الباحث القرآني

﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ خَبَرٌ قُصِدَ بِهِ تَشْنِيعُ الزِّنا وأمْرِهِ، ومَعْنى ﴿لا يَنْكِحُ﴾: لا يَطَأُ، وزادَ (المُشْرِكَةَ) في التَّقْسِيمِ، فالمَعْنى أنَّ الزّانِيَ في وقْتِ زِناهُ لا يُجامِعُ إلّا زانِيَةً مِنَ المُسْلِمِينَ، أوْ أخَسَّ مِنها وهي المُشْرِكَةُ، والنِّكاحُ بِمَعْنى الجِماعِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ هُنا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقِيلَ المُرادُ بِالنِّكاحِ الوَطْءُ، ولَيْسَ بِقَوْلٍ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ أيْنَما ورَدَتْ في القُرْآنِ لَمْ يُرَدْ بِها إلّا مَعْنى العَقْدِ. والثّانِي: فَسادُ المَعْنى وأداؤُهُ إلى قَوْلِكَ الزّانِي لا يَزْنِي إلّا بِزانِيَةٍ، والزّانِيَةُ لا تَزْنِي إلّا بِزانٍ، انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِنَ الأمْرِ الأوَّلِ أخَذَهُ مِنَ الزَّجّاجِ قالَ: لا يُعْرَفُ النِّكاحُ في كِتابِ اللَّهِ إلّا بِمَعْنى التَّزْوِيجِ، ولَيْسَ كَما قالَ، وفي القُرْآنِ ”﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]“، وبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أنَّهُ بِمَعْنى الوَطْءِ. وأمّا الأمْرُ الثّانِي فالمَقْصُودُ بِهِ: تَشْنِيعُ الزِّنا وتَشْنِيعُ أمْرِهِ وأنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلى المُؤْمِنِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - وأخَذَهُ مِنَ الضَّحّاكِ وحَسَّنَهُ -: الفاسِقُ الخَبِيثُ الَّذِي مِن شَأْنِهِ الزِّنا والخُبْثُ لا يَرْغَبُ في نِكاحِ الصَّوالِحِ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي عَلى خِلافِ صِفَتِهِ، وإنَّما يَرْغَبُ في فاسِقِةٍ خَبِيثَةٍ (p-٤٣٠)مِن شَكْلِهِ، أوْ في مُشْرِكَةٍ. والفاسِقَةُ الخَبِيثَةُ المُسافِحَةُ كَذَلِكَ لا يَرْغَبُ في نِكاحِها الصُّلَحاءُ مِنَ الرِّجالِ ويَنْفِرُونَ عَنْها، وإنَّما يَرْغَبُ فِيها مَن هو مِن شَكْلِها مِنَ الفَسَقَةِ والمُشْرِكِينَ، ونِكاحُ المُؤْمِنِ المَمْدُوحِ عِنْدَ اللَّهِ الزّانِيَةَ، ورَغْبَتُهُ فِيها وانْخِراطُهُ بِذَلِكَ في سِلْكِ الفَسَقَةِ المُتَّسِمِينَ بِالزِّنا، مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ لِما فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالفُسّاقِ، وحُضُورِ مَوْقِعِ التُّهْمَةِ، والتَّسَبُّبِ لِسُوءِ القالَةِ فِيهِ، والغِيبَةِ، وأنْواعِ المَفاسِدِ، ومُجالَسَةُ الخَطّائِينَ كَمْ فِيها مِنَ التَّعَرُّضِ لِاقْتِرافِ الآثامِ فَكَيْفَ بِمُزاوَجَةِ الزَّوانِي والقِحابِ وإقْدامِهِ عَلى ذَلِكَ، انْتَهى. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ وأصْحابِهِ أنَّها في قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، كانُوا يَزْنُونَ في جاهِلِيَّتِهِمْ بِبَغايا مَشْهُوراتٍ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ وأسْلَمُوا لَمْ يُمْكِنْهُمُ الزِّنا، فَأرادُوا لِفَقْرِهِمْ زَواجَ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ إذْ كُنَّ مِن عادَتِهِنَّ الإنْفاقُ عَلى مَنِ ارْتَسَمَ بِزَواجِهِنَّ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِنَّ، والإشارَةُ بِالزّانِي إلى أحَدِ أُولَئِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنا الَّذِي كانَ في الجاهِلِيَّةِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا يَنْكِحُ﴾ أيْ لا يَتَزَوَّجُ، وعَلى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ فِيهِ مَعْنى التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ وفِيهِ تَوْبِيخٌ، كَأنَّهُ يَقُولُ: الزّانِي لا يُرِيدُ أنْ يَتَزَوَّجَ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً، أيْ تَنْزِعُ نُفُوسُهم إلى هَذِهِ الخَسائِسِ لِقِلَّةِ انْضِباطِهِمْ، ويَرِدُ عَلى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الإجْماعُ عَلى أنَّ الزّانِيَةَ لا يَجُوزُ أنْ يَتَزَوَّجَها مُشْرِكٌ في قَوْمِهِ ﴿وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ . أيْ نِكاحُ أُولَئِكَ البَغايا، فَيَزْعُمُ أهْلُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أنَّ نِكاحَهُنَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وقالَ الحَسَنُ: المُرادُ الزّانِي المَحْدُودُ، والزّانِيَةُ المَحْدُودَةُ، قالَ: وهَذا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ؛ فَلا يَجُوزُ لِزانٍ مَحْدُودٍ أنْ يَتَزَوَّجَ إلّا زانِيَةً. وقَدْ رُوِيَ أنْ مَحْدُودًا تَزَوَّجَ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ فَرَدَّ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ نِكاحَها. ﴿وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ يُرِيدُ الزِّنا. ورَوى الزَّهْرانِيُّ في هَذا حَدِيثًا مِن طَرِيقِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا يَنْكِحُ الزّانِي المَحْدُودُ إلّا مِثْلَهُ» . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا حَدِيثٌ لا يَصِحُّ، وقَوْلٌ فِيهِ نَظَرٌ، وإدْخالُ المُشْرِكِ في الآيَةِ يَرُدُّهُ وألْفاظُ الآيَةِ تَأْباهُ، وإنْ قُدِّرَتِ المُشْرِكَةُ بِمَعْنى الكِتابِيَّةِ فَلا حِيلَةَ في لَفْظِ المُشْرِكِ، انْتَهى. وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: هَذا حُكْمٌ - كانَ في الزُّناةِ - عامٌّ أنْ لا يَتَزَوَّجَ زانٍ إلّا زانِيَةً، ثُمَّ جاءَتِ الرُّخْصَةُ ونُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]، وقَوْلِهِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣]، ورُوِيَ تَرْتِيبُ هَذا النَّسْخِ عَنْ مُجاهِدٍ إلّا أنَّهُ قالَ: حَرَّمَ نِكاحَ أُولَئِكَ البَغايا عَلى أُولَئِكَ النَّفَرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذِكْرُ الإشْراكِ في الآيَةِ يُضْعِفُ هَذِهِ المَناحِيَ، انْتَهى. وعَنِ الجِبائِيِّ أنَّها مَنسُوخَةٌ بِالإجْماعِ، وضُعِّفَ بِأنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ الإجْماعَ لا يُنْسَخُ ولا يُنْسَخُ بِهِ، وتَلَخَّصُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ أنَّ النِّكاحَ إنْ أُرِيدَ بِهِ الوَطْءُ فالآيَةُ ورَدَتْ مُبالَغَةً في تَشْنِيعِ الزِّنا، وإنْ أُرِيدَ بِهِ التَّزْوِيجُ فَإمّا أنْ يُرادَ بِهِ عُمُومٌ في الزُّناةِ ثُمَّ نُسِخَ، أوْ عُمُومٌ في الفُسّاقِ الخَبِيثِينَ لا يَرْغَبُونَ إلّا فِيمَن هو شِكْلٌ لَهم، والفَواسِقِ الخَبائِثِ لا يَرْغَبْنَ إلّا فِيمَن هو شِكْلٌ لَهُنَّ، ولا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ عَلى ما قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أوْ يُرادَ بِهِ خُصُوصٌ في قَوْمٍ كانُوا في الجاهِلِيَّةِ زُناةً بِبَغايا، فَأرادُوا تَزْوِيجَهُنَّ لِفَقْرِهِمْ وإيسارِهِنَّ مَعَ بَقائِهِنَّ عَلى البِغاءِ فَلا يَتَزَوَّجُ عَفِيفَةً، ولَوْ زَنا رَجُلٌ بِامْرَأةٍ ثُمَّ أرادَ تَزْوِيجَها، فَأجازَ ذَلِكَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وجابِرٌ، وطاوُسٌ، وابْنُ المُسَيَّبِ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وعَطاءٌ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، ومَنَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، والبَراءُ بْنُ عازِبٍ، وعائِشَةُ، وقالا: لا يَزالانِ زانِيَيْنِ ما اجْتَمَعا، ومِن غَرِيبِ النَّقْلِ أنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ مَعْرُوفٌ بِالزِّنا أوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الفُسُوقِ ثَبَتَ الخِيارُ في البَقاءِ مَعَهُ أوْ فِراقِهِ، وهو عَيْبٌ مِنَ العُيُوبِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ الخِيارُ عَلَيْها، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وعِنْدَهم أنَّ مَن زَنى مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَسَدَ النِّكاحُ بَيْنَهُما، وقالَ قَوْمٌ مِنهم لا يَنْفَسِخُ ويُؤْمَرُ بِطَلاقِها إذا زَنَتْ، فَإنْ أمْسَكَها أثِمَ، قالُوا: ولا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالزّانِيَةِ ولا مِنَ الزّانِي، فَإنْ ظَهَرَتِ التَّوْبَةُ جازَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): أيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَعْنى الجُمْلَةِ الأُولى ومَعْنى الثّانِيَةِ ؟ (p-٤٣١)(قُلْتُ): مَعْنى الأُولى صِفَةُ الزّانِي بِكَوْنِهِ غَيْرَ راغِبٍ في العَفائِفِ ولَكِنْ في الفَواجِرِ، ومَعْنى الثّانِيَةِ صِفَتُها بِكَوْنِها غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيها لِلْأعِفّاءِ ولَكِنْ لِلزُّناةِ، وهُما مَعْنَيانِ مُخْتَلِفانِ. وعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ﴿لا يَنْكِحْ﴾ بِالجَزْمِ عَلى النَّهْيِ، والمَرْفُوعُ فِيهِ مَعْنى النَّهْيِ، ولَكِنْ هو أبْلَغُ وآكَدُ، كَما أنَّ رَحِمَكَ اللَّهُ ويَرْحَمُكَ اللَّهُ أبْلَغُ مِن لِيَرْحَمْكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا عَلى مَعْنى أنَّ عادَتَهم جارِيَةٌ عَلى ذَلِكَ، وعَلى المُؤْمِنِ أنْ لا يُدْخِلَ نَفْسَهُ تَحْتَ هَذِهِ العادَةِ ويَتَصَوَّنَ عَنْها، انْتَهى. وقَرَأ وأبُو البَرَهْسَمِ (وحَرَّمَ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ أيِ اللَّهُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ (وحَرُمَ) بِضَمِّ الرّاءِ وفَتْحِ الحاءِ، والجُمْهُورُ (وحُرِّمَ) مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. والقَذْفُ الرَّمْيُ بِالزِّنا وغَيْرِهِ، والمُرادُ بِهِ هُنا الزِّنا لِاعْتِقابِهِ إيّاهُ ولِاشْتِراطِ أرْبَعَةِ شُهَداءَ وهو مِمّا يَخُصُّ القَذْفَ بِالزِّنا إذْ في غَيْرِهِ يَكْفِي شاهِدانِ. قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ونَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ الإفْكِ. وقِيلَ: بِسَبَبِ القَذَفَةِ عامًّا، واسْتُعِيرَ الرَّمْيُ لِلشَّتْمِ؛ لِأنَّهُ إذايَةٌ بِالقَوْلِ. كَما قالَ: ؎وجُرْحُ اللِّسانِ كَجُرْحِ اليَدِ وقالَ: ؎رَمانِي بِأمْرٍ كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي ∗∗∗ بَرِيئًا ومِن أجْلِ الطَّوِيِّ رَمانِي و(المُحْصَناتُ)، الظّاهِرُ أنَّ المُرادَ النِّساءُ العَفائِفُ، وخَصَّ النِّساءَ بِذَلِكَ وإنْ كانَ الرِّجالُ يَشْرَكُونَهُنَّ في الحُكْمِ؛ لِأنَّ القَذْفَ فِيهِنَّ أشْنَعُ وأنْكَرُ لِلنُّفُوسِ، ومِن حَيْثُ هُنَّ هَوى الرِّجالِ، فَفِيهِ إيذاءٌ لَهُنَّ ولِأزْواجِهِنَّ وقَراباتِهِنَّ. وقِيلَ: المَعْنى الفُرُوجُ المُحْصَناتُ كَما قالَ: ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ [الأنبياء: ٩١] . وقِيلَ: الأنْفُسُ المُحْصَناتُ، وقالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وحَكاهُ الزَّهْراوِيُّ، فَعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ اللَّفْظُ شامِلًا لِلنِّساءِ ولِلرِّجالِ، ويَدُلُّ عَلى الثّانِي قَوْلُهُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٢٤]، وثَمَّ مَحْذُوفٌ أيْ بِالزِّنا، وخَرَجَ بِالمُحْصَناتِ مَن ثَبَتَ زِناها أوْ زِناهُ، واسْتَلْزَمَ الوَصْفُ بِالإحْصانِ الإسْلامَ والعَقْلَ والبُلُوغَ والحُرِّيَّةَ. قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ في هَذا المَعْنى، والمُرادُ بِالمُحْصَناتِ غَيْرُ مُزَوَّجاتِ الرّامِينَ أوْ لِمَن زَوْجُهُ حُكْمٌ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، والرَّمْيُ بِالزِّنا المُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوالتَّصْرِيحُ بِأنْ يَقُولَ: يا زانِيَةُ، أوْ يا زانِي، أوْ يا ابْنَ الزّانِي وابْنَ الزّانِيَةِ، يا ولَدَ الزِّنا لَسْتَ لِأبِيكَ لَسْتَ لِهَذِهِ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الصَّرائِحِ، فَلَوْ عَرَّضَ كَأنْ يَقُولَ: ما أنا بِزانٍ ولا أُمِّي بِزانِيَةٍ لَمْ يُحَدَّ في مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ، وزُفَرَ، وأبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ، وابْنِ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيِّ، والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، والشّافِعِيِّ، ويُحَدُّ في مَذْهَبِ مالِكٍ، وثَبَتَ الحَدُّ فِيهِ عَنْ عُمَرَ بَعْدَ مُشاوَرَتِهِ النّاسَ، وقالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ: هو قَذْفٌ في حالِ الغَضَبِ دُونَ الرِّضا، فَلَوْ قَذَفَ كِتابِيًّا إذا كانَ لِلْمَقْذُوفِ ولَدٌ مُسْلِمٌ. وقِيلَ: إذا قَذَفَ الكِتابِيَّةَ تَحْتَ المُسْلِمِ حُدَّ واتَّفَقُوا عَلى أنَّ قاذِفَ الصَّبِيِّ لا يُحَدُّ وإنْ كانَ مِثْلُهُ يُجامِعُ، واخْتَلَفُوا في قاذِفِ الصَّبِيَّةِ. فَقالَ مالِكٌ: يُحَدُّ إذا كانَ مِثْلُها يُجامَعُ. وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: يُحَدُّ إذا كانَ مِثْلُها يُجامَعُ. وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: يُحَدُّ قاذِفُ المَجْنُونِ. وقالَ غَيْرُهُما: لا يُحَدُّ. ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ ظاهِرُهُ الذُّكُورُ وحُكْمُ الرّامِياتِ حُكْمُهم، ولَوْ قَذَفَ الصَّبِيُّ أوِ المَجْنُونُ زَوْجَتَهُ أوْ أجْنَبِيَّةً فَلا حَدَّ عَلَيْهِ، أوْ أخْرَسُ ولَهُ كِنايَةٌ مَعْرُوفَةٌ أوْ إشارَةٌ مَفْهُومَةٌ حُدَّ عِنْدِ الشّافِعِيِّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَصِحُّ قَذْفُهُ ولا لِعانُهُ، ولَمّا كانَتْ مَعْصِيَةُ الزِّنا كَبِيرَةً مِن أُمَّهاتِ الكَبائِرِ وكانَ مُتَعاطِيها كَثِيرًا ما يَتَسَتَّرُ بِها، فَقَلَّما يَطَّلِعُ أحَدٌ عَلَيْها، شَدَّدَ اللَّهُ تَعالى عَلى القاذِفِ حَيْثُ شَرَطَ فِيها أرْبَعَةَ شُهَداءَ رَحْمَةً بِعِبادِهِ وسَتْرًا لَهم، والمَعْنى ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا﴾ الحُكّامَ والجُمْهُورُ عَلى إضافَةِ (أرْبَعَةِ) إلى (شُهَداءَ) . وقَرَأ أبُو زُرْعَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: (بِأرْبَعَةٍ) بِالتَّنْوِينِ، وهي قِراءَةٌ فَصِيحَةٌ؛ لِأنَّهُ إذا اجْتَمَعَ اسْمُ العَدَدِ والصِّفَةُ كانَ الإتْباعُ أجْوَدَ مِنَ الإضافَةِ، ولِذَلِكَ رَجَّحَ ابْنُ جِنِّي هَذِهِ القِراءَةَ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ مِن حَيْثُ أخَذَ مُطْلَقَ الصِّفَةِ ولَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الصِّفَةَ إذا جَرَتْ مَجْرى الأسْماءِ وباشَرَتْها العَوامِلُ جَرَتْ في العَدَدِ وفي غَيْرِهِ مَجْرى الأسْماءِ، ومِن ذَلِكَ (شَهِيدٍ)؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١]، وقَوْلِهِ ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وكَذَلِكَ: عَبْدٌ (p-٤٣٢)فَثَلاثَةُ شُهَداءَ بِالإضافَةِ أفْصَحُ مِنَ التَّنْوِينِ والإتْباعِ، وكَذَلِكَ ثَلاثَةُ أعْبُدٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وسِيبَوَيْهِ يَرى أنَّ تَنْوِينَ العَدَدِ وتَرْكَ إضافَتِهِ إنَّما يَجُوزُ في الشِّعْرِ، انْتَهى. ولَيْسَ كَما ذَكَرَ إنَّما يَرى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ في العَدَدِ الَّذِي بَعْدَهُ اسْمٌ، نَحْوُ: ثَلاثَةُ رِجالٍ، وأمّا في الصِّفَةِ فَلا، بَلِ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْناهُ، وإذا نَوَّنْتَ أرْبَعَةً فَشُهَداءُ بَدَلٌ؛ إذْ هو وصْفٌ جَرى مَجْرى الأسْماءِ أوْ صِفَةٌ؛ لِأنَّهُ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، ويَضْعُفُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُ حالٌ أوْ تَمْيِيزٌ، وهَذِهِ الشَّهادَةُ تَكُونُ بِالمُعايَنَةِ البَلِيغَةِ كالمِرْوَدِ في المُكْحُلَةِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ شَهادَتُهم أنْ تَكُونَ حالَةَ اجْتِماعِهِمْ بَلْ لَوْ أُتِيَ بِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ صَحَّتْ شَهادَتُهم. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: شَرْطُ ذَلِكَ أنْ يَشْهَدُوا مُجْتَمِعِينَ، فَلَوْ جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ كانُوا قَذَفَةً. والظّاهِرُ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أحَدُ الشُّهُودِ زَوْجَ المَقْذُوفَةِ لِانْدِراجِهِ في أرْبَعَةِ شُهَداءَ؛ ولِقَوْلِهِ: ﴿فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٥]، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ فِيهِمْ وبَيْنَ أنْ يَكُونُوا أجْنَبِيِّينَ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، وتُحَدُّ المَرْأةُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ والشَّعْبِيِّ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: يُلاعِنُ الزَّوْجُ ويُحَدُّ الثَّلاثَةُ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ﴿فاجْلِدُوهُمْ﴾ أمْرٌ لِلْإمامِ ونُوّابِهِ بِالجَلْدِ، والظّاهِرُ وُجُوبُ الجَلْدِ وإنْ لَمْ يُطالِبِ المَقْذُوفُ، وبِهِ قالَ ابْنُ أبِي لَيْلى. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: لا يُحَدُّ إلّا بِمُطالَبَتِهِ. وقالَ مالِكٌ كَذَلِكَ إلّا أنْ يَكُونَ الإمامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُهُ، فَيَحُدُّهُ إذا كانَ مَعَ الإمامِ شُهُودٌ عُدُولٌ، وإنْ لَمْ يُطالِبِ المَقْذُوفُ، والظّاهِرُ أنَّ العَبْدَ القاذِفَ حُرًّا إذا لَمْ يَأْتِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ حُدَّ ثَمانِينَ؛ لِانْدِراجِهِ في عُمُومِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ﴾، وبِهِ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ والأوْزاعِيُّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، وعُثْمانُ البَتِّيُّ، والشّافِعِيُّ: يُجْلَدُ أرْبَعِينَ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ، وفِعْلُ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعَلِيٍّ، ومَن بَعْدَهم مِنَ الخُلَفاءِ؛ قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، ولَوْ قَذَفَ واحِدٌ جَماعَةً بِلَفْظٍ واحِدٍ أوْ أفْرَدَ لِكُلِّ واحِدٍ، حُدَّ حَدًّا واحِدًا، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ ومالِكٍ والثَّوْرِيِّ واللَّيْثِ. وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ والشّافِعِيُّ: لِكُلِّ واحِدٍ حَدٌّ. وقالَ الشَّعْبِيُّ وابْنُ أبِي لَيْلى: إنْ كانَ بِلَفْظٍ واحِدٍ نَحْوِ: يا زُناةُ؛ فَحَدٌّ واحِدٌ، أوْ قالَ: لِكُلِّ واحِدٍ: يا زانِي؛ فَلِكُلِّ إنْسانٍ حَدٌّ، والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ لا يُجْلَدُ إلّا القاذِفُ، ولَمْ يَأْتِ جَلْدُ الشّاهِدِ إذا لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدُ الشُّهُودِ، ولَيْسَ مَن جاءَ لِلشَّهادَةِ لِلْقاذِفِ بِقاذِفٍ وقَدْ أجْراهُ عُمَرُ مُجْرى القاذِفِ. وجَلَدَ أبا بَكَرَةَ وأخاهُ نافِعًا وشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ البَجَلِيَّ؛ لِتَوَقُّفِ الرّابِعِ، وهو زِيادَةٌ في الشَّهادَةِ فَلَمْ يُؤَدِّها كامِلَةً، ولَوْ أُتِيَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فُسّاقٍ. فَقالَ زُفَرُ: يُدْرَأُ الحَدُّ عَنِ القاذِفِ والشُّهُودِ. وعَنْ أبِي يُوسُفَ يُحَدُّ القاذِفُ ويُدْرَأُ عَنِ الشُّهُودِ. وقالَ مالِكٌ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: يُحَدُّ الشُّهُودُ والقاذِفُ. ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ لا يُقْبَلُ شَهادَتُهُ أبَدًا وإنْ أكْذَبَ نَفْسَهُ وتابَ، وهو نَهْيٌ جاءَ بَعْدَ أمْرٍ، فَكَما أنَّ حُكْمَهُ الجَلْدُ كَذَلِكَ حُكْمُهُ رَدُّ شَهادَتِهِ، وبِهِ قالَ شُرَيْحٌ القاضِي، والنَّخَعِيُّ، وابْنُ المُسَيَّبِ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: لا تُقْبَلُ شَهادَةُ المَحْدُودِ في القَذْفِ وإنْ تابَ، وتُقْبَلُ شَهادتُهُ في غَيْرِ القَذْفِ إذا تابَ. وقالَ مالِكٌ: تُقْبَلُ في القَذْفِ بِالزِّنا وغَيْرِهِ إذا تابَ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِيُّ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وسالِمٌ، والزُّهْرِيُّ، وقالَ: لا تُقْبَلُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ في الإسْلامِ، يَعْنِي مُطْلَقًا، وتَوْبَتُهُ بِماذا تُقْبَلُ بِإكْذابِ نَفْسِهِ في القَذْف، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وكَذا فَعَلَ عُمَرُ بِنافِعٍ وشِبْلٍ أكْذَبا أنْفُسَهُما فَقَبِلَ شَهادَتَهُما، وأصَرَّ أبُو بَكْرَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ حَتّى ماتَ. ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ داخِلٍ في حَيِّزِ ﴿الَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ [النور: ٢٣]، كَأنَّهُ إخْبارٌ بِحالِ الرّامِينَ بَعْدَ انْقِضاءِ المَوْصُولِ المُتَضَمِّنِ مَعْنى الشَّرْطِ، وما تَرَتَّبَ في خَبَرِهِ مِنَ الجَلْدِ وعَدَمِ قَبُولِ الشَّهادَةِ أبَدًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب