الباحث القرآني

«واسْتَشارَ النَّبِيُّ ﷺ الصَّحابَةَ في أُسارى بَدْرٍ، فَأشارَ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ أنْ يَأْخُذَ مِنهم فِدْيَةً تَكُونُ لَهم قُوَّةً عَلى عَدُوِّهِمْ ويُطْلِقَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَهْدِيَهم إلى الإسْلامِ، وقالَ عمر: لا واللَّهِ، ما أرى الَّذِي رَأى أبو بكر، ولَكِنْ أرى أنْ تُمَكِّنَنا فَنَضْرِبَ أعْناقَهُمْ، فَإنَّ هَؤُلاءِ أئِمَّةُ الكُفْرِ وصَنادِيدُها، فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما قالَ أبو بكر، ولَمْ يَهْوَ ما قالَ عمر، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ أقْبَلَ عمر، فَإذا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْكِي هو وأبو بكر، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! مِن أيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أنْتَ وصاحِبُكَ، فَإنْ وجَدْتُ بُكاءً بَكَيْتُ، وإنْ لَمْ أجِدْ بُكاءً تَباكَيْتُ لِبُكائِكُما؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أصْحابُكَ مِن أخْذِهِمُ الفِداءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذابُهم أدْنى مِن هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ﴾. وَقَدْ تَكَلَّمَ النّاسُ، في أيِّ الرَّأْيَيْنِ كانَ أصْوَبَ، فَرَجَّحَتْ طائِفَةٌ قَوْلَ عمر لِهَذا الحَدِيثِ، ورَجَّحَتْ طائِفَةٌ قَوْلَ أبي بكر، لِاسْتِقْرارِ الأمْرِ عَلَيْهِ، ومُوافَقَتِهِ الكِتابَ الَّذِي سَبَقَ مِنَ اللَّهِ بِإحْلالِ ذَلِكَ لَهُمْ، ولِمُوافَقَتِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي غَلَبَتِ الغَضَبَ، ولِتَشْبِيهِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ في ذَلِكَ بِإبْراهِيمَ وعِيسى، وتَشْبِيهِهِ لعمر بِنُوحٍ ومُوسى، ولِحُصُولِ الخَيْرِ العَظِيمِ الَّذِي حَصَلَ بِإسْلامِ أكْثَرِ أُولَئِكَ الأسْرى، ولِخُرُوجِ مَن خَرَجَ مِن أصْلابِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، ولِحُصُولِ القُوَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالفِداءِ، ولِمُوافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لأبي بكر أوَّلًا، ولِمُوافَقَةِ اللَّهِ لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الأمْرُ عَلى رَأْيِهِ، ولِكَمالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ، فَإنَّهُ رَأى ما يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ آخِرًا، وغَلَّبَ جانِبَ الرَّحْمَةِ عَلى جانِبِ العُقُوبَةِ. قالُوا: وأمّا بُكاءُ النَّبِيِّ ﷺ، فَإنَّما كانَ رَحْمَةً لِنُزُولِ العَذابِ لِمَن أرادَ بِذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيا، ولَمْ يُرِدْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ولا أبو بكر، وإنْ أرادَهُ بَعْضُ الصَّحابَةِ، فالفِتْنَةُ كانَتْ تَعُمُّ ولا تُصِيبُ مَن أرادَ ذَلِكَ خاصَّةً، كَما هُزِمَ العَسْكَرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِ أحَدِهِمْ: (لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ) وبِإعْجابِ كَثْرَتِهِمْ لِمَن أعْجَبَتْهُ مِنهُمْ، فَهُزِمَ الجَيْشُ بِذَلِكَ فِتْنَةً ومِحْنَةً، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الأمْرُ عَلى النَّصْرِ والظَّفَرِ واللَّهُ أعْلَمُ. «واسْتَأْذَنَهُ الأنْصارُ أنْ يَتْرُكُوا للعباس عَمِّهِ فِداءَهُ، فَقالَ: لا تَدَعُوا مِنهُ دِرْهَمًا». واسْتَوْهَبَ مِن سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ جارِيَةً نَفَّلَهُ إيّاها أبو بكر في بَعْضِ مَغازِيهِ فَوَهَبَها لَهُ، فَبَعَثَ بِها إلى مَكَّةَ، فَفَدى بِها ناسًا مِنَ المُسْلِمِينَ، وفَدى رَجُلَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِن عُقَيْلٍ، ورَدَّ سَبْيَ هَوازِنَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ القِسْمَةِ، واسْتَطابَ قُلُوبَ الغانِمِينَ، فَطَيَّبُوا لَهُ، وعَوَّضَ مَن لَمْ يُطَيِّبْ مِن ذَلِكَ بِكُلِّ إنْسانٍ سِتَّ فَرائِضَ، وقَتَلَ عقبة بن أبي معيط مِنَ الأسْرى، وقَتَلَ النضر بن الحارث لِشِدَّةِ عَداوَتِهِما لِلَّهِ ورَسُولِهِ. وَذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ ناسٌ مِنَ الأسْرى لَمْ يَكُنْ لَهم مالٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِداءَهم أنْ يُعَلِّمُوا أوْلادَ الأنْصارِ الكِتابَةَ» وهَذا يَدُلُّ عَلى جَوازِ الفِداءِ بِالعَمَلِ، كَما يَجُوزُ بِالمالِ. وَكانَ هَدْيُهُ أنَّ مَن أسْلَمَ قَبْلَ الأسْرِ، لَمْ يُسْتَرَقَّ، وكانَ يَسْتَرِقُّ سَبْيَ العَرَبِ، كَما يَسْتَرِقُّ غَيْرَهم مِن أهْلِ الكِتابِ، «وَكانَ عِنْدَ عائشة سَبِيَّةٌ مِنهم فَقالَ: أعْتِقِيها فَإنَّها مِن ولَدِ إسْماعِيلَ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب