الباحث القرآني
﴿عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور: ١١] جماعة من المؤمنين، قالت: حسان بن ثابت وعبد الله بن أُبَي ومسطح وحمنة بنت جحش.
أولًا: يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾ [النور ١١]، و(ال) هنا للعهد الذهني؛ يعني الذي هو معلوم عندهم ومفهوم، وقوله: ﴿بِالْإِفْكِ﴾ أي: أسوأ الكذب، كما قال المؤلف، وهذا أسوأ كذب يكون، مثل هذا الكذب الذي جاء به هؤلاء، بما يتضمنه من قدح في أمهات المؤمنين، وبالتالي في النبي ﷺ، كما يتبين من الآيات في سياقها.
وقوله: ﴿عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ أي: جماعة، وقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ الخطاب للمؤمنين، وقوله: من المؤمنين، يدل على أنهم لم يخرجوا من الإيمان بذلك، بهذا القذف لم يخرجوا من الإيمان؛ لأنه صدر قبل أن يتبين الحكم في هذا، وإلا فمن قذف واحدة من زوجات النبي ﷺ، عائشة أو غيرها، فإنه كافر مرتد، يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل.
وعَدُّه -عَدّ المؤلف- عبد الله بن أبي في هؤلاء العصبة على أساس أن عبد الله بن أبي كان يتظاهر بالإسلام، ولكنه في الحقيقة منافق، ثم إن عبد الله بن أبي ليس يصرح بمثل هذا بالقذف، وإنما هو الخبيث يجمعه ويشيعه بين الناس بلفظ ليس فيه تصريح، ومع هذا هو الذي تولى كبره كما سيأتي.
إنما نقول: الخطاب في قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ للمؤمنين ﴿عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾، ولا شك أن مثل حسان بن ثابت رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، لا شك أن مثل هؤلاء مؤمنون، وأنهم لم يخرجوا من الإيمان بما فعلوا؛ لأنه قبل تبين الحكم، لكن الذي يشكل عليه أن يعد منهم عبد الله بن أبي، وإيضاح هذا الإشكال بأن يقال بأن عبد الله بن أبي يتظاهر بأنه مع المؤمنين ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة ١٤]، وهو في الحقيقة من المنافقين، فعده منهم باعتبار الظاهر لا باعتبار الحقيقة والواقع.
وقوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾ [النور ١١] ﴿لَا تَحْسَبُوهُ﴾: لا تظنوه أيها المؤمنون غير العصبة شرًّا لكم بل هو خير لكم.
أولًا: الله تعالى يقول: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ﴾، فنهى أن نظن بأن هذا الإفك شر لنا قبل أن يثبت أنه خير، لماذا؟ لأنه لا شك أنهم حين وقع هذا الإفك أن المؤمنين أصابهم ما أصابهم من الأذى، وظنوا أن ذلك شر، فأراد الله تعالى أن ينتزع هذا الظن من نفوسهم قبل أن يبين حكمهم، قال: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ﴾؛ لأن هذا أول ما ينبغي معالجته، بدأ إلى هذا الإفك، وهو انتزاع ما يظنه بعض المؤمنين من أن هذا الإفك شر، ثم بعد هذا الانتزاع تأتي المعالجة.
يقولون: إن التخلية قبل التحلية، يعني معناه تخلية الشيء من القبح والتشويه قبل أن يحلى بالشيء الجميل؛ لأنك كونك تزيل الأشواك قبل أن تفرش، أليس كذلك؟ فلهذا نهى الله أن نحسب هذا شرًّا حتى يقتلع ذلك من نفوسنا أولًا، ثم تكون مستعدة للتحلية، ولإثبات ما يثبت، ويتحدث عنه في شأن هذا الإفك، يتبين بهذا أنه ينبغي عند معالجة الأشياء أن نزيل أولًا الأذى لنفتح الطريق أمام الخير حتى يلج.
﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ﴾ [النور ١١]، وفيه أيضًا أن نقول: ينبغي أن يُبدأ بأهم شيء، وأهم شيء في هذا الأمر أن يزال ما في النفوس من ظن أن يكون هذا الإفك شرًّا بالنبي ﷺ وبآل أبي بكر وبالمؤمنين عموما؛ لأن حقيقة الأمر لو وقع هذا -وحاشا لله أن يقع- لكان هذا شرًّا بالنسبة لآل أبي بكر، وبالنسبة لنبي الله ﷺ.
لهذا ما يمكن للمؤمنين حقًّا أن يظنوا هذا الظن، وأجلاء المؤمنين من الصحابة أنكروا ذلك، يقال: لا يمكن أن يكون، وممن أنكره أسامة بن زيد رضي الله عنه، وغيره أنكروا هذا أن يكون، ولكن بعض الناس لكثرة الترويج والإشاعات، والشيطان أيضًا مما ينفث في قلوبهم، حصل منهم بعض الشك، والصحابة المؤمنون انقسموا في هذا ثلاثة أقسام:
قسم حصل منه ما حصل من الانحراف في هذا الأمر، وقسم منهم أنكر ذلك إنكارًا بالغًا، وقال: هذا لا يمكن، والقسم الثالث توقف وشك في الأمر، لكن الأجلاء من الصحابة والمعظم منهم أنكروا ذلك كما ذكره أهل العلم.
﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور ١١]، أولًا: كيف لا نحسبه شرًّا نحن نؤمن بذلك؛ لأن الله قال: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا﴾، وإن كان الإنسان قد يظن بادئ ذي بدء بأنه شر، وهذا شيء معروف، واحد يقذف أهلك، أمر ما تظنه تعرف أن هذا شر موجه إليك، هذا أمر مسلم به، فلما قال الله: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ﴾، انتهت المشكلة هذه، وقضي عليها بنهي الله عز وجل العليم بما سيكون؛ لأنه ليس بشر.
بقي أن يقال: ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، نحن نؤمن بهذا أيضًا وأنه خير لنا، لكن ما هو الخير الذي ظهر في هذا الإفك؟
نقول: الخير الذي ظهر في الإفك خير ليس له نظير، حيث ظهرت براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله ونزاهتها، ظهورًا لا يعادله شيء، شهد الله لها بالبراءة من فوق عرشه تبارك وتعالى.
ثانيًا: ظهر بذلك نقاء وطهر فراش النبي ﷺ، وأنه لا يمكن لفراش النبي ﷺ أن يتدنس بهذا.
ثالثًا: من الخير الأجر العظيم الذي ترتب على ما أصاب المؤمنين في هذه الحادثة من الأذى والمشقة والجهد الجهيد، حتى إنه من حكمة الله عز وجل أن الوحي انقطع شهرًا كاملًا، ما نزل على النبي ﷺ وحي؛ لأجل أن يتمحص المؤمن من المنافق، ولأجل أن يشتد اشتياق المؤمنين إلى بيان الله سبحانه وتعالى في هذه القضية العظيمة الهامة، ولأجل أن يزداد أجرهم في هذه المدة، ثم إن فيها أيضًا من الخير رفعة شأن النبي ﷺ، وهذا فوق قولنا: نزاهة فراشه وطهارته رفعة شأنه، وكون الله سبحانه وتعالى في نفسه يدافع عنه.
ثم فيه أيضًا من الخير تأديب المؤمنين وعظتهم بما ينبغي أن يكونوا عليه من عدم إطلاق القول، والتجرؤ على أعراض الأعفاء إلى غير ذلك، مما سيتبين إن شاء الله في أثناء هذه القصة العظيمة.
قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يأجركم الله تعالى به ويظهر الله براءة عائشة رضي الله عنها، ومن جاء معها منه، وهو صفوان، فإنها قالت: كنت.. إلى آخره.
هذا أيضًا من الخير لصفوان بن المعطل رضي الله عنه، أنه إذا أنزل الله براءة عائشة من ذلك، وكان هو الذي رماه المنافقون بها، وأيش يظهر من ذلك؟ براءة صفوان رضي الله عنه.
«قالت عائشة رضي الله عنها: كنت مع النبي ﷺ في غزوة بعد ما أنزل الحجاب»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٦١)، ومسلم (٢٧٧٠ / ٥٦) من حديث عائشة.]]، وهذه الغزوة تسمى المريسيع وغزوة بني المصطلق، ولم يبين المؤلف متى كانت هذه الغزوة، لكنه يتبين لنا متى كانت، متى؟ بعدما أنزل الحجاب، الحجاب متى نزل؟ سنة ست من الهجرة، الحجاب نزل سنة ست من الهجرة، وعلى هذا فتكون هذه الغزوة في السنة السادسة في آخرها أو في السابعة.
وأما قول بعض المؤرخين أنها في الخامسة أو في الرابعة فهذا وهم، هذا وهم منهم، والصحيح أنها كانت في السادسة في آخرها؛ لأنها صرحت بأنها بعدما أنزل الحجاب، والنبي عليه الصلاة والسلام أيضًا استشار زينب في شأنها، وزينب نزلت آية الحجاب عند زواج النبي ﷺ بها، فإذن نقول: هي في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة السادسة في آخرها، تقول رضي الله عنها: ففرغ منها، أيش؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، «في غزوة بعدما أنزل الحجاب، ففرغ منها، ورجع ودنا من المدينة، وأذن في الرحيل ليلة، فمشيت وقضيت شأني وأقبلت إلى الرحل»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٦١)، ومسلم (٢٧٧٠ / ٥٦) من حديث عائشة.]].
وزينب نزلت آية الحجاب عند زواج النبي ﷺ بها، فإذن نقول: في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة السادسة في آخرها، تقول رضي الله عنها: ففرغ منها..
* طالب: ورجع وبنى بها.
* الشيخ: لا، في غزوة بعدما أُنْزِل القتال، ففرغ منها، ورجع ودنا من المدينة، وأَذِن بالرحيل ليلة، فمشيتُ وقضيتُ شأني، وأقبلت إلى الرَّحْل، فإذا عقدي قد انقطع –وهو بكسر المهملة: القلادة-، فرجعت ألتمسه، وحملوا هودجي -هو ما تَرْكَب فيه- على بعيري، يحسبونني فيه، وكانت النساء خفافًا، إنما يأكلن العُلْقَة -وهو بضم المهملة وسكون اللام- من الطعام، أي: القليل.
تحدثت عائشة رضي الله عنها عن قصة الإفك، تقول: إنه لما رجع النبي ﷺ من هذه الغزوة في ليلة من الليالي أَذِن بالرحيل، فذهبت تقضي حاجتها، كشأن الإنسان إذا أراد أن يركب، أو أراد أن ينام، أو ما أشبه ذلك، يُفَرِّغ نفسه.
ذهبت تقضي حاجتها، يعني تبول، أو تتغوَّط، فلما رجعت، وإذا العقد قد انقطع، فرجعت تلتمسه -وقد ذكر المؤرخون أن هذا العقد كان عاريَّة عندها لأختها أسماء- فذهبت تلتمسه؛ تطلبه، فوجدت العقد، لما وجدت العقد رجعت إلى مكانها، فإذا القوم قد حملوا هودجها، وما ظنوا أنها ليست فيه؛ لأنها كما قالت رضي الله عنها: كان النساء خفافًا، ما كان اللحم قد بان عليهن؛ لأنهن إنما يأكلن العُلْقة من الطعام -يعني القليل-، ثم إن الهودج الذي حمله ليس رجلًا واحدًا أو اثنين حتى يميِّزوا خِفَّته، إنما حمله جماعة، والعادة أن الجماعة لا يُحِسُّون بثقل الشيء، ما يهمهم، لذلك حملوه على أنها فيه، وساروا.
لما رجعت ولم تجدهم عرفت أن القوم سيفقدونها وسيرجعون إليها، هو معروف، هي من ذكائها وعقلها ما ذهبت يمينًا ولا شمالًا، ما راحت قالت: طيب ألحقهم، طيب أدوّر، بقيت في مكانها، ومن عجيب أنها من طمأنينتها ورباطة جأشها نامت في هذا المكان، ولما نامت كان صفوان بن المعطَّل رضي الله عنه في أُخْرَيَات القوم، وكان كثير النوم وثقيل النوم أيضًا، فلما استيقظ لحق القوم، فلما أقبل على مكانهم وجد سواد شخص، فآوى إليه، وحصل ما حصل.
الآن نقرأ القصة، تقول: (العُلْقَة -هو بضم المهملة وسكون اللام- من الطعام، وهو القليل، ووجدت نفسي بعدما ساروا، فجلستُ في المنزل الذي كنتُ فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني ويرجعون إليَّ، فغلبتني عيناي فنمتُ، وكان صفوان قد عرَّس من وراء الجيش، فادلج، هما بتشديد الراء -يعني عرس-، والدال -ادَّلج- أي: نزل من آخر الليل للاستراحة)، هذا معنى عرَّس، عرَّس يعني نزل في آخر الليل للاستراحة.
تقول: (فسار منه –أي: من مكانه- فأصبح في منزله -أي: في منزل الجيش- فرأى سواد إنسان نائم -أي: شخصه- فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني -أي قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون-، فَخَمَّرْتُ وجهي –أي: غطيته- بجلبابي، أي: غطيته بالملاءة، والله ما كلَّمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته ووطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغِرِين) إلى آخره.
رضي الله عنه، لما رأى سواد الشخص أقبل إليه، فلما أقبل وإذا بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نائمة ولم تُغَطِّ وجهها؛ لأنه ما حولها أحد، فعرفها رضي الله عنه، وكان قد رآها قبل الحجاب، فعرفها فقال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ثم أناخ بعيره، ووطئ على ركبته حتى ركبت، ولم يكلِّمها بكلمة، وإنما استرجع رضي الله عنه خوفًا مما وقع، توقَّع أمرًا فوقع؛ لأن امرأة في فلاة من الأرض وحدها، ويأتي بها رجل متأخِّر عن الجيش، وهي متأخرة عنه، هذا لا شك أنه بلية وابتلاء من الله، ولهذا رأى أنه مصيبة -رضي الله عنه- فاسترجع، ولكن لعِفَّتِه وتعظيمه النبي ﷺ، وتعظيمه أم المؤمنين رضي الله عنها، ما كلَّمها ولا بكلمة، حتى ما قال: اركبي، ولا قال: ما الذي خلَّفك، ولا قال: لا بأس عليك، ما تكلَّم بكلمة إطلاقًا احترامًا لفراش النبي ﷺ، إكرامًا له، وإنما أناخ البعير، ووطئ على ركبته، حتى ركبت رضي الله عنها، فذهب يقود بها حتى أتى الجيش، أتاه متى؟
تقول: (مُوغِرِين في نحر الظهيرة، أي: من أَوْغَرَ، واقفين في مكانٍ وغَر في شدة الحر)، هذا معنى الواغرة: شدة الحر، حتى عندنا الآن في لغتنا العامية يقولون: والله ها اليوم حر واغرة، واغرة يعني: شديدة الحر.
تقول: (فهلك مَن هلك فيَّ، وكان الذي تولى كِبْرَه منهم عبد الله بن أبي ابن سلول. انتهى قولها..)، أيش؟
* طلبة: (رواه الشيخان).
* الشيخ: (رواه الشيخان).
لما حصل الذي حصل هذا، وجد عبد الله بن أبي ونظراؤه من المنافقين مُتَنَفَّسًا يتنفسون منه الصُّعَداء للقَدْح في النبي ﷺ، فجعلوا يتكلمون: أيش اللي جابه، أيش اللي خلَّفه، أيش الذي خلَّف عائشة؟! ثم صاروا يَشُون الحديث ويصوغونه ويُزَخْرِفُونَه، حتى شاع الخبر وانتشر.
النبي عليه الصلاة والسلام تألَّم، ولا بد أن يتألم، تألم في الحقيقة من وجهين؛ أولًا: أن عائشة رضي الله عنها فراشه وأحب نسائه إليه، وهو يحبها وهي تحبه، والشيء الثاني: أنها بنت أعز الناس إليه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكيف يقع هذا الأمر، وكيف يكون؟!
ولذلك ضاقت على النبي ﷺ الضائقة، حتى إنه مع شدة صبره ومع فهمه لأهله ونزاهتهم وبُعْدِهم عما رُمُوا به، حتى إنه دخل عليه شيء مما دخل، فصار يستشير بعض أصحابه هل يفارق عائشة أو لا يفارقها، منهم من يشير عليه بعدم المفارقة، ويقول: «أهلك يا رسول الله، لا نعلم إلا خيرًا. »
ومنهم من أشار عليه بالمفارقة، بما رأى من تَأَذِّيه ﷺ، وقال: إنه إذا فارقها يستريح، وممن أشار بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قريب النبي عليه الصلاة والسلام، ورأى من النبي عليه الصلاة والسلام مشقة عظيمة، وأذى كبيرًا، فقال: لعله إذا طلَّقها يستريح ويطمئن.
لكن كبار الصحابة رضي الله عنهم قالوا: هذا أمر لا يمكن، وممن أشار عليه أسامة بن زيد بأن يمسكها ولا يطلِّقها.
على كل حال بقي الأمر هكذا في زعزعة وقلق وشدة إلى تمام الشهر، عائشة رضي الله عنها ما كانت تعلم فيما يخوض فيه الناس، ولا تدري عن شيء؛ لأنها كانت مريضة، وكانت في بيت والدها، ولا علمت بشيء إلا في آخر الأمر؛ خرجت تقضي حاجتها، فعَثَرَت، فقالت لها أمها أم رومان: تَعِسَ مسطح؛ لأن أمها أيضًا ما في قلبها إلا ما حصل، وإنما خَصَّت مسطح بن أثاثة من بين الذين قالوا ما قالوا؛ لأنه كان ابن خالة أبي بكر قريبًا منه، وكان المفروض أن مثله يدافع عن هذه القضية؛ لقرابته، لكن كان أمر الله قدَرًا مقدورًا.
لما قالت: تعس مسطح، استغربت عائشة رضي الله عنها من أم رومان؛ تقول في مسطح ما تقول، مع أنه ابن خالة أبي بكر؟! فسألت: ما شأنه، ما الأمر؟ فأخبرتها بالأمر، وقالت: إن الناس يخوضون في هذا الأمر منذ كذا وكذا، فازداد ألمها ألمًا، ومرضها مرضًا، حتى جعلت تبكي، ما تنام رضي الله عنها، وحُقَّ لها أن تفعل هذا؛ لأن الأمر عظيم.
فجاء النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم إليهم، تقول أنها أيضًا قد استنكرت من النبي ﷺ؛ لأنها كانت تعتاد منه لين الجانب، والتَّحَفِّي عند السؤال إذا مرضت، ودخل عليها يسأل ويتحقق، أما في هذه المرة ما كان يتحقق، بل يقول: «كَيْفَ تِيكُمْ؟»، ويجلس قليلًا ثم يخرج.
في يوم من الأيام كان قد جاء، وقال: «كَيْفَ تِيكُمْ؟»، على العادة، فبينما هو جالس إذ نزل عليه الوحي بالفرج من الله عز وجل، وببراءة عائشة رضي الله عنها، فلما سُرِّيَ عنه، وإذا هو يضحك عليه الصلاة والسلام، فقال لها: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ»، فَقَالَتْ: منك أو من الله؟ قال: «بَلْ مِنَ اللهِ»، فقالت: الحمد لله.»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٦١)، ومسلم (٢٧٧٠ / ٥٦) من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة، والطبراني في المعجم الكبير (١٧٣) من حديث كعب بن مالك.]]
ثم انتهت قصة الإفك، ولكن حصل ما حصل فيها من هذا البلاء العظيم.
* * *
يقول الله عز وجل: (﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ﴾ أي: عليه، ﴿مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ في ذلك).
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ﴾، أي: من هؤلاء العُصْبة، ﴿مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾، قال المؤلف: (أي: عليه)، فتكون اللام بمعنى (على)، هذا ما رآه المؤلف؛ أن اللام بمعنى (على).
وإذا كانت مُضَمَّنَة معنى (على) فلماذا عُدِل عنها للام؛ لتفيد الاستحقاق، وأنهم مُستحِقُّون لما عليهم من الإثم، فاللام إذن للاستحقاق، أي: لبيان أن هؤلاء العُصْبة الذين ارتكبوا ما ارتكبوا مُستحِقُّون لما عليهم من الإثم.
وقوله: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ﴾ في هذا العدل من الله عز وجل في المجازاة على السيئة، وأن الإنسان لا يحمل إلا ما اكتسب لا زيادة، وفيه أيضًا دليل على أن هذه المسألة ليسوا مُشْتَرِكين في إثم واحد، بل كل واحد له إثمه الكامل فيما اشترك فيه من هذه القضية.
وقوله: (﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾ أي: تَحَمَّل معظمه، فبدأ بالخوض فيه وأشاعه، وهو عبد الله بن أبي، ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، هو النار في الآخرة).
شوف ﴿الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾ أتى بالجملة على هذه الصفة للمبالغة، ما قال: ولمن تولى كبره منهم عذاب عظيم، بل قال: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، جعلها في الحقيقة جملتين، جملتين في جملة؛ لأن ﴿الَّذِي﴾ مبتدأ، و﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، و﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مبتدأ ثانٍ، فكأنها صارت الجملة جملتين؛ لبيان الأهمية، والتأكيد والإشارة إلى أن تولِّيه لهذا الشيء أمر عظيم.
﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾ تولى الشيء بمعنى: احتفى به وأَوْلَاه عنايته، وقوله: ﴿كِبْرَهُ﴾ أي: معظمه، فكِبْرُ الشيء بمعنى معظمه، يعني ابتدأ به، وصار يُغَذِّيه ويُنَمِّيه ويذكره في المجالس، ويُوغِر الصدور به، وهو عبد الله بن أُبَيّ، وهو جدير بمثل هذه الخِسَّة؛ لأنه منافق، بل هو رأس المنافقين، وهو يتمنى أن يقع مثل هذا الأمر ليجد فيه منفذًا للطعن بالنبي ﷺ وبفراشه، وبخاصَّةِ أصحابه، لعنه الله.
يقول: ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿عَذَابٌ﴾ أيش معنى العذاب؟ عقوبة، و﴿عَظِيمٌ﴾ بمعنى عظيم في قدره، وعظيم في نوعه وجنسه، وعظيم في أمده؛ لأنه -والعياذ بالله- في الدرك الأسفل من النار، لا يوجد أحد من أهل النار أسفل من المنافقين، ورأس المنافقين في هذه الأمة مَن؟
* طلبة: عبد الله بن أُبَيّ.
* الشيخ: عبد الله بن أُبَيّ، فيكون هو أسفل مَن في الدرك الأسفل من النار، ولذلك عظُم عذابه -والعياذ بالله- في شكله، ومُدَّته، وفي قدره، فهذا الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم.
بقينا هل حُدَّ هؤلاء الذين تكلّموا، ويش الجواب؟ ما حَدَّ النبي عليه الصلاة والسلام منهم إلا المؤمنين فقط، وهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، ومِسْطَح بن أثاثة، وحَمْنَة بنت جحش، حمنة بنت جحش من هي؟ أخت زينب بنت جحش، وزينب زوجة الرسول ﷺ، على أنها ضرَّة عائشة رضي الله عنها، لما سألها النبي ﷺ عن عائشة أَثْنَت عليها خيرًا، وأختها هلكت فيمن هلك، فحَدَّهُم النبي عليه الصلاة والسلام حد القذف، ثمانين جلدة.
وأما المنافقون فما حَدَّهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ إما لأن الحد تطهير وكفَّارة، والمنافقون ليسوا أهلًا للتطهير ولا للكفارة، وهذا تعليل واضح؛ واضح من حيث المعنى، لكن من حيث الواقع قد يكون غير واضح؛ لأن المنافقين يُظْهِرُون أنهم مسلمون، فكان ينبغي أن تُجْرَى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، وتبقى سرائرهم إلى الله عز وجل.
وقال آخرون: إنما لم يَحُدَّهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم ما كانوا يُصَرِّحون،لم يصرحوا بأن صفوان فعل بعائشة مثلًا، ولكنهم كانوا يجمعون الحديث ويصيغونه بعبارات تعطي هذا المعنى، لكن بدون تصريح، ومعلوم أن من لم يُصَرِّح بالزنا ما يُحَدّ للقذف، فلذلك لم يحدهم النبي ﷺ.
ويجوز أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ترك حَدَّهم لهذا ولغيره، قد يكون مثلًا ترك حد عبد الله بن أُبَيّ لأنه رأس المنافقين، وكان زعيمًا في قومه، فيخشى أن يكون في ذلك فتنة كبيرة، وحد القذف -على القول بأنه للآدمي- يجوز إسقاطه إذا أسقطه من هو له.
لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن السبب في ذلك أن المنافقين كعادتهم، المنافق (...)، ولا يستطيع أن يصرِّح، وعادته الخداع في كل شيء، فتجدهم لا يصرِّحون، ولكن يحومون حول الشيء حتى يملؤوا قلوب الناس منه، ولهذا الصحابة الذين هم صُرَحَاء صَرَّحوا بما ظنوه، وإن كان ظنًّا باطلًا، لكن على كل حال هم ظَنُّوا هذا فصرَّحوا به، فحَدَّهم النبي ﷺ حد القذف.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ جَاۤءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةࣱ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرࣰّا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِی تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق