الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ما ننسخ من آية﴾ : ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. [[كان في المطبوعة: "ما نسخ من آية إلى غيره فنبد له"، والزيادة من تفسير ابن كثير ١: ٢٧٣.]] وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. * * * وأصل"النسخ" من"نسخ الكتاب"، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. [[في المطبوعة: "عنه إلى غيره"، وفي تفسير ابن كثير: "ونقل عبارة إلى غيرها". والصواب ما أثبت.]] فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك، أو محي أثرها، فعفِّي ونسي، [[في المطبوعة: "أوفر حظها فترك، أو محي أثرها فعفي أو نسي"، وهي جملة حشيت تصحيفا وخلطا. ومراد الطبري أن النسخ، وهو تغير الحكم، قد يكون مع إقرار الخط كما هو، والإتيان بحكم آخر في عبارة أخرى - أو رفع الخط، ونسيان الناس ما حفظوه عند التنزيل. وقوله"عفي"، من قولهم: عفا الأثر يعفو: درس وذهب. وعفاه يعفيه (بالتشديد) : طمسه وأذهبه. هذا والجملة التالية: "إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"، وحديث الحسن الآتي، يدل على صواب ما أثبته في قراءة نص الطبري.]] إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه:"نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، و "النُّسخة" الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول: ١٧٤٥ - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها﴾ ، قال: إن نبيكم ﷺ أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، [[في المطبوعة: "قال أقرئ قرآنا"، سقط منه ما أثبته، وسيأتي على الصواب في الأثر برقم: ١٧٥٤، ومنه زدت هذه الزيادة.]] ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه. * * * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿ما ننسخ﴾ فقال بعضهم بما:- ١٧٤٦ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿ما ننسخ من آية﴾ ، أما نسخها، فقبضها. * * * وقال آخرون بما:- ١٧٤٧ - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ﴿ما ننسخ من آية﴾ ، يقول: ما نبدل من آية. * * * وقال آخرون بما: ١٧٤٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا: ﴿ما ننسخ من آية﴾ ، نثبت خطها، [ونبدل حكمها] . ١٧٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ما ننسخ من آية﴾ ، نثبت خطها، ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود. ١٧٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: ﴿ما ننسخ من آية﴾ نثبت خطها، [ونبدل حكمها] . [[الأثر: ١٧٥٠ - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير ١: ٢٧٣ ثم ٢٧٤.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: ﴿أو ننسها﴾ . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل. أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: ﴿ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها﴾ ، فذلك تأويل:"النسيان". وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٧٥١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله ﷺ الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع. ١٧٥٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها﴾ ، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه ﷺ ما شاء، وينسخ ما شاء. ١٧٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: ﴿ننسها﴾ ، نرفعها من عندكم. ١٧٥٤ - حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: ﴿أو ننسها﴾ ، قال: إن نبيكم ﷺ أقرئ قرآنا، ثم نسيه. [[الأثر: ١٧٥٤ - انظر الأثر السالف: ١٧٤٥ والتعليق عليه.]] * * * وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها: ﴿أو تَنسها﴾ بمعنى الخطاب لرسول الله ﷺ، كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك: ١٧٥٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن القاسم [بن ربيعة] قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ﴿ما ننسخ من آية أو تنسها﴾ ، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: ﴿أو تُنْسها﴾ ، [[في المطبوعة: "أو ننسها". والصواب ما أثبت، وفي ابن كثير ١: ٢٧٥"أو ننساها، ولكن أبا حيان نص في البحر المحيط ١: ٣٣٤ على أن قراءة سعيد"أو تنساها" بغير همزة بضم التاء، وأما ابن خالوية فقد نص في شواذ القراآت: ٩ قال: "أو تنسها" كذلك، إلا أنه لم يسم فاعله. سعيد بن المسيب". فأثبت هذا، لأنها هي رسم ما في نص الطبري. وانظر الآثار الآتية: ١٧٥٦، ١٧٥٧، والمستدرك للحاكم ٢: ٢٤٢.]] قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [[الأثر: ١٧٥٥ - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير ١: ٢٧٥. والقاسم بن ربيعة، هو القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن قانف الثقفي، وربما نسب إلى جده. وهو ابن ابن أخي ليلى بنت قانف الصحابية. روى عن سعد بن أبي وقاص في قوله: "ما ننسخ من آية"، وعنه يعلى بن عطاء العامري. ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: قرأت بخط الذهبي: ما حدث عنه سوى يعلى (تهذيب التهذيب ٨: ٣٢٠) . وانظر رقم: ١٧٥٦، ١٧٥٧.]] [سورة الكهف: ٢٤] . ١٧٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه. [[الأثر: ١٧٥٦ - في المطبوعة: "بن قانف" وهو"قانف" بقاف ثم نون ثم فاء. هكذا نص عليه في الإصابة في ترجمة: "ليلى بنت قانف".]] ١٧٥٧ - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: ﴿ما ننسخ من آية أو تُنسها﴾ فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: ﴿ما ننسخ من آية أو تنسها﴾ يا محمد. ثم قرأ: ﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ و ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ . [[الأثر ١٧٥٧ - انظر الأثرين السالفين. وقال الحاكم في المستدرك ٢: ٢٤٢: "هذا حديث صحيح عى شرط الشيخين، ولم يخرجاه".]] ١٧٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو نُنسها﴾ ، يقول:"ننسها": نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها. * * * والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى"الترك"، من قول الله جل ثناؤه: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] ، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٧٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ﴿أو نَنسها﴾ ، يقول: أو نتركها لا نبدلها. [[الأثر: ١٧٥٩ - في تفسير ابن كثير: "أو ننساها". والصواب ما في الطبري، بفتح النون.]] ١٧٦٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: ﴿أو ننسها﴾ ، نتركها لا ننسخها. ١٧٦١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها﴾ ، قال: الناسخ والمنسوخ. * * * قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:- ١٧٦٢ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿نُنسها﴾ ، نمحها. * * * وقرأ ذلك آخرون: ﴿أو ننسأها﴾ بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى نؤخرها، من قولك:"نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء"، إذا أخرته، وهو من قولهم:"بعته بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد: لعمرك إن الموت ما أَنْسَأ الفتى ... لكالطِّوَل المُرْخى وثِنْياه باليد [[ديوانه: ٣١٨ (من أشعار الستة الجاهليين) من معلقته المشهورة. وروايتهم: "ما أخطأ الفتى". والطول: حبل يطول للدابة لترعى وهي مشدودة فيه. وثنياه" طرفاء. أي إنه لا يفلت من حبال المنية، وإن أخر في أجله. وما أصدق ما قال! ولكننا ننسى!]] يعني بقوله"أنسأ"، أخر. وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٧٦٣ - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو نَنْسأها﴾ ، قال: نؤخرها. ١٧٦٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: ﴿أو ننسأها﴾ ، قال: نُرْجئها. ١٧٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿أو ننسأها﴾ ، نرجئها ونؤخرها. ١٧٦٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل، عن عطية: ﴿أو ننسأها﴾ ، قال: نؤخرها فلا ننسخها. ١٧٦٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي، عن عبيد بن عمير ﴿أو ننسأها﴾ ، إرجاؤها وتأخيرها. هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير،"عن عبيد الأزدي"، وإنما هو عن"علي الأزدي". ١٧٦٨ - حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير أنه قرأها: ﴿ننسأها﴾ . [[الخبران: ١٧٦٧، ١٧٦٨ - أبان الطبري في الإسناد الأول أن شيخه القاسم قال في الإسناد:"عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي"، وبين أن صوابه"عن علي الأزدي". ثم ساق الإسناد الثاني على الصواب. وهو كما قال عبد الله بن كثير الداري المكي: هو القارئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢ /١٤٤. علي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ /١/١٩٣.عبيد بن عمير - بالتصغير فيهما -: هو الليثي الجندعي المكي، ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة، وأثنى عليه الناس خيرا في مجلس ابن عمر، في المسند: ٥٣٥٩. مترجم في التهذيب، والإصابة ٥: ٧٩، وابن سعد ٥: ٣٤١ - ٣٤٢،وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠٩.]] * * * قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها. * * * وقد قرأ بعضهم ذلك: ﴿ما ننسخ من آية أو تُنسها﴾ . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: ﴿أو نُنسها﴾ ، إلا أن معنى ﴿أو تُنسها﴾ ، أنت يا محمد. * * * وقد قرأ بعضهم: ﴿ما نُنسخ من آية﴾ ، بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من"أنسختك فأنا أنسخك". وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ ﴿تُنسها﴾ أو ﴿تَنسها﴾ لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة. وأولى القراءات في قوله: ﴿أو ننسها﴾ بالصواب، من قرأ: ﴿أو نُنْسها﴾ بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه ﷺ أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها، أن يكون - إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: ﴿ما ننسخ من آية﴾ . قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك، [[قد رد أهل اللغة أن يكون الإنساء بمعنى الترك، وقالوا: إنما يقال نسيت: إذا تركت، لا يقال: أنسيت، تركت. وانظر ما جاء في ذلك في اللسان (نسي) ، وسائر كتب التفسير.]] ومعنى "النَّساء" الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك. * * * وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: ﴿أو نَنْسها﴾ ، إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله ﷺ نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٨٦] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم. * * * قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله ﷺ وأصحابه بنحو الذي قلنا. ١٧٦٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا:"بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا". ثم إن ذلك رفع. [[الحديث: ١٧٦٩ - يزيد بن زريع - بضم الزاي - العيشي: ثقة حافظ حجة، روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من الكبار. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٣٥، وابن سعد ٧ / ٢ / ٤٤ وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٦٣ - ٢٦٥. وسعيد: هو ابن أبي عروبة. وهذا الحديث مختصر من حديث لأنس، في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة. ورواه الأئمة عن أنس، من أوجه مختلفة. فمن ذلك: أنه رواه البخاري ٧: ٢٩٧ (فتح الباري) ، عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، بهذا الإسناد. وفي آخره: "قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا، أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا". وروى مسلم ١: ١٨٧ - ١٨٨، من رواية مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وانظر تفصيل ذلك في تاريخ ابن كثير٤: ٧١ - ٧٤.]] ١٧٧٠ - والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون:"لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". ثم رفع. [[الحديث: ١٧٧٠ - ذكره الطبري تعليقا. وهو جزء من حديث طويل، رواه مسلم ١: ٢٨٦، من حديث أبي موسى الأشعري. وذكره السيوطي في الدر المنثور١: ١٠٥، ونسبه أيضًا لابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل. وقد أفاض السيوطي في الإتقان ٢: ٢٩ - ٣٢ (طبعة المطبعة الموسوية بمصر سنة ١٢٨٧) - في هذا البحث، ونقل روايات كثيرة فيه.]] وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه ﷺ بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز. وأما قوله: ﴿ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك﴾ ، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: ٦-٧] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله. فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. [[في المطبوعة: "قد كان آتى نبيه بعض ما ننسخ"، والصواب ما أثبت.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿نأت بخير منها أو مثلها﴾ . فقال بعضهم بما:- ١٧٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿نأت بخير منها أو مثلها﴾ ، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم. * * * وقال آخرون بما: ١٧٧٢ - حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿نأت بخير منها أو مثلها﴾ ، يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، [[في تفسير ابن كثير: ١: ٢٧٥"فيها رخصة" مكان: "فيها رحمة".]] فيها أمر، فيها نهي. * * * وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. * ذكر من قال ذلك: ١٧٧٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿نأت بخير منها﴾ ، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثلها، أو مثل التي تركناها. * * * "فالهاء والألف" اللتان في قوله: ﴿منها﴾ - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله: ﴿ما ننسخ من آية﴾ . و"الهاء والألف" اللتان في قوله: ﴿أو مثلها﴾ ، عائدتان على"الهاء والألف" اللتين في قوله: ﴿أو ننسها﴾ . * * * وقال آخرون بما:- ١٧٧٤ - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: ﴿ننسها﴾ : نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها. [[الأثر: ١٧٧٤ - مضى شطره برقم: ١٧٥٣.]] ١٧٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿أو نُنسها﴾ ، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها. [[الأثر: ١٧٧٥ - مضى شطره برقم: ١٧٥٨.]] ١٧٧٦ - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود مثله. * * * والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم = وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: ﴿نأت بخير منها﴾ . لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى"المثل" الذي قال جل ثناؤه: ﴿أو مثلها﴾ . * * * وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها﴾ : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر"الآية" من ذكر"حكمها". وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: ٩٣] ، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك. [[انظر ما سلف من هذا الجزء ٢: ٣٥٧ - ٣٦٠.]] * * * فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم -أيها المؤمنون- حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب. * * * فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجلَ﴾ ، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها﴾ - لذلك نظير؟ قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: ﴿نأت بخير منها أو مثلها﴾ ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض. [[من شاء أن يرى كيف كان أبو جعفر رضي الله عنه يبصر معنى كل حرف، متحريا للحق والصواب حريصا على دلالة كل كلمة، فليقرأ أمثال هذا القول فيما مضى وفيما يستقبل.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم = عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة = وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير. * * * ومعنى قوله: ﴿قدير﴾ في هذا الموضع: قوي. يقال منه:"قد قدرت على كذا وكذا"، إذا قويت عليه"أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا ومقدرة"، وبنو مرة من غطفان تقول:"قدِرت عليه" بكسر الدال. [[انظر ما سلف ١: ٣٦١.]] فأما من"التقدير" من قول القائل:"قدرت الشيء"، فإنه يقال منه"قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا". * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) ﴾ قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله ﷺ يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟ قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا، فيقول أحدهما لصاحبه:"ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ " بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه، يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك. * * * قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه: ﴿ألم تعلم﴾ ، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات، وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي ﷺ، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: ﴿لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا﴾ . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: ﴿وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي ﷺ بقوله: ﴿ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض﴾ . لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله جل ثناؤه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ١-٢] ، فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي ﷺ. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله ﷺ: إلى السراج المنير أحمد، لا ... يَعْدِلني رغبة ولا رهب [[الهاشميات: ٣٤، والحيوان للجاحظ ٥: ١٧٠ - ١٧١.]] عنه إلى غيره ولو رفع الن ... اس إليّ العيونُ وارتقبوا [["عنه إلى غيره" متعلق بقوله: لا يعدلني. . "، في البيت قبله.]] وقيل: أفرطتَ! بل قصدتُ ولو ... عنفني القائلون أو ثَلَبُوا [[أفرطت: أي جاوزت الحد. و"قصدت" من القصد: وهو العدل بين الإفراط والتقصير. والثلب: العيب والذم.]] لج بتفضيلك اللسان، ولو ... أكثر فيك الضِّجاج واللجَب [[قوله"فيك" أي بسببك ومن أجلك. والضجاج مصدر: ضاجه يضاجه (بتشديد الجيم) مضاجة وضجاجا: وهو المشاغبة مع الصياح والضجيج. واللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها طلبا للغلبة.]] أنت المصفي المحض المهذب في الن ... سبة، إن نص قومَك النسب [[هذب الشيء: نقاء وخلصه وطهره من كل ما يعيبه. وقوله"المهذب في النسبة"، أي المهذب النسبة، وأدخل"في" للتوكيد، بمعنى الزيادة. ونص الشيء: رفعه وأظهره وأبانه. يعني أبان فضلهم على غيرهم.]] فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي ﷺ، وهو قاصد بذلك أهل بيته، فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي ﷺ، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي ﷺ وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله. [[من شاء أن يعرف فضل ما بين عقلين من عقول أهل الذكاء والفطنة، فلينظر إلى ما بين قول أبي جعفر في حسن تأتيه، وبين قول الجاحظ في استطالته بذكائه حيث يقول في كتابه الحيوان ٥: ١٦٩ - ١٧١. ومن المديح الخطأ، الذي لم أر قط أعجب منه قول الكميت بن زيد، وهو يمدح النبي ﷺ: فلو كان مديحه لبني أمية لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أو لو مدح به بعض بني هاشم، لجاز أن يعترض عليه بعض بني أمية، أو لو مدح أبا بلال الخارجي لجاز أن تعيبه العامة، أو لو مدح عمرو بن عبيد لجاز أن يعيبه المخالف، أو لو مدح المهلب، لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف، فأما مديح النبي ﷺ. فمن هذا الذي يسوؤه ذلك؟ " ثم أنشد الأبيات السالفة، وقال:"ولو كان لم يقل فيه عليه السلام إلا مثل قوله: وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به وله أهل بذلك يثرب لقد غيبوا برا وحزما ونائلا ... عشية واراك الصفيح المنصب فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب، لما كان بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا؟ ". والجاحظ تأخذ قلمه أحيانا مثل الحكة، لا تهدأ من ثوراتها عليه حتى يشتفى منها ببعض القول، وببعض الاستطالة، وبفرط العقل! ومع ذلك، فإن النقاد يتبعون الجاحظ ثقة بفضله وعقله، فربما هجروا من القول ما هو أولى، فتنة بما يقول.]] وكما قال جميل بن معمر: ألا إن جيراني العشية رائح ... دعتهم دواع من هوى ومنادح [[لم أجد البيت فيما طبع من شعر جميل، ولا فيما جمعته منه. والمنادح: البلاد الواسعة البعيدة. كأنهما جمع مندوحة، حذفت ياؤه. وقال تميم بن أبي بن مقبل. وإني إذا ملت ركابي مناخها ... ركبت، ولم تعجز على المنادح وربما حسن أن يقال: إنه جمع لا واحد له من لفظه، كمحاسن مشابه، والواحد من ذلك ندح وجمعه أنداح: وهو ما اتسع من الأرض.]] فقال:"ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال:"رائح"، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى: خليلي فيما عشتما، هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي [[الأمالي ٢: ٧٤، والأغاني ١: ١١٧، ٧: ١٤٠، وهي قصيدة من جيد شعر جميل.]] وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها. فكذلك قوله: ﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض﴾ ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي ﷺ، فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك. [[انظر ما سيأتي بعد قليل: ٤٩٩ - ٥٠٠.]] * * * أما قوله: ﴿له ملك السموات والأرض﴾ ولم يقل: ملك السموات، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "المِلك". والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان، قالت: "ملك الله الخلق مُلكا". وإذا أرادت الخبر عن "المِلك" قالت: "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا. * * * فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر منها ما أشاء؟ * * * وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد ﷺ على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى، وأنكروا محمدا ﷺ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عما شاء، ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه ﷺ وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قيم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم، والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أعلي حجتكم، وأجعلها عليهم لكم. * * * و"الولي" معناه"فعيل" من قول القائل:"وَلِيت أمر فلان"، إذا صرت قيِّما به،"فأنا أليه، فهو وليه" وقَيِّمُه. ومن ذلك قيل:"فلان ولي عهد المسلمين"، يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين. * * * وأما"النصير" فإنه"فعيل" من قولك:"نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك ونصيرك"، وهو المؤيد والمقوي. * * * وأما معنى قوله: ﴿من دون الله﴾ ، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: يا نفس مالك دون الله من واقي ... وما على حدثان الدهر من باقي [[ديوانه: ٤٣. ومثله قول ابن أحمر: إن نحن إلا أناس أهل سائمة ... وما لهم دونها حرث ولا غُرر يريد: ليس لنا مال سوى السائمة، فليس لنا زرع ولا خيل.]] يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره. * * * فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب