الباحث القرآني

(p-٥٣٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ واسْألُوا اللهُ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللهُ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ سَبَبُ الآيَةِ أنَّ النِساءَ قُلْنَ: لَيْتَنا اسْتَوَيْنا مَعَ الرِجالِ في المِيراثِ، وشَرَكْناهم في الغَزْوِ، ورُوِيَ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قالَتْ ذَلِكَ أو نَحْوَهُ، وقالَ الرِجالُ: لَيْتَ لَنا في الآخِرَةِ حَظًّا زائِدًا عَلى النِساءِ، كَما لَنا عَلَيْهِنَّ في الدُنْيا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لِأنَّ في تَمَنِّيهِمْ هَذا تَحَكُّمًا عَلى الشَرِيعَةِ، وتَطَرُّقًا إلى الدَفْعِ في صَدْرِ حُكْمِ اللهِ، فَهَذا نَهْيٌ عن كُلِّ تَمَنٍّ لِخِلافِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، ويَدْخُلُ في النَهْيِ أنْ يَتَمَنّى الرَجُلُ حالَ الآخَرِ مِن دِينٍ أو دُنْيا، عَلى أنْ يَذْهَبَ ما عِنْدَ الآخَرِ، إذْ هَذا هو الحَسَدُ بِعَيْنِهِ، وقَدْ كَرِهَ بَعْضُ العُلَماءِ أنْ يَتَمَنّى أحَدٌ حالَ رَجُلٍ يَنْصِبُهُ في فِكْرِهِ وإنْ لَمْ يَتَمَنَّ زَوالَ حالِهِ، وهَذا في نِعَمِ الدُنْيا، وأمّا في الأعْمالِ الصالِحَةِ فَذَلِكَ هو الحَسَنُ، وأمّا إذا تَمَنّى المَرْءُ عَلى اللهِ مِن غَيْرِ أنْ يَقْرِنَ أُمْنِيَتَهُ بِشَيْءٍ مِمّا قَدَّمْناهُ فَذَلِكَ جائِزٌ، وذَلِكَ مَوْجُودٌ في حَدِيثِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في قَوْلِهِ: « "وَدِدْتُ أنْ أُقْتَلَ في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أحْيا فَأُقْتَلُ"،» وفي غَيْرِ مَوْضِعٍ، ولِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْألُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ﴾. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "لِلرِّجالِ نَصِيبٌ"﴾ [النساء: ٧] الآيَةُ- قالَ قَتادَةُ: مِنَ المِيراثِ، لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ لا تُوَرِّثُ النِساءَ. (p-٥٣٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، ولَفْظَةُ الِاكْتِسابِ تَرُدُّ عَلَيْهِ رَدًّا بَيِّنًا، ولَكِنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلى قَوْلِ النِساءِ: لَيْتَنا ساوَيْنا الرِجالَ في المِيراثِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ بِسَبَبِهِنَّ: لا تَتَمَنَّوْا هَذا فَلِكُلٍّ نَصِيبُهُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: مِنَ الأجْرِ والحَسَناتِ فَكَأنَّهُ قِيلَ لِلنّاسِ: لا تَتَمَنَّوْا في أمْرٍ خِلافَ ما حَكَمَ اللهُ بِهِ، لِاخْتِيارٍ تَرَوْنَهُ أنْتُمْ، فَإنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ أحَدٍ نَصِيبًا مِنَ الأجْرِ والفَضْلِ بِحَسَبِ اكْتِسابِهِ فِيما شُرِعَ لَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا القَوْلُ هو الواضِحُ البَيِّنُ الأعَمُّ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: لا تَتَمَنَّوْا خِلافَ ما حَدَّ اللهُ في تَفْضِيلِهِ، فَإنَّهُ تَعالى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ أحَدٍ مَكاسِبَ تَخْتَصُّ بِهِ، فَهي نَصِيبُهُ، قَدْ جَعَلَ الجِهادَ والإنْفاقَ وسَعْيَ المَعِيشَةِ وحَمْلَ الكُلَفِ كالأحْكامِ والإمارَةِ والحِسْبَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ لِلرِّجالِ، وجَعَلَ الحَمْلَ ومَشَقَّتَهُ وحُسْنَ التَبَعُّلِ وحِفْظَ غَيْبِ الزَوْجِ وخِدْمَةَ البُيُوتِ لِلنِّساءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كَقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، إلّا أنَّهُ فارَقَهُ بِتَقْسِيمِ الأعْمالِ. وفي تَعْلِيقِهِ النَصِيبَ بِالِاكْتِسابِ حَضٌّ عَلى العَمَلِ، وتَنْبِيهٌ عَلى كَسْبِ الخَيْرِ. قَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ: "واسْألُوا" بِالهَمْزِ وسُكُونِ السِينِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ وابْنُ كَثِيرٍ: "وَسَلُوا" ألْقَيا حَرَكَةَ الهَمْزَةِ عَلى السِينِ، وهَذا حَيْثُ وقَعَتِ اللَفْظَةُ إلّا في قَوْلِهِ" "وَسْئَلُوا ما أنْفَقْتُمْ" فَإنَّهم أجْمَعُوا عَلى الهَمْزِ فِيهِ، قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ولَيْثُ بْنُ أبِي سَلِيمٍ: هَذا في العِباداتِ، والدِينِ، وأعْمالِ البِرِّ، لَيْسَ في فَضْلِ الدُنْيا. وقالَ الجُمْهُورُ: ذَلِكَ عَلى العُمُومِ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ، وقَوْلُهُ: "وَسْئَلُوا" يَقْتَضِي (p-٥٣٧)مَفْعُولًا ثانِيًا، فَهو -عِنْدَ بَعْضِ النَحْوِيِّينَ- في قَوْلِهِ: "مِن فَضْلِهِ"، التَقْدِيرُ: واسْألُوا اللهَ فَضْلَهُ، وسِيبَوَيْهِ لا يُجِيزُ هَذا لِأنَّ فِيهِ حَذْفَ "مِن" في الواجِبِ، والمَفْعُولُ عِنْدَهُ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ: واسْألُوا اللهَ الجَنَّةَ، أو كَثِيرًا أو حَظًّا مِن فَضْلِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا هو الأصَحُّ، ويَحْسُنُ عِنْدِي أنْ يُقَدَّرَ المَفْعُولُ- أمانِيكُمْ، إذْ ما تَقَدَّمَ يُحَسِّنُ هَذا التَقْدِيرَ. وقَوْلُهُ: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ مَعْناهُ: أنَّ عِلْمَ اللهِ قَدْ أوجَبَ الإصابَةَ والإتْقانَ والإحْكامَ، فَلا تُعارِضُوا بِتَمَنٍّ ولا غَيْرِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ اللهَ يَعْلَمُ الأشْياءَ، والعَقائِدُ تُوجِبُ أنَّهُ يَعْلَمُ المَعْدُوماتِ الجائِزَ وُقُوعُها وإنْ لَمْ تَكُنْ أشْياءَ، والآيَةُ لا تُناقِضُ ذَلِكَ، بَلْ وقَفَتْ عَلى بَعْضِ مَعْلُوماتِهِ وأمْسَكَتْ عن بَعْضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب