الباحث القرآني

الحُكْمُ الخامِسُ - قِصَّةُ الإفْكِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكم لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكم بَلْ هو خَيْرٌ لَكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنهم لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ الكَلامُ في هَذِهِ الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: تَفْسِيرُهُ. والثّانِي: سَبَبُ نُزُولِهِ: أمّا التَّفْسِيرُ فاعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةَ أشْياءَ: أوَّلُها: أنَّهُ حَكى الواقِعَةَ وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ﴾ والإفْكُ أبْلَغُ ما يَكُونُ مِنَ الكَذِبِ والِافْتِراءِ، وقِيلَ هو البُهْتانُ وهو الأمْرُ الَّذِي لا تَشْعُرُ بِهِ حَتّى يَفْجَأكَ وأصْلُهُ الإفْكُ وهو القَلْبُ لِأنَّهُ قَوْلٌ مَأْفُوكٌ عَنْ وجْهِهِ، وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ المُرادَ ما أُفِكَ بِهِ عَلى عائِشَةَ، وإنَّما وصَفَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ الكَذِبَ بِكَوْنِهِ إفْكًا لِأنَّ المَعْرُوفَ مِن حالِ عائِشَةَ خِلافُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ كَوْنَها زَوْجَةً لِلرَّسُولِ ﷺ المَعْصُومِ يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ. لِأنَّ الأنْبِياءَ مَبْعُوثُونَ إلى الكُفّارِ لِيَدْعُوهم ويَسْتَعْطِفُوهم، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ مَعَهم ما يُنَفِّرُهم عَنْهم وكَوْنُ الإنْسانِ بِحَيْثُ تَكُونُ زَوْجَتُهُ مُسافِحَةً مِن أعْظَمِ المُنَفِّراتِ، فَإنْ قِيلَ كَيْفَ جازَ أنْ تَكُونَ امْرَأةُ النَّبِيِّ كافِرَةً كامْرَأةِ نُوحٍ ولُوطٍ ولَمْ يَجُزْ أنْ (p-١٥١)تَكُونَ فاجِرَةً وأيْضًا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَكانَ الرَّسُولُ أعْرَفَ النّاسِ بِامْتِناعِهِ ولَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَما ضاقَ قَلْبُهُ، ولَما سَألَ عائِشَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الواقِعَةِ. قُلْنا الجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّ الكُفْرَ لَيْسَ مِنَ المُنَفِّراتِ، أمّا كَوْنُها فاجِرَةً فَمِنَ المُنَفِّراتِ، والجَوابُ: عَنِ الثّانِي أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَثِيرًا ما كانَ يَضِيقُ قَلْبُهُ مِن أقْوالِ الكُفّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَسادِ تِلْكَ الأقْوالِ، قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ [الحجر: ٩٧] فَكانَ هَذا مِن هَذا البابِ. وثانِيها: أنَّ المَعْرُوفَ مِن حالِ عائِشَةَ قَبْلَ تِلْكَ الواقِعَةِ إنَّما هو الصَّوْنُ والبُعْدُ عَنْ مُقَدِّماتِ الفُجُورِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ اللّائِقُ إحْسانَ الظَّنِّ بِهِ. وثالِثُها: أنَّ القاذِفِينَ كانُوا مِنَ المُنافِقِينَ وأتْباعِهِمْ، وقَدْ عُرِفَ أنَّ كَلامَ العَدُوِّ المُفْتَرى ضَرْبٌ مِنَ الهَذَيانِ، فَلِمَجْمُوعِ هَذِهِ القَرائِنِ كانَ ذَلِكَ القَوْلُ مَعْلُومَ الفَسادِ قَبْلَ نُزُولِ الوَحْيِ. أمّا العُصْبَةُ فَقِيلَ إنَّها الجَماعَةُ مِنَ العَشَرَةِ إلى الأرْبَعِينَ وكَذَلِكَ العِصابَةُ، واعْصَوْصَبُوا اجْتَمَعُوا، وهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ النِّفاقِ، وزَيْدُ بْنُ رِفاعَةَ، وحَسّانُ بْنَ ثابِتٍ، ومِسْطَحُ بْنُ أُثاثَةَ، وحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ومَن ساعَدَهم. أمّا قَوْلُهُ: ﴿مِنكُمْ﴾ فالمَعْنى أنَّ الَّذِينَ أتَوْا بِالكَذِبِ في أمْرِ عائِشَةَ جَماعَةٌ مِنكم أيُّها المُؤْمِنُونَ، لِأنَّ عَبْدَ اللَّهِ كانَ مِن جُمْلَةِ مَن حُكِمِ لَهُ بِالإيمانِ ظاهِرًا. ورابِعُها: أنَّهُ سُبْحانَهُ شَرَحَ حالَ المَقْذُوفَةِ ومَن يَتَعَلَّقُ بِها بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكم بَلْ هو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ والصَّحِيحُ أنَّ هَذا الخِطابَ لَيْسَ مَعَ القاذِفِينَ، بَلْ مَعَ مَن قَذَفُوهُ وآذَوْهُ، فَإنْ قِيلَ هَذا مُشْكِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهم. والثّانِي: أنَّ المَقْذُوفَيْنِ هُما عائِشَةُ وصَفْوانُ فَكَيْفَ تُحْمَلُ عَلَيْهِما صِيغَةُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ﴾ . والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم في قَوْلِهِ: ﴿مِنكُمْ﴾ وعَنِ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن لَفْظِ الجَمْعِ كُلُّ مَن تَأذّى بِذَلِكَ الكَذِبِ واغْتَمَّ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ ﷺ تَأذّى بِذَلِكَ وكَذَلِكَ أبُو بَكْرٍ ومَن يَتَّصِلُ بِهِ، فَإنْ قِيلَ فَمِن أيِّ جِهَةٍ يَصِيرُ خَيْرًا لَهم مَعَ أنَّهُ مَضَرَّةٌ في العاجِلِ ؟ قُلْنا لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهم صَبَرُوا عَلى ذَلِكَ الغَمِّ طَلَبًا لِمَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى فاسْتَوْجَبُوا بِهِ الثَّوابَ وهَذِهِ طَرِيقَةُ المُؤْمِنِينَ عِنْدَ وُقُوعِ الظُّلْمِ بِهِمْ. وثانِيها: أنَّهُ لَوْلا إظْهارُهم لِلْإفْكِ كانَ يَجُوزُ أنْ تَبْقى التُّهْمَةُ كامِنَةً في صُدُورِ البَعْضِ، وعِنْدَ الإظْهارِ انْكَشَفَ كَذِبُ القَوْمِ عَلى مَرِّ الدَّهْرِ. وثالِثُها: أنَّهُ صارَ خَيْرًا لَهم لِما فِيهِ مِن شَرَفِهِمْ وبَيانِ فَضْلِهِمْ مِن حَيْثُ نَزَلَتْ ثَمانِ عَشْرَةَ آيَةً كُلُّ واحِدَةٍ مِنها مُسْتَقِلَّةٌ بِبَراءَةِ عائِشَةَ وشَهِدَ اللَّهُ تَعالى بِكَذِبِ القاذِفِينَ ونَسَبَهم إلى الإفْكِ وأوْجَبَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَ والذَّمَّ وهَذا غايَةُ الشَّرَفِ والفَضْلِ. ورابِعُها: صَيْرُورَتُها بِحالِ تَعَلُّقِ الكُفْرِ والإيمانِ بِقَدْحِها ومَدْحِها، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا نَصَّ عَلى كَوْنِ تِلْكَ الواقِعَةِ إفْكًا وبالَغَ في شَرْحِهِ فَكُلُّ مَن يَشُكُّ فِيهِ كانَ كافِرًا قَطْعًا، وهَذِهِ دَرَجَةٌ عالِيَةٌ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ﴾ خِطابٌ مَعَ القاذِفِينَ، وجَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى خَيْرًا لَهم مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ صارَ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ مانِعًا لَهم مِنَ الِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ فَصارَ مَقْطَعَةً لَهم عَنْ إدامَةِ هَذا الإفْكِ. وثانِيها: صارَ خَيْرًا لَهم مِن حَيْثُ كانَ هَذا الذِّكْرُ عُقُوبَةً مُعَجَّلَةً كالكَفّارَةِ وثالِثُها: صارَ خَيْرًا لَهم مِن حَيْثُ تابَ بَعْضُهم عِنْدَهُ، واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ تَعالى خاطَبَهم بِالكافِ، ولَمّا وصَفَ أهْلَ الإفْكِ جَعَلَ الخِطابَ بِالهاءِ بِقَوْلِهِ تَعالى: (p-١٥٢)﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ نَفْسَ ما اكْتَسَبُوهُ لا يَكُونُ عُقُوبَةً، فالمُرادُ لَهم جَزاءُ ما اكْتَسَبُوهُ مِنَ العِقابِ في الآخِرَةِ والمَذَمَّةِ في الدُّنْيا، والمَعْنى أنَّ قَدْرَ العِقابِ يَكُونُ مِثْلَ قَدْرِ الخَوْضِ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنهم لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قُرِئَ كِبْرُهُ بِالضَّمِّ والكَسْرِ وهو عِظَمُهُ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الضَّحّاكُ: الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ حَسّانٌ ومِسْطَحٌ فَجَلَدَهُما ﷺ حِينَ أنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَها. وجَلَدَ مَعَهُما امْرَأةً مِن قُرَيْشٍ، ورُوِيَ أنَّ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ذَكَرَتْ حَسّانًا وقالَتْ: ”أرْجُو لَهُ الجَنَّةَ، فَقِيلَ ألَيْسَ هو الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ ؟ فَقالَتْ إذا سَمِعْتُ شِعْرَهُ في مَدْحِ الرَّسُولِ رَجَوْتُ لَهُ الجَنَّةَ“ وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسّانًا بِرُوحِ القُدُسِ في شِعْرِهِ» “ وفي رِوايَةٍ أُخْرى ”«وأيُّ عَذابٍ أشَدُّ مِنَ العَمى» “ ولَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ العَذابَ العَظِيمَ ذَهابَ بَصَرِهِ، والأقْرَبُ في الرِّوايَةِ أنَّ المُرادَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَإنَّهُ كانَ مُنافِقًا يَطْلُبُ ما يَكُونُ قَدْحًا في الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وغَيْرُهُ كانَ تابِعًا لَهُ فِيما كانَ يَأْتِي، وكانَ فِيهِمْ مَن لا يُتَّهَمُ بِالنِّفاقِ. المسألة الثّالِثَةُ: المُرادُ مِن إضافَةِ الكِبْرِ إلَيْهِ أنَّهُ كانَ مُبْتَدِئًا بِذَلِكَ القَوْلِ، فَلا جَرَمَ حَصَلَ لَهُ مِنَ العِقابِ مِثْلُ ما حَصَلَ لِكُلِّ مَن قالَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ”«مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كانَ عَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» “ وقِيلَ سَبَبُ تِلْكَ الإضافَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ في إشاعَةِ تِلْكَ الفاحِشَةِ وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ﴾ أيْ عِقابُ ما اكْتَسَبَ، ولَوْ كانُوا لا يَسْتَحِقُّونَ عَلى ذَلِكَ عِقابًا لَما جازَ أنْ يَقُولَ تَعالى ذَلِكَ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ مَن لَمْ يَتُبْ مِنهم صارَ إلى العَذابِ الدّائِمِ في الآخِرَةِ، لِأنَّ مَعَ اسْتِحْقاقِ العَذابِ لا يَجُوزُ اسْتِحْقاقُ الثَّوابِ. والجَوابُ: أنَّ الكَلامَ في المُحابَطَةِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلا وجْهَ لِلْإعادَةِ واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا سَبَبُ النُّزُولِ فَقَدْ رَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وعَلْقَمَةَ بْنِ أبِي وقّاصٍ وعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كُلُّهم رَوَوْا عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: ”«كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أرادَ سَفَرًا أقْرَعَ بَيْنَ نِسائِهِ فَأيَّتُهُنَّ خَرَجَ اسْمُها خَرَجَ بِها مَعَهُ، قالَتْ فَأقْرَعَ بَيْنَنا في غَزْوَةٍ غَزاها قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ فَخَرَجَ فِيها اسْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الحِجابِ فَحُمِلْتُ في هَوْدَجٍ فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقَرُبَ مِنَ المَدِينَةِ نَزَلَ مَنزِلًا ثُمَّ آذَنَ بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ ومَشَيْتُ حَتّى جاوَزْتُ الجَيْشَ فَلَمّا قَضَيْتُ شَأْنِي وأقْبَلْتُ إلى رَحْلَيْ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإذا عِقْدٌ لِي مِن جَزْعِ أظْفارٍ قَدِ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ والتَمَسْتُ عِقْدِي وحَبَسَنِي طَلَبُهُ. وأقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كانُوا يُرَحِّلُونَنِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي وهم يَحْسَبُونَ أنِّي فِيهِ لِخِفَّتِي، فَإنِّي كُنْتُ جارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَظَنُّوا أنِّي في الهَوْدَجِ وذَهَبُوا بِالبَعِيرِ، فَلَمّا رَجَعْتُ لَمْ أجِدْ في المَكانِ أحَدًا فَجَلَسْتُ وقُلْتُ لَعَلَّهم يَعُودُونَ في طَلَبِي فَنِمْتُ، وقَدْ كانَ صَفْوانُ بْنُ المُعَطَّلِ يَمْكُثُ في العَسْكَرِ يَتَتَبَّعُ أمْتِعَةَ النّاسِ فَيَحْمِلُهُ إلى المَنزِلِ الآخَرِ لِئَلّا يَذْهَبَ مِنهم شَيْءٌ فَلَمّا رَآنِي عَرَفَنِي، وقالَ ما خَلَّفَكِ عَنِ النّاسِ ؟ فَأخْبَرْتُهُ الخَبَرَ فَنَزَلَ وتَنَحّى حَتّى رَكِبْتُ، ثُمَّ قادَ البَعِيرَ وافْتَقَدَنِي النّاسُ حِينَ نَزَلُوا وماجَ النّاسُ في ذِكْرِي، فَبَيْنا النّاسُ كَذَلِكَ إذْ هَجَمْتُ عَلَيْهِمْ فَتَكَلَّمَ النّاسُ وخاضُوا في حَدِيثِي، وقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ ولَحِقَنِي (p-١٥٣)وجَعٌ، ولَمْ أرَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما عَهِدْتُهُ مِنَ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أعْرِفُ مِنهُ حِينَ أشْتَكِي، إنَّما يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكم فَذاكَ الَّذِي يُرِيبُنِي، ولا أشْعُرُ بَعْدُ بِما جَرى حَتّى نَقِهْتُ فَخَرَجْتُ في بَعْضِ اللَّيالِي مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ لِمُهِمٍّ لَنا، ثُمَّ أقْبَلْتُ أنا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنا مِن شَأْنِنا فَعَثَرَتْ أمُّ مِسْطَحٍ في مِرْطِها فَقالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَأنْكَرْتُ ذَلِكَ وقُلْتُ أتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا ! فَقالَتْ وما بَلَغَكِ الخَبَرُ ! فَقُلْتُ وما هو فَقالَتْ: أشْهَدُ أنَّكِ مِنَ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ، ثُمَّ أخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ فازْدَدْتُ مَرَضًا عَلى مَرَضِي فَرَجَعْتُ أبْكِي، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ كَيْفَ تِيكم، فَقُلْتُ ائْذَنْ لِي أنْ آتِيَ أبَوِيَّ فَأذِنَ لِي فَجِئْتُ أبَوِيَّ وقُلْتُ لِأُمِّي يا أُمَّهْ ماذا يَتَحَدَّثُ النّاسُ ؟ قالَتْ يا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَواللَّهِ لَقَلَّما كانَتِ امْرَأةٌ وضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّها ولَها ضَرائِرُ إلّا أكْثَرْنَ عَلَيْها، ثُمَّ قالَتْ ألَمْ تَكُونِي عَلِمْتِ ما قِيلَ حَتّى الآنَ ؟ فَأقْبَلْتُ أبْكِي فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أصْبَحْتُ أبْكِي فَدَخَلَ عَلَيَّ أبِي وأنا أبْكِي فَقالَ لِأُمِّي ما يُبْكِيها ؟ قالَتْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ ما قِيلَ فِيها حَتّى الآنَ فَأقْبَلَ يَبْكِي ثم قال اسْكُتِي يا بُنَيَّةُ، ودَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وأُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ واسْتَشارَهُما في فِراقِ أهْلِهِ فَقالَ أُسامَةُ يا رَسُولَ اللَّهِ هم أهْلُكَ ولا نَعْلَمُ إلّا خَيْرًا. وأمّا عَلِيٌّ فَقالَ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ والنِّساءُ سِواها كَثِيرٌ، وإنْ تَسْألِ الجارِيَةَ تَصْدُقُكَ فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَرِيرَةَ وسَألَها عَنْ أمْرِي قالَتْ بِرَيْرَةُ يا رَسُولَ اللَّهِ والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إنْ رَأيْتُ عَلَيْها أمْرًا قَطُّ أكْثَرَ مِن أنَّها جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنامُ عَنْ عَجِينِ أهْلِها حَتّى تَأْتِيَ الدّاجِنَ فَتَأْكُلَهُ، قالَتْ فَقامَ النَّبِيُّ ﷺ خَطِيبًا عَلى المِنبَرِ، فَقالَ يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَن يَعْذُرُنِي مِن رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أذاهُ في أهْلِي يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَواللَّهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي إلّا خَيْرًا. ولَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا وما كانَ يَدْخُلُ عَلى أهْلِي إلّا مَعِي، فَقامَ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ فَقالَ أعْذُرُكَ يا رَسُولَ اللَّهِ مِنهُ إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وإنْ كانَ مِن إخْوانِنا مَنِ الخَزْرَجِ فَما أمَرْتَنا فَعَلْناهُ، فَقامَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ وهو سَيِّدُ الخَزْرَجِ وكانَ رَجُلًا صالِحًا ولَكِنْ أخَذَتْهُ الحَمِيَّةُ فَقالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعاذٍ كَذَبْتَ واللَّهِ لا تَقْدِرُ عَلى قَتْلِهِ، فَقامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وهو ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ وقالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ وإنَّكَ لَمُنافِقٌ تُجادِلُ عَنِ المُنافِقِينَ، فَثارَ الحَيّانِ الأوْسُ والخَزْرَجُ حَتّى هَمُّوا أنْ يَقْتَتِلُوا، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى المِنبَرِ فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهم حَتّى سَكَتُوا، قالَتْ ومَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وأبَوايَ يَظُنّانِ أنَّ البُكاءَ فالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنا هُما جالِسانِ عِنْدِي وأنا أبْكِي إذْ دَخَلَ عَلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قالَتْ ولَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ فِيَّ ما قِيلَ ولَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحِي اللَّهُ إلَيْهِ في شَأْنِي شَيْئًا. ثم قال: أمّا بَعْدُ يا عائِشَةُ فَإنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذا وكَذا فَإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ تَعالى وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فَإنَّ العَبْدَ إذا تابَ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قالَتْ فَلَما قَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقالَتَهُ، فاضَ دَمْعِي ثُمَّ قُلْتُ لِأبِي أجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ، فَقالَ واللَّهِ ما أدْرِي ما أقُولُ، فَقُلْتُ لِأُمِّي أجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ فَقالَتْ واللَّهِ لا أدْرِي ما أقُولُ، فَقُلْتُ وأنا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ ما أقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ كَثِيرًا إنِّي واللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أنَّكم قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذا حَتّى اسْتَقَرَّ في نُفُوسِكم وصَدَّقْتُمْ بِهِ فَإنْ قُلْتُ لَكم إنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي وإنِ اعْتَرَفْتُ لَكم بِأمْرٍ واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونِي واللَّهِ لا أجِدُ لِي ولَكم مَثَلًا إلّا كَما قالَ العَبْدُ الصّالِحُ أبُو يُوسُفَ ولَمْ أذْكُرِ اسْمَهُ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨] قالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ واضْطَجَعْتُ عَلى فِراشِي، وأنا واللَّهِ أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُبَرِّئُنِي، ولَكِنْ واللَّهِ ما كُنْتُ أظُنُّ أنْ يَنْزِلَ في شَأْنِي وحْيًا يُتْلى فَشَأْنِي كانَ أحْقَرَ في نَفْسِي مِن أنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأمْرٍ يُتْلى، ولَكِنْ كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرى رَسُولُ اللَّهِ في النَّوْمِ رُؤْيا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِها. قالَتْ فَواللَّهِ ما قامَ رَسُولُ اللَّهِ مِن مَجْلِسِهِ ولا خَرَجَ مِن أهْلِ البَيْتِ (p-١٥٤)أحَدٌ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ الوَحْيَ عَلى نَبِيِّهِ، فَأخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الوَحْيِ حَتّى إنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ عَنْهُ مِثْلُ الجُمانِ مِنَ العَرَقِ في اليَوْمِ الشّاتِي مِن ثِقَلِ الوَحْيِ، فَسُجِّيَ بِثَوْبٍ ووُضِعَتْ وِسادَةٌ تَحْتَ رَأْسِهِ فَواللَّهِ ما فَرَغْتُ ولا بالَيْتُ لِعِلْمِي بِبَراءَتِي، وأمّا أبَوايَ فَواللَّهِ ما سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتّى ظَنَنْتُ أنَّ نَفْسَيْ أبَوَيَّ سَتَخْرُجانِ فَرَقًا مِن أنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِتَحْقِيقِ ما قالَ النّاسُ، فَلَمّا سُرِّيَ عَنْهُ وهو يَضْحَكُ فَكانَ أوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها أنْ قالَ: أبْشِرِي يا عائِشَةُ أما واللَّهِ لَقَدْ بَرَّأكِ اللَّهُ. فَقُلْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ لا بِحَمْدِكَ ولا بِحَمْدِ أصْحابِكَ، فَقالَتْ أُمِّي قَوْمِي إلَيْهِ، فَقَلْتُ واللَّهِ لا أقُومُ إلَيْهِ ولا أحْمَدُ أحَدًا إلّا اللَّهَ أنْزَلَ بَراءَتِي، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ﴾ العَشْرَ آياتٍ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ واللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ بَعْدَ هَذا وكانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِقَرابَتِهِ مِنهُ وفَقْرِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكُمْ﴾ [النور: ٢٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: ٢٢] فَقالَ أبُو بَكْرٍ: بَلى واللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَّعَ النَّفَقَةَ عَلى مِسْطَحٍ قالَتْ فَلَمّا نَزَلَ عُذْرِي قامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى المِنبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وتَلا القُرْآنَ فَلَمّا نَزَلَ ضَرَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ومِسْطَحًا وحَمْنَةَ وحَسّانَ الحَدَّ» “ . واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا ذَكَرَ القِصَّةَ وذَكَرَ حالَ المَقْذُوفَيْنِ والقاذِفِينَ عَقَّبَها بِما يَلِيقُ بِها مِنَ الآدابِ والزَّواجِرِ، وهي أنْواعٌ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب