الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ولا تَتَمَنَّوْا التَّمَنِّي نَوْعٌ مِنَ الإرادَةِ يَتَعَلَّقُ بِالمُسْتَقْبَلِ، كالتَّلَهُّفِ نَوْعٌ مِنها يَتَعَلَّقُ بِالماضِي، وفِيهِ النَّهْيُ عَنْ أنْ يَتَمَنّى الإنْسانُ ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ النّاسِ عَلَيْهِ، فَإنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِن عَدَمِ الرِّضا بِالقِسْمَةِ الَّتِي قَسَمَها اللَّهُ بَيْنَ عِبادِهِ عَلى مُقْتَضى إرادَتِهِ وحِكْمَتِهِ البالِغَةِ، وفِيهِ أيْضًا نَوْعٌ مِنَ الحَسَدِ المَنهِيِّ عَنْهُ إذا صَحِبَهُ إرادَةُ زَوالِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنِ الغَيْرِ. وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الغِبْطَةِ هَلْ تَجُوزُ أمْ لا ؟ وهي أنْ يَتَمَنّى أنْ يَكُونَ بِهِ حالٌ مِثْلُ حالِ صاحِبِهِ مِن دُونِ أنْ يَتَمَنّى زَوالَ ذَلِكَ الحالِ عَنْ صاحِبِهِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى جَوازِ ذَلِكَ، واسْتَدَلُّوا بِالحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لا حَسَدَ إلّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهو يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُنْفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ» وقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ البُخارِيُّ بابَ الِاغْتِباطِ في العِلْمِ والحُكْمِ، وعُمُومُ لَفْظِ الآيَةِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ تَمَنِّي ما وقَعَ بِهِ التَّفْضِيلُ سَواءٌ كانَ مَصْحُوبًا بِما يَصِيرُ بِهِ مِن جِنْسِ الحَسَدِ أمْ لا، وما ورَدَ في السُّنَّةِ مِن جَوازِ ذَلِكَ في أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِهَذا العُمُومِ، وسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ، ولَكِنَّ الِاعْتِبارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وقَوْلُهُ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾ إلَخْ، فِيهِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، ورُجُوعٌ إلى ما يَتَضَمَّنُهُ سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ مِن أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجالُ ولا نَغْزُو ولا نُقاتِلُ فَنَسْتَشْهِدُ، وإنَّما لَنا نِصْفُ المِيراثِ فَنَزَلَتْ. أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ، وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذا السَّبَبِ مِن طُرُقٍ بِألْفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. والمَعْنى في الآيَةِ أنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ نَصِيبًا عَلى حَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ إرادَتُهُ وحِكْمَتُهُ، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ المَجْعُولِ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِن فَرِيقَيِ النِّساءِ والرِّجالِ بِالنَّصِيبِ مِمّا اكْتَسَبُوا عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ، شَبَّهَ اقْتِضاءَ حالِ كُلِّ فَرِيقٍ لِنَصِيبِهِ بِاكْتِسابِهِ إيّاهُ. قالَ قَتادَةُ: لِلرِّجالِ نُصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ ولِلنِّساءِ كَذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ بِذَلِكَ المِيراثِ والِاكْتِسابِ عَلى هَذا القَوْلِ بِمَعْنى ما ذَكَرْناهُ. قَوْلُهُ: ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ولا تَتَمَنَّوْا وتَوْسِيطُ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾ إلَخْ. بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِتَقْرِيرِ ما تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ، وهَذا الأمْرُ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ سُؤالِ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِن فَضْلِهِ كَما قالَهُ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ. قَوْلُهُ: ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ أيْ: جَعَلْنا لِكُلِّ إنْسانٍ ورَثَةً مَوالِيَ يَلُونَ مِيراثَهُ، فَلِكُلٍّ: مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّمَ عَلى الفِعْلِ لِتَأْكِيدِ الشُّمُولِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُقَرَّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها؛ أيْ: لِيَتْبَعَ كُلُّ أحَدٍ ما قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنَ المِيراثِ، ولا يَتَمَنَّ ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ - وقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَها: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكُمْ﴾ وقِيلَ العَكْسُ كَما رَوى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ النّاسِخَ لِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكُمْ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٥] والمَوالِي جَمْعُ مَوْلًى، وهو يُطْلَقُ عَلى المُعْتَقِ والمُعْتِقِ والنّاصِرِ وابْنِ العَمِّ والجارِ، قِيلَ: والمُرادُ هُنا العَصَبَةُ؛ أيْ: ولِكُلٍّ جَعَلْنا عَصَبَةً يَرِثُونَ ما أبْقَتِ الفَرائِضُ. قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكُمْ﴾ المُرادُ بِهِمْ مَوالِي المُوالاةِ: كانَ الرَّجُلُ مِن أهْلِ الجاهِلِيَّةِ يُعاقِدُ الرَّجُلَ؛ أيْ: يُحالِفُهُ فَيَسْتَحِقُّ مِن مِيراثِهِ نَصِيبًا، ثُمَّ ثَبَتَ في صَدْرِ (p-٢٩٥)الإسْلامِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ﴾ . وقِراءَةُ الجُمْهُورِ " عاقَدَتْ "، ورُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ أنَّهُ قَرَأ " عَقَّدَتْ " بِتَشْدِيدِ القافِ عَلى التَّكْثِيرِ؛ أيْ: والَّذِينَ عَقَّدَتْ لَهم أيْمانُكُمُ الحِلْفَ، أوْ عَقَّدَتْ عُهُودَهم أيْمانُكم، والتَّقْدِيرُ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: والَّذِينَ عاقَدَتْهم أيْمانُكم فَآتَوْهم نَصِيبَهم؛ أيْ: ما جَعَلْتُمُوهُ لَهم بِعَقْدِ الحِلْفِ. قَوْلُهُ: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى بَيانِ العِلَّةِ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِها الرِّجالُ الزِّيادَةَ، كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَحَقَّ الرِّجالُ ما اسْتَحَقُّوا مِمّا لَمْ تُشارِكْهم فِيهِ النِّساءُ، فَقالَ: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ﴾ إلَخْ، والمُرادُ أنَّهم يُقَوِّمُونَ بِالذَّبِّ عَنْهُنَّ كَما تُقَوِّمُ الحُكّامُ والأُمَراءُ بِالذَّبِّ عَنِ الرَّعايَةِ، وهم أيْضًا يُقَوِّمُونَ ما يَحْتَجْنَ إلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ والمَسْكَنِ، وجاءَ بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ في قَوْلِهِ: قَوّامُونَ لِيَدُلَّ عَلى أصالَتِهِمْ في هَذا الأمْرِ، والباءُ في قَوْلِهِ: ﴿بِما فَضَّلَ اللَّهُ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ لِلرِّجالِ والنِّساءِ؛ أيْ: إنَّما اسْتَحَقُّوا هَذِهِ المَزِيَّةَ لِتَفْضِيلِ اللَّهِ لِلرِّجالِ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَهم بِهِ مِن كَوْنِ فِيهِمُ الخُلَفاءُ والسَّلاطِينُ والحُكّامُ والأُمَراءُ والغُزاةُ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ. قَوْلُهُ: ﴿وبِما أنْفَقُوا﴾ أيْ: وبِسَبَبِ ما أنْفَقُوا مِن أمْوالِهِمْ، وما مَصْدَرِيَّةٌ أوْ مَوْصُولَةٌ، وكَذَلِكَ هي في قَوْلِهِ: ﴿بِما فَضَّلَ اللَّهُ﴾ ومِن تَبْعِيضِيَّةٌ، والمُرادُ ما أنْفَقُوهُ في الإنْفاقِ عَلى النِّساءِ، وبِما دَفَعُوهُ في مُهُورِهِنَّ مِن أمْوالِهِمْ، وكَذَلِكَ ما يُنْفِقُونَهُ في الجِهادِ وما يَلْزَمُهم في العَقْلِ. وقَدِ اسْتَدَلَّ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى جَوازِ فَسْخِ النِّكاحِ إذا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وكُسْوَتِها، وبِهِ قالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وغَيْرُهُما. قَوْلُهُ: فالصّالِحاتُ أيْ مِنَ النِّساءِ قانِتاتٌ أيْ: مُطِيعاتٌ لِلَّهِ قائِماتٌ بِما يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِن حُقُوقِ اللَّهِ وحُقُوقِ أزْواجِهِنَّ ﴿حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أيْ: لِما يُجِبُ حِفْظُهُ عِنْدَ غَيْبَةِ أزْواجِهِنَّ عَنْهُنَّ مِن حِفْظِ نُفُوسِهِنَّ وحِفْظِ أمْوالِهِمْ، و" ما " في قَوْلِهِ: ﴿بِما حَفِظَ اللَّهُ﴾ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أيْ: بِحِفْظِ اللَّهِ. والمَعْنى: أنَّهُنَّ حافِظاتٌ لِغَيْبِ أزْواجِهِنَّ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُنَّ ومَعُونَتِهِ وتَسْدِيدِهِ، أوْ حافِظاتٌ لَهُ بِما اسْتَحْفَظَهُنَّ مِن أداءِ الأمانَةِ إلى أزْواجِهِنَّ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ، أوْ حافِظاتٌ لَهُ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُنَّ بِما أوْصى بِهِ الأزْواجَ في شَأْنِهِنَّ مِن حُسْنِ العِشْرَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً، والعائِدُ مَحْذُوفٌ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ( بِما حَفِظَ اللَّهَ ) بِنَصْبِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ. والمَعْنى بِما حَفِظْنَ اللَّهَ؛ أيْ: حَفِظْنَ أمْرَهُ، أوْ حَفِظْنَ دِينَهُ، فَحُذِفَ الضَّمِيرُ الرّاجِعُ إلَيْهِنَّ لِلْعِلْمِ بِهِ، و" ما " عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مَصْدَرِيَّةٌ، أوْ مَوْصُولَةٌ، كالقِراءَةِ الأُولى؛ أيْ: بِحِفْظِهِنَّ اللَّهَ، أوْ بِالَّذِي حَفِظْنَ اللَّهَ بِهِ. قَوْلُهُ: ﴿واللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ هَذا خِطابٌ لِلْأزْواجِ، قِيلَ: الخَوْفُ هُنا عَلى بابِهِ، وهو حالَةٌ تَحْدُثُ في القَلْبِ عِنْدَ حُدُوثِ أمْرٍ مَكْرُوهٍ، أوْ عِنْدَ ظَنِّ حُدُوثِهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالخَوْفِ هُنا العِلْمُ. والنُّشُوزُ: العِصْيانُ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ أصْلِ مَعْناهُ في اللُّغَةِ. قالَ ابْنُ فارِسٍ: يُقالُ: نَشَزَتِ المَرْأةُ: اسْتَعْصَتْ عَلى بَعْلِها، ونَشَزَ بَعْلُها عَلَيْها: إذا ضَرَبَها وجَفاها. فَعِظُوهُنَّ أيْ: ذَكِّرُوهُنَّ بِما أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الطّاعَةِ وحُسْنِ العِشْرَةِ، ورَغِّبُوهُنَّ ورَهِّبُوهُنَّ ﴿واهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ﴾ يُقالُ هَجَرَهُ؛ أيْ: تَباعَدَ مِنهُ. والمَضاجِعُ: جَمْعُ مَضْجَعٍ، وهو مَحَلُّ الِاضْطِجاعِ؛ أيْ: تَباعَدُوا عَنْ مُضاجَعَتِهِنَّ ولا تُدْخِلُوهُنَّ تَحْتَ ما تَجْعَلُونَهُ عَلَيْكم حالَ الِاضْطِجاعِ مِنَ الثِّيابِ، وقِيلَ: هو أنْ يُوَلِّيَها ظَهْرَهُ عِنْدَ الِاضْطِجاعِ، وقِيلَ: هو كِنايَةٌ عَنْ تَرْكِ جِماعِها، وقِيلَ: لا تَبِيتُ مَعَهُ في البَيْتِ الَّذِي يَضْطَجِعُ فِيهِ واضْرِبُوهُنَّ أيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وظاهِرُ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ أنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أنَّ يَفْعَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الأُمُورِ عِنْدَ مَخافَةِ النُّشُوزِ، وقِيلَ: إنَّهُ لا يَهْجُرُها إلّا بَعْدَ عَدَمِ تَأْثِيرِ الوَعْظِ، فَإنْ أثَّرَ الوَعْظُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلى الهَجْرِ، وإنْ كَفاهُ الهَجْرُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلى الضَّرْبِ ﴿فَإنْ أطَعْنَكُمْ﴾ كَما يَجِبُ وتَرَكْنَ النُّشُوزَ ﴿فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ أيْ: لا تَتَعَرَّضُوا لَهُنَّ بِشَيْءٍ مِمّا يَكْرَهْنَ لا بِقَوْلٍ ولا بِفِعْلٍ، وقِيلَ: المَعْنى: لا تُكَلِّفُوهُنَّ الحُبَّ لَكم فَإنَّهُ لا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيارِهِنَّ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ إشارَةً إلى الأزْواجِ بِخَفْضِ الجَناحِ ولِينِ الجانِبِ؛ أيْ: وإنْ كُنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِنَّ فاذْكُرُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكم فَإنَّها فَوْقَ كُلِّ قُدْرَةٍ، واللَّهُ بِالمِرْصادِ لَكم. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾ يَقُولُ: لا يَتَمَنّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَيْتَ أنَّ لِي مالَ فُلانٍ وأهْلَهُ، فَنَهى اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْ ذَلِكَ، ولَكِنْ يَسْألُ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا﴾ يَعْنِي: مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ: أنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ أنَّ النِّساءَ قُلْنَ: لَوْ جُعِلَ أنْصِباؤُنا في المِيراثِ كَأنْصِباءِ الرِّجالِ ؟ وقالَ الرِّجالُ: إنّا لَنَرْجُو أنْ نُفَضَّلَ عَلى النِّساءِ بِحَسَناتِنا في الآخِرَةِ كَما فُضِّلْنا عَلَيْهِنَّ في المِيراثِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ النُّزُولِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ قالَ: لَيْسَ بِعَرَضِ الدُّنْيا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ قالَ: العِبادَةُ، لَيْسَ مِن أمْرِ الدُّنْيا. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ، فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أنْ يُسْألَ» . قالَ التِّرْمِذِيُّ: كَذا رَواهُ حَمّادُ بْنُ واقِدٍ ولَيْسَ بِالحافِظِ، ورَواهُ أبُو نُعَيْمٍ عَنْ إسْرائِيلَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وحَدِيثُ أبِي نُعَيْمٍ أشْبَهَ أنْ يَكُونَ أصَحَّ وكَذا رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، ورَواهُ أيْضًا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ﴾ قالَ: ورَثَةً ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم﴾ قالَ: كانَ المُهاجِرُونَ (p-٢٩٦)لَمّا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهاجِرِيُّ الأنْصارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخى النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بَيْنَهم، فَلَمّا نَزَلَتْ ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ﴾ نُسِخَتْ، ثُمَّ قالَ: ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهم﴾ مِنَ النَّصْرِ والرِّفادَةِ والنَّصِيحَةِ، وقَدْ ذَهَبَ المِيراثُ ويُوصى لَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ﴾ قالَ: عَصَبَةٌ ﴿والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكُمْ﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلانِ أيُّهُما ماتَ ورِثَهُ الآخَرُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلّا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكم مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٦] يَقُولُ: إلّا أنْ يُوصُوا لِأوْلِيائِهِمُ الَّذِينَ عاقَدُوا وصِيَّةً فَهو لَهم جائِزٌ مِن ثُلُثِ مالِ المَيِّتِ وهو المَعْرُوفُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: «كانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الإسْلامِ يُعاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: تَرِثُنِي وأرِثُكَ، وكانَ الأحْياءُ يَتَحالَفُونَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: كُلُّ حِلْفٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ أوْ عَقْدٍ أدْرَكَهُ الإسْلامُ فَلا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً، ولا عَقْدَ ولا حِلْفَ في الإسْلامِ - فَنَسَخَتْها هَذِهِ الآيَةُ ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ﴾» [الأنفال: ٧٥] . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: «كانَ الرَّجُلُ يُحالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُما نَسَبٌ فَيَرِثُ أحَدُهُما الآخَرَ، فَنَسَخَ ذَلِكَ في الأنْفالِ ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ﴾» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ: «أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ لَطَمَ امْرَأتَهُ فَجاءَتْ تَلْتَمِسُ القِصاصَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُما القِصاصَ، فَنَزَلَ ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤] فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ونَزَلَ القُرْآنُ ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ﴾ الآيَةَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أرَدْنا أمْرًا وأرادَ اللَّهُ غَيْرَهُ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ﴾ يَعْنِي: أُمَراءَ، عَلَيْهِنَّ أنْ تُطِيعَهُ فِيما أمَرَها اللَّهُ بِهِ مِن طاعَتِهِ، وطاعَتُهُ أنْ تَكُونَ مُحْسِنَةً إلى أهْلِهِ حافِظَةً لِمالِهِ ﴿بِما فَضَّلَ اللَّهُ﴾ فَضَّلَهُ عَلَيْها بِنَفَقَتِهِ وسَعْيِهِ ﴿فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ﴾ قالَ: مُطِيعاتٌ ﴿حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ يَعْنِي إذا كُنَّ كَذا فَأحْسِنُوا إلَيْهِنَّ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ ﴿حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ قالَ: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما اسْتَوْدَعَهُنَّ اللَّهُ مِن حَقِّهِ، وحافِظاتٌ لِغَيْبِ أزْواجِهِنَّ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: ﴿حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ لِلْأزْواجِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: تَحْفَظُ عَلى زَوْجِها مالَهُ وفَرْجَها حَتّى يَرْجِعَ كَما أمَرَها اللَّهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿واللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ قالَ: تِلْكَ المَرْأةُ تَنْشُزُ وتَسْتَخِفُّ بِحَقِّ زَوْجِها ولا تُطِيعُ أمْرَهُ، فَأمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَعِظَها ويُذَكِّرَها بِاللَّهِ ويُعَظِّمَ حَقَّهُ عَلَيْها، فَإنْ قَبِلَتْ وإلّا هَجَرَها في المَضْجَعِ ولا يُكَلِّمُها مِن غَيْرِ أنْ يَذَرَ نِكاحَها، وذَلِكَ عَلَيْها تَشْدِيدٌ، فَإنْ رَجَعَتْ وإلّا ضَرَبَها ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ولا يَكْسِرُ لَها عَظْمًا ولا يَجْرَحُ بِها جُرْحًا ﴿فَإنْ أطَعْنَكم فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ يَقُولُ: إذا أطاعَتْكَ فَلا تَتَجَنّى عَلَيْها العِلَلَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿واهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ﴾ قالَ: لا يُجامِعُها. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: يَهْجُرُها بِلِسانِهِ ويُغَلِّطُ لَها بِالقَوْلِ ولا يَدَعُ الجِماعَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطاءٍ: أنَّهُ سَألَ ابْنَ عَبّاسٍ عَنِ الضَّرْبِ غَيْرِ المُبَرِّحِ، فَقالَ: بِالسِّواكِ ونَحْوِهِ. وقَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الأحْوَصِ: أنَّهُ شَهِدَ خُطْبَةَ الوَداعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وفِيها أنَّهُ قالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «ألا واسْتَوْصُوا بِالنِّساءِ خَيْرًا،، فَإنَّما هُنَّ عَوانٌ عِنْدَكم لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإنْ فَعَلْنَ فاهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ﴿فَإنْ أطَعْنَكم فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾» . وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «أيَضْرِبُ أحَدُكُمُ امْرَأتَهُ كَما يَضْرِبُ العَبْدَ ؟ ثُمَّ يُجامِعُها في آخِرِ اليَوْمِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب