قال تعالى: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ واسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [النساء: ٣٢].
تمايز الجنسَيْنِ بعضهما عن بعضٍ:
هذا نَهْيٌ مِن اللهِ أنْ يتمنّى الرِّجالُ مَنازِلَ النِّساءِ وأحكامَهُنَّ، ونهيٌ للنِّساءِ أنْ يَتَمَنَّيْنَ مَنازِلَ الرجالِ وأحكامَهم، فاللهُ قَسَّمَ الخَلْقَ والرِّزْقَ بحِكْمَتِه، لِيَتِمَّ نظامُ الحياةِ، وكلٌّ جعَلَهُ اللهُ على خِلْقَةٍ حسَنةٍ تامَّةٍ، وإنْ رأى أنّ غيرَهُ أحسَنُ منه مِن وجهٍ، فاللهُ كَمَّلَهُ مِن وجهٍ آخَرَ، ولكنَّ النفوسَ يَقْصُرُ نظرُها، ولا تنظُرُ إلى جميعِ الوجوهِ، لِيَصِحَّ لها النظرُ، فيَصِحَّ لها الحُكْمُ.
والنهيُ هنا للأمانيِّ الباطِلةِ التي يظهَرُ منها الاعتراضُ والكراهيةُ لتقديرِ اللهِ وحُكْمِه، كتمنِّي المرأةِ ميراثَ الرجُلِ، وتمنِّي الرجُلِ مهرَ المرأةِ، فقد قالتْ أمُّ سلَمةَ: يا رسولَ اللهِ، لا نُعطى الميراثَ، ولا نَغْزُو في سبيلِ اللهِ فنُقتَلَ؟ فنزلَتْ: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ [[«تفسير الطبري» (٦/٦٦٣).]].
ورُوِيَ أنّها قالتْ: يا رسولَ اللهِ، تغزو الرجالُ ولا نغزو، وإنّما لنا نِصْفُ الميراثِ! فنزَلَتْ: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ﴾، ونزَلَتْ: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥] [[«تفسير الطبري» (٦/٦٦٤).]].
عدلُ اللهِ في تساوي الجنسَيْنِ في الأجور:
فاللهُ ما خَصَّ جنسًا بعملٍ صالحٍ، إلاَّ وجعَلَ للجنسِ الآخَرِ مِن العملِ ما يُساوِيهِ في الأجرِ خاصًّا بجنسِه، كما في الجهادِ، فاللهُ كتَبَهُ على الرِّجالِ، ولم يَحْرِمِ النِّساءَ مِن أجرِه، كما جاء عن عائِشَةَ، قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، عَلى النِّساءِ جِهادٌ؟ قالَ: (نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهادٌ لا قِتالَ فِيهِ: الحَجُّ والعُمْرَةُ)[[أخرجه أحمد (٢٥٣٢٢) (٦/١٦٥)، وابن ماجه (٢٩٠١) (٢/٩٦٨).]].
وهذا مِن عدلِ اللهِ وحِكْمَتِه وفَضْلِه.
وهكذا في كلِّ شخصٍ، لا يَحْرِمُ اللهُ أحدًا مِن عملٍ إلاَّ جعَلَ غيرَهُ يُساوي ما يَعجِزُ عنه، كالمشلولِ الذي لا يستطيعُ القيامَ والقعودَ والحَرَكةَ، لم يفوِّتِ اللهُ عليه الأجورَ، بل جعَلَ فيما يستطيعُهُ مِن العباداتِ القوليَّةِ عوضًا للبدنيَّةِ التي تَفُوتُهُ، فتكونُ في حقِّه أعظَمَ مِن غيرِهِ، ليُدرِكَ غيرَهُ في الأجرِ.
وهذا في حالِ الممنوعِينَ، سواءٌ بعجزٍ بدنيٍّ، أو بحُكْمٍ شرعيٍّ، وأمّا التاركُ القادِرُ، فمحرومٌ مِن العملِ الصالِحِ.
كراهةُ تمنِّي ما لا يمكِنُ تحقُّقُهُ:
ولا ينبغي تمنِّي ما لا يُمكِنُ تحقُّقُهُ أو يصعُبُ تحقُّقُهُ، فإنّ هذا يُورِثُ العجزَ والحَسَدَ وتمنِّيَ زوالِ نِعْمةِ الغيرِ، وربَّما أوْرَثَ الاعتراضَ على قَدَرِ اللهِ، والواجبُ سؤالُ اللهِ مِن فَضْلِه، قال ابنُ عبّاسٍ: «لا يتمنّى الرجلُ يقولُ: «لَيْتَ أنّ لي مالَ فلانٍ وأهلَه!»، فنَهى اللهُ سبحانَه عن ذلك، ولكنْ لِيَسْأَلِ اللهَ مِن فَضْلِه»[[«تفسير الطبري» (٦/٦٦٤)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٧٦).]].
والنهيُ عن تمنِّي مالِ الغيرِ خاصٌّ بمَن يتمنّاهُ لأجلِ الدُّنيا تكثُّرًا ومُتْعةً، ومَن تمنّاهُ ليعمَلَ كعملِهِ الصالحِ مِن النفقةِ والبذلِ في سبيلِ اللهِ، فلا بأسَ بذلك، فتمنِّي الخيرِ لفعلِهِ جائزٌ، كما تمنّى النبيُّ ﷺ الشهادةَ في سبيلِ اللهِ مرّاتٍ، وقد روى أبُو هُرَيْرَةَ، قال: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لا تَحاسُدَ إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ القُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آناءَ اللَّيْلِ والنَّهارِ، يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ ما أُوتِيَ هَذا، لَفَعَلْتُ كَما يَفْعَلُ، ورَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ ما أُوتِيَ، لَفَعَلْتُ كَما يَفْعَلُ)[[أخرجه البخاري (٧٢٣٢) (٩/٨٤).]].
وقال ﷺ: (إنَّما الدُّنْيا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مالًا وعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، ويَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، ويَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذا بِأَفْضَلِ المَنازِلِ، وعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا ولَمْ يَرْزُقْهُ مالًا، فَهُوَ صادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُما سَواءٌ...)، الحديثَ أخرَجَهُ الترمذيُّ[[أخرجه الترمذي (٢٣٢٥) (٤/٥٦٣).]].
وكثرةُ التمنِّي تُغيِّبُ حِكْمةَ اللهِ في نفوسِ العِبادِ في تقسيمِ أرزاقِهم ومَعاشِهم، فاللهُ قد يُعطِي عبدًا لِيُصلِحَهُ، ويَحْرِمُ آخَرَ ليُصلِحَهُ، لاختلافِ حالِهما نفسًا ومكانًا وزمانًا، ولو تمنّى المحرومُ ما للمرزوقِ، لَفَسَدَ، وإنّما يتمنّاهُ، لأنّه ينظُرُ لحالِ المرزوقِ ولا ينظُرُ لحالِه، ولذا يُرْوى عن الحسنِ قولُهُ: «لا يَتَمَنَّ أحدُكم المالَ وما يُدْرِيه، لعلَّ هلاكَه فيه!»[[«تفسير الطبري» (٦/٦٦٥).]].
استقلالُ المرأةِ في مالِها:
وفي قولِه تعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ﴾ إشارةٌ إلى استقلالِ المرأةِ في مالِها، وما اكتسَبَتْ، كالرِّجالِ، ولها التصرُّفُ فيه بما أحَلَّ اللهُ لها، ومالُها الذي تَملِكُهُ لا يَدخُلُ تحتَ قِوامةِ زَوْجِها عليها، فلها البيعُ والشراءُ والهِبَةُ منه كالرجُلِ، مِن غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيلَةٍ ولا قَصْدِ سُوءٍ، وهذا لا يُعارِضُ قولَ اللهِ تعالى السابقَ في أولِ النِّساءِ: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا﴾ [النساء: ٥]، لأنّ المرادَ أموالُ الوليِّ نفسِه لا يُفَرِّطُ في إعطائِها مَن يَخْشى إفسادَه ممَّن يَلي أمْرَه، ويَدخُلُ في السُّفهاءِ كلُّ مَن لا يُحسِنُ تدبيرَ المالِ وإنفاقَه، مِن صبيٍّ صغيرٍ وامرأةٍ ورجُلٍ، ويُنفَقُ عليهم وتُقضى حاجتُهم بالمعروفِ.
{"ayah":"وَلَا تَتَمَنَّوۡا۟ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ لِّلرِّجَالِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُوا۟ۖ وَلِلنِّسَاۤءِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُوا۟ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا"}