الباحث القرآني

(p-٢٨)﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ واسْئَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ . عَطْفٌ عَلى جُمْلَةٍ: لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ. و: لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم. والمُناسَبَةُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ: أنَّ التَّمَنِّيَ يُحَبِّبُ لِلْمُتَمَنِّي الشَّيْءَ الَّذِي تَمَنّاهُ، فَإذا أحَبَّهُ أتْبَعَهُ نَفْسَهُ فَرامَ تَحْصِيلَهُ وافْتَتَنَ بِهِ، فَرُبَّما بَعَثَهُ ذَلِكَ الِافْتِتانُ إلى تَدْبِيرِ الحِيَلِ لِتَحْصِيلِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، وإلى الِاسْتِئْثارِ بِهِ عَنْ صاحِبِ الحَقِّ فَيُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ مُلاحَظَةِ الواجِبِ مِن إعْطاءِ الحَقِّ صاحِبَهُ وعَنْ مَناهِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها الجُمَلُ المَعْطُوفُ عَلَيْها. وقَدْ أصْبَحَ هَذا التَّمَنِّي في زَمانِنا هَذا فِتْنَةً لِطَوائِفَ مِنَ المُسْلِمِينَ سَرَتْ لَهم مِن أخْلاقِ الغُلاةِ في طَلَبِ المُساواةِ مِمّا جَرَّ أُمَمًا كَثِيرَةً إلى نِحْلَةِ الشِّيُوعِيَّةِ فَصارُوا يَتَخَبَّطُونَ لِطَلَبِ التَّساوِي في كُلِّ شَيْءٍ ويُعانُونَ إرْهاقًا لَمْ يَحْصُلُوا مِنهُ عَلى طائِلٍ. والنَّهْيُ عَنِ التَّمَنِّي وتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إلى ما لَيْسَ لَها جاءَ في هَذِهِ الآيَةِ عامًّا، فَكانَ كالتَّذْيِيلِ لِلْأحْكامِ السّابِقَةِ لِسَدِّ ذَرائِعِها وذَرائِعِ غَيْرِها، فَكانَ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ في دَرْءِ الشُّرُورِ. وقَدْ كانَ التَّمَنِّي مِن أعْظَمِ وسائِلِ الجَرائِمِ، فَإنَّهُ يُفْضِي إلى الحَسَدِ، وقَدْ كانَ أوَّلُ جُرْمٍ حَصَلَ في الأرْضِ نَشَأ عَنِ الحَسَدِ. ولَقَدْ كَثُرَ ما انْتُهِبَتْ أمْوالٌ، وقُتِلَتْ نُفُوسٌ لِلرَّغْبَةِ في بَسْطِ رِزْقٍ، أوْ فِتْنَةِ نِساءٍ، أوْ نَوالِ مُلْكٍ، والتّارِيخُ طافِحٌ بِحَوادِثَ مِن هَذا القَبِيلِ. والَّذِي يَبْدُو أنَّ هَذا التَّمَنِّيَ هو تَمَنِّي أمْوالِ المُثْرِينَ، وتَمَنِّي أنْصِباءِ الوارِثِينَ، وتَمَنِّي الِاسْتِئْثارِ بِأمْوالِ اليَتامى ذُكُورِهِمْ وإناثِهِمْ، وتَمَنِّي حِرْمانِ النِّساءِ مِنَ المِيراثِ لِيُناسِبَ ما سَبَقَ مِن إيتاءِ اليَتامى أمْوالَهم وإنْصافِ النِّساءِ في مُهُورِهِنَّ، وتَرْكِ مُضارَّتِهِنَّ إلْجاءً إلى إسْقاطِها، ومِن إعْطاءِ أنْصِباءِ الوَرَثَةِ كَما قَسَمَ اللَّهُ لَهم. وكُلُّ ذَلِكَ مِن تَفْضِيلِ بَعْضِ النّاسِ عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ. (p-٢٩)وقَدْ أبْدى القَفّالُ مُناسَبَةً لِلْعَطْفِ تَنْدَرِجُ فِيما ذَكَرْتُهُ. وفي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مُجاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّها قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجالُ ولا يَغْزُو النِّساءُ، وإنَّما لَنا نِصْفُ المِيراثِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾ . قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: ورِواياتُهُ كُلُّها حِسانٌ لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ. قُلْتُ: لَمّا كانَ مُرْسَلًا يَكُونُ قَوْلُهُ: فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ولا تَتَمَنَّوْا﴾ إلَخْ. مِن كَلامِ مُجاهِدٍ، ومَعْناهُ أنَّ نُزُولَ هَذِهِ الآيَةِ كانَ قَرِيبًا مِن زَمَنِ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَكانَ في عُمُومِها ما يَرُدُّ عَلى أُمِّ سَلَمَةَ وغَيْرِها. وقَدْ رُوِيَتْ آثارٌ: بَعْضُها في أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في تَمَنِّي النِّساءِ الجِهادَ، وبَعْضُها في أنَّها نَزَلَتْ في قَوْلِ امْرَأةٍ: إنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وشَهادَةَ امْرَأتَيْنِ بِرَجُلٍ أفَنَحْنُ في العَمَلِ كَذَلِكَ، وبَعْضُها في أنَّ رِجالًا قالُوا: إنَّ ثَوابَ أعْمالِنا عَلى الضِّعْفِ مِن ثَوابِ النِّساءِ، وبَعْضُها في أنَّ النِّساءَ سَألْنَ أجْرَ الشَّهادَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ وقُلْنَ: لَوْ كُتِبَ عَلَيْنا القِتالُ لَقاتَلْنا. وكُلُّ ذَلِكَ جُزْئِيّاتٌ وأمْثِلَةٌ مِمّا شَمِلَهُ عُمُومُ ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ. والتَّمَنِّي هو طَلَبُ حُصُولِ ما يَعْسُرُ حُصُولُهُ لِلطّالِبِ. وذَلِكَ لَهُ أحْوالٌ: مِنها أنْ يَتَمَنّى ما هو مِن فَضْلِ اللَّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِيهِ إلى شَيْءٍ في يَدِ الغَيْرِ، ولا مانِعَ يَمْنَعُهُ مِن شَرْعٍ أوْ عادَةٍ، سَواءٌ كانَ مُمْكِنَ الحُصُولِ كَتَمَنِّي الشَّهادَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، أمْ كانَ غَيْرَ مُمْكِنِ الحُصُولِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «ولَوَدِدْتُ أنِّي أُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيا ثُمَّ أُقْتَلُ» . وقَوْلِهِ ﷺ «لَيْتَنا نَرى إخْوانَنا» يَعْنِي المُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَهُ. ومِنها أنْ يَتَمَنّى ما لا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لِمانِعٍ عادِيٍّ أوْ شَرْعِيٍّ، كَتَمَنِّي أُمِّ سَلَمَةَ أنْ يَغْزُوَ النِّساءُ كَما يَغْزُو الرِّجالُ، وأنْ تَكُونَ المَرْأةُ مُساوِيَةَ الرَّجُلِ في المِيراثِ، ومِنها أنْ يَتَمَنّى تَمَنِّيًا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الرِّضا بِما ساقَهُ اللَّهُ والضَّجَرِ مِنهُ، أوْ عَلى الِاضْطِرابِ والِانْزِعاجِ، أوْ عَلى عَدَمِ الرِّضا بِالأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ. ومِنها أنْ يَتَمَنّى نِعْمَةً تُماثِلُ نِعْمَةً في يَدِ الغَيْرِ مَعَ إمْكانِ حُصُولِها لِلْمُتَمَنِّي بِدُونِ أنْ تُسْلَبَ مِنَ الَّتِي هي في يَدِهِ كَتَمَنِّي عِلْمٍ مِثْلِ عِلْمِ المُجْتَهِدِ أوْ مالٍ مِثْلِ مالِ قارُونَ. (p-٣٠)ومِنها أنْ يَتَمَنّى ذَلِكَ لَكِنَّ مِثْلَهُ لا يَحْصُلُ إلّا بِسَلْبِ المُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهِ كَتَمَنِّي مُلْكِ بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ أوْ زَوْجَةِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ. ومِنها أنْ يَتَمَنّى زَوالَ نِعْمَةٍ عَنِ الغَيْرِ بِدُونِ قَصْدِ مَصِيرِها إلى المُتَمَنِّي. وحاصِلُ مَعْنى النَّهْيِ في الآيَةِ أنَّهُ إمّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِتَرْبِيَةِ المُؤْمِنِينَ عَلى أنْ لا يَشْغَلُوا نُفُوسَهم بِما لا قِبَلَ لَهم بِنَوالِهِ ضَرُورَةَ أنَّهُ سَمّاها تَمَنِّيًا، لِئَلّا يَكُونُوا عَلى الحالَةِ الَّتِي ورَدَ فِيها حَدِيثُ «يَتَمَنّى عَلى اللَّهِ الأمانِيَّ»، ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ إرْشادٌ إلى طَلَبِ المُمْكِنِ، إذْ قَدْ عَلِمُوا أنَّ سُؤالَ اللَّهِ ودُعاءَهُ يَكُونُ في مَرْجُوِّ الحُصُولِ، وإلّا كانَ سُوءَ أدَبٍ. وإمّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وهو الظّاهِرُ مِن عَطْفِهِ عَلى المَنهِيّاتِ المُحَرَّمَةِ، فَيَكُونُ جَرِيمَةً ظاهِرَةً، أوْ قَلْبِيَّةً كالحَسَدِ، بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [النساء: ٢٩] ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] . فالتَّمَنِّي الأوَّلُ والرّابِعُ غَيْرُ مَنهِيٍّ عَنْهُما، وقَدْ تَرْجَمَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: " بابُ تَمَنِّي الشَّهادَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ وبابُ الِاغْتِباطِ في العِلْمِ والحِكْمَةِ، وذَكَرَ حَدِيثَ «لا حَسَدَ إلّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَسَلَّطَهُ عَلى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، ورَجُلٍ آتاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهو يَقْضِي بِها ويُعَلِّمُها النّاسَ» . وأمّا التَّمَنِّي الثّانِي والثّالِثُ فَمَنهِيٌّ عَنْهُما لِأنَّهُما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِما اضْطِرابُ النَّفْسِ وعَدَمُ الرِّضا بِما قَسَمَ اللَّهُ والشَّكُّ في حِكْمَةِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ. وأمّا التَّمَنِّي الخامِسُ والسّادِسُ فَمَنهِيٌّ عَنْهُما لا مَحالَةَ، وهو مِنَ الحَسَدِ، وفي الحَدِيثِ «لا تَسْألِ المَرْأةُ طَلاقَ أُخْتِها لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَها» ولِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أنْ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلى خِطْبَةِ أخِيهِ، إلّا إذا كانَ تَمَنِّيهِ في الحالَةِ الخامِسَةِ تَمَنِّي حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ مَن هي بِيَدِهِ بِحَيْثُ لا يَسْتَعْجِلُ مَوْتَهُ. وقَدْ قالَ أبُو بَكْرٍ، لَمّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ، يُخاطِبُ المُهاجِرِينَ: فَكُلُّكم ورِمَ أنْفُهُ يُرِيدُ أنْ يَكُونَ لَهُ الأمْرُ دُونَهُ. والسّادِسُ أشَدُّ وهو شَرُّ الحَسَدَيْنِ إلّا إذا كانَ صاحِبُ النِّعْمَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلى ضُرٍّ يَلْحَقُ الدِّينَ أوِ الأُمَّةَ أوْ عَلى إضْرارِ المُتَمَنِّي. (p-٣١)ثُمَّ مَحَلُّ النَّهْيِ في الآيَةِ: هو التَّمَنِّي، وهو طَلَبُ ما لا قِبَلَ لِأحَدٍ بِتَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي يَبْعَثُ عَلى سُلُوكِ مَسالِكِ العَداءِ، فَأمّا طَلَبُ ما يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ مِن غَيْرِ ضُرٍّ بِالغَيْرِ فَلا نَهْيَ عَنْهُ، لِأنَّهُ بِطَلَبِهِ يَنْصَرِفُ إلى تَحْصِيلِهِ فَيُحَصِّلُ فائِدَةً دِينِيَّةً أوْ دُنْيَوِيَّةً، أمّا طَلَبُ ما لا قِبَلَ لَهُ بِتَحْصِيلِهِ فَإنْ رَجَعَ إلى الفَوائِدِ الأُخْرَوِيَّةِ فَلا ضَيْرَ فِيهِ. وحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الأقْسامِ المَنهِيِّ عَنْها مِنَ التَّمَنِّي أنَّها تُفْسِدُ ما بَيْنَ النّاسِ في مُعامَلاتِهِمْ فَيَنْشَأُ عَنْها الحَسَدُ، وهو أوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، إذْ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنِ الحَسَدِ الغَيْظُ والغَضَبُ فَيُفْضِي إلى أذى المَحْسُودِ، قالَ تَعالى: ﴿ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ﴾ [الفلق: ٥] . وكانَ سَبَبُ أوَّلِ جَرِيمَةٍ في الدُّنْيا الحَسَدَ: إذْ حَسَدَ ابْنُ آدَمَ أخاهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إنَّ تَمَنِّي الأحْوالِ المَنهِيِّ عَنْها يَنْشَأُ في النُّفُوسِ أوَّلَ ما يَنْشَأُ خاطِرًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ يَرْبُو في النَّفْسِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتّى يَصِيرَ مَلَكَةً، فَتَدْعُو المَرْءَ إلى اجْتِرامِ الجَرائِمِ لِيَشْفِيَ غِلَّتَهُ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ لِيَزْجُرُوا نُفُوسَهم عِنْدَ حُدُوثِ هاتِهِ التَّمَنِّياتِ بِزاجِرِ الدِّينِ والحِكْمَةِ فَلا يَدَعُوها تَرْبُو في النُّفُوسِ. وما نَشَأتِ الثَّوْراتُ والدِّعاياتُ إلى ابْتِزازِ الأمْوالِ بِعَناوِينَ مُخْتَلِفَةٍ إلّا مِن تَمَنِّي ما فَضَّلَ بِهِ اللَّهُ بَعْضَ النّاسِ عَلى بَعْضٍ، أوْ إلّا أثَرٌ مِن آثارِ ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النّاسِ عَلى بَعْضٍ. وقَوْلُهُ: ﴿بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾ صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ مُرادًا بِهِ آحادُ النّاسِ، ولِأنْ يَكُونَ مُرادًا بِهِ أصْنافُهم. وقَوْلُهُ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا﴾ الآيَةَ: إنْ أُرِيدَ بِذِكْرِ الرِّجالِ والنِّساءِ هُنا قَصْدُ تَعْمِيمِ النّاسِ مِثْلَ ما يُذْكَرُ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ، والبَرُّ والبَحْرُ، والنَّجْدُ والغَوْرُ، فالنَّهْيُ المُتَقَدِّمُ عَلى عُمُومِهِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ مَساقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي قَطْعًا لِعُذْرِ المُتَمَنِّينَ، وتَأْنِيسًا بِالنَّهْيِ، ولِذَلِكَ فَصَّلَتْ، وإنْ أُرِيدَ بِالرِّجالِ والنِّساءِ كُلًّا مِنَ النَّوْعَيْنِ بِخُصُوصِهِ بِمَعْنى أنَّ الرِّجالَ يَخْتَصُّونَ بِما اكْتَسَبُوهُ، والنِّساءَ يَخْتَصِصْنَ بِما اكْتَسَبْنَ مِنَ الأمْوالِ، فالنَّهْيُ المُتَقَدِّمُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَنِّي الَّذِي يُفْضِي إلى أكْلِ أمْوالِ اليَتامى والنِّساءِ، أيْ لَيْسَ لِلْأوْلِياءِ أكْلُ أمْوالِ مَوالِيهِمْ ووَلاياهم إذْ لِكُلٍّ مِن هَؤُلاءِ ما اكْتَسَبَ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّتْ هي عَلَيْها، تَقْدِيرُها: ولا تَتَمَنَّوْا فَتَأْكُلُوا أمْوالَ مَوالِيكم. (p-٣٢)والنَّصِيبَ: الحَظُّ والمِقْدارُ، وهو صادِقٌ عَلى الحَظِّ في الآخِرَةِ والحَظِّ في الدُّنْيا، وتَقَدَّمَ آنِفًا. والِاكْتِسابُ: السَّعْيُ لِلْكَسْبِ، وقَدْ يُسْتَعارُ لِحُصُولِ الشَّيْءِ ولَوْ بِدُونِ سَعْيٍ وعِلاجٍ. و(مِن) لِلتَّبْعِيضِ أوْ لِلِابْتِداءِ، والمَعْنى يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتَحَقَّ الرِّجالُ والنِّساءُ كُلٌّ حَظَّهُ مِنَ الأجْرِ والثَّوابِ المُنْجَزِ لَهُ مِن عَمَلِهِ، فَلا فائِدَةَ في تَمَنِّي فَرِيقٍ أنْ يَعْمَلَ عَمَلَ فَرِيقٍ آخَرَ، لِأنَّ الثَّوابَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ في عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإنَّ وسائِلَ الثَّوابِ كَثِيرَةٌ فَلا يَسُوءُكُمُ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ. ويُحْتَمَلُ أنَّ المَعْنى: اسْتَحَقَّ كُلُّ شَخْصٍ، سَواءٌ كانَ رَجُلًا أمِ امْرَأةً، حَظَّهُ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا المُنْجَزِ لَهُ مِمّا سَعى إلَيْهِ بِجُهْدِهِ، أوِ الَّذِي هو بَعْضُ ما سَعى إلَيْهِ، فَتَمَنِّي أحَدٍ شَيْئًا لَمْ يَسْعَ إلَيْهِ ولَمْ يَكُنْ مِن حُقُوقِهِ، هو تَمَنٍّ غَيْرُ عادِلٍ، فَحَقَّ النَّهْيُ عَنْهُ، أوِ المَعْنى اسْتَحَقَّ أُولَئِكَ نَصِيبَهم مِمّا كَسَبُوا، أيْ مِمّا شُرِعَ لَهم مِنَ المِيراثِ ونَحْوِهِ، فَلا يَحْسُدْ أحَدٌ أحَدًا عَلى ما جُعِلَ لَهُ مِنَ الحَقِّ، لِأنَّ اللَّهَ أعْلَمُ بِأحَقِّيَّةِ بَعْضِكم عَلى بَعْضٍ. وقَوْلُهُ: واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ. إنْ كانَ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا﴾ إلَخْ، الَّذِي هو عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي، فالمَعْنى: لِلرِّجالِ مَزاياهم وحُقُوقُهم، ولِلنِّساءِ مَزاياهُنَّ وحُقُوقُهُنَّ، فَمَن تَمَنّى ما لَمْ يُعَدَّ لِصِنْفِهِ فَقَدِ اعْتَدى، لَكِنْ يَسْألُ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ أنْ يُعْطِيَهُ ما أعَدَّ لِصِنْفِهِ مِنَ المَزايا، ويَجْعَلَ ثَوابَهُ مُساوِيًا لِثَوابِ الأعْمالِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِصِنْفِهِ، كَما قالَ النَّبِيءُ ﷺ لِلنِّساءِ: «لَكُنَّ أفْضَلُ الجِهادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»، وإنْ كانَ عَطْفًا عَلى النَّهْيِ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا﴾ فالمَعْنى: لا تَتَمَنَّوْا ما في يَدِ الغَيْرِ ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ فَإنَّ فَضْلَ اللَّهِ يَسَعُ الإنْعامَ عَلى الكُلِّ، فَلا أثَرَ لِلتَّمَنِّي إلّا تَعَبُ النَّفْسِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (واسْألُوا) بِإثْباتِ الهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ السّاكِنَةِ وهي عَيْنُ الفِعْلِ وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، والكِسائِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ وحَذْفِ الهَمْزَةِ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِها إلى السِّينِ السّاكِنِ قَبْلَها تَخْفِيفًا. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ تَذْيِيلٌ مُناسِبٌ لِهَذا التَّكْلِيفِ، لِأنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَمَلِ النَّفْسِ لا يُراقِبُ فِيهِ إلّا رَبَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب