الباحث القرآني

﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها﴾ نَزَلَتْ لَمّا قالَ المُشْرِكُونَ أوِ اليَهُودُ: ألا تَرَوْنَ إلى مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَأْمُرُ أصْحابَهُ بِأمْرٍ ثُمَّ يَنْهاهم عَنْهُ، ويَأْمُرُهم بِخِلافِهِ، ويَقُولُ اليَوْمَ قَوْلًا، ويَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا، ما هَذا القُرْآنُ إلّا كَلامُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، يَقُولُهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ، وهو كَلامٌ يُناقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، والنَّسْخُ في اللُّغَةِ إزالَةُ الصُّورَةِ، أوْ ما في حُكْمِها عَنِ الشَّيْءِ، وإثْباتُ مِثْلِ ذَلِكَ في غَيْرِهِ سَواءٌ كانَ في الأعْراضِ، أوْ في الأعْيانِ، ومِنَ اسْتِعْمالِهِ في المَجْمُوعِ التَّناسُخُ، وقَدِ اسْتُعْمِلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما مَجازًا، وهو أوْلى مِنَ الِاشْتِراكِ، ولِذا رَغِبَ فِيهِ الرّاغِبُ، فَمِنَ الأوَّلِ نَسَخَتِ الرِّيحُ الأثَرَ، أيْ أزالَتْهُ، ومِنَ الثّانِي نَسَخْتُ الكِتابَ إذا أثْبَتَ ما فِيهِ، في مَوْضِعٍ آخَرَ، ونَسْخُ الآيَةِ عَلى ما ارْتَضاهُ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ: بَيانُ انْتِهاءِ التَّعَبُّدِ بِقِراءَتِها كَآيَةِ: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، أوِ الحُكْمِ المُسْتَفادِ مِنها كَآيَةِ ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةً لأزْواجِهِمْ مَتاعًا إلى الحَوْلِ غَيْرَ إخْراجٍ﴾ أوْ بِهِما جَمِيعًا كَآيَةِ: (عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ)، وفِيهِ رَفْعُ التَّأْيِيدِ المُسْتَفادِ مِن إطْلاقِها، ولِذا عَرَّفَهُ بَعْضُهم بِرَفْعِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَهو بَيانٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الشّارِعِ، ورَفْعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا، وخَرَجَ بِقَيْدِ التَّعَبُّدِ الغايَةُ فَإنَّها بَيانٌ لِانْتِهاءِ مُدَّةِ نَفْسِ الحُكْمِ، لا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ، واخْتَصَّ التَّعْرِيفُ بِالأحْكامِ إذْ لا تَعَبُّدَ في الأخْبارِ أنْفُسِها، وإنْساؤُها إذْهابُها عَنِ القُلُوبِ، بِأنْ لا تَبْقى في الحِفْظِ، وقَدْ وقَعَ هَذا، فَإنَّ بَعْضَ الصَّحابَةِ أرادَ قِراءَةَ بَعْضِ ما حَفِظَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ في صَدْرِهِ، فَسَألَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ: «(نُسِخَ البارِحَةَ مِنَ الصُّدُورِ)،» ورَوى مُسْلِمٌ، عَنَ أبِي مُوسى: إنّا كُنّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُها في الطُّولِ والشِّدَّةِ بِبَراءَةٌ، فَأُنْسِيتُها، غَيْرَ أنِّي حَفِظْتُ مِنها: (لَوْ كانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغى وادِيًا ثالِثًا، وما يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلّا التُّرابُ) وكُنّا نَقْرَأُ بِسُورَةٍ نُشَبِّهُها بِإحْدى المُسَبِّحاتِ فَأُنْسِيتُها، غَيْرَ أنِّي حَفِظْتُ مِنها (يا أيُّها الَّذِينُ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبَ شَهادَةً في أعْناقِكم فَتُسْألُونَ عَنْها يَوْمَ القِيامَةِ)، وهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَما كانَ لِغَيْرِهِ أوْ لا؟ فِيهِ خِلافٌ، والذّاهِبُونَ إلى الأوَّلِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ ﴿إلا ما شاءَ اللَّهُ﴾ وهو مَذْهَبُ الحَسَنِ، واسْتَدَلَّ الذّاهِبُونَ إلى الثّانِي بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَشاءُ أنْ يَذْهَبَ بِما أوْحى إلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهَذا قَوْلُ الزَّجّاجِ، ولَيْسَ بِالقَوِيِّ لِجَوازِ حَمْلِ (الَّذِي) عَلى ما لا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ الوَحْيِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: المُرادُ لَمْ نَذْهَبْ بِالجَمِيعِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لا يُنافِي الِاسْتِثْناءَ، وسُبْحانَ مَن لا يَنْسى، وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ النَّسْخَ بِإزالَةِ الحُكْمِ سَواءٌ ثَبَتَ اللَّفْظُ، أوْ لا، والإنْساءَ بِإزالَةِ اللَّفْظِ ثَبَتَ حُكْمُهُ أوْ لا، وفَسَّرَ بَعْضٌ آخَرُ الأوَّلَ بِالإذْهابِ إلى بَدَلٍ لِلْحُكْمِ السّابِقِ، والثّانِيَ بِالإذْهابِ لا إلى بَدَلٍ، وأُورِدَ عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ أنَّ تَخْصِيصَ النَّسْخِ بِهَذا المَعْنى مُخالِفٌ لِلُّغَةِ، والِاصْطِلاحِ، وأنَّ النَّساءَ حَقِيقَةٌ في الإذْهابِ عَنِ القُلُوبِ، والحَمْلُ عَلى المَجازِ بِدُونِ تَعَذُّرِ الحَقِيقَةِ تَعَسُّفٌ، ولَعَلَّ ما يُتَمَسَّكُ بِهِ لِصِحَّةِ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ مِنَ الرِّوايَةِ عَنْ بَعْضِ الأكابِرِ لَمْ يَثْبُتْ، (وما) شَرْطِيَّةٌ جازِمَةٌ (لِنَنْسَخْ) مُنْتَصِبَةٌ بِهِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، ولا تَنافِيَ بَيْنَ كَوْنِها عامِلَةً (p-352)ومَعْمُولَةً لِاخْتِلافِ الجِهَةِ، فَبِتَضَمُّنِها الشَّرْطَ عامِلَةٌ، وبِكَوْنِها اسْمًا مَعْمُولَةٌ، ويُقَدَّرُ لِنَفْسِها جازِمٌ، وإلّا لَزِمَ تَوارُدُ العامِلَيْنِ عَلى مَعْمُولٍ واحِدٍ، وتَدُلُّ عَلى جَوازِ وُقُوعِ ما بَعْدَها، إذِ الأصْلُ فِيها أنْ تَدْخُلَ عَلى الأُمُورِ المُحْتَمَلَةِ، واتَّفَقَتْ أهْلُ الشَّرائِعِ عَلى جَوازِ النَّسْخِ ووُقُوعِهِ، وخالَفَتِ اليَهُودُ غَيْرَ العِيسَوِيَّةِ في جَوازِهِ، وقالُوا: يَمْتَنِعُ عَقْلًا، وأبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ في وُقُوعِهِ فَقالَ: إنَّهُ وإنْ جازَ عَقْلًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ، وتَحْقِيقُ ذَلِكَ في الأُصُولِ، (ومِن آيَةٍ) في مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلى التَّمْيِيزِ، والمُمَيَّزُ (ما) أيْ أيُّ شَيْءٍ، ﴿نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ واحْتِمالُ زِيادَةِ (مِن)، وجَعْلِ آيَةٍ حالًا لَيْسَ بِشَيْءٍ كاحْتِمالِ كَوْنِ (ما) مَصْدَرِيَّةً شَرْطِيَّةً، وآيَةٍ مَفْعُولًا بِهِ، أيْ أيُّ نَسْخٍ نَنْسَخْ آيَةً، بَلْ هَذا الِاحْتِمالُ أدْهى وأمَرُّ، كَما لا يَخْفى، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ عائِدٌ إلى آيَةٍ عَلى حَدِّ: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، لِأنَّ المَنسُوخَ غَيْرُ المَنسِيِّ، وتَخْصِيصُ الآيَةِ بِالذِّكْرِ بِاعْتِبارِ الغالِبِ، وإلّا فالحُكْمُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِها، بَلْ جارٍ فِيما دُونَها أيْضًا، عَلى ما قِيلَ، وقَرَأ طائِفَةٌ وابْنُ عامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ (نُنْسِخْ) مِن بابِ الإفْعالِ، والهَمْزَةُ كَما قالَ أبُو عَلِيٍّ: لِلْوِجْدانِ عَلى صِفَةٍ نَحْوَ أحْمَدْتُهُ، أيْ وجَدَتْهُ مَحْمُودًا، فالمَعْنى ما نَجِدُهُ مَنسُوخًا، ولَيْسَ نَجِدُهُ كَذَلِكَ إلّا بِأنْ نَنْسَخَهُ، فَتَتَّفِقُ القِراءَتانِ في المَعْنى، وإنِ اخْتَلَفا في اللَّفْظِ، وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَوْنَ الهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ، فالفِعْلُ حِينَئِذٍ مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولَيْنِ، والتَّقْدِيرُ ما نُنْسِخُكَ مِن آيَةٍ أيْ ما نُبِيحُ لَكَ نَسْخَهُ، كَأنَّهُ لَمّا نَسَخَها اللَّهُ تَعالى أباحَ لِنَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَرْكَها بِذَلِكَ النَّسْخِ، فَسَمّى تِلْكَ الإباحَةَ إنْساخًا، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ الإنْساخَ عِبارَةً عَنِ الأمْرِ بِالنَّسْخِ، والمَأْمُورُ هو النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوْ جِبْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، واحْتِمالُ أنْ يَكُونَ مِن نَسْخِ الكِتابِ أيْ ما نَكْتُبُ ونُنْزِلُ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ أوْ ما نُؤَخِّرُ فِيهِ ونَتْرُكُ فَلا نُنْزِلُهُ، والضَّمِيرانِ الآتِيانِ بَعْدَ عائِدانِ عَلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ نُنْسِها، ناشِئٌ عَنِ الذُّهُولِ عَنْ قاعِدَةِ أنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لا بُدَّ في جَوابِهِ مِن عائِدٍ عَلَيْهِ، وقَرَأ عُمَرُ، وابْنُ عَبّاسٍ، والنَّخَعِيُّ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، وكَثِيرٌ (نَنْسَأْها) بِفَتْحِ نُونِ المُضارَعَةِ والسِّينِ وسُكُونِ الهَمْزَةِ، وطائِفَةٌ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ بِالألِفِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ، ولَمْ يَحْذِفْها لِلْجازِمِ لِأنَّ أصْلَها الهَمْزَةُ مِن نَسَأ بِمَعْنى أخَّرَ، والمَعْنى في المَشْهُورِ: نُؤَخِّرُها في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فَلا نُنْزِلُها، أوْ نُبْعِدُها عَنِ الذِّهْنِ بِحَيْثُ لا يُتَذَكَّرُ مَعْناها ولا لَفْظُها، وهو مَعْنى نُنْسِها فَتَتَّحِدُ القِراءَتانِ، وقِيلَ: ولَعَلَّهُ ألْطَفُ، إنَّ المَعْنى: نُؤَخِّرُ إنْزالَها، وهو في شَأْنِ النّاسِخَةِ حَيْثُ أخَّرَ ذَلِكَ مُدَّةَ بَقاءِ المَنسُوخَةِ، فالمَأْتِيَّةُ حِينَئِذٍ عِبارَةٌ عَنِ المَنسُوخَةِ، كَما أنَّهُ حِينَ النَّسْخِ عِبارَةٌ عَنِ النّاسِخَةِ، فَمَعْنى الآيَةِ عَلَيْهِ أنَّ رَفْعَ المَنسُوخَةِ بِإنْزالِ النّاسِخَةِ وتَأْخِيرَ النّاسِخَةِ بِإنْزالِ المَنسُوخَةِ كُلٌّ مِنهُما يَتَضَمَّنُ المَصْلَحَةَ في وقْتِهِ، وقَرَأالضَّحّاكُ، وأبُو الرَّجاءِ (نُنْسِها) عَلى صِيغَةِ المَعْلُومِ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَ الغَيْرِ مِنَ التَّنْسِيَةِ، والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ يُقالُ: أنْسانِيهِ اللَّهُ تَعالى، ونَسّانِيهِ تَنْسِيَةً بِمَعْنًى، أيْ نُنْسِ أحَدًا إيّاها، وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ يَعْمَرَ (تَنْسَها) بِفَتْحِ التّاءِ مِنَ النِّسْيانِ، ونَسِيتَ إلى سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، وفِرْقَةٌ كَذَلِكَ إلّا أنَّهم هَمَزُوا، وأبُو حَيْوَةَ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ ضَمَّ التّاءَ عَلى أنَّهُ مِنَ الإنْساءِ، وقَرَأ مَعْبَدُ مِثْلَهُ، ولَمْ يَهْمِزْ، وقَرَأ أُبَيٌّ (نُنْسِكَ) بِضَمِّ النُّونِ الأُولى وكَسْرِ السِّينِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ، وبِكافِ الخِطابِ، وفي مُصْحَفِ سالِمٍ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ (نُنْسِكَها) بِإظْهارِ المَفْعُولَيْنِ، وقَرَأ الأعْمَشُ (ما نُنْسِكَ مِن آيَةٍ أوْ نَنْسَخْها نَجِئْ بِمِثْلِها)، ومُناسَبَةُ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّ فِيهِ ما هو مِن قَبِيلِ النَّسْخِ، حَيْثُ أُقِرَّ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مُدَّةً عَلى قَوْلِ راعِنا، وإقْرارُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى الشَّيْءِ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ الأمْرِ بِهِ، والإذْنِ فِيهِ، ثُمَّ إنَّهم نُهُوا عَنْ ذَلِكَ فَكانَ مَظِنَّةً لِما يُحاكِي ما حُكِيَ في سَبَبِ النُّزُولِ، أوْ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ كادَ تَرْفَعُ الطَّغامُ رُؤُوسَها، وتَقُولُ: إنَّ مِنَ الفَضْلِ عَدَمَ النَّسْخِ (p-353)لِأنَّ النُّفُوسَ إذا داوَمَتْ عَلى شَيْءٍ سَهُلَ عَلَيْها، فَأتى سُبْحانَهُ بِما يُنَكِّسُ رُؤُوسَهُمْ، ويَكْسِرُ نامُوسَهُمْ، ويُشِيرُ إلى أنَّ النَّسْخَ مِن جُمْلَةِ فَضْلِهِ العَظِيمِ وجُودِهِ العَمِيمِ، أوْ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أشارَ إلى حَقِّيَّةِ الوَحْيِ، ورَدَّ كَلامَ الكارِهِينَ لَهُ رَأْسًا، عَقَّبَهُ بِما يُبَيِّنُ سِرَّ النَّسْخِ الَّذِي هو فَرْدٌ مِن أفْرادِ تَنْزِيلِ الوَحْيِ، وإبْطالُ مَقالَةِ الطّاعِنِينَ فِيهِ فَلْيُتَدَبَّرْ. ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ أيْ بِشَيْءٍ هو خَيْرٌ لِلْعِبادِ مِنها، ﴿أوْ مِثْلِها﴾ حُكْمًا كانَ ذَلِكَ أوْ عَدَمَهُ وحْيًا مَتْلُوًّا، أوْ غَيْرَهُ، والخَيْرِيَّةُ أعَمُّ مِن أنْ تَكُونَ في النَّفْعِ فَقَطْ، أوْ في الثَّوابِ فَقَطْ، أوْ في كِلَيْهِما، والمِثْلِيَّةُ خاصَّةٌ بِالثَّوابِ عَلى ما أشارَ إلَيْهِ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وفَصَّلَهُ بِأنَّ النّاسِخَ إذا كانَ ناسِخًا لِلْحُكْمِ سَواءٌ كانَ ناسِخًا لِلتِّلاوَةِ أوْ لا، لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلى مَصْلَحَةٍ خَلا عَنْها الحُكْمُ السّابِقُ لِما أنَّ الأحْكامَ إنَّما تَنَوَّعَتْ لِلْمَصالِحِ، وتَبَدُّلُها مَنُوطٌ بِتَبَدُّلِها بِحَسَبِ الأوْقاتِ، فَيَكُونُ النّاسِخُ خَيْرًا مِنهُ في النَّفْعِ سَواءٌ كانَ خَيْرًا مِنهُ في الثَّوابِ، أوْ مِثْلًا لَهُ، أوْ لا ثَوابَ فِيهِ أصْلًا، كَما إذا كانَ النّاسِخُ مُشْتَمِلًا عَلى الإباحَةِ، أوْ عَدَمِ الحُكْمِ، وإذا كانَ ناسِخًا لِلتِّلاوَةِ فَقَطْ، لا يُتَصَوَّرُ الخَيْرِيَّةُ في النَّفْعِ لِعَدَمِ تَبَدُّلِ الحُكْمِ السّابِقِ، والمَصْلَحَةِ، فَهو إمّا خَيْرٌ مِنهُ في الثَّوابِ، أوْ مِثْلٌ لَهُ، وكَذا الحالُ في الإنْساءِ، فَإنَّ المَنسِيَّ إذا كانَ مُشْتَمِلًا عَلى حُكْمٍ يَكُونُ المَأْتِيُّ بِهِ خَيْرًا في النَّفْعِ سَواءٌ كانَ النَّفْعُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الحُكْمِ مُطْلَقًا، أوْ لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ الحُكْمِ، واشْتِمالِهِ عَلى حُكْمٍ يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً خَلا عَنْها الحُكْمُ المَنسِيُّ مَعَ جَوازِ خَيْرِيَّتِهِ في الثَّوابِ، ومُماثَلَتِهِ أيّامَ خُلُوِّهُ عَنْهُ، وإذا لَمْ يَكُنْ مُشْتَمِلًا عَلى حُكْمٍ فالمَأْتِيُّ بِهِ بَعْدَهُ إمّا خَيْرٌ في الثَّوابِ، أوْ مِثْلٌ لَهُ، والحاصِلُ أنَّ المُماثَلَةَ في النَّفْعِ لا تُتَصَوَّرُ لِأنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ تَبَدُّلِ الحُكْمِ تَتَبَدَّلُ المَصْلَحَةُ، فَيَكُونُ خَيْرًا مِنهُ، وعَلى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَبَدُّلِهِ، المَصْلَحَةُ الأُولى باقِيَةٌ عَلى حالِها انْتَهى، ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ ما تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْمِيمِ مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ النَّسْخِ بِلا بَدَلٍ، وجَوازُ نَسْخِ الكِتابِ بِالسُّنَّةِ وهو المَذْهَبُ المَنصُورُ، ومِنَ النّاسِ مَن مَنَعَ ذَلِكَ، ومَنَعَ النَّسْخَ بِبَدَلٍ أثْقَلَ أيْضًا، واحْتَجَّ بِظاهِرِ الآيَةِ، أمّا عَلى الأوَّلِ فَلِأنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ المَأْتِيِّ بِهِ خَيْرًا أوْ مِثْلًا إلّا في بَدَلٍ، وأمّا عَلى الثّانِي فَلِأنَّ النّاسِخَ هو المَأْتِيُّ بِهِ بَدَلًا، وهو خَيْرٌ أوْ مِثْلٌ، ويَكُونُ الآتِي بِهِ هو اللَّهُ تَعالى، والسُّنَّةُ لَيْسَتْ خَيْرًا ولا مِثْلَ القُرْآنِ، ولا مِمّا أتى بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وأمّا عَلى الثّالِثِ فَلِأنَّ الأثْقَلَ لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنَ الأخَفِّ، ولا مِثْلًا لَهُ، ورُدَّ ذَلِكَ، أمّا الأوَّلُ والثّالِثُ فَلِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ كَوْنَ المَأْتِيِّ بِهِ خَيْرًا أوْ مِثْلًا لا يُتَصَوَّرُ إلّا في بَدَلٍ، وأنَّ الأثْقَلَ لا يَكُونُ خَيْرًا مِنَ الأخَفِّ، إذِ الأحْكامُ إنَّما شُرِعَتْ، والآياتُ إنَّما نَزَلَتْ لِمَصالِحِ العِبادِ، وتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ فَضْلًا مِنهُ تَعالى ورَحْمَةً، وذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأعْصارِ والأشْخاصِ كالدَّواءِ الَّذِي تُعالَجُ بِهِ الأدْواءُ، فَإنَّ النّافِعَ في عَصْرٍ قَدْ يَضُرُّ في غَيْرِهِ، والمُزِيلُ عِلَّةَ شَخْصٍ قَدْ يُزِيلُ عِلَّةَ سِواهُ، فَإذَنْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُ الحُكْمِ أوِ الأثْقَلُ أصْلَحَ في انْتِظامِ المَعاشِ، وأنْظَمَ في إصْلاحِ المَعادِ، واللَّهُ تَعالى لَطِيفٌ حَكِيمٌ، ولا يَرُدُّ أنَّ المُتَبادِرَ مِن ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها﴾ بِآيَةٍ خَيْرٍ مِنها، وإنَّ عَدَمَ الحُكْمِ لَيْسَ بِمَأْتِيٍّ بِهِ لِما أنَّ الخِلافَ في جَوازِ النَّسْخِ بِلا بَدَلٍ لَيْسَ في إتْيانِ اللَّفْظِ بَدَلَ الآيَةِ الأُولى، بَلْ في الحُكْمِ، كَما لا يَخْفى عَلى مَن راجَعَ الأُصُولَ، وأمّا الثّانِي فَلِأنّا لا نُسَلِّمُ حَصْرَ النّاسِخِ بِما ذُكِرَ، إذْ يَجُوزُ أنْ يُعْرَفَ النَّسْخُ بِغَيْرِ المَأْتِيِّ بِهِ، فَإنَّ مَضْمُونَ الآيَةِ لَيْسَ إلّا أنَّ نَسْخَ الآيَةِ يَسْتَلْزِمُ الإتْيانَ بِما هو خَيْرٌ مِنها، أوْ مِثْلٌ لَها، ولا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ هو النّاسِخُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ أمْرًا مُغايِرًا يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ، وإذا جازَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ النّاسِخُ سُنَّةً، والمَأْتِيُّ بِهِ الَّذِي هو خَيْرٌ، أوْ مِثْلٌ آيَةً أُخْرى، وأيْضًا السُّنَّةُ مِمّا أتى بِهِ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ ﴿إنْ هو إلا وحْيٌ يُوحى﴾ ولَيْسَ المُرادُ بِالخَيْرِيَّةِ والمُماثَلَةِ في اللَّفْظِ حَتّى لا تَكُونَ السُّنَّةُ كَذَلِكَ، بَلْ في النَّفْعِ والثَّوابِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ خَيْرًا في ذَلِكَ، واحْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِالآيَةِ عَلى حُدُوثِ القُرْآنِ فَإنَّ التَّغَيُّرَ المُسْتَفادَ (p-354)مِنَ النَّسْخِ، والتَّفاوُتَ المُسْتَفادَ مِنَ الخَيْرِيَّةِ في وقْتٍ دُونَ آخَرَ مِن رَوادِفِ الحَدَثِ وتَوابِعِهِ، فَلا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ، وأُجِيبَ بِأنَّ التَّغَيُّرَ والتَّفاوُتَ مِن عَوارِضِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الكَلامُ النَّفْسِيُّ القَدِيمُ، وهي الأفْعالُ في الأمْرِ والنَّهْيِ، والنِّسَبُ الخَبَرِيَّةُ في الخَبَرِ، وذَلِكَ يَسْتَدْعِيهِما في تَعَلُّقاتِهِ دُونَ ذاتِهِ، وأجابَ الإمامُ الرّازِيُّ بِأنَّ المَوْصُوفَ بِهِما الكَلامُ اللَّفْظِيُّ، والقَدِيمُ عِنْدَنا الكَلامُ النَّفْسِيُّ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ مُخالِفٌ لِما اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ آراءُ الأشاعِرَةِ مِن أنَّ الحُكْمَ قَدِيمٌ، والنَّسْخَ لا يَجْرِي إلّا في الأحْكامِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو (ناتِ) بِقَلْبِ الهَمْزَةِ ألِفًا. ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الِاسْتِفْهامُ قِيلَ: لِلتَّقْرِيرِ وقِيلَ: لِلْإنْكارِ، والخِطابُ لِلرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأُرِيدَ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ هو وأُمَّتُهُ المُسْلِمُونَ، وإنَّما أفْرَدَهُ لِأنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أعْلَمُهُمْ، ومَبْدَأُ عِلْمِهِمْ، ولِإفادَةِ المُبالَغَةِ مَعَ الِاخْتِصارِ، وقِيلَ: لِكُلِّ واقِفٍ عَلَيْهِ عَلى حَدِّ: «(بَشِّرِ المَشّائِينَ)» وقِيلَ: لِمُنْكِرِي النَّسْخِ، والمُرادُ الِاسْتِشْهادُ بِعِلْمِ المُخاطَبِ بِما ذُكِرَ عَلى قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى النَّسْخِ، وعَلى الإتْيانِ بِما هو خَيْرٌ أوْ مُماثِلٌ، لِأنَّ ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ الأشْياءِ المَقْهُورَةِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ، فَمِن عِلْمِ شُمُولِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى جَمِيعِ الأشْياءِ عِلْمُ قُدْرَتِهِ عَلى ذَلِكَ قَطْعًا، والِالتِفاتُ بِوَضْعِ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ، ولِأنَّهُ الِاسْمُ العَلَمُ الجامِعُ لِسائِرِ الصِّفاتِ، فَفي ضِمْنِهِ صِفَةُ القُدْرَةِ فَهو أبْلَغُ في نِسْبَةِ القُدْرَةِ إلَيْهِ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ المُعَظِّمِ، وكَذا الحالُ في قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب