الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ۝﴾ [الأنفال: ٦٧ ـ ٦٨]. نزَلَتْ هذه الآيةُ في بَدْرٍ، والأُسارى أُسارى بَدْرٍ، والمرادُ بذلك: أنّ الطمعَ في الأَسْرى، والمَيْلَ إلى مِلْكِهم: لا يكونُ إلاَّ بعدَ إثخانٍ في الأرضِ، وهو الظُّهُورُ، كما قالهُ ابنُ عبّاسٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٢).]]، فإنّ الأُمَّةَ لو مالتْ في زمنِ قِلَّتِها وضَعْفِها إلى الإكثارِ مِن الأَسْرِ والسَّبْيِ، رَكِنَتْ إلى دُنْياها، وغفَلَتْ عن عدوِّها، لأنّ في الأُسارى طمعًا في مِلْكِهم ونفعِهم وبيعِهم. الغايةُ مِن الجهادِ والأَسْرِ: ولم يكنِ الأَسْرُ مَقْصَدًا في ذاتِهِ في الإسلامِ، وإنّما جاء تَبَعًا لشريعةِ الجهادِ، وشريعةُ الجهادِ لم تكنْ مقصودةً لِذاتِها، وإنّما جاءَ تَبَعًا لكفرِ الأُممِ وإعراضِها عن عبادةِ اللهِ، كما قال تعالى: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٣]، وإذا اختَلَّتْ أولويّاتُ المَقاصدِ الشرعيَّةِ، اختَلَّ ثَباتُ الأمَّةِ، لمُخالَفَتِها لأمرِ ربِّها، ولهذا لمّا أسَرَ النبيُّ ﷺ مِن قريشٍ في غزوةِ بَدْرٍ، وكانتْ أوَّلَ غَزَواتِهم الظاهرةِ، ولم تَعرِفِ الأُمَمُ بَأْسَهم، ولم يكنْ لهم ظهورٌ ورُعْبٌ في نفوسِ عدوِّهم، وشاوَرَ النبيُّ ﷺ أصحابَهُ فيهم، وكان أكثرُهم يرَوْنَ الفِداءَ بالمالِ، فمالَ لذلك النبيُّ ﷺ ـ: عاتَبَ اللهُ أولئك الذين أشارُوا إلى الفِدْيةِ، وكان عمرُ ممَّن قال بالقتلِ، وكان أبو بكرٍ ممَّن قال بالفِداءِ، وكان النبيُّ ﷺ قد أدّى ما عليه مِن الشُّورى والأخذِ بما عليه عامَّةُ المُسلِمينَ أو أكثرُهم بما لم يكنْ فيه نصٌّ بيِّنٌ، فإنّ الذين قالوا بالإثخانِ بالقتلِ قِلَّةٌ، كعمرَ بنِ الخطّابِ، وسعدِ بنِ مُعاذٍ، وعبدِ اللهِ بنِ رَواحَةَ. وفي «الصحيحِ»، قال ابنُ عبّاسٍ: «لمّا أسَرُوا الأُسارى، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ: (ما تَرَوْنَ فِي هَؤُلاءِ الأُسارى؟)، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: يا نَبِيَّ اللهِ، هُمْ بَنُو العَمِّ والعَشِيرَةِ، أرى أنْ تَأْخُذَ مِنهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونَ لَنا قُوَّةً عَلى الكُفّارِ، فَعَسى اللهُ أنْ يَهْدِيَهُمْ لِلإسْلامِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (ما تَرى يا بْنَ الخَطّابِ؟)، قُلْتُ: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ، ما أرى الَّذِي رَأى أبُو بَكْرٍ، ولَكِنِّي أرى أنْ تُمَكِّنّا فَنَضْرِبَ أعْناقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِن عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وتُمَكِّنِّي مِن فُلانٍ ـ نَسِيبًا لِعُمَرَ ـ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإنَّ هَؤُلاءِ أئِمَّةُ الكُفْرِ وصَنادِيدُها، فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ما قالَ أبُو بَكْرٍ، ولَمْ يَهْوَ ما قُلْتُ، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ جِئْتُ، فَإذا رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكْرٍ قاعِدَيْنِ يَبْكِيانِ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أخْبِرْنِي مِن أيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أنْتَ وصاحِبُكَ؟ فَإنْ وجَدتُّ بُكاءً بَكَيْتُ، وإنْ لَمْ أجِدْ بُكاءً تَباكَيْتُ لِبُكائِكُما، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (أبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أصْحابُكَ مِن أخْذِهِمُ الفِداءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذابُهُمْ أدْنى مِن هَذِهِ الشَّجَرَةِ) ـ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِن نَبِيِّ اللهِ ﷺ ـ وأَنْزَلَ اللَّهُ عزّ وجل: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا﴾ [الأنفال: ٦٩]، فَأَحَلَّ اللهُ الغَنِيمَةَ لَهُمْ»[[أخرجه مسلم (١٧٦٣).]]. والمرادُ بقولِه تعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا﴾، يعني: مَتاعَها وما يخرُجُ منها مِن منافعَ فتُقدِّمونَهُ على أمرِ اللهِ وما يَتْبَعُهُ مِن نصيبِ الآخِرةِ، ولذا قال تعالى: ﴿واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾، وقد فسَّرَ عرَضَ الدُّنيا بخَراجِها: عِكْرِمةُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٣).]] وغيرُهُ، وقال ابنُ إسحاقَ: هو الفِداءُ يأخُذُهُ الرجُلُ[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٧٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٣).]]. والمرادُ بقولِه تعالى: ﴿واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾: الإثخانُ في العدوِّ بقتلِه، حتى يظهَرَ الإسلامُ، وتَعْلُوَ رايتُه، ويَدِينَ الناسُ له، وقال محمدُ بنُ إسحاقَ في قولِهِ تعالى: ﴿واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾: أي: بقتلِهم لظُهُورِ الذي يُريدونَ إطفاءَهُ الذي به تُدرَكُ الآخِرةُ[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٧٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٣).]]. وقولُهُ تعالى: ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾، يعني بالكتابِ: ما أحَلَّ اللهُ لهم به الغنائمَ مِن قبلُ، فاللهُ أحَلَّ لهم العمومَ ولم يَستَثْنِ، وأمَرَ بنُصْرةِ الدِّينِ وإظهارِهِ والإثخانِ في العدوِّ، فاجتمَعَ عمومانِ لدى الصحابةِ، فقدَّمُوا العمومَ في حِلِّ الغنيمةِ، فجعَلَ اللهُ ذلك عُذْرًا لهم عن نزولِ عقابِهِ عليهم: ﴿لَمَسَّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ۝﴾، والمرادُ بقولِه: ﴿أخَذْتُمْ﴾، يعني: الأَسْرى، وفي هذا أنّه إنِ اجتمَعَ نصّانِ عامّانِ في نازلةٍ، عُذِرَ المُجتهِدُ عندَ اختيارِهِ واحدًا منهما، ولو بانَ خَطَؤُهُ بعدَ ذلك. والنفوسُ مهما بلَغَتْ مِن الكمالِ والفضلِ والعِلْمِ عندَ احتمالِ النصِّ لأمرَيْنِ، أو اجتماعِ نصَّيْنِ عامَّيْنِ ـ قد تَمِيلُ إلى ترجيحِ دليلٍ يُخالِفُ الصوابَ، ولا تَشْعُرُ بمَيْلِها، وهذا كان في هذه النازِلةِ مع جمهورِ الصحابةِ، وكان خطؤُهم مغفورًا، وفضلُهم محفوظًا. وفي هذه الآيةِ: فضلُ أهلِ بَدْرٍ، بأنّ اللهَ عذَرَهُمْ لأنّهم أخَذُوا بدليلٍ مِن الكتابِ سابقٍ، ولم يَتَّهِمْهُمُ اللهُ بالهَوى والعَمْدِ بالمخالَفةِ، ولو كان الدليلُ السابقُ متمحِّضَ الوضوحِ، لم يُعاتِبْهم اللهُ، وإنّما كان غالبًا في وضوحِه في نفوسِهم عندَ قولِهم وفيه ميلٌ خفيٌّ للدُّنيا لم يُدرِكُوهُ، فنزَلَ العتابُ لهذا الميلِ، ودُفِعَ العذابُ بما غلَبَ عليهم مِن أخذٍ بالدليلِ. وقد فسَّرَ بعضُ السلفِ قولَهُ تعالى: ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾، يعني: ممّا كتَبَهُ لأهلِ بَدْرٍ مِن المغفِرةِ والسعادةِ التي لا يَعْقُبُها عذابٌ وشقاءٌ، وبهذا فسَّرَهُ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وعطاءٌ والحسنُ ومجاهِدٌ[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٨٠)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٥).]]. ومنهم ـ كابنِ عبّاسٍ والحسنِ[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٧٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٤).]] ـ: مَن حمَلَ الكتابَ على أمِّ الكتابِ، وأنّ الغنائمَ لم تَحِلَّ قبلَ ذلك، فأخَذُوها قبلَ نزولِ حِلِّها، وفي الكتابِ سبَقَ أنّها ستَحِلُّ لهم بعدَ ذلك، فلم يُعذِّبْهُمُ اللهُ لأجلِ ذلك. ومـنـهـم: مَن حمَلَ الكتابَ على أنّ اللهَ لا يعذِّبُ أحدًا إلاَّ بعدَ قيامِ الحُجَّةِ عليه، وأنّه لا يُعاقِبُهُ حتى يبيِّنَ له ويَتقدَّمَ إليه، قالهُ مجاهِدٌ[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٨١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٥).]]. وفي هذه الآيةِ: أنّ القوَّةَ المعنويَّةَ والهَيْبةَ في نفوسِ الكفارِ أعظَمُ نفعًا للمُسلِمينَ مِن القوَّةِ الماديَّةِ، فقد فادى الصحابةُ كلَّ واحدٍ مِن أسرى بَدْرٍ بأربعةِ آلافِ دِرهمٍ، ومع ذلك فَضَّلَ اللهُ لهم القتلَ والإثخانَ، لأنّ فيه إضعافًا للكافِرِين، وهيبةً وقوةً للمؤمنِين. الأَسْرُ والسَّبْيُ في زمنِ الضَّعْفِ: والجهادُ في زمنِ الضَّعفِ وعدمِ القوَّةِ لا ينبغي معه للمؤمِنِينَ الاستكثارُ مِن الأَسْرِ والسَّبْيِ، وإنّما الإثخانُ في العدوِّ بالقتلِ، فإنّ الاستكثارَ من الأَسْرِ يُؤدِّي إلى الرُّكُونِ إلى الدُّنيا، وطُولِ أمَدِ الضَّعْفِ، وتأخُّرِ النَّصْرِ، والتعلُّقِ بالدُّنيا، وقد جاء عن ابنِ عبّاسٍ في قولِه: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾، قال: «ذلك يومَ بدرٍ والمُسلِمونَ يومئذٍ قليلٌ، فلمّا كَثُرُوا واشتَدَّ سُلْطانُهم، أنزَلَ اللهُ تبارَكَ وتعالى بعدَ هذا في الأُسارى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾ [محمد: ٤]، فجعَلَ اللهُ النبيَّ والمؤمنينَ في أمرِ الأُسارى بالخِيارِ، إنْ شاؤُوا قتَلُوهم، وإنْ شاؤُوا استعبَدُوهم، وإنْ شاؤُوا فادَوْهُم»[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٧٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٢).]]. ويأتي مزيدُ كلامٍ في حُكْمِ العملِ مع الأَسْرى في سورةِ محمدٍ بإذنِ اللهِ. الجهادُ شريعةُ الأنبياءِ: وفي قولِه تعالى: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ دليلٌ على أنّ الجهادَ شريعةٌ للأنبياءِ قبلَ محمدٍ ﷺ، على اختلافٍ في أحوالِهم، وهذه الآيةُ كقولِهِ ﷺ كما في البخاريِّ: (لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُها حَتّى يَحْكُمَ اللهُ) [[أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (٧٣٦٩).]]، ففي الحديثِ مِن الدَّلالةِ على ما سبَقَ كما في الآيةِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على عمومِ مشروعيَّةِ الجهادِ على الأنبياءِ في قولِهِ تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [٢١٦] مِن البقرةِ، وفي قولِهِ تعالى: ﴿وكَأَيٍّن مِن نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [١٤٦] مِن آلِ عِمرانَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب