الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاَّ زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلاَّ زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ ۝﴾ [النور: ٣]. في هذا: تحريمُ الزِّنى وبيانُ عَظَمتِه، وأنّه لا تُطاوِعُ عليه إلاَّ زانيةٌ أو مشرِكةٌ، ولا يُطاوِعُ المرأةَ عليه إلاَّ زانٍ أو مشرِكٌ، وأُرِيدَ مِن ذلك تنزيهُ أهلِ الإيمانِ عن ذلك. وفيه: التنفيرُ مِن نكاحِ الزَّوانِي واتِّخاذِهِنَّ زوجاتٍ حتى يَتُبْنَ إلى اللهِ، وقد حرَّم اللهُ نِكاحَ الزانيةِ العاهِرةِ، وقرَنَ نكاحَها بالاقترانِ بالمشرِكِ: ﴿لا يَنْكِحُها إلاَّ زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ ۝﴾، وظاهرُ الآيةِ: تبشيعُ الزِّنى، وأنّه لا يَلِيقُ وقوعُهُ مِن المؤمِنينَ، وأنّه يقَعُ مِن المشرِكينَ الذين لا يُقِيمونَ لِحُرُماتِ اللهِ وزْنًا، وليس المرادُ بذلك تحقُّقَ مفهومِه، أنْ يجوزَ للمُسلِمةِ الزانيةِ نكاحُ المشرِكِ، أو للمسلِمِ الزاني نكاحُ المشرِكةِ غيرِ الكتابيَّةِ. وقد تقدَّم الكلامُ على حُرْمةِ إنكاحِ المشرِكينَ ونكاحِ المشرِكاتِ، عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ولأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ ولَوْ أعْجَبَتْكُمْ ولا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا﴾ [البقرة: ٢٢١]، وحُكْمِ نكاحِ الكتابيّاتِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥]. حُكْمُ نكاحِ الزانيةِ وإنكاحِ الزاني: اختلَفَ العلماءُ في المرادِ بالنكاحِ في قولِه تعالى: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاَّ زانِيَةً﴾، فقيل: المرادُ به وطْءُ الزِّنى، وقيل: المرادُ به وطءُ النكاحِ الصحيحِ: ذهَب أحمدُ: إلى أنّه لا تُزوَّجُ العفيفةُ مِن الزاني الباقي على فجورِه، ولا يُزوَّجُ العفيفُ مِن الزانيةِ الباقيةِ على فجورِها. وكان أحمدُ بنُ حنبلٍ لا يَرى صحةَ العقدِ الذي يكونُ بينَ عفيفٍ وزانيةٍ، أو عفيفةٍ وزانٍ. ويُروى عن ابنِ عبّاسٍ أنّ طُرُوءَ الزِّنى يَفسَخُ النكاحَ. وذهَبَ الجمهورُ: إلى الجوازِ، وكَرِهَهُ مالكٌ والشافعيُّ، ولم يُحرِّماه. والصحيحُ عن ابنِ عبّاسٍ: عدمُ فَسْخِه، وحملُ الآيةِ على الزِّنى لا النكاحِ بعقدٍ صحيحٍ، قال: «ليس هذا بالنكاحِ، إنّما هو الجِماعُ، لا يَزني بها إلاَّ زانٍ أو مشرِكٌ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٥٢٢).]]. ومِن القرائنِ الدالَّةِ على تصويبِ مرادِ ابنِ عبّاسٍ هذا، وأنّ المقصودَ بالنكاحِ: وطْءُ الزِّنى: ذِكْرُ الإشراكِ في الآيةِ، فلا يَحِلُّ لمسلمٍ زانٍ أنْ يَنكِحَ مشرِكةً ولو عفيفةً عن الفاحشةِ، لأنّ اللهَ قال: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١]، فقال: ﴿حَتّى يُؤْمِنَّ﴾، ولم يقُلْ: حتى يَعْفِفْنَ أو يُحْصَنَّ، ومِثلُهُ فإنّ الزانيةَ لا يَحِلُّ لها نكاحُ المشرِكِ ولو كان عفيفًا مِن الفاحشةِ، كما قال تعالى: ﴿ولا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا﴾، فقال: ﴿حَتّى يُؤْمِنُوا﴾، ولم يقُلْ: حتى يُحصَنُوا أو يَعِفُّوا. وحملُ النكاحِ في الآيةِ على النكاحِ الصحيحِ مُحتمِلٌ أيضًا، فقد جاءتْ رواياتٌ عديدةٌ في أسبابِ نزولِ الآيةِ في أقوامٍ أرادُوا الزواجَ مِن زانياتٍ يَعرِفونَهُنَّ في الجاهليَّةِ، فمُنِعُوا مِن ذلك، وحملُ الآيةِ على معنيَيْنِ لاستيعابِ وإصلاحِ أمرَيْنِ في الناسِ واردٌ، وتَقتضيهِ سَعةُ ألفاظِ الوحيِ وإعجازُ لغةِ القرآنِ. والأظهَرُ: أنّه لا يجوزُ تزويجُ العفيفِ الزانيةَ، ولا الزاني العفيفةَ، وهذا قولُ أحمدَ وجماعةٍ مِن السلفِ، كالحسَنِ وقتادةَ. وأمّا حديثُ ابنِ عبّاسٍ: جاءَ رجُلٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال: إنَّ عِنْدِي امْرَأَةً، هِيَ مِن أحَبِّ النّاسِ إلَيَّ، وهِيَ لا تَمْنَعُ يَدَ لامِسٍ؟! قالَ: (طَلِّقْها)، قالَ: لا أصْبِرُ عَنْها، قالَ: (اسْتَمْتِعْ بِها)، فقد رواهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ[[أخرجه أبو داود (٢٠٤٩)، والنسائي (٣٢٢٩).]]، وقال أحمدُ: حديثٌ منكَرٌ[[«تفسير ابن كثير» (٦ /١٢).]]، وقال النَّسائيُّ: ليس بثابتٍ[[«سنن النسائي» (٣٢٢٩).]]، ولو صحَّ، فليس المرادُ بذلك الزِّنى على الأرجحِ، فقد حمَلَهُ بعضُهم على السَّخاءِ المُسرِفِ الذي يُهدِرُ مالَ الزَّوْجِ، وبهذا قال الأصمعيُّ وأحمدُ[[«التلخيص الحبير» (٣/٢٢٦).]]، والنبيُّ ﷺ لا يُقِرُّ رجلًا أن يكونَ دَيُّوثًا، فقد جاءَهُ مَن يتَّهِمُ زوجتَهُ في الزِّنى، فقال له: (البَيِّنَةَ أوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)[[أخرجه البخاري (٢٦٧١).]]. وأمّا تزويجُ الزانيَيْنِ بعضِهما مِن بعضٍ، فأكثرُ السلفِ على جوازِه، وقال ابنُ عبّاسٍ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٢٧٨٧)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٧٧٩).]] وابنُ عمرَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٧٨٢).]]: «أولُه سفاحٌ، وآخِرُه نكاحٌ». وصحَّ عن ابنِ المسيَّبِ وعلقمةَ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ وعطاءٍ ومجاهِدٍ، وقال عِكْرِمةُ: «هو بمنزِلةِ رجلٍ سرَقَ نخلةً ثمَّ اشتراها»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٧٨٨).]]. ومنَعَ مِن تزويجِ الزانيَيْنِ بعضِهما مِن بعضٍ بعضُ السلفِ، وليس كلُّ مَن قال بمنعِ نكاحِ الزانيَيْنِ بينَهما جعَلَهُ مؤبَّدًا، بل الصحيحُ عندَهم: عدمُ تأبيدِه، وإنّما في حالِ عدمِ التوبةِ، ومِن السلفِ: مَن يَرى منعَ الجمعِ بينَ مجلودَيْنِ في حدِّ الزِّنى. وثبَت عن عمرَ جوازُ تزويجِ الزانيةِ بعدَ التوبةِ، وهو الصحيحُ، بشرطينِ: الأولُ: التوبةُ ممّا بدَرَ منها، فمَن تاب مِن ذنبٍ، كان في حُكْمِ مَن لم يَقترِفْهُ، وقد روى طارقُ بنُ شهابٍ: «أنّ رجلًا أراد أن يُزَوِّجَ ابنةً، فقالتْ: إنِّي أخشى أنْ أفضحَكَ، إنِّي قد بَغَيْتُ! فأتى عمرَ، فقال: أليستْ قد تابتْ؟ قال: نعم، قال: فزوِّجْها»، أخرَجَهُ ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٩٣٨).]]. ورُوِيَ عن عمرَ: «أنّه أمَرَ بسَتْرِها وتزويجِها على ما صلَح مِن حالِها»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٦٨٩).]]. الثاني: وجوبُ استبراءِ الرحمِ، فلا يجوزُ إنكاحُ الأَمَةِ والزانيةِ حتى يُستبرَأَ رحمُها مِن ماءِ غيرِها بحَيْضَةٍ. ومِن السلفِ مَن عَدَّ هذه الآيةَ: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلاَّ زانِيَةً﴾ منسوخةً بقولِهِ تعالى: ﴿وأَنْكِحُوا الأَيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]، وبهذا قال ابنُ المسيَّبِ[[«تفسير الطبري» (١٧ /١٥٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٨ /٢٥٢٤).]] والشافعيُّ[[«تفسير ابن كثير» (٦ /١٣).]]، ولا تعارُضَ بينَ الآيتَيْنِ، فكلٌّ له بابُه، والثانيةُ عامَّةٌ، والأُولى خاصَّةٌ في حُكْمِ الزانيَينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب