الباحث القرآني
* (فصل)
قالت الأمة الغضبية:
التوراة قد حظرت أمورا، كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذي ننكره ونمنع منه: هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة: أنه غير نبي، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة.
فهذه النكتة هى التي تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقاها خالف منهم عن سالف والمتكلمون لم يشفوهم في جوابها. وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفي نسخ الإباحة بالتحريم.
ولعمر الله إنه لمما يبطل شبهتهم، لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة بالتحريم هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابى أو الشرعى، بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة.
والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هى بعينها في الموضع الآخر، فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته، إذا لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته. فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى إباحة المفاسد - وحاشا لله - تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح. وكلاهما باطل قطعا.
فإذا جاز أن تأتى شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه، فجائز أن تأتى شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا.
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هى التي ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، هى بعينها التي رد بها أسلافهم نبوة المسيح، وتوارثوها كافرا عن كافر. وقالوا لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كما قال أسلافهم للمسيح: لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى فلا تقدحون، في نبوتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تثبتون نبوءة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليس برسول.
ويقال للأمة الغضبية أيضا: لا يخلو المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته، بحيث تمنع إباحته في زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال.
فإن كان الأول، لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام.
وإن كان الثاني، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة، وفي وقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وفي حال دون حال. وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين؟
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة.
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلى عباده لما يشاء، ويحكم ولا يحكم عليه. فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى؟
بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين، بحسب المصلحة، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير * ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللهَ لَهُ مُلْك السَّمواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٠٦-١٠٧].
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء، ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء، ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية، ينسخ منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء.
فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارَض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته، وتجحد رسالته: بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم. وبالله التوفيق، يضل من يشاء ويهدى من يشاء.
ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم.
فمن ذلك: أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا "اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل".
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا "أردد حكامنا كالأولين، ومسراتنا كالابتداء وابْنِ أورشليم قرية قدسك في أيامنا، وأعزنا بابتنائها، سبحانك يا بانى يورشليم".
فهذا قولهم في صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك. ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم.
وكذلك صيامهم، كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى، ولا يوشع بن نون. وكذلك صوم صَلْبِ هامان، ليس شيء من ذلك في التوراة، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم.
هذا.
مع أنه في التوراة ما ترجمته "لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا".
وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، هم مجمعون على تعطليها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد علمائهم.
وعلى التقادير الثلاث. فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم. وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزانى، وهو نص التوراة. وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة في التوراة.
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه.
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة. فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه. ثم رضى أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق.
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بشرا، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرًا.
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه تعالى.
وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه، لئلا يلزم الحصر، ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات، وأجواف الحيوانات.
{"ayahs_start":106,"ayahs":["۞ مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرࣲ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ","أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرٍ"],"ayah":"۞ مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرࣲ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق