ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ﴿لَا تَتَمَنَّوْا﴾ (لا) ناهية، وجزم الفعل بها بحذف النون، و﴿مَا فَضَّلَ﴾ مفعول ﴿تَتَمَنَّوْا﴾، فما هو التمني؟ التمني: الطمع فيما يعسر نيله أو يتعذر نيله، هذا التمني، الطمع فيما يتعسر أو يتعذر نيله، كقول الشاعر:
؎أَلَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا ∗∗∗ فَأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَالْمَشِيــــــــــــبُ
هذا طمع فيما يتعذر نيله، وقول الفقير: يا ليت لي مالًا فأتصدق منه، هذا الطمع فيما يتعسر نيله، وقد يطلق التمني ويراد به الرجاء، مطلق الرجاء بأن يطمع الإنسان في أمر يسهل نيله وإن كان لا يحصله، لكنه يسهل نيله لو شاء الله.
فقوله: ﴿لَا تَتَمَنَّوْا﴾ أي: لا تطمعوا في أمر فضل الله به بعضكم على بعض، وقوله: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ﴾ أي: زاد، ﴿بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ سواء كان ذلك في العلم، أو في المال، أو في الولد، أو في الجاه، أو في الملك، أو في غير ذلك، لا تتمنى ما فضل الله به غيرك عليك؛ لأن الفضل بيد من؟ بيد الله يؤتيه من يشاء.
ثم قال: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾، وذلك النصيب هو ما يعطيهم الله إياه من الثواب على الأعمال الصالحة، ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ أي: من الأعمال الصالحة لهن نصيب، كل بحسب ما قدر الله له، فللرجال الجهاد، وللنساء حفظ البيوت، هناك فرق بين الجهاد وحفظ البيوت، لكن من الذي فضل هؤلاء بهذا وهؤلاء بهذا؟ أو من الذي خص هؤلاء بهذا وهؤلاء بهذا؟ هو الله، إذن ما دام الأمر إلى الله، فالله سبحانه وتعالى حكم عدل يعطي كل واحد من الجنسين ما يليق به.
وسيأتي أيضًا بيان ما فضل الله به الرجال في قوله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء ٣٤].
فالمهم أن ما فضل الله به بعض الناس على بعض -سواء بسبب الذكورة أو بسبب الغنى أو العلم أو الصحة أو المال أو غير ذلك- فهو من فضل الله، لا تتمنى ما فضل الله به غيرك عليك.
ثم قال: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ﴿اسْأَلُوا﴾ وقراءة: ﴿سَلُوا اللَّهَ﴾ ، كلاهما قراءتان سبعيتان، ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي: من الذي فضل بعضكم على بعض اسألوه، وإذا سألتم الله من فضله أعطاكم، فمثلًا إذا رأيت شخصًا قد فضلك في المال، فلا تتمنَّ هذا المال الذي أعطاه الله هذا الرجل، ولكن اسأل الله من فضله، وجدت رجلًا فضلك في العلم لا تتمنَّ هذا العلم الذي أعطاه الله غيرك، ولكن اسأل الله من فضله وخلِّ علمه يبقى له، وماله يبقى له في المسالة الأولى.
﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ السؤال هنا سؤال عطاء ولَّا سؤال علم؟
* طلبة: ويش سؤال العطاء؟
* الشيخ: سؤال العطاء أن تسأله، أي طلب منه أن يعطيه مالًا، كما في قوله تعالى: ﴿لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات ١٩]، وسأله: استخبره، يعني سؤال علم، يعني يريد أن يخبره، فهل هذا سؤال مال أو سؤال علم؟
* الطلبة: سؤال عطاء.. سؤال مال.
* الشيخ: سؤال عطاء، أي سؤال مال، يعني: اسألوا الله أن يعطيكم، فهو سؤال عطاء، وعدلنا عن قولنا: سؤال المال؛ لأن الإنسان قد يسأل الله غير المال، كالعلم والجاه والذكاء والعقل وما أشبه ذلك.
﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الجملة هذه استئنافية، والدليل على أنها استئنافية أن همزة (إن) كسرت، وهمزة (إن) تكسر في الابتداء، وعلى هذا فهي جملة استئنافية لبيان قطع التمني، أي: تمني الإنسان ما فضل الله به غيره عليه، يعني: أن ما فضل الله به الغير فهو صادر عن علم بأن هذا المفضل أهل للتفضيل، فالرجال أهل للجهاد، أهل لحماية الأوطان، أهل لحماية الدين، وما أشبه ذلك، بخلاف النساء فإنهن قاصرات.
* في هذه الآية فوائد كثيرة؛ منها: نهي الإنسان أن يتمنى ما فضل الله به غيره عليه؛ لقوله: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا﴾، وهل النهي للتحريم؟ الجواب: نعم، هو للتحريم؛ لأن هذا النوع من التمني هو الحسد، هو الحسد بعينه؛ لأنه قال: ﴿مَا فَضَّلَ اللَّهُ﴾ ولم يقل: مثل ما فضل الله، لو قال: لا تتمنوا مثل، صار في المسألة إشكال، وصار أول الآية يناقض آخرها في قوله: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾، لكن معنى: لا تتمنوا أن ما فضل الله به الغير يكون لكم ويحرم إياه الغير، وعلى هذا فنقول: النهي هنا للتحريم، وهذا النوع هو الحسد.
ولكن ليعلم أن تمني ما أعطاه الله الغير ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يتمنى زواله لغير أحد. والثاني: أن يتمنى زواله لغيره؛ لغير المتمني. والثالث: أن يتمنى زواله لنفسه، فما هو الذي في الآية هنا؟ الأول أو الثاني أو الثالث؟
* طلبة: الثاني.
* الشيخ: لا، ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.
* طلبة: الثالث.
* الشيخ: الثالث، لا شك أنه هو الثالث، يتمنى ما أعطى الله غيره من الفضل، ولكن الأول والثاني معلومان من أدلة أخرى: أنه يحرم على الإنسان أن يتمنى زوال نعمة الله على غيره، سواء تمنى أن تزول إلى شخص أو أن تزول مطلقًا، وهذا هو الحسد عند جمهور أهل العلم، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الحسد كراهة ما أعطى الله هذا الرجل من فضله، سواء تمنى زواله أم لم يتمنَّ زواله، فإذا كرهت ما ينعم الله به على غيرك فهذا هو الحسد.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حكمة الله سبحانه وتعالى في العطاء والمن؛ حيث يفضل بعضًا على بعض، ولا شك أن هذا صادر عن حكمة وليس مجرد اختيار، خلافًا لمن أنكر حكمة الله وقال: إن فعله لمجرد الاختيار، بل هو –الاختيار- لاختيار صادر عن حكمة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أن الأحكام تدور مع عللها؛ لقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾، فنصيب الرجال يليق بهم، ونصيب النساء يليق بهن.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز أن يتمنى الإنسان مثل ما فضل الله به غيره عليه، وجهه قوله: ﴿اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾، فنحن لا نقول لك: لا تتمنَّ أن يعطيك الله مثل ما أعطى فلانًا، نقول: لا بأس، ولكن لا تتمنَّ ما أعطاه الله فلانًا، وبينهما فرق.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الفرق بين الجنسين: الرجال، والنساء، وقد قيل: إن الآية نزلت بسبب قول بعض النساء لما أنزل الله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء ١١]، فقال بعضهن: يا ليتني ذكرًا حتى يكون لي مثل الذكر ولا أنقص عنه[[أخرجه الطبري في التفسير (٩٢٤٩) من حديث قتادة.]]. وسواء صح هذا السبب أم لم يصح فإن الآية تدل على أن بين الجنسين فرقًا، خلافًا لمن يحاول أن يجعل الجنسين على حكم واحد، بل يحاول أن يفضل النساء على الرجال.
* ومن فوائد الآية الكريمة: سعة فضل الله عز وجل وكرمه؛ لقوله: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾، فهو سبحانه وتعالى لم يأمرنا بالسؤال إلا ليعطينا؛ لأنه لو أمرنا بالسؤال من غير أن يعطينا لكان هذا أيش؟ عبثًا لا فائدة منه، ولكنه عز وجل كريم هو الذي يتعرض لعباده يقول: اسألوني؛ ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
وينبغي في السؤال أن يكون على الأدب المطلوب، وذلك بأن تسأل الله سبحانه وتعالى سؤال مفتقر لا مستغنٍ، هذه واحدة، تسأل الله سبحانه وتعالى سؤال من يثق بربه وأنه قادر، لا سؤال تجربة، سؤال من يثق بالله وأنه قادر على الإعطاء، سؤال من يثق بوعد الله وأنه يعطي السائل ما سأله.
وينبغي أن يختار الإنسان الأزمان والأماكن والأحوال التي تكون سببًا في الإجابة، مثال الأزمان: آخر الليل، وما بين الأذان والإقامة، ومثال الأماكن أيش؟
* طلبة: السجود.
* الشيخ: لا.
* طلبة: مكة والأماكن الفاضلة.
* الشيخ: نعم، أن يكون في الأماكن الفاضلة.
ومثال الأحوال: حال السجود، حال السفر، حال نزول المطر، فينبغي أن يختار الإنسان ما يكون أقرب إلى الإجابة.
خامسًا: أن يكون مجتنبًا للحرام؛ لأن أكل الحرام حائل يمنع من قبول الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: » ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ «وَقَالَ تَعَالَى: » ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾،« ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ قَالَ: فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»[[أخرجه مسلم (٦٥ / ١٠١٥)، من حديث أبي هريرة.]]، (أنى) هذه استفهام استبعادٍ، يعني: بعيد أن يستجاب لهذا الرجل.
سادسًا: أن لا يعتدي في الدعاء، قال الله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف ٥٥]، فإن اعتدى في الدعاء بأن سأل ما لا يحل له، بل بأن سأل ما يمتنع شرعًا أو قدرًا فإنه لا يجاب.
لو سأل إثمًا بأن قال -والعياذ بالله-: اللهم يسر له امرأة، يزني بها، أو كأس خمر يشربه، فهذا لا يستجاب له، عدوان، استهزاء بالله عز وجل، هذا لا يمكن أيش؟ شرعًا، لا يمكن قبوله؛ لأنه ممتنع شرعًا.
ممتنع قدرًا مثل أن يقول: اللهم اجعلني نبيًّا؛ لأن هذا ممتنع قدرًا بخبر الله، لا لأنه مستحيل لذاته، هو غير مستحيل لكن بخبر الله صار مستحيلًا؛ لقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب ٤٠]، كل هذه آداب ينبغي للإنسان أن يراعيها في الدعاء.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات عموم علم الله؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.
* ومن فوائدها: الاقتناع بما حكم الله به شرعًا أو قدرًا، كيف ذلك؟ لأني إذا علمت أنه صادر عن علم اقتنعت، قلت: لولا أن المصلحة في وجود هذا الشيء ما فعله الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يفعل إلا عن علم، فيزيدني هذا اقتناعًا بما قضاه الله شرعًا أو قدرًا.
* ومن فوائدها: وجوب المراقبة، مراقبة الله؛ لأن العاقل إذا علم أن الله سبحانه وتعالى يعلمه فسوف يراقب ربه بلسانه وجنانه وأركانه، بلسانه كيف يراقب الله بلسانه؟
* طالب: لا يقول ما حرم الله.
* الشيخ: لا يقول ما حرم الله. جنانه؟
* طالب: بقلبه لا يؤمن بشيء حرمه الله.
* الشيخ: يعني لا يعتقد شيئًا حرمه الله، أو يقول شيئًا حرمه الله بالقلب؛ لأن قول القلب هو حركته وعمله. أركانه: جوارحه.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإيمان؛ لأن الإنسان إذا آمن حقيقة بهذا فسيراقب الله؛ لأن الله يعلمه، بل قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة ٢٣٥].
{"ayah":"وَلَا تَتَمَنَّوۡا۟ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ لِّلرِّجَالِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُوا۟ۖ وَلِلنِّسَاۤءِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُوا۟ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا"}