وأجْزَأ عَنْهُ، (p-٢٦٣)فَإنَّما يَخْتَصُّ وُجُوبُها بِمَن لا يَجِبُ عَلَيْهِ القَضاءُ كالشَّيْخِ الكَبِيرِ ومَن ماتَ مُفَرِّطًا قَبْلَ أنْ يَقْضِيَ، أمّا اجْتِماعُ الفِدْيَةِ والقَضاءِ فَمُمْتَنِعٌ عَلى ما بَيَّنّا في بابِ الحامِلِ والمُرْضِعِ، فَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ في هَذا أظْهَرُ في إيجابِهِ دُونَ القَضاءِ مِن مَذْهَبِ مَن جَمَعَهُما ومِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي قَدَّمْنا ذِكْرَهُ.
عَلى أنَّ تَأْخِيرَهُ لا يُوجِبُ الفِدْيَةَ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الفِدْيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّفْرِيقِ، ولَوْ كانَ تَأْخِيرُهُ يُوجِبُ الفِدْيَةَ لَبَيَّنَهُ ﷺ .
والثّانِي: تَشْبِيهُهُ إيّاهُ بِالدَّيْنِ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ لا يَلْزَمُهُ شَيْئًا غَيْرَ قَضائِهِ، فَكَذَلِكَ ما شَبَّهَهُ بِهِ مِن قَضاءِ رَمَضانَ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا اتَّفَقْنا عَلى أنَّهُ مَنهِيٌّ عَنْ تَأْخِيرِهِ إلى العامِ القابِلِ وجَبَ أنْ يُجْعَلَ مُفَرِّطًا بِذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ الفِدْيَةُ، كَما لَوْ ماتَ قَبْلَ أنْ يَقْضِيَهُ لَزِمَتْهُ الفِدْيَةُ بِالتَّفْرِيطِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّفْرِيطَ لا يُلْزِمُهُ الفِدْيَةَ إنَّما الَّذِي يُلْزِمُهُ الفِدْيَةَ فَواتُ القَضاءِ بَعْدَ الإمْكانِ بِالمَوْتِ؛ والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ أكَلَ في رَمَضانَ مُتَعَمِّدًا كانَ مُفَرِّطًا، وإذا قَضاهُ في تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الفِدْيَةُ عِنْدَ الجَمِيعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ حُصُولَ التَّفْرِيطِ مِنهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِإيجابِ الفِدْيَةِ.
وحَكى عَلِيُّ بْنُ مُوسى القُمِّيُّ أنَّ داوُدَ الأصْفَهانِيَّ قالَ: " يَجِبُ عَلى مَن أفْطَرَ يَوْمًا مِن رَمَضانَ لِعُذْرٍ أنْ يَصُومَ الثّانِيَ مِن شَوّالٍ، فَإنْ تَرَكَ صِيامَهُ فَقَدْ أثِمَ وفَرَّطَ " فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنِ اتِّفاقِ السَّلَفِ والخَلَفِ مَعًا وعَنْ ظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] وخالَفَ السُّنَنَ الَّتِي رَوَيْنا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ؛ قالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسى سَألْتُهُ يَوْمًا: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ قُلْتَ ذَلِكَ ؟ قالَ: لِأنَّهُ إنْ لَمْ يَصُمِ اليَوْمَ الثّانِيَ مِن شَوّالٍ فَماتَ فَكُلُّ أهْلِ العِلْمِ يَقُولُونَ إنَّهُ آثِمٌ مُفَرِّطٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ عَلَيْهِ أنْ يَصُومَ ذَلِكَ اليَوْمَ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُوَسَّعًا لَهُ أنْ يَصُومَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما لَزِمَهُ التَّفْرِيطُ إنْ ماتَ مِن لَيْلَتِهِ.
قالَ: فَقُلْتُ لَهُ: ما تَقُولُ في رَجُلٍ وجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَوَجَدَ رَقَبَةً تُباعُ بِثَمَنٍ مُوافِقٍ، هَلْ لَهُ أنْ يَتَعَدّاها ويَشْتَرِيَ غَيْرَها ؟ فَقالَ: لا فَقُلْتُ: لِمَ ؟ قالَ: لِأنَّ الفَرْضَ عَلَيْهِ أنْ يُعْتِقَ أوَّلَ رَقَبَةٍ يَجِدُها، فَإذا وجَدَ رَقَبَةً لَزِمَهُ الفَرْضُ فِيها، وإذا لَزِمَهُ في أوَّلِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجِزْهُ غَيْرُها إذا كانَ واجِدًا لَها. فَقُلْتُ: فَإنِ اشْتَرى رَقَبَةً غَيْرَها وهو واجِدٌ لِلْأُولى ؟ فَقالَ: لا يُجْزِيهِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَإنْ كانَ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ هَلْ يُجْزِيهِ أنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَها ؟ قالَ: لا فَقُلْتُ: لِأنَّ العِتْقَ صارَ عَلَيْهِ فِيها دُونَ غَيْرِها ؟ فَقالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ: فَما تَقُولُ إنْ ماتَتْ هَلْ يَبْطُلُ عَنْهُ العِتْقُ كَما أنَّ مَن نَذَرَ أنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً بِعَيْنِها فَماتَتْ يَبْطُلُ نَذْرُهُ ؟ فَقالَ: لا بَلْ عَلَيْهِ أنْ يُعْتِقَ (p-٢٦٤)غَيْرَها؛ لِأنَّ هَذا إجْماعٌ فَقُلْتُ: وكَذَلِكَ مَن وجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ بِالإجْماعِ أنَّ لَهُ أنْ يُعْتِقَ غَيْرَها.
فَقالَ: عَمَّنْ تَحْكِي هَذا الإجْماعَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ: وعَمَّنْ تَحْكِي أنْتَ الإجْماعَ الأوَّلَ ؟ فَقالَ: الإجْماعُ لا يُحْكى.
فَقُلْتُ: والإجْماعُ الثّانِي أيْضًا لا يُحْكى وانْقَطَعَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وجَمِيعُ ما قالَهُ داوُدَ مِن تَعْيِينِ فَرْضِ القَضاءِ بِاليَوْمِ الثّانِي مِن شَوّالٍ وأنَّ مَن وجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ فَوَجَدَها أنَّهُ لا يَتَعَدّاها إلى غَيْرِها خِلافُ إجْماعِ المُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، وما ادَّعاهُ عَلى أهْلِ العِلْمِ بِأنَّهم يَجْعَلُونَهُ مُفَرِّطًا إذا ماتَ، وقَدْ أخَّرَهُ عَنِ اليَوْمِ الثّانِي فَلَيْسَ كَما ادَّعى، فَإنَّ مَن جُعِلَ لَهُ التَّأْخِيرُ إلى آخِرِ السَّنَةِ لا يَجْعَلُهُ مُفَرِّطًا بِالمَوْتِ؛ لِأنَّ السَّنَةَ كُلَّها إلى أنْ يَجِيءَ رَمَضانُ ثانٍ وقْتَ القَضاءِ مُوَسَّعٌ لَهُ في التَّأْخِيرِ كَوَقْتِ الصَّلاةِ أنَّهُ لَمّا كانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ في التَّأْخِيرِ مِن أوَّلَهُ إلى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا بِتَأْخِيرِهِ إنْ ماتَ قَبْلَ مُضِيِّ الوَقْتِ، فَكَذَلِكَ يَقُولُونَ في قَضاءِ رَمَضانَ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا لَما لَزِمَتْهُ الفِدْيَةُ إذا ماتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ ولَمْ يَقْضِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لُزُومُ الفِدْيَةِ عَلَمًا لِلتَّفْرِيطِ؛ لِأنَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ يَلْزَمُهُ الفِدْيَةُ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ، وقَوْلُ داوُدَ " الإجْماعُ لا يُحْكى " خَطَأٌ، فَإنَّ الإجْماعَ يُحْكى كَما تُحْكى النُّصُوصُ، وكَما يُحْكى الِاخْتِلافُ، فَإنْ أرادَ بِذَلِكَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُجْمِعِينَ لا يَحْتاجُ إلى حِكايَةِ أقاوِيلِهِمْ بَعْدَ أنْ يُنْشَرَ القَوْلُ عَنْ جَماعَةٍ مِنهم وهم حُضُورٌ يَسْمَعُونَ ولا يُخالِفُونَ، فَإنَّ ذَلِكَ عَلى ما قالَ؛ ومَعَ ذَلِكَ لا يَجُوزُ إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّ الإجْماعَ لا يُحْكى؛ لِأنَّ مِنَ الإجْماعِ ما يُحْكى فِيهِ أقاوِيلُ جَماعَتِهِمْ فَيَكُونُ ما يَحْكِيهِ مِن إجْماعِهِمْ حِكايَةً صَحِيحَةً، ومِنهُ ما يُحْكى أقاوِيلُ جَماعَةٍ مِنهم مُنْتَشِرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ مَعَ سَماعِ الآخَرِينَ لَها وتَرْكِ إظْهارِ المُخالَفَةِ، فَهَذا أيْضًا إجْماعٌ يُحْكى؛ إذْ كانَ تَرْكُ الآخَرِينَ إظْهارَ النَّكِيرِ والمُخالَفَةِ قائِمًا مَقامَ المُوافَقَةِ؛ فَهَذانِ الضَّرْبانِ مِن إجْماعِ الخاصَّةِ والفُقَهاءِ يُحْكَيانِ جَمِيعًا.
وإجْماعٌ آخَرُ، وهو ما تَشْتَرِكُ فِيهِ الخاصَّةُ والعامَّةُ كَإجْماعِهِمْ عَلى تَحْرِيمِ الزِّنا والرِّبا ووُجُوبِ الِاغْتِسالِ مِنَ الجَنابَةِ والصَّلَواتِ الخَمْسِ ونَحْوِها، فَهَذِهِ أُمُورٌ قَدْ عُلِمَ اتِّفاقُ المُسْلِمِينَ عَلَيْها وإنْ لَمْ يُحْكَ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهم بِعَيْنِهِ اعْتِقادُهُ والتَّدَيُّنِ بِهِ؛ فَإنْ عُنِيَ هَذا الضَّرْبُ مِنَ الإجْماعِ فَقَدْ يَسُوغُ أنْ يُقالَ: إنَّ مِثْلَهُ لا يُحْكى، وقَدْ يَسُوغُ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذا الضَّرْبَ أيْضًا يُحْكى لِعِلْمِنا بِإجْماعِ أهْلِ الصَّلاةِ عَلى اعْتِقادِهِ والتَّدَيُّنِ بِهِ، فَجائِزٌ أنْ يُحْكى عَنْهُمُ اعْتِقادُهم لِذَلِكَ والتَّدَيُّنُ بِهِ وأنَّهم مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ، كَما إذا ظَهَرَ لَنا إسْلامُ رَجُلٍ وإظْهارُ اعْتِقادِهِ الإيمانَ أنْ يُحْكى عَنْهُ أنَّهُ مُسْلِمٌ؛ وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠] وبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.
(p-٢٦٥)
* * *
بابٌ في عِدَدِ قَضاءِ رَمَضانَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ أبِي يُوسُفَ، وهِشامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، مِن غَيْرِ خِلافٍ مِن أحَدٍ مِن أصْحابِنا قالُوا: " إذا صامَ أهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وفي البَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإنْ صامَ أهْلُ بَلَدٍ ثَلاثِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ وصامَ أهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَن صامَ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإنَّ عَلَيْهِمْ أنْ يَقْضُوا يَوْمًا وعَلى المَرِيضِ المُفْطِرِ قَضاءُ ثَلاثِينَ يَوْمًا " وحَكى بَعْضُ أصْحابِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ عَنْهُ " أنَّهُ يَقْضِي رَمَضانَ بِالأهِلَّةِ " .
وذَكَرَ عَنْهُ أشْهَبُ أنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ مَرِضَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ ماتَ عَنْ غَيْرِ قَضاءٍ: " أنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا " وقالَ الثَّوْرِيُّ فِيمَن مَرِضُ رَمَضانَ وكانَ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا: " إنَّهُ يَصُومُ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ " وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إنْ مَرِضَ رَجُلٌ شَهْرَ رَمَضانَ فَأفْطَرَهُ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ ثُمَّ ابْتَدَأ شَهْرًا يَقْضِيهِ فَكانَ هَذا الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا أجْزَأهُ عَنْ شَهْرِ رَمَضانَ الَّذِي أفْطَرَ وإنْ كانَ ثَلاثِينَ يَوْمًا لِأنَّهُ جَزاءُ شَهْرٍ بِشَهْرٍ، وإنْ كانَ ابْتِداءُ القَضاءِ عَلى غَيْرِ اسْتِقْبالِ شَهْرٍ أتَمَّ ثَلاثِينَ يَوْمًا.
وإنْ كانَ شَهْرُ رَمَضانَ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأنَّ الشَّهْرَ لا يَكُونُ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا إلّا شَهْرًا مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: أمّا إذا كانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وعِشْرِينَ أوْ ثَلاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أرادَ المَرِيضُ القَضاءَ، فَإنَّهُ يَقْضِيهِ بِعَدَدِ أيّامِ شَهْرِ الصَّوْمِ الَّذِي أفْطَرَ فِيهِ سَواءٌ ابْتَدَأ بِالهِلالِ أوْ مِن بَعْضِ (p-٢٧٤)الشَّهْرِ؛ وذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ ومَعْناهُ: فَعَدَدٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ؛ يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «فَإنْ غُمَّ عَلَيْكم فَأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِينَ» يَعْنِي العَدَدَ.
وإذا كانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ أوْجَبَ عَلَيْهِ قَضاءَ العَدَدِ مِن أيّامٍ أُخَرَ، لَمْ يَجُزِ الزِّيادَةُ عَلَيْهِ ولا النُّقْصانُ مِنهُ، سَواءٌ كانَ الشَّهْرُ الَّذِي يَقْضِيهِ ناقِصًا أوْ تامًّا، فَإنْ قِيلَ: إنْ كانَ الَّذِي أفْطَرَ فِيهِ شَهْرًا، وقَدْ قالَ ﷺ: «الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ؛ الشَّهْرُ ثَلاثُونَ» فَأيُّ شَهْرٍ أتى بِهِ فَقَدْ قَضى ما عَلَيْهِ لِأنَّهُ شَهْرٌ بِشَهْرٍ، قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعالى: فَشَهْرٌ مِن أيّامِ أُخَرَ وإنَّما قالَ ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فَأوْجَبَ اسْتِيفاءَ عَدَدِ ما أفْطَرَ، فَوَجَبَ اتِّباعُ ظاهِرِ الآيَةِ ولَمْ يَجُزِ العُدُولُ عَنْها إلى مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ، ويَدُلَّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] يَعْنِي العَدَدَ؛ فَإذا كانَ الشَّهْرُ الَّذِي أفْطَرَ فِيهِ ثَلاثِينَ فَعَلَيْهِ إكْمالُ عَدَدِهِ مِن غَيْرِهِ، ولَوِ اقْتَصَرَ عَلى شَهْرٍ هو تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ لَما كانَ مُكْمِلًا لِلْعِدَّةِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلانُ قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ شَهْرًا بِشَهْرٍ وأسْقَطَ اعْتِبارَ العَدَدِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ إفْطارَهُ بَعْضَ رَمَضانَ يُوجِبُ قَضاءَ ما أفْطَرَ بِعَدَدِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حُكْمُ إفْطارِ جَمِيعِهِ في اعْتِبارِ عَدَدِهِ.
وأمّا إذا صامَ أهْلُ مِصْرٍ لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا وأهْلُ مِصْرٍ آخَرَ لِلرُّؤْيَةِ ثَلاثِينَ يَوْمًا، فَإنَّما أوْجَبَ أصْحابُنا عَلى الَّذِينَ صامُوا تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا قَضاءَ يَوْمٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] فَأوْجَبَ إكْمالَ عِدَّةِ الشَّهْرِ؛ وقَدْ ثَبَتَ بِرُؤْيَةِ أهْلِ بَلَدٍ أنَّ العِدَّةَ ثَلاثُونَ يَوْما، فَوَجَبَ عَلى هَؤُلاءِ إكْمالُها؛ لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِإكْمالِ العِدَّةِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَهو عامٌّ في جَمِيعِ المُخاطَبِينَ، ويُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] وقَدْ أُرِيدَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ العِلْمُ بِهِ؛ لِأنَّ مَن لا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ؛ فَلَمّا صَحَّ لَهُ العِلْمُ بِأنَّ الشَّهْرَ ثَلاثُونَ يَوْمًا بِرُؤْيَةِ أهْلِ البَلَدِ الَّذِينَ رَأوْهُ وجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما هو عَلى مَن عَلِمَ بِهِ في أوَّلِهِ، قِيلَ لَهُ: هو عَلى مَن عَلِمَ بِهِ في أوَّلِهِ وبَعْدَ انْقِضائِهِ، ألا تَرى أنَّ مَن كانَ في دارِ الحَرْبِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضانَ ثُمَّ عَلِمَ بِمُضِيِّهِ أنَّ عَلَيْهِ أنْ يَقْضِيَهُ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الأمْرَ قَدْ تَناوَلَ الجَمِيعَ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإنْ غُمَّ عَلَيْكم فَعُدُّوا ثَلاثِينَ»، والَّذِينَ صامُوا تِسْعَةً وعِشْرِينَ قَدْ غُمَّ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ، فَكانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ الحائِلِ بَيْنَهم وبَيْنَ الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يَعُدُّوا ثَلاثِينَ
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﷺ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» يُوجِبُ اعْتِبارَ رُؤْيَةِ كُلِّ قَوْمٍ في بَلَدِهِمْ دُونَ اعْتِبارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ في سائِرِ البُلْدانِ، (p-٢٧٥)وكُلُّ قَوْمٍ رَأوْا الهِلالَ فالفَرْضُ عَلَيْهِمُ العَمَلُ عَلى رُؤْيَتِهِمْ في الصِّيامِ والإفْطارِ بِقَوْلِهِ ﷺ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» .
ويَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ عَلى أهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أنْ يَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِمْ وأنْ يُفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِمْ، ولَيْسَ عَلَيْهِمُ انْتِظارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ مِن أهْلِ سائِرِ الآفاقِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ كُلًّا مِنهم مُخاطَبٌ بِرُؤْيَةِ أهْلِ بَلَدِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَهُ ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» عامٌّ في أهْلِ سائِرِ الآفاقِ، وأنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأهْلِ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وإذا كانَ كَذَلِكَ فَمِن حَيْثُ وجَبَ اعْتِبارُ رُؤْيَةِ أهْلِ بَلَدٍ في الصَّوْمِ والإفْطارِ وجَبَ اعْتِبارُ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ أيْضًا، فَإذا صامُوا لِلرُّؤْيَةِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا وقَدْ صامَ غَيْرُهم أيْضًا لِلرُّؤْيَةِ ثَلاثِينَ، فَعَلى هَؤُلاءِ قَضاءُ يَوْمٍ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ مِنهم بِما يُوجِبُ صَوْمَ ثَلاثِينَ يَوْمًا، وأمّا المُحْتَجُّ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ عَلى كُلِّ أهْلِ بَلَدٍ مِنَ الآفاقِ اعْتِبارَ رُؤْيَتِهِمْ دُونَ انْتِظارِ رُؤْيَةِ غَيْرِهِمْ، فَإنَّما يُوجَبُ ذَلِكَ عِنْدَنا عَلى شَرِيطَةِ أنْ لا تَكُونَ رُؤْيَةُ غَيْرِهِمْ مُخالِفَةً لِرُؤْيَتِهِمْ في حُكْمِ العَدَدِ، فَكُلِّفُوا في الحالِ ما أمْكَنَهُمُ اعْتِبارُهُ ولَمْ يُكَلَّفُوا ما لا سَبِيلَ لَهم إلَيْهِ في مَعْرِفَتِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَمَتى يَتَبَيَّنْ لَهم غَيْرُهُ عَمِلُوا عَلَيْهِ كَما لَوْ حالَ بَيْنَهم وبَيْنَ مَنظَرِهِ سَحابٌ أوْ ضَبابٌ وشَهِدَ قَوْمٌ مِن غَيْرِهِمْ أنَّهم قَدْ رَأوْهُ قَبَلَ ذَلِكَ، لَزِمَهُمُ العَمَلُ عَلى ما أخْبَرَهم بِهِ دُونَ ما كانَ عِنْدَهم مِنَ الحُكْمِ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ.
وقَدْ رُوِيَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ يَحْتَجُّ بِهِ المُخالِفُ في هَذِهِ المَقالَةِ، وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبِي حَرْمَلَةَ قالَ: أخْبَرَنا كُرَيْبٌ «أنَّ أُمَّ الفَضْلِ بِنْتَ الحارِثِ بَعَثَتْهُ إلى مُعاوِيَةَ بِالشّامِ، قالَ: فَقَدِمْتُ الشّامَ فَقَضَيْتُ حاجَتَها، فاسْتَهَلَّ رَمَضانُ وأنا بِالشّامِ، فَرَأيْنا الهِلالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ المَدِينَةَ في آخِرِ الشَّهْرِ فَسَألَنِي ابْنُ عَبّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الهِلالَ فَقالَ: مَتى رَأيْتُمُ الهِلالَ ؟ فَقُلْتُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَقالَ: أنْتَ رَأيْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، ورَآهُ النّاسُ وصامُوا وصامَ مُعاوِيَةُ، فَقالَ: لَكِنّا رَأيْناهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلا نَزالُ نَصُومُهُ حَتّى نُكْمِلَ الثَّلاثِينَ أوْ نَراهُ، فَقُلْتُ: أوَ لا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعاوِيَةَ وصِيامِهِ ؟ فَقالَ: لا، هَكَذا أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ»، وهَذا لا يَدُلَّ عَلى ما ذُكِرَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَحْكِ جَوابَ النَّبِيِّ ﷺ وقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ بِعَيْنِها فَأجابَ بِهِ، وإنَّما قالَ: " هَكَذا أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ " ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ تَأوَّلَ فِيهِ قَوْلَهُ ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» عَلى ما قالُوا؛ بَلْ وجْهُ دَلالَتِهِ عَلى ما قُلْنا ظاهِرٌ عَلى ما قَدَّمْنا فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجاجُ بِهِ فِيما اخْتَلَفْنا.
وقَدْ ذُكِرَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ما حَدَّثَنا (p-٢٧٦)مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعاذٍ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي قالَ: حَدَّثَنِي الأشْعَثُ عَنِ الحَسَنِ في رَجُلٍ كانَ بِمِصْرٍ مِنَ الأمْصارِ فَصامَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وشَهِدَ رَجُلانِ أنَّهُما رَأيا الهِلالَ لَيْلَةَ الأحَدِ قالَ: " لا يَقْضِي ذَلِكَ اليَوْمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ولا أهْلُ مِصْرِهِ، إلّا أنْ يَعْلَمُوا أنَّ أهْلَ مِصْرٍ مِنَ الأمْصارِ قَدْ صامُوا يَوْمَ الأحَدِ فَيَقْضُوهُ "، ولَيْسَ في هَذا الخَبَرِ أنَّهم صامُوا لِرُؤْيَةٍ أوْ لِغَيْرِها.
ومَسْألَتُنا هي في أهْلِ بَلَدَيْنِ صامَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم لِرُؤْيَةٍ غَيْرِ رُؤْيَةِ الآخَرِينَ، وقَدْ يَحْتَجُّ المُخالِفُ في ذَلِكَ بِما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادٌ في حَدِيثِ أيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ قالَ: «وفِطْرُكم يَوْمَ تُفْطِرُونَ وأضْحاكم يَوْمَ تُضَحُّونَ، وكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وكُلُّ مِنًى مَنحَرٌ وكُلُّ فِجاجِ مَكَّةَ مَنحَرٌ وكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ» ورَوى أبُو خَيْثَمَةَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ المَدَنِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ والفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ والأضْحى يَوْمَ تُضَحُّونَ»، قالُوا: وهَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ صَوْمُ كُلِّ قَوْمٍ يَوْمَ صامُوا وفِطْرُهم يَوْمَ أفْطَرُوا.
وهَذا قَدْ يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِهِ ما لَمْ يُتَبَيَّنْ غَيْرُهُ، ومَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ أهْلَ بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإنْ وجَبَ أنْ يُعْتَبَرَ صَوْمُ مَن صامَ الأقَلَّ فِيما لَزِمَهم فَهو مُوجِبٌ صَوْمَ مَن صامَ الأكْثَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَوْمًا لِلْجَمِيعِ ويَلْزَمُ مَن صامَ الأقَلَّ قَضاءُ يَوْمٍ، وقَدِ اخْتُلِفَ مَعَ ذَلِكَ في صِحَّةِ هَذا الخَبَرِ مِن طَرِيقِ النَّقْلِ، فَثَبَّتَهُ بَعْضُهم ولَمْ يُثَبِّتْهُ الآخَرُونَ.
وقَدْ تُكُلِّمَ أيْضًا في مَعْناهُ، فَقالَ قائِلُونَ: " مَعْناهُ أنَّ الجَمِيعَ إذا اتَّفَقُوا عَلى صَوْمِ يَوْمٍ فَهو صَوْمُهم، وإذا اخْتَلَفُوا احْتاجُوا إلى دَلالَةٍ مِن غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ صَوْمُكم يَوْمَ يَصُومُ بَعْضُكم وإنَّما قالَ صَوْمُكم يَوْمَ تَصُومُونَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي صَوْمَ الجَمِيعِ " وقالَ آخَرُونَ: " هَذا خِطابٌ لِكُلِّ واحِدٍ في نَفْسِهِ وإخْبارٌ بِأنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِما عِنْدَهُ دُونَ ما هو عِنْدَ غَيْرِهِ، فَمَن صامَ يَوْمًا عَلى أنَّهُ مِن رَمَضانَ فَقَدْ أدّى ما كُلِّفَ ولَيْسَ عَلَيْهِ مِمّا عِنْدَ غَيْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأنَّ اللَّهُ تَعالى إنَّما كَلَّفَهُ بِما عِنْدَهُ لا بِما عِنْدَ غَيْرِهِ ولَمْ يُكَلِّفْهُ المُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ أيْضًا " .
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ فِدۡیَةࣱ طَعَامُ مِسۡكِینࣲۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُوا۟ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق