الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ جَوازِ الإفْطارِ عَلى اسْمِ المَرَضِ والسَّفَرِ، إلّا أنَّ المَرِيضَ الَّذِي لا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ مَخْصُوصٌ إجْماعًا، ولا يُعْرَفُ لَهُ مَأْخَذٌ أقْوى مِنَ الإجْماعِ. وأطْلَقَ السَّفَرَ ولَمْ يَذْكُرْ لَهُ حَدًّا، والمَسافَةُ القَرِيبَةُ لا تُسَمّى سَفَرًا في العُرْفِ، فَلا جَرَمَ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَحْدِيدِهِ، فَحَدَّهُ أبُو حَنِيفَةَ بِثَلاثَةِ أيّامٍ والشّافِعِيُّ بِسِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، ولِكُلٍّ مَأْخَذٌ.قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾: (p-٦٣)قالَ الشّافِعِيُّ: ظاهِرُهُ أنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إذا لَمْ يَصُومُوا أطْعَمُوا، ونُسِخَ ذَلِكَ في غَيْرِ الحامِلِ والمُرْضِعِ، وهي في حَقِّهِما ظاهِرَةٌ، ومِنهُ قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في المَرِيضِ والمُسافِرِ إنَّهُ يُفْطِرُ ويُطْعِمُ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا صاعًا، ثُمَّ قالَ: وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ . وكانَتْ عائِشَةُ تَقْرَأُ: ”وعَلى الَّذِينَ يُطَوِّقُونَهُ فِدْيَةٌ“ وذَلِكَ في الشَّيْخِ الهَرَمِ. والَّذِي قالَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيهِ نَظَرٌ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ يَتْبَعُ دَلالَةَ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ عَلى المُسافِرِ والمَرِيضِ، لِأنَّ ما عَطَفَ عَلى الشَّيْءِ غَيْرَهُ لا مَحالَةَ، ولَيْسَ يَظْهَرُ أيْضًا حَمْلُهُ عَلى الشَّيْخِ الكَبِيرِ، فَإنَّهُ لَيْسَ مُطِيقًا، بَلْ كانَ مُطِيقًا ثُمَّ عَجَزَ، فَعَلى هَذا قالَ مالِكٌ ورَبِيعَةُ في حَقِّ الشَّيْخِ الكَبِيرِ: لا أرى عَلَيْهِ إطْعامًا فَإنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ، ولَمْ يَرَوُا الفِدْيَةَ قائِمَةً مَقامَ الصَّوْمِ الَّذِي هو عِبادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، ولا أنَّ تَكْلِيفَ الصَّوْمِ لاقاهُ، وهم يَقُولُونَ: الَّذِي نُسِخَ كانَ تَرْكُ الصَّوْمِ إلى الإطْعامِ لا قَضاءُ الصَّوْمِ مَعَ الإطْعامِ، وقَدْ سَمّى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ فِدْيَةً، والفِدْيَةُ ما يَقُومُ مُقامَ ما يُفْدى عَنْهُ، فالجَمْعُ بَيْنَ الفِدْيَةِ والقَضاءِ لا وجْهَ لَهُ، وكانَ الواجِبُ في الأصْلِ أحَدَ سَبَبَيْنِ مِن فِدْيَةٍ أوْ صِيامٍ لا عَلى وجْهِ (p-٦٤)الجَمْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى إيجابِ الجَمْعِ بَيْنَهُما عَلى الحامِلِ أوِ المُرْضِعِ.نَعَمْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في الحامِلِ والمُرْضِعِ عَلَيْهِما الفِدْيَةُ ولا قَضاءَ عَلَيْهِما، فَلَهُ حُجَّةٌ في ظاهِرِ القُرْآنِ في اقْتِصارِهِ عَلى إيجابِ الفِدْيَةِ دُونَ القَضاءِ، فَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً في الأصْلِ عَلى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الفِدْيَةِ والصَّوْمِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَتَناوَلَ الحامِلَ والمُرْضِعَ لِأنَّهُما غَيْرُ مُخَيَّرَيْنِ، لِأنَّهُما إمّا أنْ يَخافا فَعَلَيْهِما الإفْطارُ بِلا تَخْيِيرٍ، أوْ لا يَخافا فَعَلَيْهِما الصِّيامُ بِلا تَخْيِيرٍ، ولا يَجُوزُ أنْ تَتَناوَلَ الآيَةُ فَرِيقَيْنِ: تَقْتَضِي بِظاهِرِها إيجابَ الفِدْيَةِ، ويَكُونُ المُرادُ في أحَدِ الفَرِيقَيْنِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الإطْعامِ والصِّيامِ، وفي الفَرِيقِ الآخَرِ إمّا الصِّيامُ عَلى وجْهِ الإيجابِ بِلا تَخْيِيرٍ أوِ الفِدْيَةِ بِلا تَخْيِيرٍ، وقَدْ تَناوَلَهُما لَفْظُ الآيَةِ مِن وجْهٍ واحِدٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الآيَةَ لَمْ تَتَناوَلِ الحامِلَ أوِ المُرْضِعَ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ يَدُلُّ عَلى جَوازِ القَضاءِ مُتَتابِعًا ومُتَفَرِّقًا، فَإنَّهُ ذَكَرَ الأيّامَ مُنَكَّرَةً، فَإذا فَرَّقَ فَقَدْ أتى بِما اقْتَضاهُ الأمْرُ، وفَهِمْنا أنَّ تَتابُعَ صَوْمِ رَمَضانَ لِلشَّهْرِ لا لِنَفْسِ الصَّوْمِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إفْسادُ يَوْمٍ مِنهُ مانِعًا صَوْمَ الباقِي، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فَدَلَّ عَلى جَوازِ التَّأْخِيرِ مِن غَيْرِ أنْ يَتَحَدَّدَ بِوَقْتٍ، وهو كالأمْرِ المُطْلَقِ الَّذِي لا يَتَقَيَّدُ بِوَقْتٍ، ويَجُوزُ مُفَرَّقًا ومَجْمُوعًا.والشّافِعِيُّ رَأى تَقْيِيدَ القَضاءِ بِالسَّنَةِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضانَ آخَرَ وقالَ: إذا دَخَلَ رَمَضانُ آخَرَ فَدى عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ، ورَواهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ. فَأمّا ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ رَجُلًا جاءَ إلَيْهِ فَقالَ: مَرِضْتُ رَمَضانَيْنِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: اسْتَمَرَّ بِكَ المَرَضُ أوْ صَحَحْتَ فِيما بَيْنَهُما؟ .قالَ: بَلْ صَحَحْتُ، قالَ: صُمْ رَمَضانَيْنِ، وأطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا.وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ فَرَّطَ في قَضاءِ رَمَضانَ حَتّى أدْرَكَهُ رَمَضانُ آخَرُ؟ قالَ: يَصُومُ الَّذِي أدْرَكَهُ ويُطْعِمُ عَنِ الأوَّلِ كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا مِن تَمْرٍ ولا قَضاءَ عَلَيْهِ، وهَذا يُشْبِهُ مَذْهَبَهُ في الحامِلِ والمُرْضِعِ أنَّهُما يُطْعِمانِ ولا قَضاءَ عَلَيْهِما، وأقْوالُ الصَّحابَةِ عَلى خِلافِ القِياسِ قَدْ يُحْتَجُّ بِها.فَقِيلَ لَهُمْ: فالقَضاءُ بَعْدَ الصَّوْمِ الآخَرِ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ . واللَّفْظُ قَدْ تَناوَلَ الأوْقاتَ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ (p-٦٧)أوْجَبَ القَضاءَ عَلى قَوْمٍ والفِدْيَةَ عَلى قَوْمٍ آخَرِينَ، بَلْ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الحُكْمُ في الكُلِّ واحِدًا، وغايَةُ قَوْلِ الصَّحابِيِّ عَلى خِلافِ القِياسِ، أنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِ تَوْقِيفٌ، مَعَ احْتِمالِ كَوْنِ احْتِجاجِهِ بِالتَّوْقِيفِ فاسِدًا وغَلَطًا، فَظُهُورُ هَذا مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى أوْلى بِالِاعْتِبارِ والِاتِّباعِ. وذَكَرَ داوُدُ الأصْفَهانِيُّ أنَّ قَضاءَ رَمَضانَ يَجِبُ عَلى الفَوْرِ، وأنَّهُ إذا لَمْ يَصُمِ اليَوْمَ الثّانِيَ مِن شَوّالٍ أثِمَ لِأنَّهُ لَوْ ماتَ عَصى، وبَنى عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ وجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَوَجَدَ رَقَبَةً تُباعُ بِثَمَنٍ، فَلَيْسَ لَهُ أنْ يَتَعَدّاها ويَشْتَرِيَ غَيْرَها، لِأنَّ الفَرْضَ عَلَيْهِ أنْ يُعْتِقَ أوَّلَ رَقَبَةٍ يَجِدُها فَلا يَجْزِيهِ غَيْرُها، ولَوْ كانَ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ فَلا يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَها، ولَوْ ماتَ الَّذِي عِنْدَهُ فَلا يَبْطُلُ العِتْقُ كَما يَبْطُلُ فِيمَن نَذَرَ أنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً بِعَيْنِها فَماتَتْ يَبْطُلُ نَذْرُهُ، وذَلِكَ يُفْسِدُ قَوْلَهُ.وقَدْ قالَ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ: إذا ماتَ بَعْدَ مُضِيِّ اليَوْمِ الثّانِي مِن شَوّالٍ لا يَعْصِي عَلى شَرْطِ العَزْمِ. وقالَ الرّازِيُّ أبُو بَكْرٍ إنَّهُ لا يَعْصِي إلى السَّنَةِ القابِلَةِ، فَإنَّ آخِرَ الوَقْتِ مَعْلُومٌ، فَبَنى عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ ماتَ في خِلالِ السَّنَةِ لا يَعْصِي، فَقَدَّرَ القَضاءَ بِالسَّنَةِ، وذَلِكَ خِلافُ قَوْلِ الجَماعَةِ، وجَعَلَهُ كَوَقْتِ الصَّلاةِ لَمّا كانَ التَّأْخِيرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ إلى آخِرِهِ، لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا بِتَأْخِيرِهِ إلى أنْ ماتَ قَبْلَ مُضِيِّ الوَقْتِ، فَكَذَلِكَ قَضاءُ رَمَضانَ. وأجْمَعُوا عَلى وُجُوبِ الفِدْيَةِ إذا ماتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ لا لِكَوْنِهِ (p-٦٨)عاصِيًا، كَما تَجِبُ عَلى الشَّيْخِ الكَبِيرِ، وتَجِبُ الفِدْيَةُ أيْضًا عَلى مَن فاتَهُ صَوْمُ رَمَضانَ وماتَ في أوَّلِ يَوْمٍ مِن شَوّالَ.قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾: اسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ عَلى أنَّ المُسافِرَ لا صَوْمَ عَلَيْهِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّوْمَ لِلْمُسافِرِ في الأيّامِ الأُخَرِ، ولَمْ يُقَدِّرُوا الإضْمارَ مِثْلَ قَوْلِ أكْثَرِ العُلَماءِ: فَأفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ، وهَذا مَذْهَبٌ يُرْوى عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وقالَ بِهِ داوُدُ إلّا أنَّهُ صَحَّ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صامَ في السَّفَرِ». وعَنْ عائِشَةَ «أنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأسْلَمِيَّ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أصُومُ في السَّفَرِ؟ فَقالَ: ”إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ“» .ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وابْنُ عَبّاسٍ وأنَسٌ وجابِرٌ وأبُو الدَّرْداءِ وسَلَمَةُ ابْنُ المُحَبَّقِ صِيامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ في السَّفَرِ، ومَن خالَفَ في هَذا يَدْفَعُ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ . مِن غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ المُفْطِرِ وبَيْنَ الصّائِمِ.ورَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ» .ورَوَوْا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: قالَ (p-٦٩)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الصّائِمُ في السَّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَرِ» . وبِحَدِيثِ أنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى وضَعَ عَنِ المُسافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ والصَّوْمَ، وعَنِ الحامِلِ والمُرْضِعِ» .ومَن يُخالِفُ هَؤُلاءِ يَقُولُ: رَوى جابِرٌ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأى رَجُلًا يُظَلَّلُ عَلَيْهِ والزِّحامُ عَلَيْهِ فَقالَ: ”لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ“»، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ كُلُّ مَن رَوى ذَلِكَ، فَإنَّما حَكى ما ذَكَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ في تِلْكَ الحالِ، وساقَ بَعْضُهم ذِكْرَ السَّبَبِ وحَذَفَهُ بَعْضُهم. وذَكَرَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، «أنَّهم صامُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عامَ الفَتْحِ في رَمَضانَ، ثُمَّ إنَّهُ قالَ لَهُمْ: ”إنَّكم قَدْ دَنَوْتُمْ مِن عَدُوِّكم والفِطْرُ أقْوى لَكم فَأفْطِرُوا“»، فَكانَتْ عَزِيمَةً مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: لَقَدْ رَأيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ أصُومُ قَبْلَ ذَلِكَ وبَعْدَهُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ ورَدَ عَلى سَبَبٍ، وهو حالُ لُزُومِ القِتالِ مَعَ العِلْمِ بِالعَجْزِ عَنْهُ مَعَ فِعْلِ الصَّوْمِ. ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى كُلِّ مَن تَقَدَّمَ وبَيْنَهُمُ المُسافِرُ والمَرِيضُ.ثُمَّ إنَّهُ إذا صامَ أهْلُ بَلَدٍ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا لِلرُّؤْيَةِ، وفي البَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ، فَإنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا. وقالَ قَوْمٌ مِنهُمُ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: إنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِن غَيْرِ (p-٧٠)مُراعاةِ عَدَدِ الأيّامِ. وهَذا بَعِيدٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾، ولَمْ يَقُلْ فَشَهْرٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ. وقَوْلُهُ: ﴿فَعِدَّةٌ﴾ يَقْتَضِي اسْتِيفاءَ عَدَدِ ما أفْطَرَ فِيهِ، ولا شَكَّ في أنَّهُ لَوْ أفْطَرَ بَعْضَ رَمَضانَ، وجَبَ قَضاءُ ما أفْطَرَ بِعَدَدِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حُكْمُ إفْطارِ جَمِيعِهِ في اعْتِبارِ العَدَدِ.وأجْمَعَ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ عَلى أنَّهُ إذا صامَ أهْلُ بَلْدَةٍ ثَلاثِينَ لِلرُّؤْيَةِ وأهْلُ بَلْدَةٍ أُخْرى تِسْعَةً وعِشْرِينَ، أنَّ عَلى الَّذِينَ صامُوا تِسْعَةً وعِشْرِينَ قَضاءَ يَوْمٍ، وأصْحابُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَرَوْنَ ذَلِكَ، إذا كانَتِ المَطالِعُ في البَلْدَتَيْنِ يَجُوزُ أنْ تَخْتَلِفَ. وحُجَّةُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ [البقرة: ١٨٥] وثَبَتَ بِرُؤْيَةِ أهْلِ بَلَدٍ أنَّ العِدَّةَ ثَلاثُونَ فَوَجَبَ عَلى هَؤُلاءِ إكْمالُها، ومُخالِفُهم يَحْتَجُّ بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» الحَدِيثُ، وذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِبارَ عادَةِ كُلِّ قَوْمٍ في بَلَدِهِمْ.ورَوى الشّافِعِيُّ بِإسْنادِهِ «عَنْ كُرَيْبٍ أنَّ أُمَّ الفَضْلِ بِنْتَ الحارِثِ بِعْثَتْهُ إلى مُعاوِيَةَ بِالشّامِ، قالَ: فَقَدِمْتُ الشّامَ، فَقَضَيْتُ حاجَتَها، فاسْتَهَلَّ رَمَضانُ وأنا بِالشّامِ. فَرَأيْنا الهِلالَ لَيْلَةَ الجُمْعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ المَدِينَةَ في آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَألَنِي ابْنُ عَبّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الهِلالَ فَقالَ: مَتى رَأيْتُمُ الهِلالَ؟ فَقُلْتُ: لَيْلَةَ الجُمْعَةِ، فَقالَ: أنْتَ رَأيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، ورَآهُ النّاسُ وصامُوا وصامَ مُعاوِيَةُ، فَقالَ: لَكِنّا رَأيْناهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلا نَزالُ نَصُومُهُ حَتّى يُكْمِلَ الثَّلاثِينَ أوْ نَراهُ، فَقُلْتُ: أوَ لا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعاوِيَةَ وصِيامِهِ؟ قالَ: لا، هَكَذا أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، (p-٧١)فَقِيلَ عَلى هَذا: قَوْلُهُ: ”هَكَذا أمَرَنا“» يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَأوَّلَ فِيهِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب