الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكم لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكم بَلْ هو خَيْرٌ لَكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنهم لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ هَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها إلى سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً أُنْزِلَتْ في عائِشَةَ أُمُ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنها وما اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِن أمْرِ الإفْكِ، وفي البُخارِيِّ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالَتْ: وأنْزَلَ اللهُ تَعالى العَشْرَ الآياتِ، ثُمْ أنْزَلَ اللهُ هَذا في بَراءَتِي. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَكَأنَّها عَدَّتْ ما تَخْتَصُّ بِها. و"الإفْكُ": الزُورُ والكَذِبُ، والأفّاكُ الكَذّابُ، و"الإفْكُ" قَلْبُ الحَقِيقَةِ عن حالِها بِالأقْوالِ وصَرْفُها عن جِهَةِ الصَوابِ، وبِذَلِكَ شَبَهُ الكَذِبِ. واخْتِصارُ حَدِيثِ "الإفْكِ" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ بِعائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها مَعَهُ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، وهي غَزْوَةُ المُرَيْسِيعِ، قالَ ابْنُ إسْحاقَ: كانَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وقالَ مُوسى بْنُ عَقَبَةَ: كانَتْ سَنَةَ أرْبَعٍ، فَضاعَ لَها هُناكَ عِقْدٌ، فَلَمّا انْصَرَفَتْ إلى الرَحْلِ شَعَرَتْ بِضَياعِهِ فَرَجَعَتْ تَطْلُبُهُ، وسارَ الناسُ حِينَئِذٍ، فَوَجَدَتْهُ وانْصَرَفْتْ فَلَمْ تَجِدْ أحَدًا، وكانَتْ شابَّةً قَلِيلَةَ اللَحْمِ رَفَعَ الرِجالُ هَوْدَجَها ولَمْ يَشْعُرُوا بِزَوالِها، فَلَمّا لَمْ تَجِدْ أحَدًا اضْطَجَعَتْ في مَكانِها رَجاءَ أنْ تُفْتَقَدَ فَيُرْجَعَ إلَيْها، فَنامَتْ في المَوْضِعِ ولَمْ يُوقِظْها إلّا قَوْلُ صَفْوانَ بْنِ المُعَطَّلِ: إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، وذَلِكَ أنَّهُ تَخَلَّفَ وراءَ الجَيْشِ لِحِفْظِ (p-٣٥٢)الساقَةِ، وقِيلَ: اتِّفاقًا، فَلَمّا مَرَّ بِسَوادِها قَرُبَ مِنها فَعَرَفَها فاسْتَرْجَعَ وقالَ: ظَعِينَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ خُلِّفَتْ هاهُنا؟ ونَزَلَ عن ناقَتِهِ وتَنَحّى عنها حَتّى رَكِبَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها، وأخَذَ يَقُودُها حَتّى بَلَغَ بِها الجَيْشَ في نَحْرِ الظَهِيرَةِ، فَوَقْعَ أهْلُ الإفْكِ في مَقالَتِهِمْ، وكانَ الَّذِي يَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِيهِ ويَسْتَوْشِيهِ ويُشْعِلُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ المُنافِقُ، وكانَ مِن أهْلِ قالَتِهِ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ، ومِسْطَحُ بْنُ أُثاثَةَ، وحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، هَذا اخْتِصارُ الحَدِيثِ، وهو بِكَمالِهِ وإتْقانِهِ في البُخارِيِّ ومُسْلِمْ، وهو في مُسْلِمْ أكْمَلُ. وكانَ صَفْوانُ صاحِبَ ساقَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ في غَزَواتِهِ لِشَجاعَتِهِ، وكانَ مِن خِيارِ الصَحابَةِ، قالَ لَمّا سَمِعَ ما قالَ الناسُ فِيهِ: سُبْحانَ اللهِ، واللهِ ما كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثى قَطُّ، أرادَ: بِزِنًى، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ حَدِيثُهُ المَرْوِيُّ مَعَ امْرَأتِهِ، وقَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في ابْنَيْهِ: «لَهُما أُشْبَهُ بِهِ مِنَ الغُرابِ بِالغُرابِ»، وقِيلَ: كانَ حَصُورًا لا يَأْتِي النِساءَ، ذَكَرَهُ (p-٣٥٣)ابْنُ إسْحاقَ مِن طَرِيقِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وقُتِلَ شَهِيدًا رَضِيَ اللهُ عنهُ في غَزْوَةِ أرْمِينِيَّةَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ في زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقِيلَ: في بِلادِ الرُومِ سَنَةَ ثَمانٍ وخَمْسِينَ في زَمَنِ مُعاوِيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "عُصْبَةٌ" رُفِعَ عَلى البَدَلِ مِنَ الضَمِيرِ في "جاءُوا"، وخَبَرُ "إنَّ" في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "لا تَحْسَبُوهُ"، والتَقْدِيرُ: إنْ فِعْلَ الَّذِينَ، وهَذا أنْسَقُ في المَعْنى وأكْثَرُ فائِدَةً مِن أنْ تَكُونَ "عُصْبَةٌ" خَبَرًا، و"العُصْبَةُ": الجَماعَةُ مِنَ العَشْرَةِ إلى الأرْبَعِينَ، قالَهُ يَعْقُوبُ وغَيْرُهُ، ولا يُقالُ عُصْبَةٌ لِأقَلَّ مِن عَشْرَةٍ، ولَمْ يُسَمَّ مِن أهْلِ الإفْكِ إلّا حَسّانُ، ومِسْطَحٌ، وحَمْنَةُ، وعَبْدُ اللهِ، وجُهِلَ الغَيْرُ، قالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُبَيْرِ وقَدْ سَألَهُ عن ذَلِكَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوانَ، وقالَ: إلّا إنَّهم كانُوا عُصْبَةً كَما قالَ اللهُ تَعالى. وقَوْلُهُ تَعالى: "لا تَحْسَبُوهُ" خِطابٌ لِكُلٍّ مَن ساءَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿بَلْ هو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يُرِيدُ أنَّهُ تَبْرِئَةٌ في الدُنْيا، وتَرْفِيعٌ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في أنْ نَزَلَ وحْيُهُ بِالبَراءَةِ مِن ذَلِكَ، وأجْرٌ جَزِيلٌ في الآخِرَةِ، ومَوْعِظَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ في غابِرِ الزَمَنِ، ونِقْمَةٌ مِنَ المُفْتَرِينَ في الدُنْيا والآخِرَةِ فَفي ذَلِكَ شِفاءٌ وخَيْرٌ، وهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ. وقَوْلُهُ: "مِنهُمْ" عائِدٌ عَلى العُصْبَةِ المَذْكُورَةِ، و"اكْتَسَبَ" مُسْتَعْمَلَةٌ في المَآثِمْ ونَحْوَها لَأنَّها تَدُلُّ عَلى اعْتِمالٍ وقَصْدٍ فَهو أبْلَغُ في التَرْتِيبِ، و"كَسَبَ" مُسْتَعْمَلٌ في الخَيْرِ، وذَلِكَ أنَّ حُصُولَهُ مُغْنٍ عَنِ الدَلالَةِ عَلى اعْتِمالٍ فِيهِ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ "كَسَبَ" في الوَجْهَيْنِ، ومِثْلُهُ: ؎ ..................... فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ (p-٣٥٤)والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ﴾ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، والعَذابُ المُتَوَعِّدُ بِهِ هو عَذابُ الآخِرَةِ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وهو ظاهِرُ الحَدِيثِ، ورُوِيَ عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ حَسّانَ بْنَ ثابِتٍ دَخَلَ عَلَيْها يَوْمًا وقَدْ عَمِيَ فَأنْشَدَها مَدْحَهُ فِيها: ؎ حَصانٌ رَزانٌ ما تَزِنُّ بِرِيبَةٍ ∗∗∗ وتُصْبِحُ غَرْثى مِن لُحُومِ الغَوافِلِ فَقالَتْ لَهُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ، تُرِيدُ أنَّهُ وقَعَ في الغَوافِلِ فَأنْشَدَ: ؎ فَإنْ كانَ ما قَدْ قِيلَ عَنِّي قُلْتُهُ ∗∗∗ فَلا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيَّ أنامِلِي فَلَمّا خَرَجَ قالَ لَها مَسْرُوقٌ: أيَدْخُلُ هَذا عَلَيْكِ وقَدْ قالَ ما قالَ وتَوَعَّدَهُ اللهُ بِالعَذابِ عَلى تَوَلِّيهِ كِبَرَ الإفْكِ؟ فَقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: أيُّ عَذابٍ أشَدُّ مِنَ العَمى وضَرْبِ الحَدِّ؟ وفي رِوايَةٍ: وضَرْبَةٍ بِالسَيْفِ؟ (p-٣٥٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَأمّا قَوْلُهُ عَنِ الحَدِّ فَإنَّ حَسّانَ ومِسْطَحًا وحَمْنَةَ حُدُّوا، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحاقَ، وذَكَرَهُ التِرْمِذِيُّ، وفي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ ابْنَ أُبَيٍّ حُدَّ، وهَذا عِنْدِي لا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما لَأنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عن عَبْدِ اللهِ الرَمْيُ، قالَ عُرْوَةُ في البُخارِيِّ: "أُخْبِرْتُ أنَّهُ كانَ يُشاعُ ويَتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ ويَسْتَمِعُهُ ويَسْتَوْشِيهِ". وأمّا ضَرْبُهُ بِالسَيْفِ فَإنَّ صَفْوانَ بْنَ المُعَطَّلِ لَمّا بَلَغَهُ قَوْلُ حَسّانَ في الإفْكِ جاءَ فَضَرَبَهُ بِالسَيْفِ ضَرْبَةً عَلى رَأْسِهِ، وقالَ: ؎ تَلَقَّ ذُبابَ السَيْفِ عَنِّي فَإنَّنِي ∗∗∗ غُلامٌ إذا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشاعِرِ فَأخَذَ جَماعَةٌ صَفْوانَ ولَبَّبُوهُ وجاؤُوا بِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأهْدَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ جُرْحَ حَسّانَ واسْتَوْهَبَهُ إيّاهُ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ حَسّانَ مِمَّنْ تَوَلّى الكِبْرَ. وقَدْ قالَ قَوْمٌ: الإشارَةُ بِـ "الَّذِي" إلى البادِئِ بِهَذِهِ الفِرْيَةِ والَّذِي اخْتَلَقَها، فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ، ولِلْبادِئِ المُفْتَرِي عَذابٌ عَظِيمٌ، وهو -عَلى هَذا- غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وهَذا قَوْلُ الضِحاكِ، والحُسْنِ، وقالَ أبُو زَيْدٍ وغَيْرُهُ: هو عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "كِبْرَهُ" بِكَسْرِ الكافِ، وقَرَأ حَمِيدٌ الأعْرَجُر، ويَعْقُوبُ الزُهْرِيُّ، وأبُو رَجاءٍ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "كُبْرَهُ" بِضَمِّ الكافِ، وهُما (p-٣٥٦)مَصْدَرانِ، مَن كِبَرِ الشَيْءِ وعِظَمِهِ، ولَكِنِ اسْتَعْمَلَتِ العَرَبُ ضَمَّ الكافِ في السِنِّ، تَقُولُ: هَذا كُبْرُ القَوْمِ، أيْ كَبِيرُهم سِنًّا ومَكانَةً، ومِنهُ «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في قِصَّةِ حُوَيْصَةَ ومُحَيْصَةَ: الكُبْرُ» ومِنَ اسْتِعْمالِهِ في المَعْنى الثانِي قَوْلُ ابْنِ الحَطِيمِ: ؎ تَنامُ عن كِبْرِ شَأْنِها فَإذا ∗∗∗ قامَتْ رُوَيْدًا تَكادُ تَنْغَرِفُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب