الباحث القرآني
* بابُ في نَسْخِ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وذِكْرُ وُجُوهِ النَّسْخِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ قالَ قائِلُونَ: " النَّسْخُ هو الإزالَةُ " وقالَ آخَرُونَ: " هو الإبْدالُ " قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ [الحج: ٥٢] أيْ يُزِيلُهُ ويُبْطِلُهُ ويُبَدِّلُ مَكانَهُ آياتٍ مُحْكَماتٍ. وقِيلَ: هو النَّقْلُ، مِن قَوْلِهِ: ﴿إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩]
وهَذا الِاخْتِلافُ إنَّما هو في مَوْضُوعِهِ في أصْلِ اللُّغَةِ، ومَهْما كانَ في أصْلِ اللُّغَةِ مَعْناهُ فَإنَّهُ في إطْلاقِ الشَّرْعِ إنَّما هو بَيانُ مُدَّةِ الحُكْمِ والتِّلاوَةِ، والنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ في التِّلاوَةِ مَعَ بَقاءِ الحُكْمِ ويَكُونُ في الحُكْمِ مَعَ بَقاءِ التِّلاوَةِ دُونَ غَيْرِهِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: زَعَمَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِن غَيْرِ أهْلِ الفِقْهِ أنَّهُ لا نَسْخَ في شَرِيعَةِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ وأنَّ جَمِيعَ ما ذُكِرَ فِيها مِنَ النَّسْخِ فَإنَّما المُرادُ بِهِ نَسْخُ شَرائِعِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ كالسَّبْتِ والصَّلاةِ إلى المَشْرِقِ والمَغْرِبِ؛ قالَ: لِأنَّ نَبِيَّنا ﷺ آخِرُ الأنْبِياءِ وشَرِيعَتَهُ ثابِتَةٌ باقِيَةٌ إلى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ.
وقَدْ كانَ هَذا الرَّجُلُ ذا حَظٍّ مِنَ البَلاغَةِ وكَثِيرٍ مِن عِلْمِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مَحْظُوظٍ مِن عِلْمِ الفِقْهِ وأُصُولِهِ، وكانَ سَلِيمَ الِاعْتِقادِ غَيْرَ مَظْنُونٍ بِهِ غَيْرَ ظاهِرٍ أمْرُهُ؛ ولَكِنَّهُ بَعُدَ مِنَ التَّوْفِيقِ بِإظْهارِ هَذِهِ المَقالَةِ؛ إذْ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْها أحَدٌ، بَلْ قَدْ عَقَلَتِ الأُمَّةُ سَلَفُها وخَلَفُها مِن دِينِ اللَّهِ وشَرِيعَتِهِ نَسْخَ كَثِيرٍ مِن شَرائِعِهِ ونُقِلَ ذَلِكَ إلَيْنا نَقْلًا لا يَرْتابُونَ بِهِ ولا يُجِيزُونَ فِيهِ التَّأْوِيلَ كَما قَدْ عَقَلَتْ أنَّ في القُرْآنِ عامًّا وخاصًّا ومُحْكَمًا ومُتَشابِهًا، فَكانَ دافِعُ وُجُودِ النَّسْخِ في القُرْآنِ والسَّنَةِ كَدافِعِ خاصِّهِ وعامِّهِ ومُحْكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ؛ إذْ كانَ وُرُودُ الجَمِيعِ ونَقْلُهُ عَلى وجْهٍ واحِدٍ فارْتَكَبَ هَذا الرَّجُلُ في الآيِ المَنسُوخَةِ والنّاسِخَةِ وفي أحْكامِها أُمُورًا خَرَجَ بِها عَنْ أقاوِيلِ الأُمَّةِ مَعَ تَعَسُّفِ المَعانِي واسْتِكْراهِها وما أدْرِي ما الَّذِي ألْجَأهُ إلى ذَلِكَ.
وأكْثَرُ ظَنِّي فِيهِ أنَّهُ إنَّما أتى بِهِ مِن قِلَّةِ عِلْمِهِ بِنَقْلِ النّاقِلِينَ لِذَلِكَ واسْتِعْمالِ رَأْيِهِ فِيهِ مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنهُ بِما قَدْ قالَ السَّلَفُ (p-٧٣)فِيهِ ونَقَلَتْهُ الأُمَّةُ وكانَ مِمَّنْ رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَن قالَ في القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأصابَ فَقَدْ أخْطَأ» واللَّهُ يَغْفِرُ لَنا ولَهُ وقَدْ تَكَلَّمْنا في أُصُولِ الفِقْهِ في وُجُوهِ النَّسْخِ وما يَجُوزُ فِيهِ وما لا يَجُوزُ بِما يُغْنِي ويَكْفِي، وأمّا: ﴿أوْ نُنْسِها﴾ قِيلَ إنَّهُ مِنَ النِّسْيانِ، و" نَنْسَأْها " مِنَ التَّأْخِيرِ، يُقالُ: نَسَأْتُ الشَّيْءَ: أخَّرْتُهُ، والنَّسِيئَةُ: الدَّيْنُ المُتَأخِّرُ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧] يَعْنِي تَأْخِيرَ الشُّهُورِ، فَإذا أُرِيدَ بِهِ النِّسْيانُ، فَإنَّما هو أنْ يُنْسِيَهُمُ اللَّهُ تَعالى التِّلاوَةَ حَتّى لا يَقْرَءُوا ذَلِكَ، ويَكُونُ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ تِلاوَتِهِ فَيُنْسَوْهُ عَلى الأيّامِ، وجائِزٌ أنْ يَنْسَوْهُ دَفْعَةً ويُرْفَعَ مِن أوْهامِهِمْ، ويَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ .
وأمّا مَعْنى قِراءَةِ " أوْ نَنْسَأْها " فَإنَّما هو بِأنْ يُؤَخِّرَها فَلا يُنَزِّلُها ويُنَزِّلُ بَدَلًا مِنها ما يَقُومُ مَقامَها في المَصْلَحَةِ أوْ يَكُونُ أصْلَحَ لِلْعِبادِ مِنها، ويَحْتَمِلُ أنْ يُؤَخِّرَ إنْزالَها إلى وقْتٍ يَأْتِي فَيَأْتِي بَدَلًا مِنها لَوْ أنْزَلَها في الوَقْتِ المُتَقَدِّمِ فَيَقُومَ مَقامَها في المَصْلِحَةِ.
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ: " بِخَيْرٍ مِنها " لَكم في التَّسْهِيلِ والتَّيْسِيرِ " كالأمْرِ بِأنْ لا يُوَلِّيَ واحِدٌ مِن عَشْرَةٍ في القِتالِ ثُمَّ قالَ: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٦] أوْ مِثْلِها كالأمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ بَعْدَما كانَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ: " بِخَيْرٍ مِنها في الوَقْتِ في كَثْرَةِ الصَّلاحِ أوْ مِثْلِها " . فَحَصَلَ مِنِ اتِّفاقِ الجَمِيعِ أنَّ المُرادَ " خَيْرٌ لَكم إمّا في التَّخْفِيفِ أوْ في المَصْلَحَةِ " ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: خَيْرٌ مِنها في التِّلاوَةِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُقالَ إنَّ بَعْضَ القُرْآنِ خَيْرٌ مِن بَعْضٍ في مَعْنى التِّلاوَةِ والنَّظْمِ؛ إذْ جَمِيعُهُ مُعْجِزٌ كَلامُ اللَّهِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النّاسِ في امْتِناعِ جَوازِ نَسْخِ القُرْآنِ بِالسَّنَةِ؛ لِأنَّ السَّنَةَ عَلى أيِّ حالٍ كانَتْ لا تَكُونُ خَيْرًا مِنَ القُرْآنِ وهَذا إغْفالٌ مِن قائِلِهِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المُرادُ: " بِخَيْرٍ مِنها في التِّلاوَةِ والنَّظْمِ "؛ لِاسْتِواءِ النّاسِخِ والمَنسُوخِ في إعْجازِ النَّظْمِ والآخِرُ اتِّفاقُ السَّلَفِ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدِ النَّظْمَ؛ لِأنَّ قَوْلَهم فِيهِ عَلى أحَدِ المَعْنَيَيْنِ إمّا التَّخْفِيفُ أوِ المَصْلَحَةُ.
وذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ كَما يَكُونُ بِالقُرْآنِ ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهم إنَّهُ أرادَ التِّلاوَةَ، فَدَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى جَوازِ نَسْخِ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أظْهَرُ مِن دَلالَتِها عَلى امْتِناعِ جَوازِهِ بِها وأيْضًا فَإنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ إنَّما تَقْتَضِي نَسْخَ التِّلاوَةِ، ولَيْسَ لِلْحُكْمِ في الآيَةِ ذِكْرٌ؛ لِأنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ والآيَةُ إنَّما هي اسْمٌ لِلتِّلاوَةِ، ولَيْسَ في نَسْخِ التِّلاوَةِ ما يُوجِبُ نَسْخَ الحُكْمِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ جازَ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: " ما نَنْسَخْ مِن تِلاوَةِ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها لَكم مِن مُحْكَمٍ مِن طَرِيقِ السُّنَّةِ أوْ غَيْرِها " . وقَدِ (p-٧٤)اسْتَقْصَيْنا القَوْلَ في هَذِهِ المَسْألَةِ في أُصُولِ الفِقْهِ بِما فِيهِ كِفايَةٌ، فَمَن أرادَها فَلْيَطْلُبْها هُناكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
{"ayah":"۞ مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرࣲ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق