الباحث القرآني

بابُ ذَوِي القُرْبى الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ قالَ أصْحابُنا: مَن تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ مِنهم آلُ العَبّاسِ، وآلُ عَلِيٍّ، وآلُ جَعْفَرٍ، وآلُ عَقِيلٍ، ووَلَدُ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ جَمِيعًا. وحَكى الطَّحاوِيُّ عَنْهم: ووَلَدُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ولَمْ أجِدْ ذَلِكَ عَنْهم رِوايَةً. واَلَّذِي تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِن ذَلِكَ الصَّدَقاتُ المَفْرُوضَةُ، وأمّا التَّطَوُّعُ فَلا بَأْسَ (p-٣٣٥)بِهِ. وذَكَرَ الطَّحاوِيُّ أنَّهُ رُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ ولَيْسَ بِالمَشْهُورِ أنَّ فُقَراءَ بَنِي هاشِمٍ يَدْخُلُونَ في آيَةِ الصَّدَقاتِ، ذَكَرَهُ في أحْكامِ القُرْآنِ، قالَ: وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ لا يَدْخُلُونَ. قالَ أبُو بَكْرٍ: المَشْهُورُ عَنْ أصْحابِنا جَمِيعًا مَن قَدَّمْنا ذِكْرَهُ مِن آلِ العَبّاسِ وآلِ عَلِيٍّ وآلِ جَعْفَرٍ وآلِ عَقِيلٍ ووَلَدِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وأنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ خاصٌّ في المَفْرُوضِ مِنهُ دُونَ التَّطَوُّعِ. ورَوى ابْنُ سِماعَةَ عَنْ أبِي يُوسُفَ أنَّ الزَّكاةَ مِن بَنِي هاشِمٍ تَحِلُّ لِبَنِي هاشِمٍ، ولا يَحِلُّ ذَلِكَ مِن غَيْرِهِمْ لَهم. وقالَ مالِكٌ: { لا تَحِلُّ الزَّكاةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ والتَّطَوُّعُ يَحِلُّ } وقالَ الثَّوْرِيُّ: لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِبَنِي هاشِمٍ ولَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ النَّفْلِ والفَرْضِ، وقالَ الشّافِعِيُّ: { تَحْرُمُ صَدَقَةُ الفَرْضِ عَلى بَنِي هاشِمٍ وبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، ويَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلى كُلِّ أحَدٍ إلّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَإنَّهُ كانَ لا يَأْخُذُها } . والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الصَّدَقَةَ المَفْرُوضَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلى بَنِي هاشِمٍ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما خَصَّنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ دُونَ النّاسِ إلّا بِثَلاثٍ إسْباغِ الوُضُوءِ، وأنْ لا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وأنْ لا نُنْزِيَ الحَمِيرَ عَلى الخَيْلِ. ورُوِيَ أنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أخَذَ تَمْرَةً مِنَ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَها في فِيهِ، فَأخْرَجَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: «إنّا آلَ مُحَمَّدٍ لا تَحِلُّ لَنا الصَّدَقَةُ». وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قالَ: حَدَّثَنا أبِي عَنْ خالِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وجَدَ تَمْرَةً فَقالَ: «لَوْلا أنِّي أخافُ أنْ تَكُونَ صَدَقَةً لَأكَلْتُها». ورَوى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «فِي الإبِلِ السّائِمَةِ مِن كُلِّ أرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَن أعْطاها مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أجْرُها، ومَن مَنَعَها فَإنّا آخِذُوها وشَطْرَ مالِهِ، لا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنها شَيْءٌ» . ورُوِيَ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّما هي أوْساخُ النّاسِ» . فَثَبَتَ بِهَذِهِ الأخْبارِ تَحْرِيمُ الصَّدَقاتِ المَفْرُوضاتِ عَلَيْهِمْ. فَإنْ قِيلَ: رَوى شَرِيكٌ عَنْ سِماكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قَدِمَ عِيرُ المَدِينَةِ، فاشْتَرى مِنها النَّبِيُّ ﷺ مَتاعًا فَباعَهُ بِرِبْحِ أواقٍ فِضَّةٍ، فَتَصَدَّقَ بِها عَلى أرامِلِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ثُمَّ قالَ: «لا أعُودُ أنْ أشْتَرِيَ بَعْدَها شَيْئًا، ولَيْسَ ثَمَنُهُ عِنْدِي» فَقَدْ تَصَدَّقَ عَلى هَؤُلاءِ، وهُنَّ هاشِمِيّاتٌ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ في الخَبَرِ أنَّهُنَّ كُنَّ هاشِمِيّاتٍ، وجائِزٌ أنْ لا يَكُنَّ هاشِمِيّاتٍ بَلْ زَوْجاتِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ مِن غَيْرِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، بَلْ عَرَبِيّاتٍ مِن غَيْرِهِمْ، وكُنَّ أزْواجًا لِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَماتُوا عَنْهُنَّ. وأيْضًا فَإنَّ ذَلِكَ كانَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، وجائِزٌ أنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وأيْضًا فَإنَّ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ الَّذِي ذَكَرْناهُ أوْلى؛ لِأنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ أخْبَرَ (p-٣٣٦)فِيهِ بِحُكْمِهِ فِيهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فالحَظْرُ مُتَأخِّرٌ لِلْإباحَةِ، فَهَذا أوْلى، وأمّا بَنُو المُطَّلِبِ فَلَيْسُوا مِن أهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ لِأنَّ قَرابَتَهم مِنهُ كَقَرابَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، ولا خِلافَ أنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيْسُوا مِن أهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ وكَذَلِكَ بَنُو المُطَّلِبِ فَإنْ قِيلَ: لَمّا أعْطاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الخُمْسِ سَهْمَ ذَوِي القُرْبى كَما أعْطى بَنِي هاشِمٍ، ولَمْ يُعْطِ بَنِي أُمَيَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم بِمَنزِلَةِ بَنِي هاشِمٍ في تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ. قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُعْطِهِمْ لِلْقَرابَةِ فَحَسْبُ؛ لِأنَّهُ لَمّا قالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ أمّا بَنُو هاشِمٍ فَلا نُنْكِرُ فَضْلَهم لِقُرْبِهِمْ مِنكَ، وأمّا بَنُو المُطَّلِبِ فَنَحْنُ، وهم في النَّسَبِ شَيْءٌ واحِدٌ فَأعْطَيْتُهم، ولَمْ تُعْطِنا فَقالَ ﷺ: «إنَّ بَنِي المُطَّلِبِ لَمْ تُفارِقْنِي في جاهِلِيَّةٍ، ولا إسْلامٍ»، فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ بِالقَرابَةِ فَحَسْبُ بَلْ بِالنُّصْرَةِ والقَرابَةِ، ولَوْ كانَتْ إجابَتُهم إيّاهُ ونُصْرَتُهم لَهُ في الجاهِلِيَّةِ والإسْلامِ أصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ لَوَجَبَ أنْ يَخْرُجَ مِنها آلُ أبِي لَهَبٍ، وبَعْضُ آلِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ مِن أهْلِ بَيْتِهِ لِأنَّهم لَمْ يُجِيبُوهُ، ويَنْبَغِي أنْ لا تَحْرُمَ عَلى مَن وُلِدَ في الإسْلامِ مِن بَنِي أُمَيَّةَ لِأنَّهم لَمْ يُخالِفُوهُ، وهَذا ساقِطٌ، وأيْضًا فَإنَّ سَهْمَ الخُمُسِ إنَّما يَسْتَحِقُّهُ خاصٌّ مِنهم، وهو مَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِ الإمامِ ورَأْيِهِ، ولَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ في بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ ﷺ . وأيْضًا فَلَيْسَ اسْتِحْقاقُ سَهْمٍ مِنَ الخُمْسِ أصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ؛ لِأنَّ اليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنَ الخُمْسِ، ولَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ اسْتِحْقاقَ سَهْمٍ مِنَ الخُمْسِ لَيْسَ بِأصْلٍ في تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ. واخْتُلِفَ في الصَّدَقَةِ عَلى مَوالِي بَنِي هاشِمٍ وهَلْ أُرِيدُوا بِآيَةِ الصَّدَقَةِ، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ: { مَوالِيهِمْ بِمَنزِلَتِهِمْ في تَحْرِيمِ الصَّدَقاتِ المَفْرُوضاتِ عَلَيْهِمْ } وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: { لا بَأْسَ بِأنْ يُعْطى مَوالِيهِمْ } . واَلَّذِي يَدُلُّ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعْمَلَ أرْقَمَ بْنَ أرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلى الصَّدَقَةِ، فاسْتَتْبَعَ أبا رافِعٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الصَّدَقَةَ حَرامٌ عَلى مُحَمَّدٍ، وآلِ مُحَمَّدٍ، وإنَّ مَوْلى القَوْمِ مِن أنْفُسِهِمْ» . ورُوِيَ عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائِبِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ عَنْ مَوْلًى لَهم يُقالُ لَهُ هُرْمُزُ أوْ كَيْسانُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لَهُ: «يا أبا فُلانٍ إنّا أهْلَ بَيْتٍ لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وإنَّ مَوْلى القَوْمِ مِن أنْفُسِهِمْ فَلا تَأْكُلِ الصَّدَقَةَ». وأيْضًا لَمّا قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»، وكانَتِ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً عَلى مَن قَرُبَ نَسَبُهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وهم بَنُو هاشِمٍ وجَبَ أنْ يَكُونَ مَوالِيهِمْ بِمَثابَتِهِمْ، إذْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ جَعَلَهُ لُحْمَةً كالنَّسَبِ. واخْتُلِفَ في جَوازِ أخْذِ بَنِي هاشِمٍ (p-٣٣٧)لِلْعِمالَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ إذا عَمِلُوا عَلَيْها، فَقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ مِن غَيْرِ خِلافٍ ذَكَراهُ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ: { لا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ عَلى الصَّدَقَةِ أحَدٌ مِن بَنِي هاشِمٍ ولا يَأْخُذُ عِمالَتَهُ مِنها }، قالَ مُحَمَّدٌ: { وإنَّما يَصْنَعُ ما كانَ يَأْخُذُهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في خُرُوجِهِ إلى اليَمَنِ عَلى أنَّهُ كانَ يَأْخُذُ مِن غَيْرِ الصَّدَقَةِ } . قالَ أبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: { لا يَعْمَلُ عَلى الصَّدَقَةِ } عَلى مَعْنى أنَّهُ يَعْمَلُها لِيَأْخُذَ عِمالَتَها، فَأمّا إذا عَمِلَ عَلَيْها مُتَبَرِّعًا عَلى أنْ لا يَأْخُذَ شَيْئًا فَهَذا لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ في جَوازِهِ. وقالَ آخَرُونَ: { لا بَأْسَ بِالعِمالَةِ لَهم مِنَ الصَّدَقَةِ } . والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا مَعْمَرٌ قالَ: سَمِعْتُ أبِي يُحَدِّثُ عَنْ جَيْشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الحارِثِ ابْنَيْهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: انْطَلِقا إلى عَمِّكُما لَعَلَّهُ يَسْتَعْمِلُكُما عَلى الصَّدَقَةِ، فَجاءا فَحَدَّثا نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ بِحاجَتِهِما، فَقالَ لَهُما نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ لَكم أهْلِ البَيْتِ مِنَ الصَّدَقاتِ شَيْءٌ؛ لِأنَّها غُسالَةُ الأيْدِي، إنَّ لَكم في خُمْسِ الخُمْسِ ما يُغْنِيكُما أوْ يَكْفِيكُما». ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ لِلْعَبّاسِ سَلِ النَّبِيَّ ﷺ أنْ يَسْتَعْمِلَكَ عَلى الصَّدَقَةِ، فَسَألَهُ فَقالَ: «ما كُنْتُ لِأسْتَعْمِلَكَ عَلى غُسالَةِ ذُنُوبِ النّاسِ» ورَوى الفَضْلُ بْنُ العَبّاسِ، وعَبْدُ المُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الحارِثِ سَألا النَّبِيَّ ﷺ أنْ يَسْتَعْمِلَهُما عَلى الصَّدَقَةِ لِيُصِيبا مِنها، فَقالَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ» فَمَنَعَهُما أخْذَ العِمالَةِ، ومَنَعَ أبا رافِعٍ ذَلِكَ أيْضًا، وقالَ: «مَوْلى القَوْمِ مِنهم» . واحْتَجَّ المُبِيحُونَ لِذَلِكَ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ عَلِيًّا إلى اليَمَنِ عَلى الصَّدَقَةِ رَواهُ جابِرٌ وأبُو سَعِيدٍ جَمِيعًا. ومَعْلُومٌ أنَّهُ قَدْ كانَتْ وِلايَتُهُ عَلى الصَّدَقاتِ وغَيْرِها، ولا حُجَّةَ في هَذا لَهم؛ لِأنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أنَّ عَلِيًّا أخَذَ عِمالَتَهُ مِنها، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ ومَعْلُومٌ أنَّهُ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنَ الصَّدَقَةِ عِمالَةً، وقَدْ كانَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ حِينَ خَرَجَ إلى اليَمَنِ فَوَلِيَ القَضاءَ والحَرْبَ بِها، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ أخَذَ رِزْقَهُ مِن مالِ الفَيْءِ لا مِن جِهَةِ الصَّدَقَةِ. فَإنْ قِيلَ فَقَدْ يَجُوزُ أنْ يَأْخُذَ الغَنِيُّ عِمالَتَهُ مِنها، وإنْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ فَكَذَلِكَ بَنُو هاشِمٍ. قِيلَ لَهُ: لِأنَّ الغَنِيَّ مِن أهْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوِ افْتَقَرَ أخَذَ مِنها، والهاشِمِيَّ لا يَأْخُذُ مِنها بِحالٍ فَإنْ قِيلَ: إنَّ العامِلَ لا يَأْخُذُ عِمالَتَهُ صَدَقَةً، وإنَّما يَأْخُذُ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ كَما رُوِيَ أنَّ بَرِيرَةَ كانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ ﷺ مِمّا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْها، ويَقُولُ ﷺ: «هِيَ لَها صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ». قِيلَ لَهُ: الفَصْلُ بَيْنَهُما أنَّ الصَّدَقَةَ كانَتْ تَحْصُلُ في مِلْكِ بَرِيرَةَ ثُمَّ تُهْدِيها لِلنَّبِيِّ ﷺ فَكانَ بَيْنَ مِلْكِ المُتَصَدِّقِ وبَيْنَ مِلْكِ النَّبِيِّ (p-٣٣٨)ﷺ واسِطَةُ مِلْكٍ آخَرَ، ولَيْسَ بَيْنَ مِلْكِ المَأْخُوذِ مِنهُ وبَيْنَ مِلْكِ العامِلِ واسِطَةٌ؛ لِأنَّها لا تَحْصُلُ في مِلْكِ الفُقَراءِ حَتّى يَأْخُذَها العامِلُ * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ ظاهِرُهُ رُجُوعُ الكِنايَةِ إلى المَذْكُورِينَ قَبْلَهُ وهُمُ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ؛ لِأنَّ الكِنايَةَ لا تَسْتَغْنِي عَنْ مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الخِطابِ، فَهَذا هو ظاهِرُ الكَلامِ ومُقْتَضى اللَّفْظِ. وجائِزٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ وتَكُونَ الكِنايَةَ عَنْهم جَمِيعًا لِدَلالَةِ الحالِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: ١] يَعْنِي القُرْآنَ، وقَوْلُهُ: ﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥] وهو يَعْنِي الأرْضَ، وقَوْلُهُ: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] يَعْنِي الشَّمْسَ، فَكَنّى عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ مِن غَيْرِ ذِكْرِها مُظْهَرَةً في الخِطابِ لِدَلالَةِ الحالِ عَلَيْها كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ أمْوالَ المُؤْمِنِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، فَإنْ كانَتِ الكِنايَةُ عَنِ المَذْكُورِينَ في الخِطابِ مِنَ المُعْتَرِفِينَ بِذُنُوبِهِمْ، فَإنَّ دَلالَتَهُ ظاهِرَةٌ عَلى وُجُوبِ الأخْذِ مِن سائِرِ المُسْلِمِينَ؛ لِاسْتِواءِ الجَمِيعِ في أحْكامِ الدِّينِ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ بِهِ في شَخْصٍ، أوْ عَلى شَخْصٍ مِن عِبادِهِ، أوْ غَيْرِها فَذَلِكَ الحُكْمُ لازِمٌ في سائِرِ الأشْخاصِ إلّا ما قامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فِيهِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ يَعْنِي إزالَةَ نَجَسِ الذُّنُوبِ بِما يُعْطِي مِنَ الصَّدَقَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا أطْلَقَ اسْمَ النَّجَسِ عَلى الكُفْرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِنَجاسَةِ الأعْيانِ، أطْلَقَ في مُقابَلَتِهِ وإزالَتِهِ اسْمَ التَّطْهِيرِ كَتَطْهِيرِ نَجاسَةِ الأعْيانِ بِإزالَتِها، وكَذَلِكَ حُكْمُ الذُّنُوبِ في إطْلاقِ اسْمِ النَّجَسِ عَلَيْها، وأطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلى إزالَتِها بِفِعْلِ ما يُوجِبُ تَكْفِيرَها، (p-٣٥٦)فَأطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَيْهِمْ بِما يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ ﷺ مِن صَدَقاتِهِمْ، ومَعْناهُ أنَّهم يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِأدائِها إلى النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ في الأخْذِ لَما اسْتَحَقُّوا التَّطْهِيرَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ثَوابٌ لَهم عَلى طاعَتِهِمْ وإعْطائِهِمُ الصَّدَقَةَ، وهم لا يَسْتَحِقُّونَ التَّطْهِيرَ ولا يَصِيرُونَ أزْكِياءَ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَعَلِمْنا أنَّ في مَضْمُونِهِ إعْطاءَ هَؤُلاءِ الصَّدَقَةَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَلِذَلِكَ صارُوا بِها أزْكِياءَ مُتَطَهِّرِينَ. وقَدِ اخْتُلِفَ في مُرادِ الآيَةِ هَلْ هي الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ، أوْ هي كَفّارَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أصابُوها، فَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّها لَيْسَتْ بِالزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، وإنَّما هي كَفّارَةُ الذُّنُوبِ الَّتِي أصابُوها، وقالَ غَيْرُهُ: " هي الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ " . والصَّحِيحُ أنَّها الزَّكَواتُ المَفْرُوضاتُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ، أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً دُونَ سائِرِ النّاسِ سِوى زَكَواتِ الأمْوالِ، وإذا لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ خَبَرٌ فالظّاهِرُ أنَّهم وسائِرَ النّاسِ سَواءٌ في الأحْكامِ، والعِباداتِ وأنَّهم غَيْرُ مَخْصُوصِينَ بِها دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النّاسِ ولِأنَّهُ إذا كانَ مُقْتَضى الآيَةِ وُجُوبُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ عَلى سائِرِ النّاسِ لِتَساوِي النّاسِ في الأحْكامِ إلّا مَن خَصَّهُ دَلِيلٌ فالواجِبُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ واجِبَةً عَلى جَمِيعِ النّاسِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِها قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ كانَتْ هي الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ إذْ لَيْسَ في أمْوالِ سائِرِ النّاسِ حَقٌّ سِوى الصَّدَقاتِ المَفْرُوضَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّها صَدَقَةٌ مُكَفِّرَةٌ لِلذُّنُوبِ غَيْرُ الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ؛ لِأنَّ الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ أيْضًا تُطَهِّرُ وتُزَكِّي مُؤَدِّيَها، وسائِرُ النّاسِ مِنَ المُكَلَّفِينَ مُحْتاجُونَ إلى ما يُطَهِّرُهم ويُزَكِّيهِمْ. * * * وقَوْلُهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ﴾ عُمُومٌ في سائِرِ أصْنافِ الأمْوالِ ومُقْتَضٍ لِأخْذِ البَعْضِ مِنها، إذْ كانَتْ مِن مُقْتَضى التَّبْعِيضِ، وقَدْ دَخَلَتْ عَلى عُمُومِ الأمْوالِ فاقْتَضَتْ إيجابَ الأخْذِ مِن سائِرِ أصْنافِ الأمْوالِ بَعْضَها. ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ مَتى أخَذَ مِن صِنْفٍ واحِدٍ فَقَدْ قَضى عُهْدَةَ الآيَةِ، والصَّحِيحُ عِنْدَنا هو الأوَّلُ، وكَذَلِكَ كانَ يَقُولُ شَيْخُنا أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ. قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى إيجابَ فَرْضِ الزَّكاةِ في مَواضِعَ مِن كِتابِهِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ مُفْتَقِرٍ إلى البَيانِ في المَأْخُوذِ، والمَأْخُوذِ مِنهُ ومَقادِيرِ الواجِبِ، والمُوجِبِ فِيهِ ووَقْتِهِ وما يَسْتَحِقُّهُ وما يَنْصَرِفُ فِيهِ، فَكانَ لَفْظُ الزَّكاةِ مُجْمَلًا في هَذِهِ الوُجُوهِ كُلِّها وقالَ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ فَكانَ الإجْمالُ في لَفْظِ الصَّدَقَةِ دُونَ لَفْظِ الأمْوالِ؛ لِأنَّ الأمْوالَ اسْمُ عُمُومٍ في مُسَمَّياتِهِ، إلّا أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ المُرادَ خاصٌّ في بَعْضِ الأمْوالِ دُونَ جَمِيعِها، والوُجُوبَ في وقْتٍ مِنَ الزَّمانِ دُونَ سائِرِهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ [المعارج: ٢٤] ﴿لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٥] (p-٣٥٧)وكانَ مُرادُ اللَّهِ تَعالى في جَمِيعِ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلى بَيانِ الرَّسُولِ ﷺ وقالَ تَعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ قالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصارِيُّ قالَ: حَدَّثَنا صُرَدُ بْنُ أبِي المَنازِلِ قالَ: سَمِعْتُ حَبِيبًا المالِكِيَّ قالَ: قالَ رَجُلٌ لِعِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ: يا أبا نُجَيْدٍ إنَّكم لَتُحَدِّثُونَنا بِأحادِيثَ ما نَجِدُ لَها أصْلًا في القُرْآنِ فَغَضِبَ عِمْرانُ وقالَ لِلرَّجُلِ: أوَجَدْتُمْ في كُلِّ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ومِن كُلِّ كَذا وكَذا شاةً شاةً ومِن كَذا وكَذا بَعِيرًا كَذا وكَذا أوَجَدْتُمْ هَذا في القُرْآنِ ؟ قالَ: لا قالَ: فَعَمَّنْ أخَذْتُمْ هَذا ؟ أخَذْتُمُوهُ عَنّا وأخَذْناهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ وذَكَرَ أشْياءَ نَحْوَ هَذا فَمِمّا نَصَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ مِن أصْنافِ الأمْوالِ الَّتِي تَجِبُ فِيها الزَّكاةُ الذَّهَبُ، والفِضَّةُ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [التوبة: ٣٤] فَنَصَّ عَلى وُجُوبِ الحَقِّ فِيهِما بِأخَصِّ أسْمائِهِما تَأْكِيدًا وتَبْيِينًا ومِمّا نَصَّ عَلَيْهِ زَكاةُ الزَّرْعِ والثِّمارِ في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ﴾ [الأنعام: ١٤١] إلى قَوْلِهِ: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١] فالأمْوالُ الَّتِي تَجِبُ فِيها الزَّكاةُ الذَّهَبُ، والفِضَّةُ وعَرُوضُ التِّجارَةِ، والإبِلُ، والبَقَرُ، والغَنَمُ السّائِمَةُ، والزَّرْعُ والثَّمَرُ عَلى اخْتِلافٍ مِنَ الفُقَهاءِ في بَعْضِ ذَلِكَ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضٌ صَدَقَةَ الزَّرْعِ، والثَّمَرِ في سُورَةِ الأنْعامِ. وأمّا المِقْدارُ، فَإنَّ نِصابَ الوَرِقِ مِائَتا دِرْهَمٍ، ونِصابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينارًا، وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وأمّا الإبِلُ، فَإنَّ نِصابَها خَمْسٌ مِنها، ونِصابُ الغَنَمِ أرْبَعُونَ شاةً، ونِصابُ البَقَرِ ثَلاثُونَ. وأمّا المِقْدارُ الواجِبُ فَفي الذَّهَبِ، والفِضَّةِ وعَرُوضِ التِّجارَةِ رُبْعُ العُشْرِ إذا بَلَغَ النِّصابَ وفي خَمْسٍ مِنَ الإبِلِ شاةٌ وفي أرْبَعِينَ شاةً شاةٌ وفي ثَلاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ، وقَدِ اخْتُلِفَ في صَدَقَةِ الخَيْلِ وسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذا إنْ شاءَ اللَّهُ، وأمّا الوَقْتُ فَهو حَوَلُ الحَوْلِ عَلى المالِ مَعَ كَمالِ النِّصابِ في ابْتِداءِ الحَوْلِ وآخِرِهِ، وأمّا مَن تَجِبُ عَلَيْهِ فَهو أنْ يَكُونَ المالِكُ حُرًّا بالِغًا عاقِلًا مُسْلِمًا صَحِيحَ المِلْكِ لا دَيْنَ عَلَيْهِ يُحِيطُ بِمالِهِ، أوْ بِما لا يَفْضُلُ عَنْهُ مِائَتا دِرْهَمٍ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ قالَ: قَرَأْتُ عَلى مالِكَ بْنِ أنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيى المازِنِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: سَمِعْتُ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، ولَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ المَهْرِيُّ قالَ: أخْبَرَنا ابْنُ (p-٣٥٨)وهْبٍ قالَ: أخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ عاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، والحارِثُ الأعْوَرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «فَإذا كانَتْ لَكَ مِائَتا دِرْهَمٍ وحالَ عَلَيْها الحَوْلُ فَفِيها خَمْسَةُ دَراهِمَ، ولَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ في الذَّهَبِ حَتّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينارًا، فَإذا كانَتْ لَكَ عِشْرُونَ دِينارًا وحالَ عَلَيْها الحَوْلُ فَفِيها نِصْفُ دِينارٍ، ولَيْسَ في مالٍ زَكاةٌ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ» وهَذا الخَبَرُ في الحَوْلِ، وإنْ كانَ مِن أخْبارِ الآحادِ، فَإنَّ الفُقَهاءَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالقَبُولِ واسْتَعْمَلُوهُ فَصارَ في حَيِّزِ المُتَواتِرِ المُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في رَجُلٍ مَلَكَ نِصابًا: " أنَّهُ يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ " وقالَ أبُو بَكْرٍ وعَلِيٌّ وعُمَرُ وابْنُ عُمَرَ وعائِشَةُ " لا زَكاةَ فِيهِ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ ولَمّا اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لا زَكاةَ عَلَيْهِ بَعْدَ الأداءِ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ عَلِمْنا أنَّ وُجُوبَ الزَّكاةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالمالِ دُونَ الحَوْلِ وأنَّهُ بِهِما جَمِيعًا يَجِبُ، وقَدِ اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَبّاسٍ خَبَرَ الحَوْلِ بَعْدَ الأداءِ ولَمْ يُفَرِّقِ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ قَبْلَ الأداءِ وبَعْدَهُ بَلْ نَفى إيجابَ الزَّكاةِ في سائِرِ الأمْوالِ نَفْيًا عامًّا إلّا بَعْدَ حَوَلِ الحَوْلِ فَوَجَبَ اسْتِعْمالُهُ في كُلِّ نِصابٍ قَبْلَ الأداءِ وبَعْدَهُ ومَعَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ أرادَ إيجابَ الأداءِ بِوُجُودِ مِلْكِ النِّصابِ وأنَّهُ أرادَ جَوازَ تَعْجِيلِ الزَّكاةِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الخَبَرِ ذِكْرُ الوُجُوبِ. واخْتُلِفَ فِيما زادَ عَلى المِائَتَيْنِ مِنَ الوَرِقِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عُمَرَ فِيما زادَ عَلى المِائَتَيْنِ بِحِسابِهِ وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ ومالِكٍ والشّافِعِيِّ. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ لا شَيْءَ في الزِّيادَةِ حَتّى تَبْلُغَ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ ويَحْتَجُّ مَنِ اعْتَبَرَ الزِّيادَةَ أرْبَعِينَ بِما رَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «ولَيْسَ فِيما زادَ عَلى المِائَتَيِ الدِّرْهَمِ شَيْءٌ حَتّى يَبْلُغَ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا» وحَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «هاتُوا زَكاةَ الرِّقَةِ مِن كُلِّ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، ولَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ» فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ قَوْلِهِ «فِي كُلِّ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» عَلى أنَّهُ جَعَلَهُ مِقْدارَ الواجِبِ فِيهِ كَقَوْلِهِ ﷺ «وإذا كَثُرَتِ الغَنَمُ فَفي كُلِّ مِائَةِ شاةٍ شاةٌ» ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ هَذا مالٌ لَهُ نِصابٌ في الأصْلِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصابِ كالسَّوائِمِ، ولا يَلْزَمُ أبا حَنِيفَةَ ذَلِكَ في زَكاةِ الثِّمارِ؛ لِأنَّهُ لا نِصابَ لَهُ في الأصْلِ عِنْدَهُ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ لَمّا كانَ عِنْدَهُما أنَّ لِزَكاةِ الثِّمارِ نِصابًا في الأصْلِ ثُمَّ لَمْ يَجِبِ اعْتِبارُ مِقْدارٍ بَعْدَهُ بَلِ الواجِبُ في القَلِيلِ، والكَثِيرِ، كَذَلِكَ الدَّراهِمُ والدَّنانِيرُ ولَوْ سَلِمَ لَهُما ذَلِكَ كانَ قِياسُهُ عَلى السَّوائِمِ، أوْلى مِنهُ عَلى الثِّمارِ؛ لِأنَّ السَّوائِمَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الحَقِّ فِيها بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ (p-٣٥٩)وما تُخْرِجُ الأرْضُ لا يَجِبُ فِيهِ الحَقُّ إلّا مَرَّةً واحِدَةً ومُرُورُ الأحْوالِ لا يُوجِبُ تَكْرارَ وُجُوبِ الحَقِّ فِيهِ فَإنْ قِيلَ: فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ ما يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الحَقِّ فِيهِ، أوْلى بِوُجُوبِهِ في قَلِيلِ ما زادَ عَلى النِّصابِ وكَثِيرِهِ مِمّا لا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الحَقِّ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذا مُنْتَقَضٌ بِالسَّوائِمِ؛ لِأنَّ الحَقَّ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِيها ولَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِبارُ العَفْوِ بَعْدَ النِّصابِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ قِياسَهُ عَلى السَّوائِمِ، أوْلى مِن قِياسِهِ عَلى ما تُخْرِجُهُ الأرْضُ أنَّ الدَّيْنَ لا يُسْقِطُ العُشْرَ، وكَذَلِكَ مَوْتُ رَبِّ الأرْضِ ويُسْقِطُ زَكاةَ الدَّراهِمِ والسَّوائِمِ، فَكانَ قِياسُها عَلَيْها، أوْلى مِنهُ عَلى ما تُخْرِجُهُ الأرْضُ. واخْتُلِفَ فِيما زادَ مِنَ البَقَرِ عَلى أرْبَعِينَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " فِيما زادَ بِحِسابِهِ " وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " لا شَيْءَ فِيهِ حَتّى يَبْلُغَ سِتِّينَ " ورَوى أسَدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِما. وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ كَقَوْلِ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ. ويُحْتَجُّ لِأبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ وذَلِكَ عُمُومٌ في سائِرِ الأمْوالِ، لا سِيَّما، وقَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ هَذا المالَ داخِلٌ في حُكْمِ الآيَةِ مُرادٌ بِها، فَوَجَبَ في القَلِيلِ، والكَثِيرِ بِحَقِّ العُمُومِ، وقَدْ رَوى عَنْهُ الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ أنَّهُ لا شَيْءَ في الزِّيادَةِ حَتّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَتَكُونَ فِيها مُسِنَّةً ورُبْعَ مُسِنَّةٍ، ويَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ المَشْهُورِ أنَّهُ لا يَخْلُو مِن إثْباتِ الوَقَصِ تِسْعًا فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالكَسْرِ، ولَيْسَ ذَلِكَ في فُرُوضِ الصَّدَقاتِ، أوْ بِجَعْلِ الوَقَصِ تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خِلافُ، أوْقاصِ البَقَرِ، فَلَمّا بَطَلَ هَذا، وهَذا ثَبَتَ القَوْلُ الثّالِثُ وهو إيجابُهُ في القَلِيلِ، والكَثِيرِ مِنَ الزِّيادَةِ ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وأبِي قِلابَةَ والزُّهْرِيِّ وقَتادَةَ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: " في خَمْسٍ مِنَ البَقَرِ شاةٌ "، وهو قَوْلٌ شاذٌّ لِاتِّفاقِ أهْلِ العِلْمِ عَلى خِلافِهِ ووُرُودِ الآثارِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِبُطْلانِهِ. ورَوى عاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ: في خَمْسٍ وعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ خَمْسُ شِياهٍ "، وقَدْ أنْكَرَهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وقالَ: عَلِيٌّ أعْلَمُ مِن أنْ يَقُولَ هَذا، هَذا مِن غَلَطِ الرِّجالِ. وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِالآثارِ المُتَواتِرَةِ أنَّ فِيها ابْنَةُ مَخاضٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ أخَذَ خَمْسَ شِياهٍ عَنْ قِيمَةِ بِنْتِ مَخاضٍ فَظَنَّ الرّاوِي أنَّ ذَلِكَ فَرْضُها عِنْدَهُ. واخْتُلِفَ في الزِّيادَةِ عَلى العِشْرِينَ ومِائَةٍ مِنَ الإبِلِ، فَقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا: " تَسْتَقْبِلُ الفَرِيضَةَ " وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: " إذا زادَتْ عَلى عِشْرِينَ ومِائَةٍ واحِدَةٌ فالمُصَّدِّقُ بِالخِيارِ إنْ شاءَ أخَذَ ثَلاثَ بَناتِ لَبُونٍ، وإنْ شاءَ حِقَّتَيْنِ " . وقالَ ابْنُ شِهابٍ: إذا زادَتْ واحِدَةً فَفِيها ثَلاثُ بَناتِ لَبُونٍ إلى أنْ (p-٣٦٠)تَبْلُغَ ثَلاثِينَ ومِائَةً فَتَكُونُ فِيها حِقَّةٌ وابْنَتا لَبُونٍ "، يَتَّفِقُ قَوْلُ ابْنِ شِهابٍ ومالِكٍ في هَذا ويَخْتَلِفانِ فِيما بَيْنَ واحِدٍ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ إلى تِسْعٍ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ. وقالَ الأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " ما زادَ عَلى العِشْرِينَ، والمِائَةِ فَفي كُلِّ أرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وفي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن مَذْهَبِهِ اسْتِئْنافُ الفَرِيضَةِ بَعْدَ المِائَةِ، والعِشْرِينَ بِحَيْثُ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ أخَذَ أسْنانَ الإبِلِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكم شَيْءٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ فَقالَ: ما عِنْدَنا إلّا ما عِنْدَ النّاسِ، وهَذِهِ الصَّحِيفَةُ، فَقِيلَ لَهُ: وما فِيها ؟ فَقالَ: فِيها أسْنانُ الإبِلِ أخَذْتُها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمّا ثَبَتَ قَوْلُ عَلِيٍّ بِاسْتِئْنافِ الفَرِيضَةِ وثَبَتَ أنَّهُ أخَذَ أسْنانَ الإبِلِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ صارَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا؛ لِأنَّهُ لا يُخالِفُ النَّبِيَّ ﷺ وأيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الكِتابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ اسْتِئْنافُ الفَرِيضَةِ بَعْدَ المِائَةِ، والعِشْرِينَ. وأيْضًا غَيْرُ جائِزٍ إثْباتُ هَذا الضَّرْبِ مِنَ المَقادِيرِ إلّا مِن طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، أوِ الِاتِّفاقِ، فَلَمّا اتَّفَقُوا عَلى وُجُوبِ الحِقَّتَيْنِ في المِائَةِ، والعِشْرِينَ عِنْدَ الزِّيادَةِ لَمْ يَجُزْ لَنا إسْقاطُ الحِقَّتَيْنِ؛ لِأنَّهُما فَرْضٌ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ المُتَواتِرِ واتِّفاقِ الأُمَّةِ إلّا بِتَوْقِيفٍ، أوِ اتِّفاقٍ. فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في آثارٍ كَثِيرَةٍ: «وإذا زادَتِ الإبِلُ عَلى مِائَةٍ وعِشْرِينَ فَفي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وفي كُلِّ أرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ» . قِيلَ لَهُ: قَدِ اخْتَلَفَتْ ألْفاظُهُ، فَقالَ في بَعْضِها: «وإذا كَثُرَتِ الإبِلُ» ومَعْلُومٌ أنَّ الإبِلَ لا تَكْثُرُ بِزِيادَةِ الواحِدَةِ، فَعُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: " وإذا زادَتِ الإبِلُ " إلّا زِيادَةً كَثِيرَةً يُطْلَقُ عَلى مِثْلِها أنَّ الإبِلَ قَدْ كَثُرَتْ بِها، ونَحْنُ قَدْ نُوجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ ضَرْبٍ مِنَ الزِّيادَةِ الكَثِيرَةِ وهو أنْ تَكُونَ الإبِلُ مِائَةً وتِسْعِينَ فَتَكُونُ فِيها ثَلاثُ حِقاقٍ وبِنْتُ لَبُونٍ. وأيْضًا فَمُوجِبُ تَغْيِيرِ الفَرْضِ بِزِيادَةِ الواحِدِ لا يَخْلُو مِن يُغَيِّرَهُ بِالواحِدَةِ الزّائِدَةِ فَيُوجِبُ فِيها وفي الأصْلِ، أوْ يُغَيِّرُهُ فَيُوجِبُ في المِائَةِ، والعِشْرِينَ ولا يُوجِبُ في الواحِدَةِ الزّائِدَةِ شَيْئًا، فَإنْ أوْجَبَ في الزِّيادَةِ مَعَ الأصْلِ ثَلاثَ بَناتِ لَبُونٍ فَهو لَمْ يُوجِبْ في الأرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وإنَّما أوْجَبَها في أرْبَعِينَ وفي الواحِدَةِ، وذَلِكَ خِلافُ قَوْلِهِ ﷺ . وإنْ كانَ إنَّما يُوجِبُ تَغْيِيرَ الفَرْضِ بِالواحِدَةِ فَيَجْعَلُ ثَلاثَ بَناتِ لَبُونٍ في المِائَةِ، والعِشْرِينَ، والواحِدَةُ عَفْوٌ فَقَدْ خالَفَ الأُصُولَ، إذْ كانَ العَفْوُ لا يُغَيِّرُ الفَرْضَ واخْتُلِفَ في فَرائِضِ الغَنَمِ، فَقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: " في مِائَتَيْنِ وشاةٍ ثَلاثُ شِياهٍ إلى أرْبَعِمِائَةٍ فَتَكُونُ فِيها أرْبَعُ شِياهٍ " . وقالَ (p-٣٦١)الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا كانَتِ الغَنَمُ ثَلاثَمِائَةِ شاةٍ وشاةٍ فَفِيها أرْبَعُ شِياهٍ، وإذا كانَتْ أرْبَعَمِائَةِ شاةٍ وشاةٍ فَفِيها خَمْسُ شِياهٍ "، ورَوى إبْراهِيمُ نَحْوَ ذَلِكَ، وقَدْ ثَبَتَتْ آثارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِالقَوْلِ الأوَّلِ دُونَ قَوْلِ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ. واخْتُلِفَ في صَدَقَةِ العَوامِلِ مِنَ الإبِلِ، والبَقَرِ، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: " لَيْسَ فِيها شَيْءٌ " . وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: " فِيها صَدَقَةٌ " . والحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الأوَّلِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا حَسَنُ بْنُ إسْحاقَ التُّسْتَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا حَمَوَيْهِ قالَ: حَدَّثَنا سَوّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لَيْسَ في البَقَرِ العَوامِلِ صَدَقَةٌ» . وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا زُهَيْرٌ قالَ: حَدَّثَنا أبُو إسْحاقَ عَنْ عاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وعَنِ الحارِثِ الأعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ زُهَيْرٌ: أحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «وفِي البَقَرِ في كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ، وفي الأرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، ولَيْسَ عَلى العَوامِلِ شَيْءٌ» وأيْضًا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لَيْسَ في النَّخَّةِ ولا في الكَسْعَةِ ولا في الجَبْهَةِ صَدَقَةٌ» . وقالَ أهْلُ اللُّغَةِ: النَّخَّةُ البَقَرُ العَوامِلُ، والكَسْعَةُ الحَمِيرُ، والجَبْهَةُ الخَيْلُ. وأيْضًا فَإنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ فِيما عَدا الذَّهَبَ، والفِضَّةَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهِ مَرْصَدًا لِلنَّماءِ مِن نَسْلِها، أوْ مِن أنْفُسِها، والسّائِمَةُ يُطْلَبُ نَماؤُها إمّا مِن نَسْلِها، أوْ مِن أنْفُسِها، والعامِلَةُ غَيْرُ مُرْصَدَةٍ لِلنَّماءِ، وهي بِمَنزِلَةِ دُورِ الغَلَّةِ وثِيابِ البِذْلَةِ ونَحْوِها. وأيْضًا الحاجَةُ إلى عِلْمِ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ في العَوامِلِ كَهي إلى السّائِمَةِ، فَلَوْ كانَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ تَوْقِيفٌ في إيجابِها في العامِلَةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَواتِرًا في وزْنِ وُرُودِهِ في السّائِمَةِ، فَلَمّا لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولا عَنِ الصَّحابَةِ نَقْلٌ مُسْتَفِيضٌ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَوْقِيفٌ في إيجابِها، بَلْ قَدْ ورَدَتْ آثارٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في نَفْيِ الصَّدَقَةِ عَنْها، مِنها ما قَدَّمْناهُ ومِنها ما رَوى يَحْيى بْنُ أيُّوبَ عَنِ المُثَنّى بْنِ الصَّبّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لَيْسَ في ثَوْرِ المُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» . ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وإبْراهِيمَ ومُجاهِدٍ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ والزُّهْرِيِّ نَفْيُ صَدَقَةِ البَقَرِ العَوامِلِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أنَسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ لِأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كِتابًا في الصَّدَقاتِ: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى المُسْلِمِينَ، فَمَن سُئِلَها مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلى وجْهِها فَلْيُعْطِها ومَن سُئِلَ فَوْقَها فَلا يُعْطِهِ صَدَقَةُ الغَنَمِ في سائِمَتِها إذا كانَتْ أرْبَعِينَ فِيها شاةٌ»، فَنَفى بِذَلِكَ الصَّدَقَةَ عَنْ غَيْرِ السّائِمَةِ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ السّائِمَةَ ونَفى الصَّدَقَةَ عَمّا عَداها فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «فِي خَمْسٍ (p-٣٦٢)مِنَ الإبِلِ شاةٌ» وذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ في السّائِمَةِ وغَيْرِها. قِيلَ لَهُ: يَخُصُّهُ ما ذَكَرْنا، ولَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مالِكٍ في إيجابِهِ الصَّدَقَةَ في البَقَرِ العَوامِلِ أحَدٌ قَبْلَهُ. * فَصْلٌ قالَ أصْحابُنا وعامَّةُ أهْلِ العِلْمِ " في أرْبَعِينَ شاةً مَسانَّ وصِغارٍ مُسِنَّةٌ " وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا شَيْءَ فِيها حَتّى تَكُونَ المَسانُّ أرْبَعِينَ ثُمَّ يُعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصِّغارِ " ولَمْ يَسْبِقْهُ إلى هَذا القَوْلِ أحَدٌ. وقَدْ رَوى عاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «صَدَقاتِ المَواشِي، فَقالَ فِيهِ: ويُعَدُّ صَغِيرُها وكَبِيرُها» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النِّصابِ وما زادَ وأيْضًا الآثارُ المُتَواتِرَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «فِي أرْبَعِينَ شاةً شاةٌ»، ومَتى اجْتَمَعَ الصِّغارُ، والكِبارُ أُطْلِقَ عَلى الجَمِيعِ الِاسْمُ فَيُقالُ: عِنْدَهُ أرْبَعُونَ شاةً، فاقْتَضى ذَلِكَ وُجُوبَها في الصِّغارِ، والكِبارِ إذا اجْتَمَعَتْ وأيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا في الِاعْتِدادِ بِالصِّغارِ بَعْدَ النِّصابِ لِوُجُودِ الكِبارِ مَعَها، فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّصابِ. واخْتُلِفَ في الخَيْلِ السّائِمَةِ، فَأوْجَبَ أبُو حَنِيفَةَ فِيها إذا كانَتْ إناثًا، أوْ ذُكُورًا وإناثًا في كُلِّ فَرَسٍ دِينارًا، وإنْ شاءَ قَوَّمَها وأعْطى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَراهِمَ. وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والشّافِعِيُّ: " لا صَدَقَةَ فِيها " . ورَوى عُرْوَةُ السَّعْدِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «فِي الخَيْلِ السّائِمَةِ في كُلِّ فَرَسٍ دِينارٌ»، وحَدِيثُ مالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِي صالِحٍ السَّمّانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ الخَيْلَ وقالَ: هي ثَلاثَةٌ: لِرَجُلٍ أجْرٌ، ولِآخَرَ سِتْرٌ، وعَلى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأمّا الَّذِي هي لَهُ سِتْرٌ فالرَّجُلُ يَتَّخِذُها تَكَرُّمًا وتَجَمُّلًا، ولا يَنْسى حَقَّ اللَّهِ في رِقابِها ولا في ظُهُورِها» فَأثْبَتَ في الخَيْلِ حَقًّا، وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى سُقُوطِ سائِرِ الحُقُوقِ سِوى صَدَقَةِ السَّوائِمِ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ هي المُرادَةَ، فَإنْ قِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ زَكاةَ التِّجارَةِ. قِيلَ لَهُ: «قَدْ سُئِلَ عَنِ الحَمِيرِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الخَيْلَ فَقالَ: ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيها إلّا الآيَةَ الجامِعَةَ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨]» فَلَمْ يُوجِبْ فِيها شَيْئًا، ولَوْ أرادَ زَكاةَ التِّجارَةِ لَأوْجَبَها في الحَمِيرِ. فَإنْ قِيلَ: في المالِ حُقُوقٌ سِوى الزَّكاةِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ أرادَ حَقًّا غَيْرَها، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «فِي المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ وتَلا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٧]» رَوى سُفْيانُ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ ذَكَرَ الإبِلَ فَقالَ: إنَّ فِيها حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ: إطْراقُ فَحْلِها وإعارَةُ دَلْوِها ومَنِيحَةُ سَمِينِها»، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ الحَقُّ المَذْكُورُ في الخَيْلِ مِثْلَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما اخْتَلَفَ حُكْمُ الحَمِيرِ، والخَيْلِ؛ (p-٣٦٣)لِأنَّ هَذا الحَقَّ لا يَخْتَلِفانِ فِيهِ، فَلَمّا فَرَّقَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُما دَلَّ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ وأنَّهُ إنَّما أرادَ الزَّكاةَ. وعَلى أنَّهُ قَدْ رُوِيَ أنَّ الزَّكاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ كانَ واجِبًا حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا حَسَنُ بْنُ إسْحاقَ التُّسْتَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا المُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ عُبَيْدِ المُكَتِّبِ عَنْ عامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: نَسَخَتِ الزَّكاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ " وأيْضًا قَدْ رُوِيَ أنَّ أهْلَ الشّامِّ سَألُوا عُمَرَ أنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِن خَيْلِهِمْ، فَشاوَرَ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ: " لا بَأْسَ ما لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ " فَأخَذَها مِنهم، وهَذا يَدُلُّ عَلى اتِّفاقِهِمْ عَلى الصَّدَقَةِ فِيها؛ لِأنَّهُ شاوَرَ الصَّحابَةَ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُشاوِرْهم في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ أخَذَها واجِبَةً بِمُشاوَرَةِ الصَّحابَةِ، وإنَّما قالَ عَلِيٌّ: " لا بَأْسَ ما لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ "؛ لِأنَّهُ لا يُؤْخَذُ عَلى وجْهِ الصَّغارِ بَلْ عَلى وجْهِ الصَّدَقَةِ واحْتَجَّ مَن لَمْ يُوجِبْها بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «عَفَوْتُ لَكم عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ»، وحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «لَيْسَ عَلى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ ولا في فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»، وهَذا عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ عَلى خَيْلِ الرُّكُوبِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمْ يَنْفِ صَدَقَتَها إذا كانَتْ لِلتِّجارَةِ بِهَذا الخَبَرِ ؟ . واخْتُلِفَ في زَكاةِ العَسَلِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والأوْزاعِيُّ: " إذا كانَ في أرْضِ العُشْرِ فَفِيهِ العُشْرُ " . وقالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: " لا شَيْءَ فِيهِ " ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ مِثْلُهُ، ورُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، وأنَّهُ أخَذَ مِنهُ العُشْرَ حِينَ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ وثَبَتَ عِنْدَهُ ما رُوِيَ فِيهِ ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهابٍ أنَّهُ قالَ: " بَلَغَنِي أنَّ في العَسَلِ العُشْرُ " قالَ ابْنُ وهْبٍ: وأخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الحارِثِ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ ورَبِيعَةَ بِذَلِكَ. وقالَ يَحْيى: إنَّهُ سَمِعَ مَن يَقُولُ فِيهِ العُشْرُ في كُلِّ عامٍ بِذَلِكَ مَضَتِ السُّنَّةُ. قالَ أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ في العَسَلِ، إذْ هو مِن مالِهِ، والصَّدَقَةُ إنْ كانَتْ مُجْمَلَةً، فَإنَّ الآيَةَ قَدِ اقْتَضَتْ إيجابَ صَدَقَةٍ ما، وإذا وجَبَتِ الصَّدَقَةُ كانَتِ العُشْرَ إذْ لا يُوجِبُ أحَدٌ غَيْرَهُ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ أبِي شُعَيْبٍ الحَرّانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ أعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الحارِثِ المِصْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: «جاءَ هِلالٌ أحَدُ بَنِي مُتْعانَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وسَألَهُ أنْ يَحْمِيَ وادِيًا لَهُ يُقالُ لَهُ سَلَبَةَ فَحَمى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ الوادِيَ فَلَمّا ولِيَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ كَتَبَ سُفْيانُ بْنُ وهْبٍ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ يَسْألُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ (p-٣٦٤)عُمَرُ إنْ أدّى إلَيْكَ ما كانَ يُؤَدِّي إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن عُشُورِ نَحْلِهِ فاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ وإلّا، فَإنَّما هو ذُبابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَن يَشاءُ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنا أبِي قالَ: حَدَّثَنا وكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى عَنْ أبِي سَيّارَةَ المُتَعِيِّ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا، قالَ: أدِّ العُشْرَ قالَ: فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ احْمِها لِي فَحَماها لِي» وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ شاذانَ قالَ: حَدَّثَنا مُعَلّى قالَ: أخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قالَ: «كَتَبَ إلَيْنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ يَأْمُرُنا أنْ نُعْطِيَ زَكاةَ العَسَلِ ونَحْنُ بِالطَّوافِ العُشْرَ، يُسْنِدُ ذَلِكَ إلى النَّبِيِّ ﷺ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إمامُ مَسْجِدِ الأهْوازِ قالَ: حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ السِّجِسْتانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو حَفْصٍ العَبْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا صَدَقَةٌ عَنْ مُوسى بْنُ يَسارٍ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «فِي كُلِّ عَشَرَةِ أزْقاقٍ مِنَ العَسَلِ زِقٌّ» . ولَمّا أوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ في العَسَلِ العُشْرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ أجْراهُ مَجْرى الثَّمَرِ وما تُخْرِجُهُ الأرْضُ مِمّا يَجِبُ فِيهِ العُشْرُ، فَقالَ أصْحابُنا: إذا كانَ في أرْضِ العُشْرِ فَفِيهِ العُشْرُ، وإذا كانَ في أرْضِ الخَراجِ فَلا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأنَّ الثَّمَرَةَ في أرْضِ الخَراجِ لا يَجِبُ فِيها شَيْءٌ، وإذا كانَ في أرْضِ العُشْرِ يَجِبُ فِيها العُشْرُ، فَكَذَلِكَ العَسَلُ. وقَدِ اسْتَقْصَيْنا القَوْلَ في هَذِهِ المَسائِلِ ونَظائِرِها مِن مَسائِلِ الزَّكاةِ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ أبِي جَعْفَرٍ الطَّحاوِيِّ، وإنَّما ذَكَرْنا هُنا جُمَلًا مِنها بِما يَتَعَلَّقُ الحُكْمُ فِيهِ بِظاهِرِ الآيَةِ. * * * وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ أخْذَ الصَّدَقاتِ إلى الإمامِ، وأنَّهُ مَتى أدّاها مَن وجَبَتْ عَلَيْهِ إلى المَساكِينِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأنَّ حَقَّ الإمامِ قائِمٌ في أخْذِها فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى إسْقاطِهِ، وقَدْ «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُوَجِّهُ العُمّالَ عَلى صَدَقاتِ المَواشِي ويَأْمُرُهم بِأنْ يَأْخُذُوها عَلى المِياهِ في مَواضِعِها»، وهَذا مَعْنى ما شَرَطَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ بِأنْ لا يَحْشُرُوا ولا يُعَشِّرُوا، يَعْنِي لا يُكَلَّفُونَ إحْضارَ المَواشِي إلى المُصَدَّقِ ولَكِنَّ المُصَدَّقَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ في مِياهِهِمْ ومَظانِّ مَواشِيهِمْ فَيَأْخُذُها مِنهم، وكَذَلِكَ صَدَقَةُ الثِّمارِ. وأمّا زَكَواتُ الأمْوالِ فَقَدْ كانَتْ تُحْمَلُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ فَقالَ: هَذا شَهْرُ زَكَواتِكم فَمَن كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مالِهِ " فَجَعَلَ لَهم أداءَها إلى المَساكِينِ، وسَقَطَ مِن أجْلِ ذَلِكَ حَقُّ الإمامِ في أخْذِها؛ لِأنَّهُ عَقَدَ عَقْدَهُ إمامٌ مِن أئِمَّةِ العَدْلِ، فَهو نافِذٌ عَلى الأُمَّةِ لِقَوْلِهِ ﷺ: «ويَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أوَّلُهم»، ولَمْ يَبْلُغْنا أنَّهُ بَعَثَ سُعاةً عَلى زَكَواتِ الأمْوالِ كَما بَعَثَهم (p-٣٦٥)عَلى صَدَقاتِ المَواشِي والثِّمارِ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ سائِرَ الأمْوالِ غَيْرُ ظاهِرَةٍ لِلْإمامِ، وإنَّما تَكُونُ مَخْبُوءَةً في الدُّورِ، والحَوانِيتِ، والمَواضِعِ الحَرِيزَةِ، ولَمْ يَكُنْ جائِزًا لِلسُّعاةِ دُخُولُ أحْرازِهِمْ ولَمْ يَجُزْ أنْ يُكَلِّفُوهم إحْضارَها كَما لَمْ يُكَلَّفُوا إحْضارَ المَواشِي إلى العامِلِ، بَلْ كانَ عَلى العامِلِ حُضُورُ مَوْضِعِ المالِ في مَواضِعِهِ وأخْذِ صَدَقَتِهِ هُناكَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْعَثْ عَلى زَكَواتِ الأمْوالِ السُّعاةَ، فَكانُوا يَحْمِلُونَها إلى الإمامِ، وكانَ قَوْلُهم مَقْبُولًا فِيها، ولَمّا ظَهَرَتْ هَذِهِ الأمْوالُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ بِها في البُلْدانِ أشْبَهَتِ المَواشِيَ فَنُصِبَ عَلَيْها عُمّالٌ يَأْخُذُونَ مِنها ما وجَبَ مِنَ الزَّكاةِ، ولِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إلى عُمّالِهِ أنْ يَأْخُذُوا مِمّا يَمُرُّ بِهِ المُسْلِمُ مِنَ التِّجاراتِ مِن كُلِّ عِشْرِينَ دِينارًا نِصْفُ دِينارٍ ومِمّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنهُ مِن كُلِّ عِشْرِينَ دِينارًا دِينارٌ، ثُمَّ لا يُؤْخَذُ مِنهُ شَيْءٌ إلّا بَعْدَ حَوْلٍ، أخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَن سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ إلى عُمّالِهِ أنْ يَأْخُذُوا مِنَ المُسْلِمِ رُبْعَ العُشْرِ ومِنَ الذِّمِّيِّ نِصْفَ العُشْرِ ومِنَ الحَرْبِيِّ العُشْرَ وما يُؤْخَذُ مِنَ المُسْلِمِ مِن ذَلِكَ فَهو الزَّكاةُ الواجِبَةُ تُعْتَبَرُ فِيها شَرائِطُ وُجُوبِها مِن حَوْلٍ ونِصابٍ وصِحَّةِ مِلْكٍ، فَإنْ لَمْ تَكُنِ الزَّكاةُ قَدْ وجَبَتْ عَلَيْهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنهُ، فاحْتَذى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ في ذَلِكَ فِعْلَ النَّبِيِّ ﷺ في صَدَقاتِ المَواشِي وعُشُورِ الثِّمارِ والزُّرُوعِ، إذْ قَدْ صارَتْ أمْوالًا ظاهِرَةً يُخْتَلَفُ بِها في دارِ الإسْلامِ كَظُهُورِ المَواشِي السّائِمَةِ والزُّرُوعِ والثِّمارِ، ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ ولا خالَفَهُ، فَصارَ إجْماعًا مَعَ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ الَّذِي ذَكَرْناهُ. فَإنْ قِيلَ: رَوى عَطاءُ بْنُ السّائِبِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ أبِي أُمِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ عَلى المُسْلِمِينَ عُشُورٌ إنَّما العُشُورُ عَلى أهْلِ الذِّمَّةِ»، ورَوى حُمَيْدٌ عَنِ الحَسَنِ عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي العاصِ أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ: لا تُحَشَّرُوا ولا تُعَشَّرُوا»، ورَوى إسْرائِيلُ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ المُهاجِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يا مَعْشَرَ العَرَبِ احْمَدُوا اللَّهَ إذْ دَفَعَ عَنْكُمُ العُشُورَ» . ورُوِيَ أنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسارٍ قالَ لِابْنِ عُمَرَ: أكانَ عُمَرُ يُعَشِّرُ المُسْلِمِينَ ؟ قالَ: لا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ المُرادُ بِذِكْرِ هَذِهِ العُشُورِ الزَّكاةَ، وإنَّما هو ما كانَ يَأْخُذُهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ المَكْسِ، وهو الَّذِي أُرِيدَ في حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِماسَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ: ﷺ «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ صاحِبُ مَكْسٍ» يَعْنِي عاشِرًا، وإيّاهُ عَنى الشّاعِرُ بِقَوْلِهِ: (p-٣٦٦) ؎وفِي كُلِّ أمْوالِ العِراقِ إتاوَةٌ وفي كُلِّ ما باعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ فاَلَّذِي نَفاهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ العُشْرِ هو المَكْسُ الَّذِي كانَ يَأْخُذُهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ فَأمّا الزَّكاةُ فَلَيْسَتْ بِمَكْسٍ، وإنَّما هو حَقٌّ وجَبَ في مالِهِ يَأْخُذُهُ الإمامُ فَيَضَعُهُ في أهْلِهِ كَما يَأْخُذُ صَدَقاتِ المَواشِي وعُشُورَ الأرْضِينَ، والخَراجَ. وأيْضًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الَّذِي نَفى أخْذَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ ما يَكُونُ مَأْخُوذًا عَلى وجْهِ الصَّغارِ، والجِزْيَةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ: «إنَّما العُشُورُ عَلى أهْلِ الذِّمَّةِ» يَعْنِي ما يُؤْخَذُ عَلى وجْهِ الجِزْيَةِ ومِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ صَدَقاتِ المَواشِي والزُّرُوعِ، وبَيْنَ زَكَواتِ الأمْوالِ أنَّهُ قالَ في الزَّكاةِ: ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] ولَمْ يَشْرُطْ فِيها أخْذَ الإمامِ لَها، وقالَ في الصَّدَقاتِ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ وقالَ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾ [التوبة: ٦٠] ونَصْبُ العامِلِ عَلَيْها يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ إسْقاطُ حَقِّ الإمامِ في أخْذِها. وقالَ ﷺ: «أُمِرْتُ أنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِكم وأرُدَّها في فُقَرائِكم»، فَإنَّما شَرَطَ أخْذَهُ في الصَّدَقاتِ ولَمْ يَذْكُرْ مِثْلَهُ في الزَّكَواتِ، ومَن يَقُولُ هَذا يَذْهَبُ إلى أنَّ الزَّكاةَ، وإنْ كانَتْ صَدَقَةً، فَإنَّ اسْمَ الزَّكاةِ أخَصُّ بِها، والصَّدَقَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالمَواشِي ونَحْوِها، فَلَمّا خَصَّ الزَّكاةَ بِالأمْرِ بِالإيتاءِ دُونَ أخْذِ الإمامِ وأمَرَ في الصَّدَقَةِ بِأنْ يَأْخُذَها الإمامُ وجَبَ أنْ يَكُونَ أداءُ الزَّكَواتِ مَوْكُولًا إلى أرْبابِ الأمْوالِ إلّا ما يَمُرُّ بِهِ عَلى العاشِرِ، فَإنَّهُ يَأْخُذُها بِاتِّفاقِ السَّلَفِ ويَكُونُ أخْذُ الصَّدَقاتِ إلى الأئِمَّةِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ رَوى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ عَنِ ابْنِ أبِي أوْفى قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا أتاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ مالِهِ صَلّى عَلَيْهِ قالَ: فَأتَيْتُهُ بِصَدَقَةِ مالِ أبِي فَقالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى آلِ أبِي أوْفى». ورَوى ثابِتُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ خارِجَةَ بْنِ إسْحاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جابِرٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَأْتِيكم رَكْبٌ مُبْغَضُونَ، فَإنْ جاءُوكم فَرَحِّبُوا بِهِمْ وخَلُّوا بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَبْغُونَ، فَإنْ عَدَلُوا فَلِأنْفُسِهِمْ، وإنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهِمْ، وأرْضُوهم، فَإنَّ تَمامَ زَكاتِهِمْ رِضاهم ولْيَدْعُوا لَكم» . ورَوى سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا البَخْتَرِيُّ قالَ: أخْبَرَنِي أبِي أنَّهُ سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا أعْطَيْتُمُ الزَّكاةَ فَلا تَنْسَوْا ثَوابَها قالُوا: وما ثَوابُها ؟ قالَ: يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْها مَغْنَمًا ولا تَجْعَلْها مَغْرَمًا» . وهَذِهِ الأخْبارُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ هو الدُّعاءُ وقَوْلُهُ: ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾ يَعْنِي واَللَّهُ أعْلَمُ: مِمّا تَسْكُنُ قُلُوبُهم إلَيْهِ وتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهم، فَيُسارِعُونَ إلى أداءِ الصَّدَقاتِ الواجِبَةِ رَغْبَةً في ثَوابِ اللَّهِ وفِيما يَنالُونَهُ مِن بَرَكَةِ دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَهم (p-٣٦٧)وكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِعامِلِ الصَّدَقَةِ إذا قَبَضَها أنْ يَدْعُوَ لِصاحِبِها اقْتِداءً بِكِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب