الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾. كثر الاختلاف من المفسرين والعلماء وأهل المعاني في معنى الآية وسبب نزولها وتأويلها، وسأذكر فيها بعون الله تعالى ما يفتح الغَلَق ويُسيغ الشرق [[الشَّرَق: الشَّجا والغصة. "الصحاح" للجوهري 4/ 1501 (شرق).]]. روى القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال: كانت نساء بالمدينة بغايا، فكان الرجل المسلم يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهوا عن ذلك [[رواه الطبري في "تفسيره" 18/ 71، والحاكم في "مستدركه" 2/ 396 من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمر وبنحوه. وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" 9/ 194 - 195، والنسائي في "تفسيره" 2/ 110، والحاكم في "مستدركه" 2/ 193 - 194، والطبري 18/ 71، وابن أبي حاتم 7/ 11 أمن طريق آخر عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عمر: "أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله -ﷺ- في امرأة يقال لها أم مهزول، وكانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه. قال فاسأذن رسول الله -ﷺ-، أو ذكر له أمرها. قال: فقرأ عليه رسول الله -ﷺ- ﴿الزَّانِيَةُ﴾ الآية. وقد ضعَّف العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" 9/ 194 - 195 إسناد الطريقين. وقال النحاس في "معاني القرآن" 4/ 499: حديث القاسم عن عبد الله مضطرب الإسناد.]]. وقال الزهري: كان في الجاهلية بغايا معلوم ذلك منهن، فأراد ناسٌ من المسلمين نكاحهن، فأنزل الله هذه الآية [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، 51، والطبري في "تفسيره" 18/ 73.]]. وقال القاسم بن أبي بزَّة: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة فنهوا عن ذلك [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 51، والطبري في "تفسيره" 18/ 73.]]. وروى الكلبي بإسناد عن ابن عباس في نزول هذه الآية: أن المهاجرين لما قدموا المدينة لم يكن لهم مساكن ينزلونها ولا عشائر يؤوونهم وكان في المدينة بغايا متعالمات بالفجور، ولهن علامات كعلامات البياطرة [[البياطرة: جمع بيطار، وهو معالج الدواب. "لسان العرب" 4/ 69 (بطر).]]، وكنَّ مخاصيب [[في (أ): (مخاطيب الرحال)، وفي (ظ): (مخاصيب الرجال)، وفي (ع): (مخاضيب الرجال)، ولعلها: مخاصيب الرِّحال. ففي "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 8 ب، و"الدر المنثور" 6/ 129 عن مقاتل بن حيّان: وكنَّ من أخصب أهل المدينة. قال ابن منظور في "لسان العرب" 1/ 356 "خصب" والرجل إذا كان كثير خير المنزل يقال: إنه خصيب الرَّحل.]] الرِّحال، فقال أولئك الذين ليس لهم مساكن ولا عشائر: لو أنا تزوجنا من هؤلاء فسكنا معهن في منازلهن، ونصيب من طعامهن وكسوتهن، فأتوا رسول الله -ﷺ- فذكروا ذلك له من شأنهم. فنزلت هذه الآية [[لم أجده من هذه الرواية، وقد تقدم أنَّ رواية الكلبي عن ابن عباس باطل.]]. ونحو هذا روى العوفي [[رواية العوفي عن ابن عباس رواها الطبري 18/ 72، وابن أبي حاتم 7/ 9 أوهي ضعيفة.]] وشعبة [[هو: شعبة بن دينار -وقيل: اسم أبيه يحيى- الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله ويقال: أبو يحيى، مولى عبد الله بن عباس. روى عن مولاه. وروى عن ابن أبي ذئب وعدد من أهل المدينة توفي في خلافة هشام بن عبد الملك. قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال ابن معين -في رواية-: ليس به بأس. وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به. وقال العجلي: جائز الحديث. وضعَّفه آخرون: فقد سئل عنه مالك فقال: ليس بثقة. وقال ابن معين -في رواية-: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم والنسائي والجوزجاني: == ليس بالقوي. وقال أبو زرعة والساجي: ضعيف. وقال البخاري: يتكلم فيه مالك، ويحتمل منه. وقال ابن سعد: ولا يحتج به. وقال ابن حيان: روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر. وقال ابن حجر: صدوق سيء الحفظ. انظر: "العلل ومعرفة الرجال" لأحمد بن حنبل 2/ 35، و"الجرح والتعديل" 4/ 367، "طبقات ابن سعد" 5/ 294، "أحوال الرجال" للجوزجاني ص 133، "الضعفاء والمتروكين" للنسائي ص (256)، "المجروحين" لابن حبان 2/ 361، "الكامل" و"الضعفاء" لابن عدي 4/ 1339، "ميزان الاعتدال" للذهبي 2/ 274، "تهذيب التهذيب" 4/ 346، "تقريب التهذيب" 1/ 351. ورواية شعبة عن ابن عباس رواها ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 272، والطبري 18/ 72، وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 129 هذه الرواية من طريق شعبة وتصحفت في المطبوع إلى سعيد عن ابن عباس، ونسبها أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردوية، وليس عند ابن أبي حاتم 7/ 9 أذكر سبب النزول. وهذه الرواية عن ابن عباس ضعيفة، لسوء حفظ شعبة.]] مولى ابن عباس، عنه. وهو قول عكرمة، ومجاهد، وعطاء بن أي رباح [[ذكره الثعلبي 3/ 68 أعن عكرمة ومجاهد وعطاء. وعن عكرمة رواه الطبري 18/ 73. وعن مجاهد رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50 - 51، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 272 - 273، والطبري 18/ 72، وابن أبي حاتم 7/ 8 ب. وعن عطاء رواه الطبري 18/ 72، وابن أبي حاتم 7/ 11 أ.]]، ومقاتل بن حيان [[رواه ابن أبي حاتم 7/ 9 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 127 وعزاه لابن أبي حاتم.]]، ومقاتل بن سليمان [[انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 34 أ - ب.]]، والشعبي [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 68 أ، ورواه الطبري 18/ 73.]]، وأكثر أهل التفسير [[انظر: "الطبري" 71/ 18 - 73، والثعلبي 3/ 68 أ، و"الدر المنثور" للسيوطي 6/ 127 - 130.]]، واختيار الفراء والزَّجاج [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 245، و "معاني القرآن" للزجاج 4/ 29.]]. وعلى هذا القول حرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا المعلنات بزناهن وذكر أن من فعل ذلك وتزوج واحدة منهن فهو زان. والآية خاصة في تحريم نكاح المعلنة بزناها. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء [[روى الطبري 18/ 72 معنى هذا عن عطاء وفي آخره: قيل له -يعني لعطاء- أبلغك عن ابن عباس؟ قال: نعم.]]. وروى عطاء عن ابن عباس -في هذه الآية- قال: يريد لا يحل لمؤمن أن يتزوج زانية مشهورة بالزنّا ولا عابد صنم، ولا يحل لمؤمنة أن تتزوج مشركًا من عبدة الأصنام ولا مشهورًا بالزنا. ومذهب مجاهد -في هذه الآية- أنَّ التحريم لم يكن إلا على أولئك خاصة دون الناس [[ذكر هذا القول عن مجاهد: أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 101 بعد أن روى عنه أنَّه قال -في قوله ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ﴾ الآية-: كان رجالٌ يريدون الزنا بنساء زوان بغايا معلنات، كنَّ كذلك في الجاهلية، فقيل لهم: هذا حرام، فأرادوا نكاحهن فحرم عليهم نكاحهن.]]. ومذهب سعيد بن المسيب: أن هذه الآية منسوخة، نسختها التي بعدها وهي قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32] قال: فيقال إن الزواني من أيامى المسلمين [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 100، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 271، والطبري 18/ 74 - 75، == والبيهقي في "سننه" 7/ 154، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 130 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وغيرهما.]]. قال أبو عبيد: فمذهب [[في (أ): (ذهب).]] سعيد ومجاهد في تأويلها هو الرخصة في تزويج البغي، إلا أن سعيدًا أراد أن التحريم كان عامًا ثم نسخته الرخصة، وأراد مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على أولئك خاصة دون الناس [["الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 101.]]. وقد جاءت أخبار فيها دلائل على جواز تزوج الزانية: وهي ما رُوي أن رجلاً ضاف رجلاً، فافتض أخته، فرفع إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فسألهما، فاعترفا، فجلدهما مائة مائة، ثم زوّج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 101. 102، والبيهقي في "السنن "الكبرى" 8/ 223 عن ابن عمر أو صفية وهي بنت أبي عبيد. ورواه بنحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 249 عن الزهري.]]. وروي أنّ غلامًا فجر بجارية، فسئلا، فاعترفا، فجلدهما عمر بن الخطاب، ثم حرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 102، وسعيد بن منصور في "سننه" 1/ 216، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 248، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 155.]]. وروي عن ابن مسعود: أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يريد أن يتزوجها؟ قال: لا بأس بذلك [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 103، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 156. وقد جاء خلاف هذا القول عن ابن مسعود، فقد روى سعيد بن منصور في "سننه" 1/ 218، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 156 عنه في الرجل يفجر == بالمرأة ثم يتزوجها؟ قال: لا يزالان زانيين ما اجتمعا. قال البيهقي: ومع من رخص فيه دلائل الكتاب والسنة.]]. وقال جابر بن عبد الله في مثل هذا: أوله حرام وآخره حلال [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 103. وقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 249، 250 عن جابر -رضي الله عنه- قال: إذا تابا وأصلحا فلا بأس.]]. وبين ابن عباس فيما روى عنه عكرمة لهذا تمثيلًا حسنًا فقال: إنَّما مثل ذلك مثل رجل أتى حائطًا فسرق منه، ثم أتى صاحبه فالشترى منه [[في (ع) زيادة: ما سرق. بعد قوله: (فاشترى منه).]]، فما سرق حرام وما اشترى حلال [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 104 عن ابن عباس. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 249 عن عكرمة قال: لا بأس هو بمنزلة رجل سرق نخلة ثم أشتراها.]] والإجماع اليوم على هذا، وهو أن تزوج الزانية يصح [[في (ظ)، (ع): (فيصح) مهملف]]، وإن زنت لم يفسد النكاح [[انظر: "الحاوي" 9/ 188 - 190، "المغني" 9/ 561 - 565، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي 12/ 170.]]. قال الضحاك: إذا فجرت لم يفرق بينهما، كما أنه لو فجر لم يفرق بينهما [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 105.]]. قال أبو عبيد: فهذا مذهب من رأى أن الآية منسوخة غير معمول بها، ولهذا ترخصوا في تزويج البغايا وإمساكهن. وهي عند آخرين من العلماء على غير ذلك يرونها محكمة قائمة، ويفسدون النكاحَ فجورُها [["الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 105.]]. روي أن عليًّا -رضي الله عنه- فرّق بين زوجين بزنا أحدهما [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 105 وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 263 - 264 من طريق سماك عن حنش -وتصحف في المطبوع من ابن أبي شيبة إلى حسن- بن المعتمر. وذكره البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 156 بغير إسناد. ثم قال: وحنش غير قوي.]]. وروي مثل هذا عن الحسن [[رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 264.]] وإبراهيم [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 106، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 264.]]. قال أبو عبيد: إذا عاين منها الفجور لم يكن ذلك تحريمًا بينهما ولا طلاقًا، غير أنَّه يؤمر بطلاقها أمرًا ويخاف عليه الإثم في إمساكها [[في (أ): (إمساكه)، والمثبت من (ظ)، (ع) والناسخ والمنسوخ.]]؛ لأنَّ الله تعالى إنما اشترط على المؤمنين نكاح المحصنات فقال: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 24]. ومع هذا لا يأمنها أن توطئ فراشه غيره، فتلحق به نسبًا ليس منه فيرث ماله، ويطلع على حرمته، فأي ذنب أعظم من هذا؟ بأن [[في "الناسخ والمنسوخ": (أنْ).]] يكون لها [[في (ع): (له).]] معينًا بإمساكها. ولا أحسب الذين ترخصوا في ذلك بعد الفجور إلا بالتوبة [[في "الناسخ والمنسوخ": (إلا بتوبة).]] تظهر منها، كالذي يحدث به عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل أراد أن ينكح امرأة قد زنا بها؟ فقال: ليردها على الزنا فإن فعلت فلا ينكحها، وإن أبت فلينكحها [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 107 من طريق أبي صالح، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب: أنَّه بلغه عن ابن عباس، فذكره. وهو مقطع.]] قال [[يعني أبا عبيد.]]: وقد تسهَّل قوم في نكاحها، وإن لم تظهر منها توبة، واحتجوا بحديث الذي قال للنبي -ﷺ-: إنَّ امرأته لا ترد يد لامس. فأمره النبي -ﷺ- بالاستمتاع منها [[في (1): (معها)، والمثبت من (ظ)، (ع) والناسخ والمنسوخ.]] وإمساكها [[وإمساكها: ليست في الناسخ والمنسوخ.]] [[رواه النسائي في "سننه" (كتاب: النكاح- باب: تزويج الزانية 6/ 67) من طريق حمّاد بن سلمة وغيره، عن هارون بن رئاب وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد الليثي، عن ابن عباس عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه. قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله -ﷺ- فقال: إنَّ عندي امرأة هي من أحب الناس إليَّ، وهي لا تمنع يد لامس قال: "طلقها" قال: لا أصبر عنها. قال: "استمتع بها". قال النسائي بعد روايته: هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264 بعد ذكره لكلام النسائي المتقدم-: عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث، وقد خالفه هارون بن رئاب وهو تابعي ثقة من رجال مسلم فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي. اهـ. لكن قد جاءت الرواية عن ابن عباس مسندة من وجه آخر غير طريق عبد الكريم. فقد رواه أبو داود في "سننه" (كتاب: النكاح- باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء 6/ 45)، والنسائي في "سننه" (كتاب: الطلاق- باب: ما جاء في الخلع 6/ 169 - 170)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 154 - 155 من طريق عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله -ﷺ-، فذكره بنحوه. == قال الحافظ المنذري في "مختصر أبي داود" 3/ 6: ورجال إسناده محتج بهم في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264: وهذا الإسناد جيِّد. وقال ابن حجر في "بلوغ المرام" ص 203: ورجاله ثقات. وصحَّح إسناده الألباني كما في تعليقه على "سنن النسائي" 2/ 731. وخالف في ذلك ابن الجوزي فحكم عليه بالوضع، وأوردوه في "الموضوعات" 2/ 272. وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" 3/ 253 بعد نقله عن النووي تصحيح هذا الحديث-: نقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد بن حنبل أنَّه قال: لا يثبت عن النبي -ﷺ- في هذا الباب شيء، وليس له أجل. وتمسَّك بهذا ابن الجوزي فأورده في "الموضوعات" مع أنه أورده بإسناد صحيح. اهـ. ونقل الشوكاني في كتابه "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" ص 129 كلام ابن الجوزي في وضع الحديث، ثم ذكر من صحَّحه، ثم قال: وبالجملة فإدخال هذا الحديث في الموضوعات مجازفة ظاهرة. وقال السندي في حاشيته على "سنن النسائي" 6/ 68: وقيل هذا الحديث موضوع، وردَّ بأنه حسن صحيح ورجال سنده رجال الصحيحين، فلا يلتفت إلى قول من حكم عليه الوضع. اهـ. وقد ورد هذا الحديث عن جابر -رضي الله عنه-، رواه الطبري في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين في زوائد المعجمين" للهيثمي 4/ 201 - 202، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 155، والبغوي في "شرح السنَّة" 9/ 288. وفي "تفسيره" أيضًا 6/ 10، والخلاَّل كما في "تلخيص الحبير" لابن حجر 3/ 253 من طريق عبد الكريم الجزري، عن أبي الزبير، عن جابر، بنحو حديث ابن عباس. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 335: رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح.]]. وتأولوا قوله: "لا تمنع يد لامس" على البغاء. وهذا عندنا بخلاف الكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى إنَّما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم أنزل في القاذف لامرأته آية اللعان، وسن رسول الله -ﷺ- التفريق بينهما فلا يجتمعان أبدًا. فكيف يأمره [[(يأمره) ساقطة من (أ).]] بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها؟ وفي حكمة أن يلاعن بينهما ولا يقره قاذفًا على حاله. هذا [[في (ظ)، (ع): (هذه إلا وجه).]] لا وجه له عندنا، والذي يُحمل [[في (أ): (يحصل).]] عليه وجه الحديث أنَّه ليس يثبت عن النبي -ﷺ-، إنما يحدثه هارون بن رئاب [[هو: هارون بن رئاب التميمي، الأسدي، البصري، أبو بكر أو أبو الحسن، أحد العلماء الربانيين العبّاد. روى عن أنس وابن المسيب، وعنه الأوزاعي وشعبه. قال الذهبي وابن حجر: ثقة. "الكاشف" للذهبي 3/ 213، "تقريب التهذيب" 2/ 311.]] عن عبد الله بن عبيد، ويحدثه عبد الكريم الجزري، عن أبي الزبير [[هو: محمد بن مسلم بن تدرس، أبو الزبير المكي، تقدم.]]. وكلاهما يرسله [[تقدّم أثناء تخريج الحديث روايات موصولة صحَّحها العلماء.]]. فإن كان له أصل، فإن معناه: أن الرجل وصف امرأته بالخُرق [[الخُرق: عدم إحسان العمل والتصرف في الأمور، والحُمْق. انظر: "القاموس المحيط" 3/ 226.]] وضعف الرأي وتضييع ماله، فهي لا تمنعه [من طالب] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ظ)، (ع).]]، ولا تحفظه من سارق [[ما اختاره أبو عبيد هنا منقول أيضًا عن الإمام أحمد والأصمعي وغيرهما. وضعَّف أبو العباس بن تيمية في "الفتاوى" 32/ 11 هذا القول. وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264 وردَّ هذا بأنَّه لو كان المراد لقال: لا تردّ يد ملتمس. ونقل ابن حجر في "تلخيص الحبير" 3/ 54 عن بعض أهل العلم أنه قال: السخاء == مندوب إليه؛ فلا يكون موجبًا لقوله طلّقها، ولأن التبذير إن كان من مالها فلها التصرف فيه وإن كان من ماله فعليه حفظه، ولا يوجب شيء من ذلك الأمر بطلاقها. وذكر الصنعاني في "سبل السلام" 3/ 360 هذا القول واستبده، وذكر نحو ما تقدم ثم قال: على أنَّه لم يتعارف في اللغة أن يقال: فلان لا يرد يد لامس، كناية عن الجود.]]. هذا عندنا مذهب الحديث. وإن كان الآخر مقولًا [[يعني القول بان المراد بقول الرجل: لا ترد يد لامس هو الفجور. وبهذا القول قال جماعة من العلماء، منهم: الخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والغزالي والنووي وغيرهم. وقد ردّ الإمام أحمد وغيره هذا القول، فقال الإمام أحمد -كما نقل عنه- لم يكن النبي -ﷺ- ليأمره بإمساكها وهي تفجر. وتقدّم ردّ أبي عبيد لهذا القول. واستبعده ابن كثير في "تفسيره" 3/ 264 وبيِّن أن رسول الله -ﷺ- لا يأذن في مصاحبة من هذا صفتها؛ لأنَّ زوجها -والحالة هذه- يكون ديوثًا. وقال عنه الصنعاني في "سبل السلام" 3/ 360: إنَّه في غاية البعد، وذلك للآية (الزاني .. وحرم ذلك على المؤمنين)؛ ولأنَّه -ﷺ- لا يأمر الرجل أن يكون ديوثًا. اهـ وأقرب الأقوال في توجيه "لا ترد يد لامس": أنَّ الرجل أراد أن سجيّتها لا ترد يد لامس، فهي سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب، لا أن هذا الأمر واقع منها وأنها تفعل الفاحشة. قال أبو العباس ابن تيمية في "الفتاوى" 32/ 116: لفظ اللامس قد يراد به من مسَّها بيده وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرّج، وإذا نظر إليها رجلٌ أو وضع عليها يده لم تنفر عنه، ولا تمكنه من وطئها، ومثل هذه نكاحها مكروه، ولهذا أمره النبي -ﷺ- بفراقها ولم يوجب ذلك عليه لما ذكر أنَّه يحبّها؛ فإن هذه لم تزن ولكنها مذنبة ببعض المقدمات؛ ولهذا قال: لا ترد يد لامس فجعل اللمس باليد فقط، ولفظ اللمس والملامسة إذا عني الجماع لا يخص باليد، بل إذا قرن باليد فهو كقوله ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: 7] اهـ.== وبنحو ذلك مختصرًا قال الذهبي كما في "بذل المجهود" في حل أبي داود 10/ 13 للسَّهانفوري. وقال ابن كثير 3/ 265: المراد إن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقع منها وأنها تفعل الفاحشة، ولما كان سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد أمره رسول الله -ﷺ- بفراقها احتياطًا، فلما ذكر له أنَّه يحبّها ولا يقدر على فراقها، وأنَّه لا يصبر على ذلك ويخشى أن تتبعها نفسه رخَّص به في البقاء معها؛ لأنَّ محبَّته لها متحققة ووقوع الفاحشة منها متوهَّم، فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهّم الآجل. اهـ. وبمثله قال السندي في "حاشيته على النسائي" 6/ 67. وقال الصنعاني في "سبل السلام" 3/ 360: المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة من الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد عن الفاحشة.]]. وهو [[سياق الكلام: هذا عندنا مذهب الحديث، وهو أشبه بالنبي -ﷺ-. وجملة: وإن كان الآخر مقولًا. معترضة.]] أشبه بالنبي -ﷺ-، وأحرى أن يظن بحديثه. ولو كان في الحديث أنها لا تمنع لامسًا أو فرج لامس؛ كان اللمس محمولًا على الجماع، ولكنه قال: يد لامس. ويحمل على ما تأوّلنا، وقد وجدنا له شاهدًا في أشعار العرب، قال جرير بن الخطفى: ألستم لئامًا إذ ترومون جاركم [[في جميع النسخ: (جارهم)، والتصويب من "الديوان" و"الناسخ والمنسوخ" ص 111.]] ... ولولاهم لم يدفعوا كفَّ لامس [[البيت في "ديوانه" 2/ 901 من قصيدة يجيب بها عن جنباء أحمد بن عليم وقد حدثت بينه وبين غسان بن ذهيل السليطي ملاحاة، فهجاه غسَّان فأجاب عنه جرير، وروايته في الديوان: ألستم لئامًا إذ ترومون جاركم. ولولاهم لم تدفعوا كفَّ لامس. وانظر: "النقائص" ص 26.]] أراد أنكم لا تمنعون ظالمًا ولا أحدًا يريد أموالكم. انتهى كلامه [["الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص (108 - 111) مع اختلاف يسير، وتصرف.]]. وعلى ما ذكرنا المراد بالنكاح في الآية: التزويج. [وروي عن] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ع).]] ابن عباس -في هذه الآية- طريق آخر، وهو ما روى سعيد [[(سعيد) ساقط من (ع).]] بن جبير -في هذه الآية- قال: ليس هذا في التزويج، إنما هو في الجماع، لا يجامعها إلا زان أو مشرك، قال: الزاني لا يزني إلا بزانية [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 51، وابن أبي حاتم 7/ 8 أ - ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 154، والثعلبي في "تفسيره" 3/ 68 أ - ب من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه. ورواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 221، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، من طريق سعيد، عن ابن عباس بنحوه مختصرًا. وذكره ابن كثير 3/ 262 من حديث الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد، عن ابن عباس بلفظ ابن أبي حاتم وقال: وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي من غير وجه أيضًا.]]. ونحو هذا روى سلمة [[هو: سلمة بن نبيط بن شريط الأشجعي، أبو فراس الكوفي. روى عن الضحاك بن مزاحم وغيره. وعنه الثوري وابن المبارك وغيرهما. ثقة، يقال اختلط بآخرة "الكاشف" للذهبي 1/ 387، "تهذيب التهذيب" 4/ 158، "تقريب التهذيب" 1/ 319.]] عن الضحاك -في تفسير هذه الآية- قال: لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله، ولا تزني حين تزني إلا بزان مثلها [[رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 272، والطبري 18/ 74 من طريق سلمة، عن الضحاك به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 128 وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد.]]. وروي عن يزيد بن هارون أنه قال: هذا عندي إن جامعها وهو [[في (أ): (فهو).]] مستحل فهو مشرك، وإن [[في (أ): (فإن).]] جامعها وهو محرِّم فهو زان [[رواه الثعلبي 3/ 68 ب بإسناده عن يزيد، به.]]. وهذا التأويل لا يعترض النسخ على الآية. قال أبو عبيد: يذهب [[في جميع النسخ: (فذهب)، والمثبت من "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد.]] ابن عباس في رواية سعيد بن جبير [[قوله "في رواية سعيد بن جبير": من كلام الواحدي.]] إلى أن قوله ﴿لَا يَنْكِحُ﴾ إنما هو الجماع، ولا يذهب به إلي التزويج، والكلمة محتملة للمعنيين جميعًا في كلام العرب، والله أعلم [["الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 112.]]. وقال أبو إسحاق: قول من قال: إنَّ معنى النكاح هاهنا: الوطء يبعد؛ لأنه لا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب الله إلا على معنى التزويج كقوله ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾ [النور: 32] ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الأحزاب: 49]، ولو كان المعنى على الوطء لما كان في الكلام فائدة؛ لأن القائل إذا قال: "الزانية لا تزني إلا بزان، والزاني لا يزني إلا بزانية" فليست فيه فائدة إلا على وجهة التغليظ للأمر، كما تقول للرجل الذي قد عرف بالكذب: هذا كذاب، تريد به تغليظ [[في (أ): (تغليظًا).]] أمره، والذي فيه الفائدة وتوجيه اللغة أنَّ المعنى معنى التزويج [["معاني القرآن" للزجَّاج 4/ 29 - 30 مع تقديم وتأخير وحذف.]]. وروي عن الحسن أنه قال -في تفسيره هذه الآية- الزاني إذا أقيم عليه الحدّ لا يزوج إلا بامرأة قد أقيم عليها الحد، وذلك المرأة إذا أقيم عليها الحد لا تزوج إلا برجل مثلها [[ذكر هذه الرواية بهذا اللفظ عن الحسن: الزَّجَّاج في "معاني القرآن" 4/ 30. وقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 273 عن الحسن قال: المحدود لا يتزوج إلا محدودة. وذكرها السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 130 ونسبها أيضًا لعبد بن حميد.]]. هذا معنى قول الحسن في تفسير الآية، وقد حملها على المحدود والمجلود. وهذا الذي ذكرنا هو ما روي عن الأئمة والمتقدمين في هذه الآية. والاختيار هو القول الأول الذي منع المسلمون من مناكحة أولئك الزواني والمشركات المعلنات بالزنا. ومعنى قوله ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: 3] أن من تزوج زانية أو مشركة من أولئك فهو زان؛ لأن ذلك النكاح فاسد وحكمه حكم السفاح، وذكر بلفظ التأكيد وليس المعنى على ظاهر اللفظ؛ لأن الزاني يجوز أن يتزوج غير زانية ولا مشركة، ولكن المعنى أنّ من تزوج واحدة منهن فهو زان، كأنه قيل: لا ينكح الزانية والمشركة إلا زان. فقلت الكلام، ثم ذكر غير مقلوب إعادة للبيان والتأكيد وهو قوله ﴿وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ [النور: 3]. قوله ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 3] أي [[في (أ): (إذه).]] ذلك النكاح. وقيل: حرم الزنا على المؤمنين. وهذا معنى [[(معنى) ليست في (ظ)، (ع).]] قول مجاهد [[انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 12 أ.]] وابن عباس [[انظر: "معانى القرآن" للنحاس 4/ 501، "تفسير ابن كثير" 3/ 262.]] -في رواية عطاء-: أن الآية خاصة في تحريم أولئك الزواني المعروفة. وتخبط صاحب النظم في هذه الآية، وأتى بكلام مستكره [[في (أ): (مستكو).]] لم يفد في شيء منه إلا في وجه بعيد ذكره من القلب على غير ما ذكرنا، وهو أنه قال: يعرض في هذه الآية بعض القلب كما عرض في قوله ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم: 35] [على تأويل: ما كان الله ليتخذ من ولد] [[ساقط من (ع).]] فيكون التأويل في قوله ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: 3] أي الناكح [[في (ع): (التناكح).]] زانية أو مشركة لا يكون إلا زانيًا؛ بمعنى: من نكح زانية أو مشركة فهو زان؛ لأنَّه لا ينكح زاينة إلا وهو راض بزناها، ولا يكون راضيًا بزناها إلا وهو أيضًا يزني، وذلك لا ينكح مشركة إلا وهو راض بالزنا، لأن المشركة محرمة عليه. وذلك المرأة إذا نكحت زانيًا أو مشركًا فقد رضيت بذلك، ولا تكاد ترضى به إلا وهي تفعله. هذا [كلامه] [[ساقط من (ع).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب