الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝﴾ [التوبة: ١٠٣]. هذه الآيةُ نزَلَتْ فيمَن تخلَّفَ عن رسولِ اللهِ ﷺ في الغَزْوِ وليسوا بمَعْذُورِينَ، فنَدِموا على تخلُّفِهم بعدَ ذَهابِ الغُزاةِ، وحاسَبُوا أنفُسَهم، ولمّا رجَعَ الناسُ، ربَطوا أنفُسَهم بالسَّواري مُعتذِرينَ، عارِضينَ لأموالِهم في سبيلِ اللهِ، رجاءَ العَفْوِ والتوبةِ عليهم، ثمَّ أُطلِقوا وأُخِذَ مِن أموالِهم صَدَقةٌ، كما رَوى عليٌّ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «جاؤوا بأموالِهم ـ يَعني: أبا لُبابَةَ وأصحابَهُ ـ حينَ أُطلِقُوا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، هذه أموالُنا فتَصَدَّقْ بها عَنّا، واستَغْفِرْ لنا، قال: (ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ مِن أمْوالِكُمْ شَيْئًا)، فأنزَلَ اللَّهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾، يَعني: بالزَّكاةِ: طاعةَ اللهِ والإخلاصَ، ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، يقولُ: استغفِرْ لهم»[[«تفسير الطبري» (١١/٦٥٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٧٥).]]. أخذُ الإمامِ للزَّكاةِ وجِبايَتُها: وفي الآيةِ أمَرَ اللهُ الإمامَ بجِبايةِ الأموالِ مِن مَوارِدِها، وإنفاقِها على مَواردِها المشروعةِ، لِيَكْتَفِيَ الناسُ، ويَسُدَّ بعضُهم حاجةَ بعضٍ، فإنّ السُّلْطانَ يُهابُ فتُدفَعُ الأموالُ إليه رَغْبةً أو رَهْبةً، طَوْعًا أو كَرْهًا، ثمَّ إنْ كان الإمامُ عادِلًا، فهو أبصَرُ بمَواضِعِ الحاجةِ والفقرِ والعَوَزِ، وهو أعلَمُ بمَواضِعِ الثغورِ، لأنّ الناسَ تُكاتِبُهُ وتشتكي إليه، فيُحِيطُ بأحوالِ الناسِ والبُلْدانِ ولو تباعَدَتْ ما لا يُحيطُ الغنيُّ بذلك، وأيُّ خلَلٍ أو تقصيرٍ في جِبايةِ الأموالِ مِن مَواضِعِها وإنفاقِها على مُستحِقِّيها، يكونُ في ذلك ظُلْمٌ في عيشِ الناسِ، ويَظهَرُ الظُّلْمُ في الأموالِ في جِهتَيْنِ: الجهةُ الأُولى: الظُّلْمُ في جِبايةِ الأموالِ، وذلك بعدَمِ أخذِها كما أمَرَ اللهُ، فيَتِمُّ تعطيلُ مَواردِها أو بعضِها، فاللهُ أمَرَ بجِبايةِ الزَّكاةِ مِن الأغنياءِ مِن أموالِهم وزُرُوعِهم وثِمارِهم، ومَواشِيهم وعُرُوضِهم، وبأخذِ الجِزْيةِ والخَراجِ مِن الكُفّارِ، ومِن مَواردِها غَنائِمُ الكفّارِ عندَ قتالِهم لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، فبِمِقْدارِ الخلَلِ في تعطيلِ مواردِ المالِ في الإسلامِ، يكونُ خللٌ في بيتِ المالِ، كجِبايةِ السُّلْطانِ لزكاةِ بعضِ الأغنياءِ دونَ بعضٍ، أو تعطيلِ الجهادِ والجِزْيةِ والخراجِ. الجهةُ الثـانيةُ: الظُّلْمُ في صَرْفِها، فإنّ اللهَ أمَر بصَرْفِ الأموالِ في مَصارِفِها، كلُّ مالٍ بحسَبِه، فقد قسَّم اللهُ في كتابِهِ الغنيمةَ والزكاةَ، وبيَّن النبيُّ ﷺ مَصرِفَ سَلَبِ الكافرِ وخَراجِ الأرضِ والجِزْيةِ وإقطاعِ الأرضِ، وحُدودَهُ وضوابِطَه، وبيَّنَ أحَقَّ الناسِ بالصدقةِ، وأفضَلَها وأعظَمَها نفعًا وأجرًا. حَبْسُ الصَّدَقةِ عن مُسْتَحِقِّيها، وأخذُ غيرِ أهْلِها لها: وقد جاء في الشريعةِ تحريمُ حَبْسِ الصَّدَقةِ عن أهلِها، ووجوبُ صَرْفِها ما وُجِدَ مُستحِقُّوها، فإنّ الأصلَ أنّ الفقرَ والفاقةَ قد تُوجَدُ وتَطرَأُ، ولكنْ لا تَبقى في الناسِ إلاَّ بسبَبِ مالٍ محبوسٍ عن أهلِه، منَعَهُ غنيٌّ، أو حبَسَه سُلْطانٌ، وقد حَثَّ النبيُّ ﷺ على قِسْمةِ الصَّدَقةِ والتعجيلِ بها إلى أهلِها، ففي البخاريِّ، مِن حديثِ عُقْبةَ بنِ الحارثِ رضي الله عنه، قال: صَلّى بِنا النَّبِيُّ ﷺ العَصْرَ، فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ البَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ أوْ قِيلَ لَهُ، فَقالَ: (كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي البَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُبَيِّتَهُ، فَقَسَمْتُهُ) [[أخرجه البخاري (١٤٣٠).]]. والزكاةُ إنْ حُبِسَتْ عن أهلِها في مالٍ، أهلَكَتْهُ، لأنّ للزكاةِ بَرَكةً على مالِ مُنفِقِها، وشُؤْمًا على مالِ حابِسِها، فعن عائشةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (لا تُخالِطُ الصَّدَقَةُ مالًا إلاَّ أهْلَكَتْهُ)، رواهُ البيهقيُّ وغيرُهُ، مِن حديثِ هِشامٍ، عن أبيه، عنها[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/١٥٩).]]، قال الشافعيُّ: يَعني ـ واللهُ أعلَمُ ـ أنّ خيانةَ الصَّدَقةِ قد تُتلِفُ المالَ المخلوطَ بالخيانةِ مِن الصدقةِ[[«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (٣/٣٢١).]]. وقد حرَّم اللهُ تعرُّضَ غيرِ أهلِ الزكاةِ لها بطَلَبِها والانتفاعِ بها، كما حرَّم سُؤالَها مِن دونِ أهلِها، فإنّ الزكاةَ قد تُؤخَذُ مِن مَواردِها ويُخرِجُها الغنيُّ أو السُّلْطانُ أو نائبُهُ طالِبًا أهلَها، فيَعتَرِضُها مَن يَطْلُبُها مِن غيرِ أهلِها، فيَنحرِفُ طريقُها ومَسارُها إلى غيرِ مقصودِها، فكما حرَّم اللهُ على قابِضِ الزكاةِ أنْ يَصرِفَها لغيرِ أهلِها، فقد حرَّم على غيرِ أهلِها أن يَطْلُبوها ويأخُذُوها، فقد رَوى أحمدُ وأهلُ السُّنَنِ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) [[سبق تخريجه.]]، وفي «المسنَدِ» و«السُّننِ» أيضًا، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (مَن سَأَلَ ولَهُ ما يُغْنِيهِ، جاءَتْ يَوْمَ القِيامَةِ خُمُوشٌ، أوْ خُدُوشٌ، أوْ كُدُوحٌ فِي وجْهِهِ)، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، وما الغِنى؟ قالَ: (خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أوْ قِيمَتُها مِنَ الذَّهَبِ)، وقد أعلَّه يَحيى بنُ آدَمَ وغيرُهُ[[أخرجه أحمد (١/٣٨٨)، وأبو داود (١٦٢٦)، والترمذي (٦٥٠)، والنسائي (٢٥٩٢)، وابن ماجه (١٨٤٠).]]. إخراجُ المُكْرَهِ لِزَكاةِ مالِهِ: وإذا أخَذَ الإمامُ الزكاةَ أو الصَّدَقةَ مِن الغنيِّ بقُوَّةٍ وقهرٍ وغَلَبةٍ، فقد اختلَفَ العلماءُ في إجزائِها عن زكاتِه، وهل يَجِبُ عليه أن يُخرِجَ عِوَضًا عنها إن تاب؟ على قولَيْنِ، وهما وجهانِ في مذهبِ أحمدَ: الأوَّلُ: تُجْزِيهِ باعتبارِ أنّ الإمامَ نائبٌ عن المُسلِمينَ في أخذِ الحقوقِ وإعطائِها أهلَها، ونِيَّةُ الإمامِ تُجزِئُ عن نِيَّةِ الغنيِّ. الثاني: أنّها لا تُجزِئُ عن زكاتِهِ المفروضةِ، ولا تُقبَلُ صَدَقةً نافلةً، ورَجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ[[«مجموع الفتاوى» (٢٢/٢٠).]]، لأنّ النبيَّ كان يأخُذُها منهم بإعطائِهم إيّاها، ثمَّ بيَّن عدَمَ قَبُولِهِ لها، وبيَّن العِلَّةَ في عَدَمِ القَبُولِ بأنّهم أعطَوْها وهم كارِهونَ، فالعبادةُ التي تخرُجُ بإكراهٍ لا طَواعِيَةً وانقيادًا: لا تُقبَلُ، كمَن يُصلِّي مُكرَهًا خوفَ الضَّرْبِ أو الحَبْسِ، لا تُقبَلُ منه، ولو تابَ في الوقتِ، وجَبَتْ عليه الإعادةُ. وقولُهُ تعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ اختُلِفَ في المرادِ بالصَّدَقةِ المأخوذةِ: هل هي التطوُّعُ أو الزكاةُ المفروضةُ؟ على قولَيْنِ للسَّلَفِ، والأظهَرُ: أنّه في صدَقةِ التطوُّعِ، لأنّ الآيةَ نزَلَتْ فيمَن تخلَّفَ عن غَزْوةِ تَبُوكَ، فجاؤُوا مُعتذِرينَ عن تخلُّفِهم، وطرَحُوا مالَهُمْ بينَ يَدَيِ النبيِّ ﷺ لأخذِه، رجاءَ أن يَغفِرَ اللهُ لهم ويَعْفُوَ عنهم. ولا خلافَ أنّه يدخُلُ في الأموالِ التي يَجِبُ أخذُ زكاتِها: الحَرْثُ، والماشيةُ، والنَّقْدانِ. زكاةُ عُرُوضِ التِّجارةِ: وأمّا العُرُوضُ المملوكةُ، فعلى نوعَيْنِ: النوعُ الأولُ: عروضٌ مملوكةٌ غيرُ معروضةٍ للتجارةِ، كالبَيْتِ المسكونِ، والبُسْتانِ المنتَفَعِ منه، والدابَّةِ المركوبةِ مِن فرَسٍ أو جمَلٍ، أو سيّارةٍ أو طائرةٍ، ومِثْلُ ذلك أثاثُ البيوتِ ولو غَلا ثَمَنُه، والمقتنَياتُ مِن أوانٍ ومَلابِسَ وفُرُشٍ مُستعمَلةٍ، فتلك لا زَكاةَ فيها، ولم يَكُنِ النبيُّ ﷺ ولا أصحابُهُ ولا التابعونَ يَسأَلونَ عن قِنْيَةِ الناسِ وما يَنتَفِعونَ به، ولم يثبُتْ عن أحدٍ منهم، أنّه أخرَجَ زَكاتَها ولا أُخِذَتْ منه، وذلك أنّه قد ثبَتَ عن النبيِّ ﷺ أنّه قال: (لَيْسَ عَلى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ ولا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ)، رواهُ الشيخانِ[[أخرجه البخاري (١٤٦٣)، ومسلم (٩٨٢).]]. وبهذا كان يَعمَلُ الصحابةُ، وقد صحَّ عن ابنِ عُمَرَ، قال: «ليس في العَرْضِ زكاةٌ إلاَّ أنْ يُرادَ به التجارةُ»، رواهُ عنه نافعٌ، أخرَجَهُ الشافعيُّ في «الأمِّ»[[«الأم» (٢/٤٩)، و«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (٣/٣٠٠).]]. وقد سُئِلَ عطاءٌ عن الرَّجُلِ يَشتَري المتاعَ فيمكُثُ السِّنِينَ: يُزَكِّيهِ؟ قال: لا[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠٤٦١).]]. وعليه نصَّ طاوُسٌ وسُفْيانُ وجماعةٌ. وأمّا ما رُوِيَ عن ابنِ سِيرِينَ، قال: «في المتاعِ يُقَوَّمُ ثمَّ تُؤدّى زكاتُه»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠٤٦٠).]]. فقد رواهُ أبو هِلالٍ محمَّدُ بنُ سُلَيْمٍ، عن ابنِ سيرينَ، وهو ليس بالقويِّ، كما قال النَّسائيُّ[[«الضعفاء والمتروكين» للنسائي (ص٢٣١) (ترجمة ٥١٦).]]، وإنْ صَحَّ فمرادُهُ المتاعُ الذي يُشتَرى لِيُباعَ، لا لِيُنتفَعَ منه بنَفْسِه، والسَّلَفُ يُعبِّرونَ عَن العروضِ المُشتَراةِ التي تُوضَعُ في الدُّورِ لزَمَنٍ بالمتاعِ، لأنّها ليسَتْ معروضةً للناسِ، فالعروضُ: إمّا للتِّجارةِ، أو للمَتاعِ، فما كان غالِبًا في البيوتِ، فهو للمَتاعِ ولو كان قد قصَدَ صاحبُهُ بيعَهُ بعدَ زمَنٍ، فيَحبِسُهُ يَنتظِرُ به الغَلاءَ، وهذه المسألةُ ممّا اختَلَفَ فيه السَّلَفُ على قولَيْنِ: ذهَبَ قومٌ: إلى أنّ المتاعَ الذي يَشتريهِ صاحبُهُ ويَدَّخِرُهُ يَنتظِرُ به الغَلاءَ: أنّه يُزكِّيهِ، وهذا ظاهرُ قولِ ابنِ سِيرِينَ السابقِ، وبه قال النَّخَعيُّ والثَّوْريُّ. وذهَبَ قومٌ: إلى أنّه لا يُزَكِّيهِ، وهو قولُ طاوُسٍ، ونُسِبَ إلى الشَّعْبيِّ وعطاءٍ وعَمْرِو بنِ دينارٍ، وفي النِّسْبةِ نظرٌ، وبه قال المالكيَّةُ، فيَرَوْنَ أنّه يُزكّى عندَ بيعِهِ مَرَّةً، خِلافًا لجمهورِ الفقهاءِ الذين يَرَوْنَ أنّ مُحتَكِرَ السِّلْعةِ للتجارةِ كالمُدِيرِ لها، يُزكِّيها كلَّ عامٍ، لأنّه يتربَّصُ رِبْحًا، ويَملِكُ القُدْرةَ على بيعِها متى شاء، ولكنَّه يُريدُ بيعَها بثَمَنٍ أعلى وأغلى، وهو في حقيقتِهِ يترقَّبُ السُّوقَ، ويَعرِفُ أسعارَهُ كلَّ عامٍ، ويتحيَّنُ الأصلَحَ له منها، كما يتحيَّنُ عارِضُ السِّلْعةِ للناسِ الثَّمَنَ الذي يُريدُهُ، والفرقُ بينَهما أنّ المُحتكِرَ لم يَعرِضْ سِلْعَتَهُ بعَيْنِها، ولكنْ يَرقُبُ أمثالَها في السُّوقِ، فإنْ كان سِعْرُها جَيِّدًا أخرَجَها، وأمّا المديرُ للسِّلْعةِ، فيَعْرِضُها بعَيْنِها، وكِلاهما يُريدُ البيعَ ويتحيَّنُ سِعْرًا يُناسبُه. واستُدِلَّ بأثَرٍ عامٍّ على عدَمِ وجوبِ الزكاةِ في العروضِ المُحتكَرةِ، غيرِ المُدارةِ، وهو ما رواهُ ابنُ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، قال: «لا زكاةَ في عَرْضٍ لا يُدارُ، إلاَّ الذَّهَبَ والفِضَّةَ»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٧١٠٢).]]. فلا يَظهَرُ أنّه يَقصِدُ المالَ المُحتكَرَ الذي يَنتظِرُ به صاحبُهُ الغَلاءَ، فهذا مُدارٌ لكنَّ دَوَرانَهُ بعيدٌ، والتُّجّارُ منهم مَن يُديرُ المالَ في اليومِ، ومنهم في الأسبوعِ، ومنهم في الشَّهْرِ والحَوْلِ، وأكثَرَ مِن ذلك، حسَبَ ما يَربَحونَ، وإنّما قصَدَ عطاءٌ العَرْضَ الذي يُشتَرى ولا يُرادُ به إدارتُهُ للتِّجارةِ، فلا زكاةَ فيه، وهذا القولُ ليس في شُيُوخِ عَطاءٍ ولا في أقرانِه، ولا يُحفَظُ هذا مِن وجهٍ صريحٍ صحيحٍ إلاَّ عن طاوُسٍ، كما رَواهُ عنه ابنُهُ، وقد أنكَرَهُ عبدُ الرزّاقِ عليه، فقال: «اسمٌ لا أُحِبُّ أنْ أقولَهُ: يَنتظِرُ به الغَلاءَ»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٧٠٩٥).]]. ثمَّ إنّ مُدَّةَ احتكارِ السِّلَعِ تَختلِفُ بحسَبِ حاجةِ الناسِ إليها، فمنها: ما يُحتكَرُ شهرًا، ومنها: ما يُحتكَرُ فصلًا، يَنتظِرُ فيه صيفًا أو شتاءً، أو سَلْمًا أو حَرْبًا، ومنها: ما يُحتكَرُ سَنَةً وسنَتَيْنِ وثلاثًا، وهذه الأَزْمِنةُ لا تَجعَلُ السِّلْعةَ غيرَ مُدارةٍ في عُرْفِهم، ومَن تأمَّلَ الأخبارَ المرويَّةَ عن عطاءٍ يَجِدُ أنّه يُسألُ عن العَرْضِ الذي لا يُدارُ، يَعْنُونَ به المَتاعَ وما يُقتَنى ويُستمتَعُ به، كما قال ابنُ جُرَيْجٍ: قلتُ لعَطاءٍ: طعامٌ أُمسِكُهُ أُرِيدُ أكْلَه، فيَحُولُ عليه الحَوْلُ؟ قال: ليس علَيك فيه صدَقةٌ، لَعَمْرِي إنّا لَنَفعَلُ ذلك، نَبتاعُ الطَّعامَ وما نُزَكِّيهِ، فإنْ كنتَ تُريدُ بيعَهُ فزَكِّهِ إذا بِعْتَه[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠١١١).]]. وبنحوِ هذا ومعناهُ يقولُ السَّلَفُ، كما رَوى ابنُ جُرَيْجٍ، قال: قال لي عبدُ الكَريمِ في الحَرْثِ: «إذا أعْطَيْتَ زكاتَهُ أوَّلَ مرَّةٍ، فحالَ عليه الحَوْلُ عِندَك، فلا تُزَكِّهِ، حَسْبُك الأُولى»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٧٢٤٤)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠١١٢).]]. وبنحوِه نقَلَهُ ابنُ جُرَيْجٍ، عن عمرِو بنِ دينارٍ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٧٢٤٤).]]. وكلامُهُمْ وكلامُ طاوسٍ في الثِّمارِ والحبوبِ، وهم يَنتَفِعونَ منها ويَبيعونَ ما بَقِيَ، ولا يُدرى عادةً مِقْدارُ ما يُرادُ بيعُهُ منه وما يَستنفِقونَهُ بالأكلِ منه، وهذا لا يُسحَبُ على عروضِ التِّجارةِ الخالِصةِ محتكَرةً أو مدارةً. وقد بيَّن ابنُ عبدِ البَرِّ الخطَأَ في فَهْمِ قولِ عطاءٍ، فقال: «وأمّا ما ذكَرَهُ عن عطاءٍ وعمرِو بنِ دينارٍ، فقد أخطَأَ عليهما، وليس ذلك بمعروفٍ عنهما»[[«الاستذكار» (٩/١١٧).]]. النوعُ الثاني: العُرُوضُ التِّجاريَّةُ، وهي التي تُعَدُّ للبيعِ، وعامَّةُ العُلَماءِ على أنّ فيها زكاةً، خِلافًا لداودَ الظاهريِّ، والآيةُ عامَّةٌ في الإنفاقِ ووُجُوبِ أخْذِه، ولا يُؤمَرُ بأخذِ غيرِ المفروضِ أو ما بذَلَهُ صاحبُهُ، وقد قال تعالى: ﴿أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤]، وقد روى حجّاجٌ، عن ابنِ جُرَيْجٍ قولَهُ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤]، قال: «مِن الزَّكاةِ والتطوُّعِ»[[«تفسير الطبري» (٤/٥٢٣).]]. ووجوبُ إخراجِ الزكاةِ مِن عروضِ التِّجارةِ هو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ، وعمَلُ الخلفاءِ الرّاشِدينَ، كعُمَرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ وابنِ عُمَرَ، ولا خلافَ بينَ الصحابةِ في وُجُوبِهِ، وقد رواهُ عن عُمرَ جماعةٌ لا يَختلِفونَ عنه في وجوبِ ذلك، كأنَسِ بنِ مالكٍ، وزيادِ بنِ حُدَيْرٍ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدٍ القاريِّ، والحسنِ البصريِّ. وقد روى نافعٌ، عن ابنِ عُمَرَ، قال: «كان فيما كان مِن مالٍ في رَقِيقٍ أو في دوابَّ أو بَزٍّ يُدارُ لِتِجارةٍ: الزَّكاةُ كلَّ عامٍ»، رواهُ أبو عُبَيْدٍ وعبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٧١٠٣)، وأبو عبيد في «الأموال» (١١٨١).]]. وبهذا قال التّابِعونَ قاطِبةً، كالفقهاءِ السَّبْعةِ في المدينةِ، والزُّهْريِّ، وهو قولُ عطاءٍ ومجاهِدٍ وعمرِو بنِ دينارٍ، ولم يُخالِفْهم أحَدٌ مِن المكِّيِّينَ وغيرِهم مِن فقهاءِ التابِعِينَ مِن بقيَّةِ البُلْدانِ، صحَّ عن الشَّعْبيِّ والحسَنِ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ والنَّخَعيِّ وحمّادٍ والثَّوْريِّ مِن العِراقِ، ومِن الشامِ مَكْحولٌ والأوزاعيُّ، ومِن اليمَنِ طاوُسٌ، ولا مُخالِفَ لهم في بُلْدانِهم. وكان عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يأمُرُ بأخذِ عروضِ التِّجارةِ، كما كتَبَ إلى زُرَيْقِ بنِ حَيّانَ ـ وكان على جَوازِ مِصْرَ ـ: «أنِ انظُرْ مَن مَرَّ بك مِن المُسلِمينَ، فخُذْ ممّا ظهَرَ مِن أموالِهم ممّا يُدِيرُونَ مِن التِّجاراتِ»، رواهُ مالكٌ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (١/٢٥٥).]]. وقد رَوى أبو داودَ وغيرُهُ، مِن حديثِ سَمُرةَ مرفوعًا: «أمَرَنا رسولُ اللهِ ﷺ أنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ»[[أخرجه أبو داود (١٥٦٢).]]. ونقَلَ ابنُ المنذِرِ إجماعَ العُلَماءِ على زَكاةِ عُرُوضِ التِّجارةِ[[«الإجماع» لابن المنذر (ص٤٨)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» له (٣/٨١).]]، خِلافًا للظّاهِرِيَّةِ الذين يَجعَلونَ النصوصَ إنّما هي فيما خَصَّهُ الدليلُ، ولا يأخُذونَ بإطلاقاتِ الآياتِ، وربَّما احتَرَزوا مِن القولِ بالإطلاقِ، خوفًا مِن وجوبِ الزكاةِ في المتاعِ والدُّورِ والمراكبِ وطَعامِ البيتِ، لكَوْنِها مِن الأرزاقِ والأموالِ، ولكنَّ هذا النَّوْعَ مِن الأموالِ لم يَقُلْ أحدٌ بوجوبِ الزكاةِ فيه، ولا ذكَرَ ذلك الصحابةُ ولا مَن بَعْدَهم، إلاَّ ما يتعلَّقُ بحُلِيِّ المرأةِ، ومَن أوْجَبَ الزَّكاةَ فيه لا يَجعَلُهُ مَتاعًا، بل نَقْدًا. ويُروى عنِ ابنِ عبّاسٍ القولُ بعدَمِ زَكاةِ عُرُوضِ التِّجارةِ، ولا يَصِحُّ عنه، بل هو مُنكَرٌ، وسائرُ أصحابِهِ على خلافِ ذلك، ولو ثبَتَ عنه ذلك، لأُسنِدَ، ولَعَمِلَ به الواحدُ مِن أصحابِه. والنَّظَرُ دالٌّ على وجوبِ إخراجِ زكاةِ عُرُوضِ التِّجارةِ، فإنّ أثمَنَ أموالِ الناسِ وأَغْلاها: ما يُتاجِرونَ به، فأكثَرُ التُّجّارِ والأغنياءِ يَملِكونَ عُرُوضَ التِّجارةِ أكثَرَ مِن النَّقْدَيْنِ، وتركُ زكاةِ ذلك مخالَفةٌ لِمَقصَدِ الشريعةِ في زكاةِ الأموالِ، وهضمٌ لحقِّ الفُقَراءِ، وبَخْسٌ لهم، ولو تُرِكَ القولُ بزكاةِ عروضِ التِّجارةِ، لكان بابًا للخروجِ مِن فرضِ الزكاةِ، يدخُلُ منه كلُّ طامعٍ أو صاحبِ هوًى، والنَّفْسُ شحيحةٌ بمالِها. عُرُوضُ التِّجارةِ التي يُنتفَعُ بها مَعَ عَرْضِها: وأمّا المالُ الذي يَعرِضُه صاحبُهُ للتِّجارةِ وهو يَنتفِعُ به، كالبيتِ الذي يَسكُنُهُ يَعرِضُهُ للبَيْعِ وهو فيه، وكالمَرْكَبةِ التي تَقضي حاجتَهُ يَعرِضُها وهو يَنتفِعُ بها، فهذا محلُّ خِلافٍ عندَ الفقهاءِ في وجوبِ زَكاتِه، والأظهَرُ أنّ ذلك على حالَتَيْنِ: الحـالـةُ الأُولـى: أنْ يكونَ قَصْدُهُ مِن عَرْضِهِ للبيعِ التِّجارةَ، فيَبيعُهُ لِيَشترِيَ سِلْعةً أُخرى، ويَبِيعَهُ ويُضارِبَ بقيمتِهِ، ففي ذلك زكاةُ عروضِ التجارةِ. والحالةُ الثانيةُ: ألاَّ يكونَ قصدُهُ التِّجارةَ، وإنّما أنْ يُبدِّلَ متاعًا بمتاعٍ، كمَن يَعرِضُ فرَسَهُ المركوبَ، وبيتَهُ المسكونَ، وقميصَهُ الملبوسَ مِنه للبَيْعِ، ويُرِيدُ أن يُبدِّلَهُ بغَيْرِه، فحالَ الحَوْلُ عليه وهو يَعرِضُهُ وهو منتفِعٌ به، فليس في ذلك زَكاةٌ، لأنّه لم يَعْرِضْهُ تجارةً، وإنّما كان متاعًا وسيصيِّرُهُ متاعًا، وانتفاعُهُ منه مُوجِبٌ لسقوطِ الزكاةِ فيه، شريطةَ ألاَّ يكونَ انتفاعُهُ منه انتفاعًا عارضًا. وأمّا عروضُ البيعِ التي لا يُنتفَعُ بها، ولا يُرادُ ببيعِها إدارتُها تجارةً، بل شراءُ متاعٍ بثمَنِها، كمَن يَعرِضُ دارًا أو مَرْكَبًا لا يَنتفِعُ بها ليَشترِيَ أُخرى يَنتفِعُ بها، ففيها زكاةٌ، لأنّه يَعرِضُها لبيعِها ولا ينتفِعُ بها، وعَرْضُهُ للبيعِ في نفسِهِ تجارةٌ يَلتمِسُ منه رِبْحًا ولو كان ثمَنُها يَؤُولُ بعدَ ذلك إلى مَتاعٍ، ولو أُسقِطَتِ الزكاةُ عن عروضِ التجارةِ لهذه العِلَّةِ، لَسَقَطَتْ عن كثيرٍ مِن العُرُوضِ التِّجاريةِ، لأنّ أكثرَ الناسِ يُتاجِرونَ ليَستمتِعوا بأثمانِ تِجارتِهم في العاجلِ والآجلِ، وفتحُ بابِ إسقاطِ الزكاةِ في البيعِ الأوَّلِ للمعروضِ يَفتَحُ البابَ لِما بعدَه، لأنّه لا دليلَ على وضعِ حدٍّ معيَّنٍ، وأوَّلُهُ كمُنْتهاهُ، واللهُ أعلَمُ. وبهيمةُ الأنعامِ والزُّرُوعُ والحبوبُ إنْ كانتْ عروضًا للبيعِ، ففيها زكاةُ عروضِ التِّجارةِ، لا زكاةُ الحبوبِ والثمارِ وبهيمةِ الأنعامِ، وتُقوَّمُ قيمتُها كما تُقوَّمُ عروضُ التجارةِ، ثمَّ تُخرَجُ زكاتُها مِن كلِّ أربعينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وقد كان السَّلَفُ يَعمَلونَ بهذا، كعطاءٍ وعمرِو بنِ دينارٍ والزُّهْريِّ ويونُسَ والشَّعْبيِّ والنخَعيِّ والثوريِّ. زكاةُ عُرُوضِ التِّجارةِ كُلَّ حَوْلٍ: وزكاةُ عروضِ التجارةِ تكونُ كلَّ عامٍ، وهذا الذي عليه عامَّةُ السلفِ، وصحَّ هذا عن ابنِ عُمَرَ وغيرِه، سواءٌ أرَبِحَ في تجارتِه أم لم يَربَحْ، وبهذا قال جمهورُ العلماءِ، وقد ذهَبَ مالكٌ في روايةٍ: إلى أنّه إنْ حالَ الحَوْلُ على تجارتِهِ، ولم يَنِضَّ عليه منها شيءٌ، فليس عليه زكاةٌ، وبهذا قال ابنُ القاسمِ، وقد جعَلُوا حُكْمَ السِّلْعةِ البائرةِ والخاسرةِ كحُكْمِ السلعةِ المُحتكَرةِ، لا تجبُ عليه الزكاةُ حتى يبيعَ ويَنِضَّ له مِن النقدِ ما يبلُغُ النِّصابَ. ونَضُّ المالِ يَعْنُونَ به أنّه صار عَيْنًا بعدَ أنْ كان متاعًا، ويُرادُ مِن ذلك أنّه علامةٌ على أنّ السِّلْعةَ ليسَتْ بائرةً، والبائرةُ في حُكْمِ المُحتكَرةِ حتى تتحرَّكَ وتتحوَّلَ مِن عَرْضٍ إلى عَيْنٍ، كدِرْهَمٍ ودينارٍ. ولمالكٍ قولٌ يُوافِقُ جمهورَ الفقهاءِ في عدمِ اشتراطِ البَيْعِ والرِّبْحِ في عروضِ التجارةِ إذا كان باختيارِ مالكِها، وهو الأصحُّ في القياسِ، والموافقُ للأثرِ والتعليلِ، وقد روى نافعٌ، عن ابنِ عمرَ، أنّه كان يقولُ: «في كلِّ مالٍ يُدارُ في عَبِيدٍ أو دَوابَّ أو طعامٍ الزكاةُ كلَّ عامٍ»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٧١٠٣)، وابن زنجويه في «الأموال» (١٦٩٠).]]. وأمّا عروضُ التجارةِ المجمَّدةُ التي لا يستطيعُ مالكُها التصرُّفَ فيها، لضياعِ وثائقِها أو وضْعِ سُلْطانٍ يدَهُ عليها، فليس فيها زكاةٌ، حتّى يَملِكَ التصرُّفَ فيها، فتلك ليستْ مِن المالِ المُدارِ، ولا تَجْرِي على قولِ مَن أخرَجَ المُحتكَرَ مِن المُدارِ. ومَن بارَتْ سلعتُهُ أو نزَلَتْ قيمتُها، فزكاتُها بقيمتِها التي لو عرَضَها لوجَدَ مَن يَشترِيها، ولو كان ذلك في رُبُعِ قيمتِها، لأنّ زكاةَ العروضِ تقييمُها عندَ الحَوْلِ، ولا اعتبارَ بقيمتِها عندَ شِرائِها، والعروضُ التي لا تَجِدُ مشترِيًا لها ـ لأنّ الناسَ زَهِدُوا فيها مَهْما كان ثمنُها قليلًا ـ فهذه لا قيمةَ لها، وعلى هذا لا زكاةَ فيها، واللهُ أعلَمُ. فَضْلُ الدُّعاءِ للمتصدِّقِ: قولُهُ تعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾، فيه استحبابُ الدُّعاءِ للمتصدِّقِ في نفسِهِ وولَدِه، وبالبرَكَةِ في مالِه، وقد قال أهلُ الظاهرِ بالوجوبِ، وليس بصحيحٍ، بل هو مستحَبٌّ، ولم يقُلْ أحدٌ بوجوبِه مِن السلفِ والأئمَّةِ. وإنّما أمَرَ اللهُ نبيَّهُ بالدعاءِ لهم، لعِظَمِ أثرِ دعوةِ النبيِّ ﷺ، وهي مخصوصةٌ بالقَبُولِ، ولِفَضْلِ الدعاءِ عامَّةً، فإنّه يُورِثُ سَكَنًا وطُمَأْنينةً، يَجِدُهما المدعوُّ له في نَفْسِه، فيتذكَّرُ اللهَ فيُخلِصُ، ويتذكَّرُ ثوابَهُ فيَنتظِرُهُ ويَرْجوه، ولا يتعلَّقُ قلبُهُ بما فاتَ مِن مالِه. وأصلُ الحُكْمِ للنبيِّ ﷺ ومَن قام مقامَه، ومع أنّ أخْذَ النبيِّ أعظَمُ مِن أخذِ غيرِه، وإعطاءَهُ أعظَمُ مِن إعطاءِ غيرِه، وصلاتَهُ أعظَمُ مِن صلاةِ غيرِه، فإنّ الأخذَ والدعاءَ مِن الجميعِ مشروعٌ، والدعاءُ عامٌّ لكلِّ قابضٍ للزكاةِ مِن دافِعِيها، وكما أنّ الأخذَ في قولِه: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ عامٌّ لكلِّ ذي أمرٍ، فإنّ قولَه تعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ عامٌّ كذلك لكلِّ قابضٍ. وقد يَختَصُّ النبيُّ ﷺ بتوجيهِ الخطابِ إليه، ولا يَعني تخصيصَ الحُكْمِ به، وذلك لجُمْلةٍ مِن العللِ والأحكامِ: منها: أنّ الخطابَ يتَّجِهُ إلى الوُلاةِ أعظَمَ مِن غيرِهم، وذلك لأنّهم أوْلى مَن يقومُ بهذا الأمرِ، فتَوجَّهَ إليهم لبيانِ أنّهم الأَحَقُّ بالامتثالِ، وهذا كثيرٌ، ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣]، لأنّ أمورَ الجهادِ تتَّجِهُ في أصلِها إلى الحاكمِ، وهي منه أعظَمُ وأَوْلى مِن غيرِه، سواءٌ كان ذلك في الكافِرينَ أو المُنافِقينَ، فله هَيْبةٌ، ومنه رَغْبةٌ، لا تكونُ لغيرِهِ، ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]. ومنها: أنّ الأمرَ الذي يتمُّ الخِطابُ لأجلِهِ عظيمٌ، فيتوجَّهُ الأمرُ للأَعْلى، حتّى لا يَظُنَّ أحدٌ خروجَهُ منه، فلا أعظَمَ ولا أشرَفَ مَقامًا في البشَرِ مِن النبيِّ ﷺ، فإذا توجَّه الخطابُ إليه، كان توجُّهُهُ إلى غيرِهِ أوْلى، مِن حاكمٍ وسُلْطانٍ، وخاصٍّ وعامٍّ، وذَكَرٍ وأُنثى. ومنها: أنّ الأمرَ مختصٌّ بالنبيِّ ﷺ، وهذا خلافُ الأصلِ، وهو قليلٌ نادرٌ، ولا بدَّ مِن دليلٍ يقومُ عليه. وقد يكونُ الخطابُ متوجِّهًا إلى النبيِّ ﷺ، ولكنَّ المرادَ به غيرُهُ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿فَإنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ﴾ [يونس: ٩٤]، فالشَّكُّ لا يُنسَبُ إلى النبيِّ ﷺ. وقد زعَمَ مانِعو الزكاةِ أنّ هذه الآيةَ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ خاصَّةٌ بالنبيِّ ﷺ، شُحًّا وطمعًا في نُفُوسِهم، حمَلَهُمْ على هذا التأويلِ، فقاتَلَهُمْ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ والصحابةُ معه، فقال: «واللهِ، لَوْ مَنَعُونِي عِقالًا كانُوا يُؤَدُّونَهُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَقاتَلْتُهُمْ عَلى مَنعِهِ»، رواهُ الشيخانِ[[أخرجه البخاري (٧٢٨٤)، ومسلم (٢٠).]]. وقد بيَّن أبو بكرٍ والصحابةُ لهم سُوءَ زَعْمِهم، وبُطْلانَ فَهْمِهم، بالحُجَّةِ والدليلِ، ثمَّ قاتَلُوهم على ذلك لمّا أصَرُّوا على منعِها، وفي ذلك أنّ الضلالةَ ولو كانتْ بيِّنةً ظاهرةً، فالواجبُ بيانُها لأهلِها، وإقامةُ الحُجَّةِ عليهم، فقد يكونُ فيهم مَن هو جاهلٌ أو مأمورٌ وهو كارِهٌ، فإنْ تَبَيَّنَ له، عادَ إلى الحقِّ والرشدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب