القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١٠٣ ] ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهم واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .
﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ﴾ أيْ: بَعْضَها ﴿صَدَقَةً﴾
قالَ المَهايِمِيُّ: لِتَصْدُقَ تَوْبَتُهم إذْ: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ (p-٣٢٥٢)أيْ: عَمّا تَلَطَّخُوا بِهِ مِن أوَضارِ التَّخَلُّفِ. وعَنْ حُبِّ المالِ الَّذِي كانَ التَّخَلُّفُ بِسَبَبِهِ ﴿وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ أيْ: عَنْ سائِرِ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ عَنِ المالِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّزْكِيَةُ مُبالَغَةٌ في التَّطْهِيرِ وزِيادَةٌ فِيهِ، أوْ بِمَعْنى الإنْماءِ والبَرَكَةِ في المالِ ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: واعْطِفْ عَلَيْهِمْ بِالدُّعاءِ لَهم وتَرَحَّمْ ﴿إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ أيْ: تُسَكِّنُ نُفُوسَهم إلَيْها، وتُطَمْئِنُ قُلُوبَهم بِها، ويَثِقُونَ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ قَبِلَ تَوْبَتَهم.
وقالَ قَتادَةُ: سَكَنٌ، أيْ: وقارٌ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: رَحْمَةٌ لَهم. وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ إذا دَعا لِلرَّجُلِ، أصابَتْهُ وأصابَتْ ولَدَهُ ووَلَدَ ولَدِهِ» . وفي رِوايَةٍ: «إنَّ صَلاةَ النَّبِيِّ ﷺ لَتُدْرِكُ الرَّجُلَ ووَلَدَهُ ووَلَدَ ولَدِهِ».
والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالصَّلاةِ عَلَيْهِمْ ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ﴾ أيْ: يَسْمَعُ اعْتِرافَهم بِذُنُوبِهِمْ ودُعاءَهم ﴿عَلِيمٌ﴾ أيْ: بِما في ضَمائِرِهِمْ مِنَ النَّدَمِ والغَمِّ، لِما فَرَطَ مِنهم.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ قُرِئَ مَجْزُومًا عَلى أنَّهُ جَوابٌ لِلْأمْرِ، وأمّا بِالرَّفْعِ فَعَلى أنَّهُ حالٌ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ في ﴿خُذْ﴾ أوْ صِفَةٌ لِ (صَدَقَةٍ)، والتّاءُ لِلْخِطابِ أوْ لِلصَّدَقَةِ.
والعائِدُ عَلى الأوَّلِ مَحْذُوفٌ ثِقَةً بِما بَعْدَهُ، أيْ: بِها.
وقُرِئَ تُطْهِرُهم، مِن أطْهَرَهُ بِمَعْنى طَهَّرَهُ، ولَمْ يُقْرَأْ: وتُزَكِّيهِمْ، إلّا بِإثْباتِ الياءِ وهو خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في الأمْرِ أوْ في جَوابِهِ، أيْ: وأنْتَ تُزَكِّيهِمْ بِها، هَذا عَلى قِراءَةِ "تُطَهِّرْهُمْ" بِالجَزْمِ.
وأمّا عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ فَـ (تُزَكِّيهِمْ) عَطْفٌ عَلى (تُطَهِّرُهم) حالًا أوْ صِفَةً.
الثّانِي: قُرِئَ ﴿صَلاتَكَ﴾ بِالتَّوْحِيدِ، و(صَلَواتَكَ) بِالجَمْعِ، مُراعاةً لِتَعَدُّدِ المَدْعُوِّ لَهم.
وقالَ الشِّهابُ: جَمَعَ (صَلاةً)، لِأنَّها اسْمُ جِنْسٍ، والتَّوْحِيدُ لِذَلِكَ، أوْ لِأنَّها مَصْدَرٌ في الأصْلِ.
(p-٣٢٥٣)الثّالِثُ: قالَ الشِّهابُ: السَّكَنُ السُّكُونُ، وما يُسْكَنُ إلَيْهِ مِنَ الأهْلِ والوَطَنِ، فَإنْ كانَ المُرادُ الأوَّلَ، فَجَعْلُها نَفْسَ السَّكَنِ والِاطْمِئْنانِ مُبالَغَةٌ، وهو الظّاهِرُ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَهو مَجازٌ بِتَشْبِيهِ دُعائِهِ، في الِالتِجاءِ إلَيْهِ بِالسَّكَنِ، انْتَهى.
قالَ أبُو البَقاءِ: سَكَنٌ بِمَعْنى مَسْكُونٍ إلَيْها، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَنِّثْهُ، وهو مِثْلُ القَبْضِ بِمَعْنى المَقْبُوضِ.
الرّابِعُ: قِيلَ: المَأْمُورُ بِهِ في الآيَةِ الزَّكاةُ. و(مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ، وكانُوا أرادُوا التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ مالِهِمْ، فَأمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَأْخُذَ بَعْضَها لِتَوْبَتِهِمْ، لِأنَّ الزَّكاةَ لَمْ تُقْبَلْ مِن بَعْضِ المُنافِقِينَ، فَتَرْتَبِطُ الآيَةُ بِما قَبْلَها.
وقِيلَ: لَيْسَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةَ المَفْرُوضَةَ، بَلْ هم لَمّا تابُوا، بَذَلُوا جَمِيعَ مالِهِمْ كَفّارَةً لِلذَّنْبِ الصّادِرِ مِنهم، فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأخْذِ بَعْضِها وهو الثُّلُثُ، وهَذا ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، وهو المُخْتارُ عِنْدَهم. ونَقَلَ الرّازِيُّ أنَّ أكْثَرَ الفُقَهاءِ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ قُصِدَ بِهِ إيجابُ أخْذِ الزَّكَواتِ مِنَ الأغْنِياءِ، إذْ هي حُجَّتُهم في إيجابِ الزَّكاةِ، ثُمَّ نُظِرَ فِيهِ بِأنَّ حَمْلَها عَلى ما ذَكَرُوهُ يُوجِبُ ألّا تَنْتَظِمَ الآيَةُ مَعَ سابِقِها ولاحِقِها.
وأقُولُ: لا رَيْبَ في ارْتِباطِ الآيَةِ بِما قَبْلَها، كَما أفْصَحَتْ عَنْهُ الرِّوايَةُ السّابِقَةُ. وخُصُوصُ سَبَبِها لا يَمْنَعُ عُمُومَ لَفْظِها، كَما هو القاعِدَةُ في مِثْلِ ذَلِكَ، ولِذا رَدَّ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى مَن تَأوَّلَ مِن بَعْضِ العَرَبِ هَذِهِ الآيَةَ أنَّ دَفْعَ الزَّكاةِ لا يَكُونُ إلّا لِلرَّسُولِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ المَأْمُورُ بِالأخْذِ، وبِالصَّلاةِ عَلى المُتَصَدِّقِينَ، فَغَيْرُهُ لا يَقُومُ مَقامَهُ وأمَرَ بِقِتالِهِمْ، فَوافَقَتْهُ الصَّحابَةُ، وقاتَلُوهم حَتّى أدَّوُا الزَّكاةَ إلى الخَلِيفَةِ، كَما كانُوا يُؤَدُّونَها إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
فاسْتُدِلَّ مِن ذَلِكَ عَلى وُجُوبِ دَفْعِ الزَّكاةِ إلى الإمامِ، ومِثْلُهُ نائِبُهُ، وهَؤُلاءِ المُتَأوِّلُونَ المُرْتَدُّونَ غابَ عَنْهم أنَّ الزَّكاةَ إنَّما أوْجَبَها اللَّهُ تَعالى سَدًّا لِحاجَةِ المُعْدَمِ، وتَفْرِيجًا لِكُرْبَةِ الغارِمِ، وتَحْرِيرًا لِرِقابِ المُسْتَعْبَدِينَ، وتَيْسِيرًا لِأبْناءِ السَّبِيلِ، فاسْتَلَّ بِذَلِكَ ضَغائِنُ أهْلِ الفاقَةِ، عَلى مَن فُضِّلُوا عَلَيْهِمْ في الرِّزْقِ، وأشْعَرَ قُلُوبَ أُولَئِكَ مَحَبَّةَ هَؤُلاءِ، وساقَ الرَّحْمَةَ في نُفُوسِ (p-٣٢٥٤)هَؤُلاءِ عَلى أُولَئِكَ البائِسِينَ، فالإمامُ لا خُصُوصِيَّةَ لِذاتِهِ فِيها، بَلْ لِأنَّهُ يَجْمَعُ ما يَرِدُ مِنها لَدَيْهِ، فَيُنْفِقُها في سُبُلِها المَذْكُورَةِ.
الخامِسُ: اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ عَلى نَدْبِ الدُّعاءِ لِلْمُتَصَدِّقِ.
قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: السُّنَّةُ لِلْإمامِ إذا أخَذَ الصَّدَقَةَ أنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ، ويَقُولَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيما أعْطَيْتَ وجَعَلَهُ طَهُورًا، وبارَكَ لَكَ فِيما أبْقَيْتَ، وقالَ آخَرُونَ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى فُلانٍ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أوْفى، وكانَ مِن أصْحابِ الشَّجَرَةِ قالَ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا أتاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ قالَ:
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ»، فَأتاهُ أبِي بِصَدَقَتِهِ فَقالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى آلِ أبِي أوْفى»» . أخْرَجاهُ في الصَّحِيحَيْنِ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وفي الحَدِيثِ الآخَرِ «أنَّ امْرَأةً قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! صَلِّ عَلَيَّ وعَلى زَوْجِي، فَقالَ: «صَلّى اللَّهُ عَلَيْكِ وعَلى زَوْجِكِ»» .
أقُولُ: وبِهَذَيْنَ الحَدِيثَيْنِ يُرَدُّ عَلى مَن زَعَمَ أنَّ المُرادَ بِـ: (صَلِّ عَلَيْهِمْ) الصَّلاةُ عَلى المَوْتى حَكاهُ السُّيُوطِيُّ في (" الإكْلِيلِ ") .
السّادِسُ: دَلَّتِ الآيَةُ كالحَدِيثَيْنِ، عَلى جَوازِ الصَّلاةِ عَلى غَيْرِ الأنْبِياءِ اسْتِقْلالًا.
قالَ الرّازِيُّ: رَوى الكَعْبِيُّ في " تَفْسِيرِهِ " أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو مُسَجًّى: عَلَيْكَ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ومِنَ النّاسِ مَن أنْكَرَ ذَلِكَ.
ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: لا تَنْبُغِي الصَّلاةُ مِن أحَدٍ عَلى أحَدٍ، إلّا في حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ .
ثُمَّ قالَ الرّازِيُّ: إنَّ أصْحابَنا يَمْنَعُونَ مِن ذِكْرِ صَلَواتِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إلّا في حَقِّ الرَّسُولِ، والشِّيعَةُ يَذْكُرُونَهُ في عَلِيٍّ وأوْلادِهِ، (p-٣٢٥٥)واحْتَجُّوا بِأنَّ نَصَّ القُرْآنِ دَلَّ عَلى جَوازِهِ فِيمَن يُؤَدِّي الزَّكاةَ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ في حَقِّ عَلِيٍّ والحَسَنِ والحُسَيْنِ عَلَيْهِمْ رِضْوانُ اللَّهِ ؟ قالَ: ورَأيْتُ بَعْضَهم قالَ: ألَيْسَ أنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ: سَلامٌ عَلَيْكم، يُقالُ لَهُ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ ذِكْرَ هَذا اللَّفْظِ جائِزٌ في حَقِّ جُمْهُورِ المُسْلِمِينَ، فَأوْلى آلُ البَيْتِ. انْتَهى.
وأقُولُ: إنَّ المَنعَ مِن ذَلِكَ أدَبِيٌّ لا شَرْعِيٌّ، لِأنَّهُ صارَ - في العُرْفِ - دُعاءً خاصًّا بِهِ ﷺ، وشِعارًا لَهُ، كالعِلْمِ بِالغَلَبَةِ، فَغَيْرُهُ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، إلّا تَبَعِيَّةً لَهُ، أدَبًا لَفْظِيًّا.
السّابِعُ: قالَ الرّازِيُّ: في سِرِّ كَوْنِ صَلاتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ سَكَنًا لَهم: أنَّ رُوحَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَتْ رُوحًا قَوِيَّةً مُشْرِقَةً صافِيَةً باهِرَةً، فَإذا دَعا لَهم وذَكَرَهم بِالخَيْرِ، فاضَتْ آثارٌ مِن قُوَّتِهِ الرُّوحانِيَّةِ عَلى أرْواحِهِمْ، فَأشْرَقَتْ بِهَذا السَّبَبِ أرْواحُهم، وصَفَتْ أسْرارُهم.
{"ayah":"خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}