الباحث القرآني

﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾ قالَ القَفّالُ: لَمّا نَهى اللَّهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ عَنْ أكْلِ أمْوالِ النّاسِ بِالباطِلِ، وقَتْلِ الأنْفُسِ، عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَمّا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنَ الطَّمَعِ في أمْوالِهِمْ، وقِيلَ: نَهاهم أوَّلًا عَنِ التَّعَرُّضِ لِأمْوالِهِمْ بِالجَوارِحِ، ثُمَّ عَنِ التَّعَرُّضِ لَها بِالقَلْبِ عَلى سَبِيلِ الحَسَدِ، لِتَطْهُرَ أعْمالُهُمُ الظّاهِرَةُ والباطِنَةُ، فالمَعْنى: (ولا تَتَمَنَّوْا) ما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى (بَعْضَكُمْ)، ومَيَّزَهُ (بِهِ) عَلَيْكُمْ، مِنَ المالِ والجاهِ، وكُلِّ ما يَجْرِي فِيهِ التَّنافُسُ؛ فَإنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ صادِرَةٌ مِن حَكِيمِ خَبِيرٍ، وعَلى كُلٍّ مِنَ المُفَضَّلِ عَلَيْهِمْ أنْ يَرْضى بِما قُسِمَ لَهُ، ولا يَتَمَنّى حَظَّ المُفَضَّلِ ولا يَحْسُدْهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أشْبَهُ بِالِاعْتِراضِ عَلى مَن أتْقَنَ كَلَّ شَيْءٍ، وأحْكَمَهُ، ودَبَّرَ العالَمَ بِحِكْمَتِهِ البالِغَةِ، ونَظَمَهُ. ؎وأظْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ مَن باتَ حاسِدًا لِمَن باتَ في نَعْمائِهِ يَتَقَلَّبُ وإلى هَذا الوَجْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُما في الآيَةِ: لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: لَيْتَ ما أُعْطِيَ فُلانٌ مِنَ المالِ والنِّعْمَةِ والمَرْأةِ الحَسْناءِ كانَ عِنْدِي؛ فَإنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حَسَدًا، ولَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي مِثْلَهُ، ويُفْهَمُ مِن هَذا أنَّ التَّمَنِّيَ المَذْكُورَ كِنايَةٌ عَنِ الحَسَدِ، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ المُقْتَضى لِلْمَنعِ عَنْهُ كَوْنَهُ ذَرِيعَةً لِلْحَسَدِ، ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ. وزَعَمَ البَلْخِيُّ أنَّ المَعْنى: لا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أنْ يَتَمَنّى أنْ لَوْ كانَ امْرَأةً، ولا لِلْمَرْأةِ أنْ لَوْ كانَتْ رَجُلًا؛ لَأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَفْعَلُ إلّا ما هو الأصْلَحُ، فَيَكُونُ قَدْ تَمَنّى ما لَيْسَ بِأصْلَحَ، ونَقَلَ شَيْخُ الإسْلامِ أنَّهُ لَمّا جَعَلَ اللَّهُ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ قالَتِ النِّساءُ: نَحْنُ أحْوَجُ لِأنْ يَكُونَ لَنا سَهْمانِ ولِلرِّجالِ سَهْمٌ واحِدٌ؛ لِأنّا ضُعَفاءُ وهم أقْوِياءُ، وأقْدَرُ عَلى طَلَبِ المَعاشِ مِنّا، فَنَزَلَتْ، ثُمَّ قالَ: وهَذا هو الأنْسَبُ بِتَعْلِيلِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ﴾ فَإنَّهُ صَرِيحٌ في جَرَيانِ التَّمَنِّي بَيْنَ فَرِيقَيِ الرِّجالِ والنِّساءِ، ولَعَلَّ صِيغَةَ المُذَكَّرِ في النَّهْيِ لِما عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِالبَعْضِ، والمَعْنى: لِكُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ في المِيراثِ نَصِيبٌ مُعَيَّنُ المِقْدارِ مِمّا أصابَهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدادِهِ، وقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالِاكْتِسابِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلى تَشْبِيهٍ اقْتَضاهُ حالُهُ لِنَصِيبِهِ بِاكْتِسابِهِ إيّاهُ؛ تَأْكِيدًا لِاسْتِحْقاقِ كُلٍّ مِنهُما لِنَصِيبِهِ، وتَقْوِيَةً لِاخْتِصاصِهِ، بِحَيْثُ لا يَتَخَطّاهُ إلى غَيْرِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُ الِانْتِهاءَ عَنِ التَّمَنِّي المَذْكُورِ، انْتَهى. وهَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ لِلْآيَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ (p-20)عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - لَكِنَّ القِيلَ الَّذِي نَقَلَهُ تَبَعًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ في سَبَبِ النُّزُولِ لَمْ نَقِفْ لَهُ عَلى سَنَدٍ، والَّذِي ذَكَرَهُ الواحِدِيُّ في ذَلِكَ ثَلاثَةُ أخْبارٍ: الأوَّلُ: ما أخْرَجَهُ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: «قالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، تَغْزُو الرِّجالُ ولا نَغْزُو، وإنَّما لَنا نِصْفُ المِيراثِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ». والثّانِي: ما أخْرَجَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، أنَّ النِّساءَ سَألْنَ الجِهادَ، فَقُلْنَ: ودِدْنَ أنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَنا الغَزْوَ، فَنُصِيبُ مِنَ الأجْرِ ما يُصِيبُ الرِّجالُ، فَنَزَلَتْ. والثّالِثُ: ما أخْرَجَهُ عَنْ قَتادَةَ والسُّدِّيِّ قالا: لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ قالَ الرِّجالُ: إنّا لَنَرْجُو أنْ نُفَضَّلَ عَلى النِّساءِ بِحَسَناتِنا كَما فُضِّلْنا عَلَيْهِنَّ بِالمِيراثِ، فَيَكُونَ أجْرُنا عَلى الضِّعْفِ مِن أجْرِ النِّساءِ، وقالَتِ النِّساءُ: إنّا لَنَرْجُو أنْ يَكُونَ الوِزْرُ عَلَيْنا نِصْفَ ما عَلى الرِّجالِ في الآخِرَةِ، كَما لَنا المِيراثُ عَلى النِّصْفِ مِن نَصِيبِهِمْ في الدُّنْيا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا﴾ إلى آخِرِها. وذَكَرَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ في «الدُّرِّ المَنثُورِ» نَحْوَ ذَلِكَ، ولا يَخْفى أنَّ القِيلَ الَّذِي نَقَلَهُ ظاهِرٌ في حَمْلِ التَّمَنِّي المَنهِيِّ عَنْهُ عَلى الحَسَدِ، والخَبَرُ الأوَّلُ والثّانِي مِمّا أخْرَجَهُ الواحِدِيُّ لَيْسا كَذَلِكَ؛ إذْ عَلَيْهِما يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلى الحَسَدِ، أوْ عَلى ما هو ذَرِيعَةٌ لَهُ، ورُبَّما يَتَراءى أنَّ حَمْلَهُ عَلى الثّانِي نَظَرًا إلَيْهِما أظْهَرُ، وأمّا الخَبَرُ الثّالِثُ فَيَأْباهُ مَعْنى الآيَةِ، سَواءٌ كانَ التَّمَنِّي كِنايَةً عَنِ الحَسَدِ أوْ ذَرِيعَةً إلّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ جِدًّا، ومَعْنى الآيَةِ عَلى الأوَّلَيْنِ أنَّ لِكُلٍّ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ حَظًّا مِنَ الثَّوابِ عَلى حَسَبِ ما كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الطّاعاتِ بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، فَلا تَتَمَنَّوْا خِلافَ هَذا التَّدْبِيرِ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ، وفِيهِ اسْتِعْمالُ الِاكْتِسابِ في الخَيْرِ، وقَدِ اسْتُعْمِلَ في الشَّرِّ، واسْتُعْمِلَ الكَسْبُ في الخَيْرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ وعَنْ مُقاتِلٍ وأبِي جَرِيرٍ أنَّهُما قالا: المُرادُ مِمّا اكْتَسَبُوا مِنَ الإثْمِ، وفِيهِ اسْتِعْمالُ اللّامِ مَعَ الشَّرِّ دُونَ (عَلى) وهو خِلافُ ما في الآيَةِ، وقِيلَ: المُرادُ: لِكُلٍّ، وعَلى كُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ مِقْدارٌ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ حَسْبَما رَتَّبَهُ الحَكِيمُ عَلى أفْعالِهِ، إلّا أنَّهُ اسْتَغْنى بِاللّامِ عَنْ (عَلى) وبِالِاكْتِسابِ عَنِ الكَسْبِ، وهو كَما تَرى، ويَرُدُّ عَلى هَذِهِ المَعانِي أنَّهُ لا يُساعِدُها النَّظْمُ الكَرِيمُ المُتَعَلِّقُ بِالمَوارِيثِ وفَضائِلِ الرِّجالِ، ولَعَلَّ مَن يَذْهَبُ إلَيْها يَجْعَلُ الآيَةَ مُعْتَرِضَةَ في البَيْنِ. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ مَعْنى الآيَةِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ المَرْوِيِّ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ وابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - أنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ نَصِيبًا مُقَدَّرًا في أزَلِ الآزالِ، مِن نَعِيمِ الدُّنْيا بِالتِّجاراتِ والزِّراعاتِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَكاسِبِ، فَلا يَتَمَنَّ خِلافَ ما قُسِمَ لَهُ. ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ عَطْفٌ عَلى النَّهْيِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الِانْتِهاءِ بِالتَّعْلِيلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَتَمَنَّوْا نَصِيبَ غَيْرِكُمْ، ولا تَحْسُدُوا مَن فُضِّلَ عَلَيْكُمْ، واسْألُوا اللَّهَ تَعالى مِن إحْسانِهِ الزّائِدِ وإنْعامِهِ المُتَكاثِرِ، فَإنَّ خَزائِنَهُ مَمْلُوءَةٌ لا تَنْفَدُ أبَدًا، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ إفادَةً لِلْعُمُومِ، أيْ: واسْألُوا ما شِئْتُمْ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يُعْطِيكُمُوهُ إنْ شاءَ، أوْ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنَ السِّياقِ، أيْ: واسْألُوا مِثْلَهُ، ويُقالُ لِذَلِكَ: غِبْطَةٌ، وقِيلَ: (مِن) زائِدَةٌ، أيْ: واسْألُوا اللَّهَ تَعالى فَضْلَهُ، وقَدْ ورَدَ في الخَبَرِ: ««لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكم مالَ أخِيهِ، ولَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، اللَّهُمَّ أعْطِنِي مِثْلَهُ»» وذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ - كَما في البَحْرِ - إلى المَنعِ عَنْ تَمَنِّي مِثْلِ نِعْمَةِ الغَيْرِ، ولَوْ بِدُونِ تَمَنِّي زَوالِها؛ لِأنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ رُبَّما كانَتْ مَفْسَدَةً لَهُ في دِينِهِ، ومَضَرَّةً عَلَيْهِ في دُنْياهُ، فَلا يَجُوزُ عِنْدَهُ أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي دارًا مِثْلَ دارِ فُلانٍ، ولا زَوْجًا مِثْلَ زَوْجِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي ما يَكُونُ صَلاحًا لِي في دِينِي ودُنْيايَ ومَعادِي ومَعاشِي، ولا يَتَعَرَّضُ لِمَن فُضِّلَ عَلَيْهِ. ونُسِبَ ذَلِكَ لِلْمُحَقِّقِينَ، وهم مَحْجُوجُونَ بِالخَبَرِ، اللَّهُمَّ إلّا إذا لَمْ يُسَلِّمُوا صِحَّتَهُ، وقِيلَ: المَعْنى لا تَتَمَنَّوُا الدُّنْيا، بَلِ اسْألُوا اللَّهَ تَعالى العِبادَةَ الَّتِي تُقَرِّبُكم إلَيْهِ، وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ سِيرِينَ، وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الثّانِي أنَّهُ إذا سَمِعَ الرَّجُلَ يَتَمَنّى الدُّنْيا يَقُولُ: قَدْ نَهاكُمُ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذا (p-21)ويَتْلُو الآيَةَ، والظّاهِرُ العُمُومُ، وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: ««سَلُوا اللَّهَ تَعالى مِن فَضْلِهِ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يُحِبُّ أنْ يُسْألَ، وإنَّ مِن أفْضَلِ العِبادَةِ انْتِظارُ الفَرَجِ»» وقالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَأْمُرْ سُبْحانَهُ بِالمَسْألَةِ إلّا لِيُعْطِيَ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ ولِذَلِكَ فَضَّلَ بَعْضَ النّاسِ عَلى بَعْضٍ حَسَبَ مَراتِبِ اسْتِعْداداتِهِمْ، وتَفاوُتِ قابِلِيّاتِهِمْ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ عَلِيمًا بِكُلٍّ شَيْءٍ، فَيَعْلَمُ ما تُضْمِرُونَهُ مِنَ الحَسَدِ ويُجازِيكم عَلَيْهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب