﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ أيْ: مُعَيَّناتٍ بِالعَدِّ أوْ قَلِيلاتٍ؛ لِأنَّ القَلِيلَ يَسْهُلُ عَدُّهُ فَيُعَدُّ، والكَثِيرُ يُؤْخَذُ جُزافًا. قالَ مُقاتِلٌ: كُلُّ ( مَعْدُوداتٍ ) في القُرْآنِ أوْ ( مَعْدُودَةٍ ) دُونَ الأرْبَعِينَ، ولا يُقالُ ذَلِكَ لِما زادَ، والمُرادُ بِهَذِهِ الأيّامِ إمّا رَمَضانُ، واخْتارَ ذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وأبُو مُسْلِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وأكْثَرُ المُحَقِّقِينَ، وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ، فَيَكُونُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - قَدْ أخْبَرَ أوَّلًا أنَّهُ كَتَبَ عَلَيْنا الصِّيامَ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ فَزالَ بَعْضُ الإبْهامِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ مِن قائِلٍ -: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ تَوْطِينًا لِلنَّفْسِ عَلَيْهِ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ ذَلِكَ لَكانَ ذِكْرُ المَرِيضِ والمُسافِرِ تَكْرارًا، وأُجِيبَ بِأنَّهُ كانَ في الِابْتِداءِ صَوْمُ رَمَضانَ واجِبًا عَلى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفِدْيَةِ، فَحِينَ نُسِخَ التَّخْيِيرُ، وصارَ واجِبًا عَلى التَّعْيِينِ كانَ مَظِنَّةً أنْ يُتَوَهَّمَ أنَّ هَذا الحُكْمَ يَعُمُّ الكُلَّ حَتّى يَكُونَ المَرِيضُ والمُسافِرُ فِيهِ كالمُقِيمِ والصَّحِيحِ، فَأُعِيدَ حُكْمُهُما، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ رُخْصَتَهُما باقِيَةٌ بِحالِها لَمْ تَتَغَيَّرْ كَما تَغَيَّرَ حُكْمُ المُقِيمِ والصَّحِيحِ، وأمّا ما وجَبَ صَوْمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وهو ثَلاثَةُ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وهي أيّامُ البِيضِ، عَلى ما رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ، ونُسِبَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أوْ ثَلاثَةٌ مِن كُلِّ شَهْرٍ، ويَوْمُ عاشُوراءَ عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، واتَّفَقَ أهْلُ هَذا القَوْلِ عَلى أنَّ هَذا الواجِبَ قَدْ نُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضانَ، واسْتُشْكِلَ بِأنَّ فَرْضِيَّتَهُ إنَّما ثَبَتَتْ بِما في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنْ كانَ قَدْ عُمِلَ بِذَلِكَ الحُكْمِ مُدَّةً مَدِيدَةً - كَما قِيلَ بِهِ - فَكَيْفَ يَكُونُ النّاسِخُ مُتَّصِلًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ عُمِلَ بِهِ لا يَصِحُّ النَّسْخُ؛ إذْ لا نَسْخَ قَبْلَ العَمَلِ، وأُجِيبَ أمّا عَلى اخْتِيارِ الأوَّلِ، فَبِأنَّ الِاتِّصالَ في التِّلاوَةِ لا يَدُلُّ عَلى الِاتِّصالِ في النُّزُولِ، وأمّا عَلى اخْتِيارِ الثّانِي، فَبِأنَّ الأصَحَّ جَوازُ النَّسْخِ قَبْلَ العَمَلِ فَتَدَبَّرْ.
وانْتِصابُ (أيّامًا) لَيْسَ بِالصِّيامِ كَما قِيلَ لِوُقُوعِ الفَصْلِ بَيْنَهُما بِأجْنَبِيٍّ، بَلْ بِمُضْمَرٍ، دَلَّ هو عَلَيْهِ - أعْنِي صُومُوا - إمّا عَلى الظَّرْفِيَّةِ أوِ المَفْعُولِيَّةِ اتِّساعًا، وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ يُسْتَفادُ مِن كافِ التَّشْبِيهِ، وفِيهِ بَيانٌ لِوَجْهِ المُماثَلَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامَ مُماثِلًا لِصِيامِ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم في كَوْنِهِ ( أيّامًا مَعْدُودات ) أيِ: المُماثَلَةُ واقِعَةٌ بَيْنَ الصِّيامَيْنِ مِن هَذا الوَجْهِ، وهو تَعَلُّقُ كُلٍّ مِنهُما بِمُدَّةٍ غَيْرِ مُتَطاوِلَةٍ، فالكَلامُ مِن قَبِيلِ زَيْدٌ كَعَمْرٍو فِقْهًا، وقِيلَ: نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ كُتُبٍ عَلى الِاتِّساعِ، ورَدُّهُ في البَحْرِ بِأنَّ الِاتِّساعَ مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ وُقُوعِهِ ظَرْفًا لِـ كُتُبِ وذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ الظَّرْفَ مَحَلُّ الفِعْلِ، والكِتابَةُ لَيْسَتْ واقِعَةً في الأيّامِ، وإنَّما الواقِعُ فِيها مُتَعَلِّقُها وهو الصِّيامُ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ يَكْفِي لِلظَّرْفِيَّةِ ظَرْفِيَّةُ المُتَعَلِّقِ، كَما في ( يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ) وبِأنَّ مَعْنى (كُتُبٍ) فُرِضَ، وفَرْضِيَّةُ الصِّيامِ واقِعَةٌ في الأيّامِ ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ مَرَضًا يَعْسُرُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَعَهُ كَما يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى فِيما بَعْدُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ وعَلَيْهِ أكْثَرُ الفُقَهاءِ، وذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وعَطاءٌ والبُخارِيُّ إلى أنَّ المُرَخَّصَ مُطْلَقُ (p-58)المَرَضِ عَمَلًا بِإطْلاقِ اللَّفْظِ، وحُكِيَ أنَّهم دَخَلُوا عَلى ابْنِ سِيرِينَ في رَمَضانَ وهو يَأْكُلُ فاعْتَلَّ بِوَجَعِ إصْبَعِهِ، وهو قَوْلٌ لِلشّافِعِيَّةِ.
﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾: أوْ راكِبُ سَفَرٍ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنهُ، بِأنِ اشْتَغَلَ بِهِ قَبْلَ الفَجْرِ، فَفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ مَن سافَرَ في أثْناءِ اليَوْمِ لَمْ يُفْطِرْ، ولِهَذا المَعْنى أُوثِرَ عَلى ( مُسافِرًا )، واسْتُدِلَّ بِإطْلاقِ السَّفَرِ عَلى أنَّ القَصِيرَ وسَفَرَ المَعْصِيَةِ مُرَخِّصٌ لِلْإفْطارِ، وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى تَقْيِيدِهِ بِالمُباحِ وما يَلْزَمُهُ العُسْرُ غالِبًا، وهو السَّفَرُ إلى المَسافَةِ المُقَدَّرَةِ في الشَّرْعِ.
﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ أيْ: فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةِ أيّامِ المَرَضِ والسَّفَرِ مِن أيّامٍ أُخَرَ إنْ أفْطَرَ، وحُذِفَ الشَّرْطُ والمُضافانِ لِلْعِلْمِ بِهِما، أمّا الشَّرْطُ فَلِأنَّ المَرِيضَ والمُسافِرَ داخِلانِ في الخِطابِ العامِّ، فَدَلَّ عَلى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِما، فَلَوْ لَمْ يَتَقَيَّدِ الحُكْمُ هُنا بِهِ لَزِمَ أنْ يَصِيرَ المَرَضُ والسَّفَرُ اللَّذانِ هُما مِن مُوجِباتِ اليُسْرِ شَرْعًا وعَقْلًا مُوجِبَيْنِ لِلْعُسْرِ، وأمّا المُضافُ الأوَّلُ، فَلِأنَّ الكَلامَ في الصَّوْمِ ووُجُوبِهِ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّهُ لَمّا قِيلَ: ( مَن كانَ مَرِيضًا أوْ مُسافِرًا فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ ) أيْ: أيّامٌ مَعْدُودَةٌ، مَوْصُوفَةٌ بِأنَّها مِن أيّامٍ أُخَرَ، عُلِمَ أنَّ المُرادَ مَعْدُودَةٌ بِعَدَدِ أيّامِ المَرَضِ والسَّفَرِ، واسْتُغْنِيَ عَنِ الإضافَةِ، وهَذا الإفْطارُ مَشْرُوعٌ عَلى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ، فالمَرِيضُ والمُسافِرُ إنْ شاءا صاما وإنْ شاءا أفْطَرا، كَما عَلَيْهِ أكْثَرُ الفُقَهاءِ، إلّا أنَّ الإمامَ أبا حَنِيفَةَ ومالِكًا قالا: الصَّوْمُ أحَبُّ، والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وْالأوْزاعِيُّ قالُوا: الفِطْرُ أحَبُّ، ومَذْهَبُ الظّاهِرِيَّةِ وُجُوبُ الإفْطارِ، وأنَّهُما إذا صاما لا يَصِحُّ صَوْمُهُما؛ لِأنَّهُ قَبْلَ الوَقْتِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الآيَةِ، ونُسِبَ ذَلِكَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ وأبِي هُرَيْرَةَ وجَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - وبِهِ قالَ الإمامِيَّةُ، وأطالُوا بِالِاسْتِدْلالِ عَلى ذَلِكَ بِما رَوَوْهُ عَنْ أهْلِ البَيْتِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى جَوازِ القَضاءِ مُتَتابِعًا ومُتَفَرِّقًا، وأنَّهُ لَيْسَ عَلى الفَوْرِ، خِلافًا لِداوُدَ، وعَلى أنَّ مَن أفْطَرَ رَمَضانَ كُلَّهُ قَضى ( أيّامًا مَعْدُودَةً )، فَلَوْ كانَ تامًّا لَمْ يُجْزِهِ شَهْرٌ ناقِصٌ أوْ ناقِصًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَهْرٌ كامِلٌ خِلافًا لِمَن خالَفَ في الصُّورَتَيْنِ، واحْتَجَّ بِها أيْضًا مَن قالَ: لا فِدْيَةَ مَعَ القَضاءِ، وكَذا مَن قالَ: إنَّ المُسافِرَ إذا أقامَ والمَرِيضَ إذا شُفِيَ أثْناءَ النَّهارِ لَمْ يَلْزَمْهُما الإمْساكُ بَقِيَّتَهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ – تَعالى - إنَّما أوْجَبَ عِدَّةً مِن أيّامٍ أُخَرَ وهُما قَدْ أفْطَرا، فَحُكْمُ الإفْطارِ باقٍ لَهُما، ومِن حُكْمِهِ أنْ لا يَجِبَ أكْثَرُ مِن يَوْمٍ، ولَوْ أمَرْناهُ بِالإمْساكِ ثُمَّ القَضاءِ لَأوْجَبْنا بَدَلَ اليَوْمِ أكْثَرَ مِنهُ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، وقُرِئَ ( فَعِدَّةً ) بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِمَحْذُوفٍ؛ أيْ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً، ومَن قَدَّرَ الشَّرْطَ هُناكَ قَدَّرَهُ هُنا، ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أيْ: وعَلى المُطِيقِينَ لِلصِّيامِ إنْ أفْطَرُوا ﴿فِدْيَةٌ﴾ أيْ: إعْطاؤُها.
﴿طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ هي قَدْرُ ما يَأْكُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ، وهي نِصْفُ صاعٍ مِن بُرٍّ أوْ صاعٌ مِن غَيْرِهِ عِنْدَ أهْلِ العِراقِ، ومُدٌّ عِنْدَ أهْلِ الحِجازِ لِكُلِّ يَوْمٍ، وكانَ ذَلِكَ في بَدْءِ الإسْلامِ، لِما أنَّهُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ، وما كانُوا مُتَعَوِّدِينَ لَهُ، فاشْتَدُّ عَلَيْهِمْ، فَرُخِّصَ لَهم في الإفْطارِ والفِدْيَةِ، أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ والطَّبَرانِيُّ وآخَرُونَ «عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ كانَ مَن شاءَ مِنّا صامَ، ومَن شاءَ أفْطَرَ، ويُفْتَدى فِعْلُ ذَلِكَ حَتّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَها فَنَسَخَتْها ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾» وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: ( يُطَيِّقُونَهُ ) بِضَمِّ الياءِ الأُولى وتَشْدِيدِ الياءِ الثّانِيَةِ، ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ: ( يُطَّيِّقُونَهُ ) بِتَشْدِيدِ الطّاءِ والياءِ الثّانِيَةِ، وكِلْتا القِراءَتَيْنِ عَلى صِيغَةِ المَبْنِي لِلْفاعِلِ، عَلى أنَّ أصْلَهُما: ( يُطَيْوِقُونَهُ ) ( ويَتَطَيْوَقُونَهُ ) مِن فَيْعَلَ وتَفَيْعَلَ، لا مِن فَعَلَ وتَفَعَّلَ، وإلّا لَكانَ بِالواوِ دُونَ الياءِ؛ لِأنَّهُ مِن طَوَّقَ وهو واوِيٌّ، وقَدْ جُعِلَتِ الواوُ ياءً فِيهِما، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ، ومَعْناهُما ( يَتَكَلَّفُونَهُ )، وعائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها -: ( يُطَوِّقُونَهُ ) بِصِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ مِنَ التَّفْعِيلِ؛ أيْ: يُكَلِّفُونَهُ أوْ يُقَلِّدُونَهُ مِنَ الطَّوْقِ بِمَعْنى الطّاقَةِ أوِ القِلادَةِ، ورُوِيَتِ الثَّلاثُ (p-59)عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أيْضًا، وعَنْهُ ( يَتَطَوَّقُونَهُ ) بِمَعْنى يَتَكَلَّفُونَهُ أوْ يَتَقَلَّدُونَهُ ويُطَوِّقُونَهُ - بِإدْغامِ التّاءِ في الطّاءِ - وذَهَبَ إلى عَدَمِ النَّسْخِ، كَما رَواهُ البُخارِيُّ وأبُو داوُدَ وغَيْرُهُما، وقالَ: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في الشَّيْخِ الكَبِيرِ الهَرِمِ والعَجُوزِ الكَبِيرَةِ الهَرِمَةِ. ومِنَ النّاسِ مَن لَمْ يَقُلْ بِالنَّسْخِ أيْضًا عَلى القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ، وفَسَّرَها بِـ ( يَصُومُونَهُ جَهْدَهم وطاقَتَهم )، وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ ( الوُسْعَ ) اسْمٌ لِلْقُدْرَةِ عَلى الشَّيْءِ عَلى وجْهِ السُّهُولَةِ، ( والطّاقَةُ ) اسْمٌ لِلْقُدْرَةِ مَعَ الشِّدَّةِ والمَشَقَّةِ، فَيَصِيرُ المَعْنى: ( وعَلى الَّذِينَ ) يَصُومُونَهُ مَعَ الشِّدَّةِ والمَشَقَّةِ، فَيَشْمَلُ نَحْوَ الحُبْلى والمُرْضِعِ أيْضًا، وعَلى أنَّهُ مِن أطاقَ الفِعْلَ بَلَغَ غايَةَ طَوْقِهِ أوْ فَرَغَ طَوْقُهُ فِيهِ، وجازَ أنْ تَكُونَ ( الهَمْزَةُ ) لِلسَّلْبِ، كَأنَّهُ سَلَبَ طاقَتَهُ بِأنْ كَلَّفَ نَفْسَهُ المَجْهُودَ، فَسَلَبَ طاقَتَهُ عِنْدَ تَمامِهِ، ويَكُونُ مُبالَغَةً في بَذْلِ المَجْهُودِ؛ لِأنَّهُ مُشارِفٌ لِزَوالِ ذَلِكَ - كَما في الكَشْفِ - والحَقُّ أنَّ كُلًّا مِنَ القِراءاتِ يُمْكِنُ حَمْلُها عَلى ما يَحْتَمِلُ النَّسْخَ، وعَلى ما لا يَحْتَمِلُهُ، ولِكُلٍّ ذَهَبَ بَعْضٌ، ورُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ أنَّها قَرَأتْ: ( وعَلى الَّذِينَ لا يُطِيقُونَهُ )، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ بِإضافَةِ ( فِدْيَةٍ ) إلى ( الطَّعامِ )، وجَمْعِ ( المِسْكِينِ )، والإضافَةُ حِينَئِذٍ مِن إضافَةِ الشَّيْءِ إلى جِنْسِهِ كَخاتَمِ فِضَّةٍ؛ لِأنَّ طَعامَ المِسْكِينِ يَكُونُ فِدْيَةً وغَيْرَها، وجَمَعَ المِسْكِينِ؛ لِأنَّهُ جُمِعَ في ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ فَقابَلَ الجَمْعَ بِالجَمْعِ، ولَمْ يَجْمَعْ فِدْيَةً؛ لِأنَّها مَصْدَرٌ، والتّاءُ فِيها لِلتَّأْنِيثِ لا لِلْمَرَّةِ، ولِأنَّهُ لَمّا أضافَها إلى مُضافٍ إلى الجَمْعِ، فُهِمَ مِنها الجَمْعُ.
﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ بِأنْ زادَ عَلى القَدْرِ المَذْكُورِ في ( الفِدْيَةِ )، قالَ مُجاهِدٌ: أوْ زادَ عَلى عَدَدِ مَن يَلْزَمُهُ إطْعامُهُ، فَيُطْعِمُ مِسْكِينَيْنِ فَصاعِدًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ جَمَعَ بَيْنَ الإطْعامِ والصَّوْمِ، قالَهُ ابْنُ شِهابٍ.
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ أيِ: التَّطَوُّعُ أوِ الخَيْرُ الَّذِي تَطَوَّعَهُ، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ الخَيْرَ الأوَّلَ مَصْدَرُ خِرْتَ يا رَجُلَ وأنْتَ خائِرٌ أيْ حَسَنٌ، والخَيْرُ الثّانِي اسْمُ تَفْضِيلٍ، فَيُفِيدُ الحَمْلَ أيْضًا بِلا مِرْيَةَ، وإرْجاعُ الضَّمِيرِ إلى ( مَن ) أيْ: فالمُتَطَوِّعُ خَيْرٌ مِن غَيْرِهِ لِأجْلِ التَّطَوُّعِ لا يَخْفى بَعْدَهُ، ﴿وأنْ تَصُومُوا﴾ أيْ: أيُّها المُطِيقُونَ المُقِيمُونَ الأصِحّاءُ، أوِ المُطَوَّقُونَ مِنَ الشُّيُوخِ والعَجائِزِ، أوِ المُرَخِّصُونَ في الإفْطارِ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ، والمَرْضى والمُسافِرِينَ، وفِيهِ التِفاتٌ مِنَ الغِيبَةِ إلى الخِطابِ جَبْرًا لِكُلْفَةِ الصَّوْمِ بِلَذَّةِ المُخاطَبَةِ، وقَرَأ أُبَيٌّ: ( والصِّيامُ ).
﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ مِنَ الفِدْيَةِ أوْ تَطَوُّعِ الخَيْرِ عَلى الأوَّلِينَ، أوْ مِنهُما ومِنَ التَّأْخِيرِ لِلْقَضاءِ عَلى الأخِيرِ، ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 184﴾ ما في الصَّوْمِ مِنَ الفَضِيلَةِ، وجَوابُ ( إنَّ ) مَحْذُوفٌ ثِقَةً بِظُهُورِهِ؛ أيِ: اخْتَرْتُمُوهُ، وقِيلَ: مَعْناهُ إنْ كُنْتُمْ مِن أهْلِ العِلْمِ عَلِمْتُمْ أنَّ الصَّوْمَ خَيْر لَكم مِن ذَلِكَ، وعَلَيْهِ تَكُونُ الجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِخَيْرِيَّةِ الصَّوْمِ، وعَلى الأوَّلِ تَأْسِيسًا.
{"ayah":"أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ فِدۡیَةࣱ طَعَامُ مِسۡكِینࣲۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُوا۟ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}