الباحث القرآني

ولَمّا نَهى عَنِ القَتْلِ؛ وعَنِ الأكْلِ بِالباطِلِ بِالفِعْلِ؛ وهُما مِن أعْمالِ الجَوارِحِ؛ لِيَصِيرَ الظّاهِرُ طاهِرًا عَنِ المَعاصِي الوَخِيمَةِ؛ نَهى عَنِ التَّمَنِّي؛ الَّذِي هو مُقَدِّمَةُ الأكْلِ؛ لِيَكُونَ نَهْيًا عَنِ الأكْلِ بِطَرِيقِ الأوْلى؛ فَإنَّ التَّمَنِّيَ قَدْ يَكُونُ حَسَدًا؛ وهو المَنهِيُّ عَنْهُ هُنا؛ كَما هو ظاهِرُ الآيَةِ؛ وهو حَرامٌ؛ والرِّضا بِالحَرامِ؛ والتَّمَنِّي عَلى هَذا (p-٢٦٣)الوَجْهِ يَجُرُّ إلى الأكْلِ؛ والأكْلُ يَعُودُ إلى القَتْلِ؛ فَإنَّ مَن يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمى يُوشِكْ أنْ يُواقِعَهُ؛ والنَّهْيُ هُنا لِلتَّحْرِيمِ؛ عِنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ؛ فَقالَ: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا﴾؛ أيْ: تُتابِعُوا أنْفُسَكم في ذَلِكَ؛ ﴿ما فَضَّلَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها؛ فَلا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ؛ ﴿بِهِ﴾؛ أيْ: مِنَ المالِ؛ وغَيْرِهِ؛ ﴿بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾؛ أيْ: في الإرْثِ؛ وغَيْرِهِ؛ مِن جَمِيعِ الفَضائِلِ النَّفْسانِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ؛ كالذَّكاءِ التّامِّ؛ والحَدْسِ الكامِلِ؛ وزِيادَةِ المَعارِفِ بِالكَمِّيَّةِ؛ والكَيْفِيَّةِ؛ أوْ بِالقُوَّةِ العَمَلِيَّةِ؛ كالعِفَّةِ؛ الَّتِي هي وسَطٌ بَيْنَ الجُمُودِ؛ والفُجُورِ؛ والشَّجاعَةِ الَّتِي هي وسَطٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ؛ والجُبْنِ؛ والسَّخاءِ الَّذِي هو وسَطٌ بَيْنَ الإسْرافِ؛ والبُخْلِ؛ وكاسْتِعْمالِ هَذِهِ القُوى عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي؛ وهو العَدالَةُ؛ أوِ الفَضائِلِ البَدَنِيَّةِ؛ كالصِّحَّةِ؛ والجَمالِ؛ والعُمْرِ الطَّوِيلِ؛ مَعَ اللَّذَّةِ؛ والبَهْجَةِ؛ أوِ الفَضائِلِ الخارِجِيَّةِ؛ مِثْلِ كَثْرَةِ الأوْلادِ الصُّلَحاءِ؛ وكَثْرَةِ العَشائِرِ؛ والأصْدِقاءِ؛ والأعْوانِ؛ والرِّئاسَةِ التّامَّةِ؛ ونَفاذِ القَوْلِ؛ وكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لِلنّاسِ؛ حَسَنَ الذِّكْرِ فِيهِمْ؛ فَهَذِهِ مَجامِعُ السَّعاداتِ؛ وبَعْضُها نَظَرِيَّةٌ لا مَدْخَلَ لِلْكَسْبِ فِيها؛ وبَعْضُها كَسْبِيَّةٌ؛ ومَتى تَأمَّلَ العاقِلُ في ذَلِكَ؛ وجَدَهُ مَحْضَ عَطاءٍ مِنَ اللَّهِ؛ فَمَن (p-٢٦٤)شاهَدَ غَيْرَهُ أرْفَعَ مِنهُ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأحْوالِ؛ تَألَّمَ قَلْبُهُ؛ وكانَتْ لَهُ حالَتانِ: إحْداهُما أنْ يَتَمَنّى حُصُولَ مِثْلِ تِلْكَ السَّعادَةِ لَهُ؛ والأُخْرى أنْ يَتَمَنّى زَوالَها عَنْ صاحِبِها؛ وهَذا هو الحَسَدُ المَذْمُومُ؛ لِأنَّهُ كالِاعْتِراضِ عَلى اللَّهِ؛ الَّذِي قَسَمَ هَذِهِ القِسْمَةَ؛ فَإنِ اعْتَقَدَ أنَّهُ أحَقُّ مِنهُ فَقَدْ فَتَحَ عَلى نَفْسِهِ بابَ الكُفْرِ؛ واسْتَجْلَبَ ظُلُماتِ البِدْعَةِ؛ ومَحا نُورَ الإيمانِ؛ فَإنَّ اللَّهَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ؛ لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ؛ فَلا اعْتِراضَ عَلَيْهِ؛ وكَما أنَّ الحَسَدَ سَبَبُ الفَسادِ في الدِّينِ؛ فَهو سَبَبُ الفَسادِ في الدُّنْيا؛ فَعَلى كُلِّ أحَدٍ أنْ يَرْضى بِما قُسِمَ لَهُ؛ عِلْمًا بِأنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ؛ ولَوْ كانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَسَدَ؛ فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ؛ صادِرَةٌ عَنْ حُكْمِهِ؛ وتَدْبِيرِهِ؛ وعِلْمِهِ بِأحْوالِ العِبادِ فِيما يُصْلِحُهُمْ؛ ويُفْسِدُهم. وأمّا تَمَنِّي المِثْلِ؛ فَإنْ كانَ دِينِيًّا كانَ حَسَنًا؛ كَما قالَ ﷺ: «”لا حَسَدَ إلّا في اثْنَتَيْنِ“؛» وإنْ كانَ دُنْيَوِيًّا فَمِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ ذَلِكَ؛ ومِنهم مَن قالَ - وهُمُ المُحَقِّقُونَ -: لا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ رُبَّما كانَتْ مَفْسَدَةً في حَقِّهِ في الدِّينِ؛ ومَضَرَّةً في الدُّنْيا؛ كَقِصَّةِ قارُونَ؛ قالَ مَعْنى ذَلِكَ الإمامُ الرّازِيُّ (p-٢٦٥)ولَمّا نَهى - سُبْحانَهُ - عَنْ ذَلِكَ؛ عَلَّلَهُ بِما يُنَبِّهُ عَلى السَّعْيِ في الِاسْتِرْزاقِ؛ والإجْمالِ في الطَّلَبِ؛ كَما قالَ ﷺ فِيما رَواهُ أحْمَدُ؛ والتِّرْمِذِيُّ؛ وابْنُ ماجَةَ؛ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «”الكَيِّسُ مَن دانَ نَفْسَهُ؛ وعَمِلَ لِما بَعْدَ المَوْتِ؛ والعاجِزُ مَن أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها؛ وتَمَنّى عَلى اللَّهِ“؛» وكَما قالَ ﷺ فِيما رَواهُ مُسْلِمٌ؛ والنِّسائِيُّ؛ وابْنُ ماجَةَ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «”المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ؛ وفي كُلٍّ خَيْرٌ؛ احْرِصْ عَلى ما يَنْفَعُكَ؛ واسْتَعِنْ بِاللَّهِ؛ ولا تَعْجِزْ؛ وإنْ أصابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَذا وكَذا؛ ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وما شاءَ فَعَلَ؛ فَإنَّ“لَوْ”تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ“؛» فَقالَ - مُشِيرًا إلى أنَّهُ لا يَنالُ أحَدٌ جَمِيعَ ما يُؤَمِّلُ -: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾؛ أيْ: قَدْ فُرِغَ مِن تَقْدِيرِهِ؛ فَهو بِحَيْثُ لا يَزِيدُ؛ ولا يَنْقُصُ؛ وبَيَّنَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ يَنْبَغِي الطَّلَبُ؛ والعَمَلُ؛ كَما أشارَ إلَيْهِ الحَدِيثُ؛ فَقالَ: ﴿مِمّا اكْتَسَبُوا﴾؛ أيْ: كَلَّفُوا أنْفُسَهُمْ؛ وأتْعَبُوها في كَسْبِهِ؛ مِن أُمُورِ الدّارَيْنِ؛ مِنَ الثَّوابِ وأسْبابِهِ مِنَ الطّاعاتِ؛ ومِنَ المِيراثِ؛ والسَّعْيِ في المَكاسِبِ؛ والأرْباحِ؛ «”جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ (p-٢٦٦)ظِلِّ رُمْحِي“؛» «”لَرَزَقَكم كَما يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِماصًا؛ وتَرُوحُ بِطانًا“؛» ﴿ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ﴾؛ أيْ: وكَذَلِكَ فالتَّمَنِّي حِينَئِذٍ غَيْرُ نافِعٍ؛ فالِاشْتِغالُ بِهِ مُجَرَّدُ عَناءٍ. ولَمّا أشارَ بِالتَّبْعِيضِ إلى أنَّ الحُصُولَ بِتَقْدِيرِهِ؛ لا بِالكَسْبِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا؛ فَإنَّهُ تارَةً يُنْجِحُهُ؛ وتارَةً يُخَيِّبُهُ؛ فَكانَ التَّقْدِيرُ: ”فاكْتَسِبُوا؛ ولا تَعْجِزُوا فَتَطْلُبُوا بِالتَّمَنِّي“؛ أمَرَ بِالإقْبالِ - في الغِنى وكُلِّ شَيْءٍ - عَلَيْهِ؛ إشارَةً إلى تَحْرِيكِ السَّبَبِ؛ مَعَ الإجْمالِ في الطَّلَبِ؛ فَقالَ: ﴿واسْألُوا اللَّهَ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ. ولَمّا كانَ - سُبْحانَهُ وتَعالى عَظَمَتُهُ - لا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ؛ وإنْ جَلَّ؛ قالَ: ﴿مِن فَضْلِهِ﴾؛ أيْ: مِن خَزائِنِهِ الَّتِي لا تَنْفَدُ؛ ولا يَقْضِيها شَيْءٌ؛ وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى عَدَمِ التَّعْيِينِ؛ لِأنَّهُ رُبَّما كانَ سَبَبَ الفَسادِ؛ بَلْ يَكُونُ الطَّلَبُ لِما هو لَهُ صَلاحٌ؛ وأحْسَنُ الدُّعاءِ المَأْثُورِ؛ وأحْسَنُهُ: ﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١]؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ (p-٢٦٧)بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المَلِكَ الأعْظَمَ الَّذِي بِيَدِهِ مَقالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ؛ ﴿كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾؛ أيْ: فَكانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا؛ فَإنَّ كَمالَ العِلْمِ يَسْتَلْزِمُ شُمُولَ القُدْرَةِ - كَما سَيَبِينُ - إنْ شاءَ اللَّهُ (تَعالى) - في سُورَةِ ”طـه“؛ والمَعْنى أنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِعِلْمِهِ ما يُصْلِحُكُمْ؛ فاسْألُوهُ بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ ما يَنْفَعُكُمْ؛ فَإنَّهُ يَعْلَمُ ما يُصْلِحُ كُلَّ عَبْدٍ؛ وما يُفْسِدُهُ؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب