الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣] ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ . (p-٤٤٤٣)﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ لَمّا أمَرَ اللَّهُ بِعُقُوبَةِ الزّانِيَيْنِ، حَرَّمَ مُناكَحَتَهُما عَلى المُؤْمِنِينَ، هَجْرًا لَهُما ولِما مَعَهُما مِنَ الذُّنُوبِ كَقَوْلِهِ: ﴿والرُّجْزَ فاهْجُرْ﴾ [المدثر: ٥] وجُعِلَ مُجالِسُ فاعِلِ ذَلِكَ المُنْكَرِ، مِثْلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكم إذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠] وهو زَوْجٌ لَهُ قالَ تَعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢] أيْ: عُشَراءَهم وأشْباهَهم. ولِهَذا يُقالُ: (المُسْتَمِعُ شَرِيكُ المُغْتابِ )، ورُفِعَ إلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ. وكانَ فِيهِمْ جَلِيسٌ لَهم صائِمٌ، فَقالَ ابْدَءُوا بِهِ في الجَلْدِ ألَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠]، فَإذا كانَ هَذا في المُجالَسَةِ والعِشْرَةِ العارِضَةِ حِينَ فِعْلِهِمُ المُنْكَرَ، يَكُونُ مُجالِسُهم مِثْلًا لَهم، فَكَيْفَ بِالعِشْرَةِ الدّائِمَةِ: و(الزَّوْجُ ) يُقالُ لَهُ: العَشِيرُ. كَما في الحَدِيثِ ««ويَكْفُرْنَ العَشِيرَ»» وأُخْبِرَ أنَّهُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ. أمّا المُشْرِكُ فَلا إيمانَ لَهُ يَزْجُرُهُ عَنِ الفَواحِشِ ومُجامَعَةِ أهْلِها. وأمّا الزّانِي فَفُجُورُهُ يَدْعُوهُ إلى ذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا. وفِيها دَلِيلٌ عَلى أنَّ الزّانِيَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُطْلَقِ الإيمانِ. وإنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا كَما في الصَّحِيحِ ««لا يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ»» وذَلِكَ أنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ لا يَنْكِحُ الزّانِيَةَ إلّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ فَعُلِمَ أنَّ الإيمانَ يَمْنَعُ مِنهُ. وأنَّ فاعِلَهُ إمّا مُشْرِكٌ وإمّا زانٍ، لَيْسَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُهم إيمانُهم مِن ذَلِكَ. وذَلِكَ أنَّ المُزاناةَ فِيها فَسادُ فِراشِ الرَّجُلِ وفي مُناكَحَتِها مُعاشَرَةُ الفاجِرَةِ دائِمًا. واللَّهُ قَدْ أمَرَ بِهَجْرِ السُّوءِ وأهْلِهِ ما دامُوا عَلَيْهِ. وهَذا مَوْجُودٌ في الزّانِي. فَإنَّهُ إنْ لَمْ يُفْسِدْ فِراشَ امْرَأتِهِ كانَ قَرِينَ سُوءٍ لَها، كَما قالَ الشَّعْبِيُّ: مَن زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِن فاسِقٍ، فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَها. وهَذا مِمّا يُدْخِلُ المَرْأةَ ضِرارًا في دِينِها ودُنْياها. فَنِكاحُ الزّانِيَةِ أشَدُّ مِن جِهَةِ الفِراشِ. ونِكاحُ الزّانِي أشَدُّ مِن جِهَةِ أنَّهُ السَّيِّدُ المالِكُ الحاكِمُ. فَتَبْقى المَرْأةُ الحُرَّةُ العَفِيفَةُ في أسْرِ الفاجِرِ الزّانِي الَّذِي يُقَصِّرُ في حُقُوقِها، ويَعْتَدِي عَلَيْها، ولِهَذا اتَّفَقُوا عَلى اعْتِبارِ الكَفاءَةِ في الدِّينِ، وعَلى (p-٤٤٤٤)ثُبُوَتِ الفَسْخِ بِفَواتِ هَذِهِ الكَفاءَةِ. واخْتَلَفُوا في صِحَّةِ النِّكاحِ بِدُونِ ذَلِكَ. فَإنَّ مَن نَكَحَ زانِيَةً فَقَدْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالقِيادَةِ والدِّياثَةِ. ومَن نَكَحَتْ زانِيًا فَهو لا يُحْصِنُ ماءَهُ، بَلْ يَضَعُهُ فِيها وفي غَيْرِها مِنَ البَغايا. فَهي بِمَنزِلَةِ المُتَّخِذَةِ خِدْنًا. فَإنَّ مَقْصُودَ النِّكاحِ حِفْظُ الماءِ في المَرْأةِ. وهَذا لا يَحْفَظُ ماءَهُ. واللَّهُ سُبْحانَهُ شَرَطَ في الرِّجالِ أنْ يَكُونُوا مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، فَقالَ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ [النساء: ٢٤] وهَذا مِمّا لا يَنْبَغِي إغْفالُهُ. فَإنَّ القُرْآنَ قَدْ قَصَّهُ وبَيَّنَهُ بَيانًا مَفْرُوضًا. كَما قالَ تَعالى: ﴿سُورَةٌ أنْـزَلْناها وفَرَضْناها﴾ [النور: ١] فَأمّا تَحْرِيمُ نِكاحِ الزّانِيَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الفُقَهاءُ. وفِيهِ آثارٌ عَنِ السَّلَفِ. ولَيْسَ مَعَ مَن أباحَهُ ما يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وقَدِ ادَّعى بَعْضُهم أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وزَعَمُوا أنَّ البَغِيَّ مِنَ المُحْصَناتِ. وتِلْكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإنَّ أقَلَّ ما في الإحْصانِ العِفَّةُ. وإذا اشْتَرَطَ فِيهِ الحُرِّيَّةَ، فَذاكَ تَكْمِيلٌ لِلْعِفَّةِ والإحْصانِ. ومَن حَرَّمَ نِكاحَ الأمَةِ لِئَلّا يَرِقَّ ولَدُهُ، فَكَيْفَ يُبِيحُ البَغِيَّ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِ مَن لَيْسَ بِوَلَدِهِ ؟ وأيْنَ فَسادُ فِراشِهِ مِن رِقِّ ولَدِهِ ؟ وكَذَلِكَ مَن زَعَمَ أنَّ النِّكاحَ هُنا هو الوَطْءُ وهَذا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. فَمَن وطِئَ زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً بِنِكاحٍ، فَهو زانٍ. وكَذَلِكَ مَن وطِئَها زانٍ. فَإنَّ ذَمَّ الزّانِي بِفِعْلِهِ الَّذِي هو الزِّنى. حَتّى لَوِ اسْتَكْرَهَها أوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ وهو نائِمٌ كانَتِ العُقُوبَةُ لِلزّانِي دُونَ قَرِينِهِ. والمَقْصُودُ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الزّانِيَ لا يَتَزَوَّجُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً. وأنَّ ذَلِكَ حَرامٌ عَلى المُؤْمِنِينَ. ولَيْسَ هَذا مُجَرَّدَ كَوْنِهِ فاجِرًا، بَلْ لِخُصُوصِيَّةِ كَوْنِهِ زانِيًا. وكَذَلِكَ في المَرْأةِ. لَيْسَ بِمُجَرَّدِ فُجُورِها، بَلْ لِخُصُوصِ زِناها، بِدَلِيلِ أنَّهُ جَعَلَ المَرْأةَ زانِيَةً إذا تَزَوَّجَتْ زانِيًا كَما جَعَلَهُ زانِيًا إذا تَزَوَّجَ زانِيَةً. وهَذا إذا كانا مُسْلِمَيْنِ يَعْتَقِدانِ تَحْرِيمَ الزِّنى. وإلّا إنْ كانا مُشِكَّيْنِ، فَيَنْبَغِي أنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ. ومَضْمُونُهُ أنَّ الزّانِيَ لا يَجُوزُ إنْكاحُهُ حَتّى يَتُوبَ. وذَلِكَ يُوافِقُ اشْتِراطُهُ الإحْصانَ، والمَرْأةُ الزّانِيَةُ لا تُحْصِنُ فَرْجَها. ولِهَذا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُ الوَلَدِ الَّذِي لَيْسَ مِنهُ. فَمَن نَكَحَ زانِيَةً (p-٤٤٤٥)فَهُوَ زانٍ، أيْ: تَزَوَّجَها. ومَن نَكَحَتْ زانِيًا فَهي زانِيَةٌ، أيْ: تَزَوَّجَتْهُ. فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ الزُّناةِ قَصَرُوا أنْفُسَهم عَلى الزَّوانِي، فَتَكُونُ خِدْنًا لَهُ لا يَأْتِي غَيْرَها، فَإنَّ الرَّجُلَ إذا كانَ زانِيًا لا يُعِفُّ امْرَأتَهُ فَتَتَشَوَّقُ إلى غَيْرِهِ فَتَزْنِي كَما هو الغالِبُ عَلى نِساءِ الزّانِي ومَن يَلُوطُ بِالصِّبْيانِ. فَإنَّ نِساءَهم يَزْنِينَ لِيَقْضِينَ إرَبَهُنَّ ولِيُراغِمْنَ أزْواجَهُنَّ. ولِهَذا يُقالُ: عِفُّوا تَعِفُّ نِساؤُكم. وبِرُّوا آباءَكم تَبِرُّكم أبْناؤُكم. فَكَما تَدِينُ تُدانُ، والجَزاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ، ومِن عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَها. فَإنَّ الرَّجُلَ إذا رَضِيَ أنْ يَنْكِحَ زانِيَةً، رَضِيَ بِأنْ تَزْنِيَ امْرَأتُهُ. واللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً ورَحْمَةً. فَأحَدُهُما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ما يُحِبُّ لِلْآخَرِ. فَإذا رَضِيَتِ المَرْأةُ أنْ تَنْكِحَ زانِيًا فَقَدْ رَضِيَتْ عَمَلَهُ، وكَذَلِكَ الرَّجُلُ. ومَن رَضِيَ بِالزِّنى فَهو بِمَنزِلَةِ الزّانِي، فَإنَّ أصْلَ الفِعْلِ هو الإرادَةُ. ولِهَذا في الأثَرِ: مَن غابَ مِن مَعْصِيَةٍ فَرَضِيَها كانَ كَمَن شَهِدَها. وفي الحَدِيثِ: ««المَرْءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ»» وأعْظَمُ الخَلَّةِ خَلَّةُ الزَّوْجَيْنِ. وأيْضًا، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ في نُفُوسِ بَنِي آدَمَ مِنَ الغَيْرَةِ ما هو مَعْرُوفٌ فَيَسْتَعْظِمُ الرَّجُلُ أنْ يَطَأ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ، أعْظَمَ مِن غَيْرَتِهِ عَلى نَفْسِهِ أنْ يَزْنِيَ. فَإذا لَمْ يَكْرَهْ أنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بَغِيًّا وهو دَيُّوثًا، كَيْفَ يَكْرَهُ أنْ يَكُونَ هو زانِيًا ؟ ولِهَذا لَمْ يُوجَدْ مَن هو دَيُّوثٌ أوْ قَوّادٌ يَعِفُّ عَنِ الزِّنى، فَإنَّ الزِّنى لَهُ شَهْوَةٌ في نَفْسِهِ. والدَّيُّوثُ لَهُ شَهْوَةٌ في زِنى غَيْرِهِ. فَإذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمانٌ يَكْرَهُ مِن زَوْجَتِهِ ذَلِكَ، كَيْفَ يَكُونُ مَعَهُ إيمانٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الزِّنى ؟ فَمَنِ اسْتَحَلَّ أنْ يَتْرُكَ امْرَأتَهُ تَزْنِي، اسْتَحَلَّ أعْظَمَ الزِّنى. ومَن أعانَ عَلى ذَلِكَ فَهو كالزّانِي. ومَن أقَرَّ عَلَيْهِ، ما إمْكانُ تَغْيِيرِهِ، فَقَدْ رَضِيَهُ. ومَن تَزَوَّجَ غَيْرَ تائِبَةٍ فَقَدْ رَضِيَ أنْ تَزْنِيَ. إذْ لا يُمْكِنُهُ مَنعُها. فَإنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ. ولِهَذا جازَ لَهُ، إذا أتَتْ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، أنْ يَعْضُلَها لِتَفْتَدِيَ. لِأنَّها بِزِناها طَلَبَتِ الِاخْتِلاعَ مِنهُ وتَعَرَّضَتْ لِإفْسادِ نِكاحِهِ. فَإنَّهُ لا يُمْكِنُهُ المُقامُ مَعَها حَتّى تَتُوبَ. ولا يَسْقُطُ المَهْرُ بِمُجَرَّدِ زِناها. كَما دَلَّ عَلَيْهِ «قَوْلُهُ ﷺ لِلْمَلاعِنِ (لَمّا قالَ مالِي )، قالَ: «لا مالَ لَكَ عِنْدَها (p-٤٤٤٦)إنْ كُنْتَ صادِقًا فَهو بِما اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِها»»، وإنْ كُنْتَ كاذِبًا عَلَيْها فَذاكَ أبْعَدُ وأبْعَدُ لَكَ مِنها؛ لِأنَّها إذا زَنَتْ قَدْ تَتُوبُ. لَكِنَّ زِناها يُبِيحُ إعْضالَها حَتّى تَفْتَدِيَ إنِ اخْتارَتْ فِراقَهُ، أوْ تَتُوبَ. وفي الغالِبِ أنَّ الرَّجُلَ لا يَزْنِي بِغَيْرِ امْرَأتِهِ، إلّا إذا أعْجَبَهُ ذَلِكَ الغَيْرُ. فَلا يَزالُ بِما يُعْجِبُهُ، فَتَبْقى امْرَأتُهُ بِمَنزِلَةِ المُعَلَّقَةِ. لا هي أيِّمٌ ولا ذاتُ زَوْجٍ. فَيَدْعُوها ذَلِكَ إلى الزِّنى، ويَكُونُ الباعِثُ لَها مُقابَلَةَ زَوْجِها عَلى وجْهِ القَصاصِ. فَإذا كانَ مِنَ العادِينَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أحْصَنَ نَفْسَهُ. وأيْضًا فَإنَّ داعِيَةَ الزّانِي تَشْتَغِلُ بِما يَخْتارُهُ مِنَ البَغايا، فَلا تَبْقى داعِيَتُهُ إلى الحَلالِ تامَّةً، ولا غَيْرَتُهُ كافِيَةً في إحْصانِهِ المَرْأةَ، فَتَكُونُ عِنْدَهُ كالزّانِيَةِ المُتَّخَذَةِ خِدْنًا، وهَذِهِ مَعانٍ شَرِيفَةٌ لا يَنْبَغِي إهْمالُها. وعَلى هَذا، فالمُساحِقَةُ زانِيَةٌ، كَما في الحَدِيثِ: ««زِنى النِّساءِ سِحاقُهُنَّ»» والَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ زانٍ، فَلا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً. ولِهَذا يَكْثُرُ في نِساءِ اللُّوطِيِّ مَن تَزْنِي، ورُبَّما زَنَتْ بِمَن يَتَلَوَّطُ بِهِ مُراغَمَةً لَهُ وقَضاءً لِوَطَرِها. وكَذَلِكَ المُتَزَوِّجَةُ بِمُخَنَّثٍ يُنْكَحُ كَما تُنْكَحُ، هي مُتَزَوِّجَةٌ بِزانٍ، بَلْ هو أسْوَأُ الشَّخْصَيْنِ حالًا. فَإنَّهُ مَعَ الزِّنى صارَ مَلْعُونًا عَلى نَفْسِهِ لِلتَّخْنِيثِ، غَيْرَ اللَّعْنَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ. فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَعَنَ مَن يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ. وفي الصَّحِيحِ «أنَّهُ لَعَنَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجالِ والمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّساءِ» . وكَيْفَ يَجُوزُ لَها أنْ تَتَزَوَّجَ بِمُخَنَّثٍ قَدِ انْتَقَلَتْ شَهْوَتُهُ إلى دُبُرِهِ ؟ فَهو يُؤْتى كَما تُؤْتى المَرْأةُ. وتَضْعُفُ داعِيَتُهُ مِن أمامِهِ كَما تَضْعُفُ داعِيَةُ الزّانِي بِغَيْرِ امْرَأتِهِ عَنْها. فَإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرَةٌ عَلى نَفْسِهِ، ضَعُفَتْ غَيْرَتُهُ عَلى امْرَأتِهِ وغَيْرِها. ولِهَذا يُوجَدُ مَن كانَ مُخَنَّثًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ غَيْرَةٍ عَلى ولَدِهِ ومَمْلُوكِهِ ومَن يَكْفُلُهُ، والمَرْأةُ إذا رَضِيَتْ بِالمُخَنَّثِ واللُّوطِيِّ، كانَتْ عَلى دِينِهِ، فَتَكُونُ زانِيَةً، وأبْلَغَ. فَإنَّ تَمْكِينَ المَرْأةِ مِن نَفْسِها أسْهَلُ مِن تَمْكِينِ الرَّجُلِ مِن نَفْسِهِ. فَإذا رَضِيَتْ ذَلِكَ مِن زَوْجِها رَضِيَتْهُ مِن نَفْسِها. (p-٤٤٤٧)ولَفْظُ الآيَةِ: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ﴾ يَتَناوَلُ هَذا كُلَّهُ بِطَرِيقِ عُمُومِ اللَّفْظِ، أوْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ. وفَحْوى الخِطابِ الَّذِي هو أقْوى مِن مَدْلُولِ اللَّفْظِ. وأدْنى مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ القِياسِ، كَما بَيَّنّاهُ في حَدِّ اللُّوطِيِّ وغَيْرِهِ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وكُلُّهُ تَأْيِيدٌ لِما ذَهَبَ إلَيْهِ الإمامُ أحْمَدُ مِن أنَّهُ لا يَصِحُّ العَقْدُ مِنَ الرَّجُلِ العَفِيفِ عَلى المَرْأةِ البَغِيِّ، ما دامَتْ كَذَلِكَ، فَإنْ تابَتْ صَحَّ العَقْدُ عَلَيْها، وإلّا فَلا. وكَذَلِكَ لا يَصِحُّ تَزْوِيجُ المَرْأةِ الحُرَّةِ العَفِيفَةِ بِالرَّجُلِ الفاجِرِ المُسافِحِ حَتّى يَتُوبَ تَوْبَةً صَحِيحَةً. لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ كَما فَضَّلَهُ تَقِيُّ الدِّينِ. وقَدْ رَوى هُنا الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ آثارًا مَرْفُوعَةً ومَوْقُوفَةً، كُلُّها مُؤَكِّدَةٌ لِهَذا. ثُمَّ قالَ بَعْدَها: فَأمّا الحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ النَّسائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «جاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّ عِنْدِي امْرَأةً مِن أحَبِّ النّاسِ إلَيَّ، وهي لا تَمْنَعُ يَدَ لامِسٍ. قالَ: «طَلِّقْها» قالَ: لا صَبْرَ لِي عَنْها. قالَ: «اسْتَمْتِعْ بِها»» . فَقالَ النَّسائِيُّ: هَذا الحَدِيثُ غَيْرُ ثابِتٍ. وعَبْدُ الكَرِيمِ أحَدُ رُواتِهِ ضَعِيفُ الحَدِيثِ لَيْسَ بِالقَوِيِّ. وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: هو حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إنَّما أرادَ أنَّها سَخِيَّةٌ لا تَمْنَعُ سائِلًا. وحَكاهُ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ. فَقالَ: وقِيلَ: سَخِيَّةٌ تُعْطِي. ورُدَّ هَذا بِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ لَقالَ: لا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ. وقِيلَ: المُرادُ أنَّ سَجِيَّتَها لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، لا أنَّ المُرادَ أنَّ هَذا واقِعٌ مِنها، وأنَّها تَفْعَلُ الفاحِشَةَ. فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لا يَأْذَنُ في مُصاحَبَةِ مَن هَذِهِ صِفَتُها، فَإنَّ زَوْجَها والحالَةُ هَذِهِ يَكُونُ دَيُّوثًا، وقَدْ تَقَدَّمَ الوَعِيدُ عَلى ذَلِكَ. ولَكِنْ لَمّا كانَتْ سَجِيَّتُها هَكَذا لَيْسَ فِيها مُمانَعَةٌ ولا مُخالَفَةٌ لِمَن أرادَها لَوْ خَلا بِها أحَدٌ، أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِفِراقِها. فَلَمّا ذَكَرَ أنَّهُ يُحِبُّها أباحَ البَقاءَ مَعَها. لِأنَّ مَحَبَّتَهُ لَها مُحَقَّقَةٌ. ووُقُوعَ الفاحِشَةِ مِنها مُتَوَهَّمٌ، فَلا يُصارُ إلى الضَّرَرِ العاجِلِ لِلتَّوَهُّمِ الآجِلِ. واللَّهُ أعْلَمُ. انْتَهى. (p-٤٤٤٨)لَطِيفَةٌ: سِرُّ تَقْدِيمِ (الزّانِيَةِ ) في الآيَةِ الأُولى و(الزّانِي ) في الثّانِيَةِ: أنَّ الأُولى في حُكْمِ الزِّنى والأصْلُ فِيهِ المَرْأةُ لِما يَبْدُو مِنها مِنَ الإيماضِ والإطْماعِ. والثّانِيَةُ في نِكاحِ الزُّناةِ إذا وقَعَ ذَلِكَ عَلى الصِّحَّةِ. والأصْلُ في النِّكاحِ الذُّكُورُ، وهُمُ المُبْتَدِئُونَ بِالخِطْبَةِ، فَلَمْ يُسْنَدْ إلّا لَهم، لِهَذا وإنْ كانَ الغَرَضُ مِنَ الآيَةِ تَنْفِيرَ الأعِفّاءِ مِنَ الذُّكُورِ والإناثِ، مِن مُناكَحَةِ الزُّناةِ ذُكُورًا وإناثًا، زَجْرًا لَهم عَنِ الفاحِشَةِ، ولِذَلِكَ قَرَنَ الزِّنى والشِّرْكَ. ومِن ثَمَّ كَرِهَمالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مُناكَحَةَ المَشْهُورِينَ بِالفاحِشَةِ، وقَدْ نَقَلَ أصْحابُهُ الإجْماعَ في المَذْهَبِ عَلى أنَّ لِلْمَرْأةِ أوْ لِمَن قامَ مِن أوْلِيائِها فَسْخَ نِكاحِ الفاسِقِ. ومالِكٌ أبْعَدُ النّاسِ مِنَ اعْتِبارِ الكَفاءَةِ إلّا في الدِّينِ. وأمّا في النَّسَبِ فَقَدْ بَلَغَهُ أنَّهم فَرَّقُوا بَيْنَ عَرَبِيَّةٍ ومَوْلى، فاسْتَعْظَمَهُ وتَلا: ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] انْتَهى كَلامُ النّاصِرِ في (الِانْتِصافِ ") ومُرادُ السَّلَفِ بِالكَراهَةِ، ما تُعْرَفُ بِالكَراهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ. فَيَقْرُبُ بِذَلِكَ مَذْهَبُ المالِكِيَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى حُكْمَ جَلْدِ القاذِفِ لِلْمُحْصَنَةِ، وهي الحُرَّةُ البالِغَةُ العَفِيفَةُ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب