الباحث القرآني

* (فائدة) وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى؛ فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصله به تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذ يقال: زكا الزرع وكمل. ولما كانت حياته ونعيمه لا تتم إلا بزكاته وطهارته لم يكن بد من ذكر هذا وهذا، فنقول: الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح، وكمال الشيء، يقال: زكا الشيء إذا نما، قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ [التوبة: ١٠٣]. فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما. فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغل في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة والنحاس والحديد، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت إرادة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة: زكا ونما، وقوى واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت. فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِن أبْصارِهْمِ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهم ذلِكَ أزْكى لَهم إنّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يصْنَعُونَ﴾ [النور: ٣٠]. فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج. * (فصل: المراد بالصلاة) أصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين. أحدهما: الدعاء والتبريك. والثاني العبادة. فمن القول الأول: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ وقوله تعالى في حق المنافقين: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهم ماتَ أبَدًا، ولا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ﴾ وقول النبي ﷺ: «إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب، فإن كان صائما فليصل» فسر بهما «١». قيل: فليدع لهم بالبركة، وقيل: يصلي عندهم بدل أكله. وقيل: إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء. والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والعابد داع، كما أن السائل داع. وبهما فسر قوله تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قيل: أطيعوني أثبكم. وقيل: سلوني أعطكم. وفسر بهما قوله تعالى: ﴿وَإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾. والصواب أن الدعاء يعم النوعين، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه. فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾، وقوله تعالى: ﴿والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾ والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه وتعبدونه، أيّ شيء يعبؤه بكم لولا عبادتكم إياه. فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل. وقال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ. ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها، وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا﴾ وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله: ﴿إنَّهم كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا﴾. وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول من موضعه في اللغة. فيكون حقيقة شرعية، أو مجازا شرعيا؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء. والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة. والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازا، ولا منقولة، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوها. فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم. * (فصل) هذه الصلاة من الآدمي. وأما صلاة الله سبحانه على عباده فنوعان: عامة وخاصة. أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكم ومَلائِكَتُهُ﴾ ومنه دعاء النبي ﷺ بالصلاة وعلى آحاد المؤمنين كقوله: «اللهم صل على آل أبي أوفى» وفي حديث آخر: «أن امرأة قالت له: صلّ عليّ وعلى زوجي. قال: صلّى الله عليك وعلى زوجك». النوع الثاني صلاته الخاصة: على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد ﷺ. فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال. أحدها: أنها رحمة. قال إسماعيل: حدثنا نصر بن علي قال حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك قال «صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء». وقال المبرد: أصل الصلاة الرحمة، فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رحمة واستدعاء الرحمة من الله. وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين. والقول الثاني: أن صلاة مغفرته. قال إسماعيل حدثنا محمد بن أبي بكر قال: حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك «هو الذي يصلي عليكم، قال: صلاة الله مغفرته. وصلاة الملائكة الدعاء». وهذا القول هو من جنس الذي قبله. وهما ضعيفان لوجوه. أحدها: أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته. فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ فعطف الرحمة على الصلاة: فاقتضى ذلك تغايرهما. هذا أصل العطف. وأما قولهم: وألفى قولها كذبا ومينا فهو شاذ نادر، لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب. الوجه الثاني: أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين. وأما رحمته فوسعت كل شيء. فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها. فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها. وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن. والرسول ﷺ يفسر اللفظة بلوازمها وجزء معناها لتفسير الريب بالشك. والشك جزء من الريب. وتفسير المغفرة بالستر، فهو جزء من مسمي المغفرة. وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان. وهو لازم الرحمة. ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير. الوجه الثالث: أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين. واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء على ثلاثة أقوال، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. فعلم أنهما ليسا بمترادفين. الوجه الرابع: أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها، إذا قال: اللهم ارحم محمدا وآل محمد. وليس الأمر كذلك. الوجه الخامس: أنه لا يقال عن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه أنه صلّى عليه. ويقال: إنه قد رحمه. الوجه السادس: أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمة، ولا يصلي عليه. الوجه السابع: أن الصلاة لا بد فيها من كلام. فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه، وتنويه به وإشادة بمحاسنه وما فيه وذكره. ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال «صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة» وقال إسماعيل في كتابه حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية «ان الله وملائكته يصلون على النبي قال: صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه: الدعاء». الوجه الثامن: أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعها في فعل واحد. وقال: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ﴾ وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة. وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه. ولا يقال: الصلاة لفظ مشترك، ويجوز أن يستعمل في معنييه معا. لأن في ذلك، محاذير متعددة. أحدها: أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد، كما نص على ذلك أئمة اللغة: منهم المبرد وغيره. وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا، بسبب تعدد الواضعين. ثم تختلط اللغة فيعرض الاشتراك. الثاني: أن الأكثرين لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه، لا بطريق الحقيقة، ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه. وإنما أخذ من قوله: إذا أوصى لمواليه، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم. فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما، وأنه عند التجرد يحمل عليهما. وهذا ليس بصحيح. فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ. وهو عنده عام متواطئ لا مشترك. وأما ما حكى عن الشافعي أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ قد قيل له: وقد يراد بالملامسة الجامعة. فقال: هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي، ولا هو من جنس المألوف من كلامه. وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين. وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا في بضعة عشر دليلا في مسألة القرء من كتاب التعليق على الأحكام. فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته، كما هو المعروف من هذه اللفظة، لم يكن الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه، بل يكون مستعملا في معنى واحد. وهذا هو الأصل في الألفاظ وسنعود إن شاء الله تعالى إلى هذه المسألة في الكلام على قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب