قوله عزّ وجلّ:
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسى اللهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهم واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
المَعْنى: ومِن هَذِهِ الطَوائِفِ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، واخْتُلِفَ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ (p-٣٩٦)فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ -فِيما رُوِيَ عنهُ- وأبُو عُثْمانَ: هي في الأعْرابِ، وهي عامَّةٌ في الأُمَّةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ فِيمَن لَهُ أعْمالٌ صالِحَةٌ وسَيِّئَةٌ، فَهي آيَةٌ تَرَجٍّ عَلى هَذا، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ هَذا عن حَجّاجِ بْنِ أبِي زَيْنَبَ قالَ: سَمِعْتُ أبا عُثْمانَ يَقُولُ: ما في القُرْآنِ آيَةٌ أرْجى عِنْدِي لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾، وقالَ قَتادَةُ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبِي لُبابَةَ الأنْصارِيِّ خاصَّةً في شَأْنِهِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وذَلِكَ أنَّهُ كَلَّمَهم في النُزُولِ عَلى حُكْمِ اللهِ ورَسُولِهِ، وأشارَ هو لَهم إلى حَلْقِهِ يُرِيدُ أنَّ النَبِيَّ ﷺ يَذْبَحُهم إنْ نَزَلُوا، فَلَمّا افْتُضِحَ تابَ ونَدِمَ ورَبَطَ نَفْسَهُ في سارِيَةٍ مِن سَوارِي المَسْجِدِ، وأقْسَمَ ألّا يَطْعَمَ ولا يَشْرَبَ حَتّى يَعْفُوَ اللهُ عنهُ أو يَمُوتَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ حَتّى عَفا اللهُ عنهُ ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وأمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحَلِّهِ، ذَكَرَ هَذا الطَبَرِيُّ عن مُجاهِدٍ، وذَكَرَهُ ابْنُ إسْحاقَ في كِتابِ السِيَرِ أوعَبَ وأتْقَنَ.
وقالَتْ فِرْقَةٌ عَظِيمَةٌ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في شَأْنِ المُتَخَلِّفِينَ عن غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكانَ "عَمَلُهُمُ السَيِّئُ" التَخَلُّفَ بِإجْماعٍ مِن أهْلٍ هَذِهِ المَقالَةِ، واخْتَلَفُوا في "الصالِحِ" فَقالَ (p-٣٩٧)الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ: الِاعْتِرافُ والتَوْبَةُ والنَدَمُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ "الصالِحُ" غَزْوُهم فِيما سَلَفَ مِن غَزْوِ النَبِيِّ ﷺ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أهْلُ هَذِهِ المَقالَةِ في عَدَدِ القَوْمِ الَّذِينَ عُنُوا بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ رَبَطَ مِنهم أنْفُسَهم سَبْعَةٌ، وبَقِيَ الثَلاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا دُونَ رَبْطٍ المَذْكُورُونَ بَعْدَ هَذا، وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: كانُوا ثَمانِيَةً مِنهم كَرَدْمُ، ومِرْداسٌ، وأبُو قَيْسٍ، وأبُو لُبابَةَ. وقالَ قَتادَةُ: كانُوا سَبْعَةً، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وفِرْقَةٌ: كانُوا خَمْسَةً، وكُلُّهم قالَ: كانَ فِيهِمْ أبُو لُبابَةَ، وذَكَرَ قَتادَةُ فِيهِمُ الجَدَّ بْنَ قَيْسٍ، وهو -فِيما أعْلَمُ- وهْمٌ لِأنَّ الجِدَّ لَمْ يَكُنْ تُرْوَ لَهُ تَوْبَةٌ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: "وَآخَرَ" فَهو بِمَعْنى "بِآخَرَ" وهُما مُتَقارِبانِ. و"عَسى" مِنَ اللهِ واجِبَةٌ.
ورُوِيَ في خَبَرِ الَّذِينَ رَبَطُوا أنْفُسَهم «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمّا دَخَلَ المَسْجِدَ فَرَآهم قالَ: "ما بالُ هَؤُلاءِ؟" فَقِيلَ لَهُ: إنَّهم تابُوا وأقْسَمُوا ألّا يَنْحَلُّوا حَتّى يَحُلَّهم رَسُولُ اللهِ ﷺ ويَعْذُرَهُمْ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "وَأنا واللهِ لا أحُلُّهم ولا أعْذُرُهم إلّا أنْ يَأْمُرَنِي اللهُ بِذَلِكَ، فَإنَّهم تَخَلَّفُوا عَنِّي وتَرَكُوا جِهادَ الكُفّارِ مَعَ المُؤْمِنِينَ"»، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾
الآيَةُ، رُوِيَ «أنَّ أبا لُبابَةَ والجَماعَةَ التائِبَةَ الَّتِي رَبَطَتْ أنْفُسَها وهي المَقْصُودَةُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿خَلَطُوا عَمَلا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا﴾ جاءَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمّا تِيبَ عَلَيْها فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، إنّا نُرِيدُ أنْ نَتَصَدَّقَ بِأمْوالِنا زِيادَةً في تَوْبَتِنا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إنِّي لا أعْرِضُ لِأمْوالِكم إلّا بِأمْرٍ مِنَ اللهِ"، فَتَرَكَهم حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» فَهُمُ المُرادُ بِها، فَرُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أخَذَ ثُلُثَ أمْوالِهِمْ مُراعاةً لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن أمْوالِهِمْ﴾، فَهَذا هو الَّذِي تَظاهَرَتْ بِهِ أقْوالُ المُتَأوِّلِينَ، ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ.
(p-٣٨٩)وَقالَتْ جَماعَةٌ مِنَ الفُقَهاءِ: المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ الزَكاةُ المَفْرُوضَةُ، فَقَوْلُهُ -عَلى هَذا-: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ﴾ ضَمِيرُهُ لِجَمِيعِ الناسِ، وهو عُمُومٌ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ إذْ يَخْرُجُ مِنَ الأمْوالِ الأنْواعُ الَّتِي لا زَكاةَ فِيها كالثِيابِ والرُباعِ ونَحْوِهِ، والضَمِيرُ الَّذِي في "أمْوالِهِمْ" أيْضًا كَذَلِكَ عُمُومٌ يُرادُ بِهِ خُصُوصٌ إذْ يَخْرُجُ مِنهُ العَبِيدُ وسِواهُمْ، وقَوْلُهُ: "صَدَقَةً" مُجْمَلٌ يَحْتاجُ إلى تَفْسِيرٍ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ الإمامَ يَتَوَلّى أخْذَ الصَدَقاتِ ويَنْظُرُ فِيها، و"مِن" في هَذِهِ الآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، هَذا أقْوى وُجُوهِها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ أحْسَنُ ما يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الأفْعالُ مُسْنَدَةً إلى ضَمِيرِ النَبِيِّ ﷺ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَمِيرِ في "خُذْ"، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في صِفَةِ الصَدَقَةِ، وهَذا مُتَرَجِّحٌ بِحَسَبِ رَفْعِ الفِعْلِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ "بِها" أيْ: بِنَفْسِها، أيْ: يَقَعُ تَطْهِيرُهم مِن ذُنُوبِهِمْ بِها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "تُطَهِّرُهُمْ" صِفَةً "لِلصَّدَقَةِ"، و"تُزَكِّيهِمْ" مُسْنَدًا إلى النَبِيِّ ﷺ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الصَدَقَةِ، وذَلِكَ ضَعِيفٌ لِأنَّها حالُ نَكِرَةٍ، وحَكى مَكِّيٌّ أنْ يَكُونَ "تُطَهِّرُهُمْ" مِن صِفَةِ الصَدَقَةِ، وقَوْلُهُ: "وَتُزَكِّيهِمْ" حالًا مِنَ الضَمِيرِ في "خُذْ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا مَرْدُودٌ لِمَكانِ واوِ العَطْفِ، لِأنَّ ذَلِكَ يَتَقَدَّرُ: "خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً مُطَهِّرَةً ومُزَكِّيًا بِها"، وهَذا فاسِدُ المَعْنى، ولَوْ لَمْ يَكُنْ في الكَلامِ واوُ العَطْفِ جازَ. وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "تُطْهِرْهُمْ" بِسُكُونِ الطاءِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ مَعْناهُ: ادْعُ لَهم فَإنَّ في دُعائِكَ لَهم سُكُونًا لِأنْفُسِهِمْ (p-٣٩٩)وَطُمَأْنِينَةً ووَقارًا، فَهَذِهِ عِبارَةٌ عن صَلاحِ المُعْتَقَدِ. وحَكى مَكِّيٌّ، والنَحّاسُ، وغَيْرُهُما أنَّهُ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهم ماتَ أبَدًا﴾ [التوبة: ٨٤].
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا وهْمٌ بَعِيدٌ، وذَلِكَ أنَّ تِلْكَ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ لَهم حُكْمُ الكافِرِينَ، وهَذِهِ في التائِبِينَ مِنَ التَخَلُّفِ الَّذِينَ لَهم حُكْمُ المُؤْمِنِينَ، فَلا تَناسُخَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "إنَّ صَلَواتِكَ" بِالجَمْعِ، وكَذَلِكَ في "هُودٍ" وفي "المُؤْمِنِينَ"، وقَرَأ حَفْصٌ عن عاصِمٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "إنَّ صَلاتَكَ" بِالإفْرادِ، وكَذَلِكَ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ في "هُودٍ" وفي "المُؤْمِنِينَ"، وقَرَأ عاصِمٌ في "المُؤْمِنَيْنِ" وحْدَها جَمْعًا، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في سُورَةِ "الأنْعامِ" و"سَألَ سائِلٌ"، وهو مَصْدَرٌ أفْرَدَتْهُ فِرْقَةٌ وجَمَعَتْهُ فِرْقَةٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: سَمِيعٌ أيْ: لِدُعائِكَ، عَلِيمٌ أيْ بِمَن يَهْدِي ويَتُوبُ عَلَيْهِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا تَقْتَضِيهِ هاتانِ الصِفَتانِ، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ مِنَ الدُعاءِ والِاسْتِغْفارِ لَهُمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾: رَحْمَةٌ لَهُمْ، وقالَ قَتادَةُ: ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾ أيْ: وقارٌ لَهم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنَّما مَعْناهُ أنَّ مَن يَدْعُو لَهُ النَبِيُّ ﷺ فَإنَّهُ تَطِيبُ نَفْسُهُ ويَقْوى رَجاؤُهُ، ويُرْوى أنَّهُ قَدْ (p-٤٠٠)صَحَّتْ وسِيلَتُهُ إلى اللهِ تَعالى وهَذا بَيِّنٌ.
{"ayahs_start":102,"ayahs":["وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُوا۟ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُوا۟ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَءَاخَرَ سَیِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ","خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"],"ayah":"خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}