الباحث القرآني

الصواب: القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شيء، وهي مشتملة على خبر وتحريم، ولم يأت من ادعى نسخها بحجة ألبتة، والذي أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى، فإنهم أشكل عليهم قوله: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ هل هو خبر أو نهي، أو إباحة؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة، وإن كان نهيا فيكون قد نهي الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهيًا له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له في نكاح المشركات والزواني، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعًا، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه. فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنا، فكأنه قال: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة. وهذا فاسد، فإنه لا فائدة فيه، ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك، فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية، فأي فائدة في الإخبار بذلك؟ ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه. ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهي عناق البَغِي وصاحبها فإنه أسلم، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية. وهذا أيضًا فاسد، فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها. وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: ﴿وَأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]. وهذا أفسد من الكل، فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين، ولا تناقض إحداهما الأخرى، بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة، وذوات المحارم، فأين الناسخ والمنسوخ في هذا؟ فإن قيل: فما وجه الآية؟ قيل: وجهها، والله أعلم، أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه في سورتى النساء والمائدة والحكم المعلق على الشرط ينتفى عند انتفائه، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه، لم يصح النكاح، فيكون زانيا، فظهر معنى قوله: ﴿لا يَنْكِحُ إلا زانِيةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة. وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة. ومقتضى العقل، فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرْنانًا دَيُّوثا زوج بغي، فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا زوج قحبة، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك. فظهرت حكمة التحريم وبانَ معنى الآية، والله الموفق. ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم، وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنا يفضي إلى اختلاط المياه، واشتباه الأنساب، فمن محاسن الشريعة: تحريم نكاح الزانية، حتى تتوب وتستبرأ. وأيضًا فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة والمودة وخالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجا له، والزوج سمى زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الاثنان المتشابهان، والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعًا وقَدَرًا، فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد، فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة. فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزاني البارحة، وقال: ماء الزاني لا حرمة له، فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة، فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد؟ والمقصود: أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرًا لبدنه بالماء. * [فَصْلٌ: تَحْرِيمُ نِكاحِ الزّانِيَةِ] وَأمّا نِكاحُ الزّانِيَةِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِتَحْرِيمِهِ في سُورَةِ النُّورِ، وأخْبَرَ أنَّ مَن نَكَحَها فَهو إمّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ، فَإنَّهُ إمّا أنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَهُ سُبْحانَهُ ويَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ أوَ لا، فَإنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ ولَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهو مُشْرِكٌ. وإنِ التَزَمَهُ واعْتَقَدَ وُجُوبَهُ وخالَفَهُ فَهو زانٍ، ثُمَّ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ فَقالَ: ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٣] وَلا يَخْفى أنَّ دَعْوى نَسْخِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٤] مِن أضْعَفِ ما يُقالُ، وأضْعَفُ مِنهُ حَمْلُ النِّكاحِ عَلى الزِّنى، إذْ يَصِيرُ مَعْنى الآيَةِ الزّانِي لا يَزْنِي إلّا بِزانِيَةٍ أوْ مُشْرِكَةٍ، والزّانِيَةُ لا يَزْنِي بِها إلّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ، وكَلامُ اللَّهِ يَنْبَغِي أنْ يُصانَ عَنْ مِثْلِ هَذا. وَكَذَلِكَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى امْرَأةٍ بَغِيٍّ مُشْرِكَةٍ في غايَةِ البُعْدِ عَنْ لَفْظِها وسِياقِها، كَيْفَ وهو سُبْحانَهُ إنَّما أباحَ نِكاحَ الحَرائِرِ والإماءِ بِشَرْطِ الإحْصانِ، وهو العِفَّةُ، فَقالَ: ﴿فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتَّخِذاتِ أخْدانٍ﴾ [النساء: ٢٥] فَإنَّما أباحَ نِكاحَها في هَذِهِ الحالَةِ دُونَ غَيْرِها، ولَيْسَ هَذا مِن بابِ دَلالَةِ المَفْهُومِ، فَإنَّ الأبْضاعَ في الأصْلِ عَلى التَّحْرِيمِ، فَيُقْتَصَرُ في إباحَتِها عَلى ما ورَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وما عَداهُ فَعَلى أصْلِ التَّحْرِيمِ. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ والخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ﴾ [النور: ٢٦] والخَبِيثاتُ: الزَّوانِي. وهَذا يَقْتَضِي أنَّ مَن تَزَوَّجَ بِهِنَّ فَهو خَبِيثٌ مِثْلُهُنَّ. وَأيْضًا فَمِن أقْبَحِ القَبائِحِ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ زَوْجَ بَغِيٍّ، وقُبْحُ هَذا مُسْتَقِرٌّ في فِطَرِ الخَلْقِ، وهو عِنْدَهم غايَةُ المَسَبَّةِ. وَأيْضًا: فَإنَّ البَغِيَّ لا يُؤْمَنُ أنْ تُفْسِدَ عَلى الرَّجُلِ فِراشَهُ، وتُعَلِّقَ عَلَيْهِ أوْلادًا مِن غَيْرِهِ، والتَّحْرِيمُ يَثْبُتُ بِدُونِ هَذا. وَأيْضًا: فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وبَيْنَ المَرْأةِ الَّتِي وجَدَها حُبْلى مِنَ الزِّنى. وَأيْضًا فَإنَّ «مرثد بن أبي مرثد الغنوي اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ ﷺ أنْ يَتَزَوَّجَ عناق وكانَتْ بَغِيًّا، فَقَرَأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آيَةَ النُّورِ، وقالَ: لا تَنْكِحْها».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب