الباحث القرآني

﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾ قالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ: لَمّا نَزَلَ ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] قالَ الرِّجالَ: إنّا لَنَرْجُوَ أنْ نُفَضَّلَ عَلى النِّساءِ في الحَسَناتِ كالمِيراثِ. وقالَ النِّساءُ: إنّا لِنَرْجُوَ أنْ يَكُونَ الوِزْرُ عَلَيْنا نِصْفَ ما عَلى الرِّجالِ كالمِيراثِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: قالَ النِّساءَ: ودِدْنا أنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَنا الغَزْوَ فَنُصِيبُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ ما يُصِيبُ الرِّجالُ. وزادَ مُجاهِدٌ: أنَّ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وأنَّها قالَتْ: وإنَّما لَنا نِصْفُ المِيراثِ، فَنَزَلَتْ. ورُوِيَ عَنْها أنَّها قالَتْ: لَيْتَنا كُنّا رِجالًا، فَنَزَلَتْ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهى عَنْ أكْلِ المالِ بِالباطِلِ، وعَنْ قَتْلِ الأنْفُسِ، وكانَ ما نَهى عَنْهُ مَدْعاةً إلى التَّبَسُّطِ في الدُّنْيا والعُلُوِّ فِيها وتَحْصِيلِ حُطامِها، نَهاهم عَنْ تَمَنِّي ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ، إذِ التَّمَنِّي لِذَلِكَ سَبَبٌ مُؤَثِّرٌ في تَحْصِيلِ الدُّنْيا وشَوْقِ النَّفْسِ إلَيْها بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَحْصِيلِ المالِ بِالباطِلِ وقَتْلِ الأنْفُسِ، حَتّى نَهى عَنِ السَّبَبِ المُحَرِّضِ عَلى ذَلِكَ، وكانَتِ المُبادَرَةُ إلى النَّهْيِ عَنِ المُسَبِّبِ آكَدُ لِفَظاعَتِهِ ومَشَقَّتِهِ، فَبُدِئَ بِهِ، ثُمَّ أتْبَعَ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّبَبِ حَسْمًا لِمادَّةِ المُسَبِّبِ، ولِيُوافِقَ العَمَلُ القَلْبِيُّ العَمَلَ الخارِجِيَّ فَيَسْتَوِي الباطِنُ والظّاهِرُ في الِامْتِناعِ عَنِ الأفْعالِ القَبِيحَةِ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى النَّهْيِ أنْ يَتَمَنّى الإنْسانُ لِنَفْسِهِ ما فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَرْضى بِما قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وتَمَنِّي ذَلِكَ هو أنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ ما لِذَلِكَ المُفَضَّلِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ: هو أنْ يَتَمَنّى مالَ غَيْرِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُهُوا عَنِ الحَسَدِ، وعَنْ تَمَنِّي ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النّاسِ عَلى بَعْضٍ مِنَ الجاهِ والمالِ، لِأنَّ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى صادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ وتَدْبِيرٍ وعِلْمٍ بِأحْوالِ العِبادِ، وبِما يَصْلُحُ لِلْمَقْسُومِ لَهُ مِن بَسْطٍ في الرِّزْقِ أوْ قَبْضٍ انْتَهى. وهو كَلامٌ حَسَنٌ. وظاهِرُ النَّهْيِ إنَّما يَتَناوَلُ ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ. أمّا تَمَنِّي أشْياءَ مِن أحْوالٍ صالِحَةٍ لَهُ في الدُّنْيا وأعْمالٍ يَرْجُو بِها الثَّوابَ في الآخِرَةِ فَهو حَسَنٌ لَمْ يَدْخُلْ في الآيَةِ. وقَدْ جاءَ في الحَدِيثِ (ودِدْتُ أنْ أُقْتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيى ثُمَّ أُقْتَلُ) في آخِرِ الآيَةِ: ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ فَدَلَّ عَلى جَوازِ ذَلِكَ. وإذا كانَ مُطْلَقُ تَمَنِّي ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ مَنهِيًّا عَنْهُ، فَأنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَيْدِ زَوالِ نِعْمَةِ مَن فُضِّلَ عَلَيْهِ عَنْهُ - بِجِهَةِ الأحْرى. والأوْلى إذْ هو الحَسَدُ المَنهِيُّ عَنْهُ في الشَّرْعِ، والمُسْتَعاذُ بِاللَّهِ مِنهُ في نَصِّ القُرْآنِ. وقَدِ اخْتَلَفُوا إذا تَمَنّى حُصُولَ مِثْلِ نِعْمَةِ المُفَضَّلِ عَلَيْهِ لَهُ مِن غَيْرِ أنْ تَذْهَبَ عَنِ المُفَضَّلِ، فَظاهِرُ الآيَةِ المَنعُ، وبِهِ قالَ المُحَقِّقُونَ، لِأنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ رُبَّما كانَتْ مَفْسَدَةً في حَقِّهِ في الدِّينِ، ومَضَرَّةً عَلَيْهِ في الدُّنْيا، فَلا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي دارًا مِثْلَ دارِ فُلانٍ، ولا زَوْجًا مِثْلَ زَوْجِهِ، بَلْ يَسْألُ اللَّهَ ما شاءَ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَن فُضِّلَ عَلَيْهِ. وقَدْ أجازَهُ بَعْضُ النّاسِ. * * * ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ: مَعْناهُ مِنَ المِيراثِ، لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ لا تُوَرِّثُ النِّساءَ. وضُعِّفَ هَذا القَوْلُ؛ لِأنَّ لَفْظَ الِاكْتِسابِ يَنْبُو عَنْهُ، لِأنَّ الِاكْتِسابَ (p-٢٣٦)يَدُلُّ عَلى الِاعْتِمالِ والتَّطَلُّبِ لِلْمَكْسُوبِ، وهَذا لا يَكُونُ في الإرْثِ، لِأنَّهُ مالٌ يَأْخُذُهُ الوارِثُ عَفْوًا بِغَيْرِ اكْتِسابٍ فِيهِ، وتَفْسِيرُ قَتادَةَ هَذا مُتَرَكِّبٌ عَلى ما قالَهُ في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ. وقِيلَ: يُعَبَّرُ بِالكَسْبِ عَنِ الإصابَةِ، كَما رُوِيَ أنَّ بَعْضَ العَرَبِ أصابَ كَنْزًا فَقالَ لَهُ ابْنُهُ: بِاللَّهِ يا أبَةِ أعْطِنِي مِن كَسْبِكَ نَصِيبًا، أيْ مِمّا أصَبْتَ. ومِنهُ قَوْلُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: وتَكْسِبُ المَعْدُومَ. قالُوا: ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَإنْ أكْسَبُونِي نَزْرَ مالٍ فَإنَّنِي كَسَبْتَهُمُ حَمْدًا يَدُومُ مَعَ الدَّهْرِ وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَكاسِبَ تَخْتَصُّ بِهِ، فَلا يَتَمَنّى أحَدٌ مِنها ما جُعِلَ لِلْآخَرِ. فَجُعِلَ لِلرِّجالِ الجِهادُ والإنْفاقُ في المَعِيشَةِ وحَمْلُ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ كالأحْكامِ والإمارَةِ والحِسْبَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وجُعِلَ لِلنِّساءِ الحَمْلُ ومَشَقَّتُهُ، وحُسْنُ التَّبَعُّلِ، وحِفْظُ غَيْبِ الزَّوْجِ، وخِدْمَةُ البُيُوتِ. وقِيلَ: المَعْنى مِمّا اكْتَسَبَ مِن نَعِيمِ الدُّنْيا، فَيَنْبَغِي أنْ يَرْضى بِما قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وهَذِهِ الأقْوالُ الثَّلاثَةُ هي بِالنِّسْبَةِ لِأحْوالِ الدُّنْيا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى نَصِيبٌ مِنَ الأجْرِ والحَسَناتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ ما قُسِمَ لِكُلٍّ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ عَلى حَسَبِ ما عَرَفَ اللَّهُ مِن حالِهِ المُوجِبَةِ لِلْبَسْطِ والقَبْضِ كَسْبًا لَهُ انْتَهى. وفي قَوْلِهِ: عَرَفَ اللَّهُ نَظَرُهُ، فَإنَّهُ لا يُقالُ في اللَّهِ عارِفٌ، نَصَّ الأئِمَّةُ عَلى ذَلِكَ، لِأنَّ المَعْرِفَةَ في اللُّغَةِ تَسْتَدْعِي قَبْلَها جَهْلًا بِالمَعْرُوفِ، وذَلِكَ بِخِلافِ العِلْمِ، فَإنَّهُ لا يَسْتَدْعِي جَهْلًا قَبْلَهُ. وتَسْمِيَةُ ما قَسَمَ اللَّهُ كَسْبًا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ أيْضًا، فَإنَّ الِاكْتِسابَ يَقْتَضِي الِاعْتِمالَ والتَّطَلُّبَ كَما قُلْناهُ، إلّا إنْ قُلْنا أنَّ أكْثَرَ ما قَسَمَ لَهُ يَسْتَدْعِي اكْتِسابًا مِنَ الشَّخْصِ، فَأُطْلِقَ الِاكْتِسابُ عَلى جَمِيعِ ما قَسَمَ لَهُ تَغْلِيبًا لِلْأكْثَرِ. وفي تَعْلِيقِ النَّصِيبِ بِالِاكْتِسابِ حَضٌّ عَلى العَمَلِ، وتَنْبِيهٌ عَلى كَسْبِ الخَيْرِ. * * * ﴿واسْألُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ أيْ مِن زِيادَةِ إحْسانِهِ ونِعَمِهِ. لَمّا نَهاهم عَنْ تَمَنِّي ما فَضَّلَ بِهِ بَعْضَهم، أمَرَهم بِأنْ يَعْتَمِدُوا في المَزِيدِ عَلَيْهِ تَبارَكَ وتَعالى. وظاهِرُ قَوْلِهِ: مِن فَضْلِهِ العُمُومُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأحْوالِ الدُّنْيا وأحْوالِ الآخِرَةِ، لِأنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ﴾ العُمُومُ أيْضًا، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ ولَيْثُ بْنُ أبِي سُلَيْمٍ: هَذا في العِباداتِ والدِّينِ وأعْمالِ البِرِّ، ولَيْسَ في فَضْلِ الدُّنْيا. وفي قَوْلِهِ: (مِن فَضْلِهِ) دَلالَةٌ عَلى عَدَمِ تَعْيِينِ المَطْلُوبِ، لَكِنْ يَطْلُبُ مِن فَضْلِ اللَّهِ ما يَكُونُ سَبَبًا لِإصْلاحِ دِينِهِ ودُنْياهُ عَلى سَبِيلِ الإطْلاقِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] . وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ والكِسائِيُّ: (وسَلُوا) بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى السِّينِ، وذَلِكَ إذا كانَ أمْرًا لِلْمُخاطَبِ، وقَبْلَ السِّينِ واوٌ أوْ فاءٌ نَحْوَ: (فَسَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ) و(فَسَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ) . وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالهَمْزِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إلّا في قَوْلِهِ: ﴿واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ﴾ [الممتحنة: ١٠] فَإنَّهم أجْمَعُوا عَلى الهَمْزِ فِيهِ انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وهم، بَلْ نُصُوصُ المُقْرِئِينَ في كُتُبِهِمْ عَلى أنَّ ﴿واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ﴾ [الممتحنة: ١٠] مِن جُمْلَةِ المُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ ابْنِ كَثِيرٍ والكِسائِيِّ، وبَيْنَ الجَماعَةِ، ونَصَّ عَلى ذَلِكَ بِلَفْظِهِ ابْنُ شِيطا في كِتابِ التِّذْكارِ، ولَعَلَّ الوَهْمَ وقَعَ لَهُ في ذَلِكَ مِن قَوْلِ ابْنِ مُجاهِدٍ في كِتابِ السَّبْعَةِ لَهُ، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في قَوْلِهِ: ﴿ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا﴾ [الممتحنة: ١٠] أنَّهُ مَهْمُوزٌ لِأنَّهُ لِغائِبٍ انْتَهى. ورَوى الكِسائِيُّ عَنِ إسْماعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ وشَيْبَةَ: أنَّهُما لَمْ يَهْمِزا وسَلْ ولا فَسَلْ، مِثْلَ قِراءَةِ الكِسائِيِّ، وحَذْفُ الهَمْزَةِ في سَلْ لُغَةُ الحِجازِ، وإثْباتُها لُغَةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ. ورَوى اليَزِيدِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو: أنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ سَلْ. فَإذا أدْخَلُوا الواوَ والفاءَ هَمَزُوا، وسَألَ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ، والثّانِي لِقَوْلِهِ: واسْألُوا اللَّهَ هو قَوْلُهُ: مِن فَضْلِهِ. كَما تَقُولُ: أطْعَمْتُ زَيْدًا مِنَ اللَّحْمِ، وكَسَوْتُهُ مِنَ الحَرِيرِ، والتَّقْدِيرُ: شَيْئًا مِن فَضْلِهِ، وشَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ، وشَيْئًا مِنَ الحَرِيرِ. وقالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: (مِن) زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: وسَلُوا اللَّهَ فَضْلَهُ، وهَذا لا يَجُوزُ إلّا عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ. (p-٢٣٧)وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْسُنُ عِنْدِي أنْ يُقَدَّرَ المَفْعُولُ (أمانِيَكم) إذْ ما تَقَدَّمَ يُحَسِّنُ هَذا المَعْنى. * * * ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ أيْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الأشْياءِ فَهو عالِمٌ بِما فَضَّلَ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ وما يَصْلُحُ لِكُلٍّ مِنكم مِن تَوْسِيعٍ أوْ تَقْتِيرٍ فَإيّاكم والِاعْتِراضَ بِتَمَنٍّ أوْ غَيْرِهِ وهو عالِمٌ أيْضًا بِسُؤالِكم مِن فَضْلِهِ فَيَسْتَجِيبُ دُعاءَكم ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكم فَآتُوهم نَصِيبَهُمْ﴾ لَمّا نَهى عَنِ التَّمَنِّي المَذْكُورِ، وأمَرَ بِسُؤالِ اللَّهِ مِن فَضْلِهِ، أخْبَرَ تَعالى بِشَيْءٍ مِن أحْوالِ المِيراثِ، وأنَّ في شَرْعِهِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً مِن تَحْصِيلِ مالٍ لِلْوارِثِ لَمْ يَسْعَ فِيهِ، ولَمْ يَتَعَنَّ بِطَلَبِهِ، فَرُبَّ ساعٍ لِقاعِدٍ. و(كُلٌّ) لا تُسْتَعْمَلُ إلّا مُضافَةً، إمّا لِظّاهِرٍ، وإمّا لْمُقَدَّرٍ، واخْتَلَفُوا في تَعْيِينِ المُقَدَّرِ هُنا، فَقِيلَ: المَحْذُوفُ إنْسانٌ، وقِيلَ: المَحْذُوفُ مالٌ. والمَوْلى: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعانٍ كَثِيرَةٍ، مِنها: الوارِثُ وهو الَّذِي يَحْسُنُ أنْ يُفَسَّرَ بِهِ هُنا، لِأنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْدِيرِ إنْسانٍ وتَقْدِيرِ مالٍ، وبِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم: أنَّ المَوالِيَ العُصْبَةُ والوَرَثَةُ، فَإذا فَرَّعْنا عَلى أنَّ المَعْنى: ولِكُلِّ إنْسانٍ، احْتَمَلَ وُجُوهًا: أحَدُها: أنْ يَكُونَ لِـ(كُلٍّ) مُتَعَلِّقًا بِـ (جَعَلْنا)، والضَّمِيرُ في (تَرَكَ) عائِدٌ عَلى (كُلٍّ) المُضافِ لِإنْسانٍ، والتَّقْدِيرُ: وجَعَلَ لِكُلِّ إنْسانٍ وارِثًا مِمّا تَرَكَ، فَيَتَعَلَّقُ (مِمّا) بِما في مَعْنى مَوالِي مِن مَعْنى الفِعْلِ، أوْ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ المَعْنى، التَّقْدِيرُ: يَرِثُونَ مِمّا تَرَكَ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ قَدْ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِمّا تَرَكَ، ويَرْتَفِعُ (الوالِدانِ) عَلى إضْمارٍ كَأنَّهُ قِيلَ: ومَنِ الوارِثُ ؟ فَقِيلَ: هُمُ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ وُرّاثًا، والكَلامُ جُمْلَتانِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وجَعَلْنا لِكُلِّ إنْسانٍ مُوالِيَ، أيْ وُرّاثًا. ثُمَّ أُضْمِرَ فِعْلٌ، أيْ: يَرِثُ المَوالِي مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ، فَيَكُونُ الفاعِلُ بِتَرْكِ الوالِدانِ. وكَأنَّهُ لَمّا أبْهَمَ في قَوْلِهِ: وجَعَلْنا لِكُلِّ إنْسانٍ مُوالِيَ - بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ الَّذِي جَعَلَ لَهُ ورَثَةً هو الوالِدانِ والأقْرَبُونَ، فَأُولَئِكَ الوُرّاثُ يَرِثُونَ مِمّا تَرَكَ والِداهم وأقْرَبُوهم، ويَكُونُ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ مَوْرُوثِينَ. وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ لا يَكُونُ في (جَعَلْنا) مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ، ويَكُونُ مَفْعُولُ (جَعَلْناهُ) لَفْظَ مَوالِيَ. والكَلامُ جُمْلَتانِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ولِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْناهم مَوالِيَ، أيْ: وُرّاثًا نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ والِداهم وأقْرَبُوهم، فَيَكُونُ (جَعَلْنا) صِفَةً لِـ(كُلٍّ)، والضَّمِيرُ مِنَ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ صِفَةً - مَحْذُوفٌ، وهو مَفْعُولُ (جَعَلْنا) . و(مَوالِي) مَنصُوبٌ عَلى الحالِ، وفاعِلُ (تَرَكَ) الوالِدانِ. والكَلامُ مُنْعَقِدٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، فَيَتَعَلَّقُ لِكُلٍّ بِمَحْذُوفٍ، إذْ هو خَبَرُ المُبْتَدَأِ المَحْذُوفِ القائِمِ مَقامَهُ صِفَتُهُ وهو الجارُّ والمَجْرُورُ، إذْ قُدِّرَ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ. والكَلامُ إذْ ذاكَ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ كَما تَقُولُ: لِكُلِّ مَن خَلَقَهُ اللَّهُ إنْسانًا مِن رِزْقِ اللَّهِ، أيْ حَظٌّ مِن رِزْقِ اللَّهَ. وإذا فَرَّعْنا عَلى أنَّ المَعْنى: ولِكُلِّ مالٍ، فَقالُوا: التَّقْدِيرُ ولِكُلِّ مالٍ مِمّا تَرَكَهُ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ - جَعَلْنا مَوالِيَ، أيْ: وُرّاثًا يَلُونَهُ ويُحْرِزُونَهُ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ (مِمّا تَرَكَ) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ(كُلٍّ)، والوالِدانِ والأقْرَبُونَ فاعِلٌ بِتَرَكَ ويَكُونُونَ مَوْرُوثِينَ، ولِكُلٍّ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلْنا. إلّا أنَّ في هَذا التَّقْدِيرِ الفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ بِالجُمْلَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالفِعْلِ الَّذِي فِيها المَجْرُورُ وهو نَظِيرُ قَوْلِكَ: بِكُلِّ رِجْلٍ مَرَرْتُ تِمِيمِيٍّ، وفي جَوازِ ذَلِكَ نَظَرٌ. واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالمُعاقَدَةِ هُنا. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم: هي الحَلِفُ. فَإنَّ العَرَبَ كانَتْ تَتَوارَثُ بِالحَلِفِ، فَقَرَّرَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٥] وعَنْهُ أيْضًا هي: الحَلِفُ، والنَّصِيبُ هو المُؤازَرَةُ في الحَقِّ والنَّصْرِ، والوَفاءُ بِالكُلَفِ، لا المِيراثِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هي المُؤاخاةُ، كانُوا يَتَوارَثُونَ بِها حَتّى نُسِخَ. وعَنْهُ كانَ المُهاجِرُونَ يَرِثُونَ الأنْصارَ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِمْ حَتّى نُسِخَ بِما تَقَدَّمَ، وبَقِيَ اثْنانِ: النَّصِيبُ مِنَ النَّصْرِ والمَعُونَةِ، ومِنَ المالِ عَلى جِهَةِ النَّدْبِ في الوَصِيَّةِ. وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: هي التَّبَنِّي، والنَّصِيبُ الَّذِي أُمِرْنا بِإتْيانِهِ هو الوَصِيَّةُ (p-٢٣٨)لا المِيراثُ، ومَعْنى (عاقَدَتْ أيْمانُكم) في هَذا القَوْلِ: عاقَدَتْهم أيْمانُكم وماسَحْتُمُوهم. وقِيلَ: كانُوا يَتَوارَثُونَ بِالتَّبَنِّي لِقَوْمٍ يَمُوتُونَ قَبْلَ الوَصِيَّةِ ووُجُوبِها، فَأُمِرَ المُوصِي أنْ يُؤَدِّيَها إلى ورَثَةِ المُوصِي لَهُ. وقِيلَ: المُعاقَدَةُ هُنا الزَّواجُ، والنِّكاحُ يُسَمّى عَقْدًا، فَذَكَرَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ، وذَكَرَ مَعَهُمُ الزَّوْجَ والزَّوْجَةَ. وقِيلَ: المُعاقَدَةُ هُنا الوَلاءُ. وقِيلَ: هي حَلِفُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أنْ لا يُوَرِّثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ شَيْئًا، فَلَمّا أسْلَمَ أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يُؤْتِيَهُ نَصِيبَهُ مِنَ المالِ، قالَ أبُو رَوْقٍ: وفِيهِما نَزَلَتْ. فَتَلَخَّصَ مِن هَذِهِ الأقْوالِ في المُعاقَدَةِ، أهِيَ الحَلِفُ أنْ لا يُورَثُ الحالِفُ ؟ أمِ المُؤاخاةُ ؟ أمِ التَّبَنِّي ؟ أمِ الوَصِيَّةُ المَشْرُوحَةُ ؟ أمِ الزَّواجُ ؟ أمِ المُوالاةُ ؟ سَبْعَةُ أقْوالٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَفْظَةُ المُعاقَدَةِ والأيْمانِ تُرَجِّحُ أنَّ المُرادَ الأحْلافُ، لِأنَّ ما ذُكِرَ مِن غَيْرِ الأحْلافِ لَيْسَ في جَمِيعِهِ مُعاقَدَةٌ ولا أيْمانٌ. انْتَهى. وكَيْفِيَّةُ الحَلِفِ في الجاهِلِيَّةِ: كانَ الرَّجُلُ يُعاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وهَدْمِي هَدْمُكَ، ونارِي نارُكَ، وحَرْبِي حَرْبُكَ، وسِلْمِي سِلْمُكَ، وتَرِثُنِي وأرِثُكَ، وتَطْلُبُ بِي وأطْلُبُ بِكَ، وتَعْقِلُ عَنِّي وأعْقِلُ عَنْكَ. فَيَكُونُ لِلْحَلِيفِ السُّدُسُ مِن مِيراثِ الحَلِيفِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ. وعَلى الأقْوالِ السّابِقَةِ جاءَ الخِلافُ في قَوْلِهِ: (والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمانُكم) أهْوَ مَنسُوخٌ أمْ لا ؟ وقَدِ اسْتُدِلَّ بِها عَلى مِيراثِ مَوْلى المُوالاةِ، وبِهِ قالَ أبُو يُوسُفَ، وأبُو حَنِيفَةَ، وزُفَرُ، ومُحَمَّدٌ، قالُوا: مَن أسْلَمَ عَلى يَدِ رَجُلٍ ووالاهُ وعاقَدَهُ ثُمَّ ماتَ ولا وارِثَ لَهُ غَيْرَهُ، فَمِيراثُهُ لَهُ. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، ورَبِيعَةَ، وابْنِ المُسَيَّبِ، والزُّهْرِيِّ، وإبْراهِيمَ، والحَسَنِ، وعُمَرَ، وابْنِ مَسْعُودٍ. وقالَ مالِكٌ، وابْنُ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ: مِيراثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وقَدْ أطالَ الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ ناصِرًا مَذْهَبَ أبِي حَنِيفَةَ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: (عَقَدَتْ) بِتَخْفِيفِ القافِ مِن غَيْرِ ألِفٍ، وشَدَّدَ القافَ حَمْزَةُ مِن رِوايَةِ عَلِيِّ بْنِ كَبْشَةَ، والباقُونَ عاقَدَتْ بِألِفِ، وجَوَّزُوا في إعْرابِ (الَّذِينَ) وُجُوهًا. أحَدُها: أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، والخَبَرُ (فَآتُوهم) . والثّانِي: أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا مِن بابِ الِاشْتِغالِ، نَحْوَ: زَيْدًا فاضْرِبْهُ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا مَعْطُوفًا عَلى ﴿الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾، والضَّمِيرُ في (فَآتُوهم) عائِدٌ عَلى (مَوالِيَ) إذا كانَ الوالِدانِ ومَن عُطِفَ عَلَيْهِ مَوْرُوثِينَ، وإنْ كانُوا وارِثِينَ فَيَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى مَوالِيَ، ويَجُوزَ أنْ يَعُودَ عَلى الوالِدَيْنِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا مَعْطُوفًا عَلى مَوالِيَ، قالَهُ أبُو البَقاءِ، وقالَ: أيْ: وجَعَلْنا الَّذِينَ عاقَدَتْ وُرّاثًا، وكانَ ذَلِكَ ونُسِخَ انْتَهى. ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى مَوالِيَ لِفَسادِ العَطْفِ، إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ولِكُلِّ إنْسانٍ، أوْ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ المالِ جَعَلْنا وُرّاثًا. والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمانُكم، فَإنْ كانَ مِن عَطْفِ الجُمَلِ وحَذْفِ المَفْعُولِ الثّانِي لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ أمْكَنَ ذَلِكَ، أيْ: جَعَلْنا وُرّاثًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ المالِ، أيْ: لِكُلِّ إنْسانٍ، وجَعَلْنا الَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمانُكم وُرّاثًا. وهو بَعْدَ ذَلِكَ تَوْجِيهٌ مُتَكَلَّفٌ، ومَفْعُولُ (عاقَدَتْ) ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ أيْ: عاقَدَتْهم أيْمانُكم، وكَذَلِكَ في قِراءَةِ (عَقَدَتْ) هو مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: عَقَدَتْ حِلْفَهم أوْ عَهْدَهم أيْمانُكم. وإسْنادُ المُعاقَدَةِ أوِ العَقْدِ لِلْإيمانِ، سَواءٌ أُرِيدَ بِها القَسَمُ أمِ الجارِحَةُ - مَجازٌ، بَلْ فاعِلُ ذَلِكَ هو الشَّخْصُ. ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى تَشْرِيعَ التَّوْرِيثِ، وأمَرَ بِإيتاءِ النَّصِيبِ، أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ فَهو المُجازِي بِهِ، وفي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ لِلْعاصِي، ووَعْدٌ لِلْمُطِيعِ، وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ شَهِيدٌ عَلى المُعاقَدَةِ بَيْنَكم. والصِّلَةُ فَأوْفُوا بِالعَهْدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب