قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهم واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(p-١٣٩)
وفِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّهم قَوْمٌ مِنَ المُنافِقِينَ تابُوا عَنِ النِّفاقِ.
والثّانِي: أنَّهم قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، لا لِلْكُفْرِ والنِّفاقِ، لَكِنْ لِلْكَسَلِ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلى ما فَعَلُوا ثُمَّ تابُوا، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وآخَرُونَ﴾ عِطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ومِمَّنْ حَوْلَكم مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ﴾ والعَطْفُ يُوهِمُ التَّشْرِيكَ إلّا أنَّهُ تَعالى وفَّقَهم حَتّى تابُوا، فَلَمّا ذَكَرَ الفَرِيقَ الأوَّلَ بِالمُرُودِ عَلى النِّفاقِ والمُبالَغَةِ فِيهِ. وصَفَ هَذِهِ الفِرْقَةَ بِالتَّوْبَةِ والإقْلاعِ عَنِ النِّفاقِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رُوِيَ «أنَّهم كانُوا ثَلاثَةً: أبُو لُبابَةَ مَرْوانُ بْنُ عَبَدِ المُنْذِرِ، وأوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، ووَدِيعَةُ بْنُ حِزامٍ، وقِيلَ: كانُوا عَشَرَةً. فَسَبْعَةٌ مِنهم أوْثَقُوا أنْفُسَهم لَمّا بَلَغَهم ما نَزَلَ في المُتَخَلِّفِينَ فَأيْقَنُوا بِالهَلاكِ، وأوْثَقُوا أنْفُسَهم عَلى سَوارِي المَسْجِدِ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَدَخَلَ المَسْجِدَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وكانَتْ هَذِهِ عادَتَهُ، فَلَمّا قَدِمَ مِن سَفَرِهِ ورَآهم مُوثَقِينَ، سَألَ عَنْهم فَذُكِرَ لَهُ أنَّهم أقْسَمُوا أنْ لا يَحُلُّوا أنْفُسَهم حَتّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ هو الَّذِي يَحُلُّهم، فَقالَ: وأنا أُقْسِمُ أنِّي لا أحُلُّهم حَتّى أُؤْمَرَ فِيهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَأطْلَقَهم وعَذَرَهم، فَقالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أمْوالُنا وإنَّما تَخَلَّفْنا عَنْكَ بِسَبَبِها، فَتَصَدَّقْ بِها وطَهِّرْنا، فَقالَ: ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ مِن أمْوالِكم شَيْئًا فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً»﴾ ) الآيَةَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: الِاعْتِرافُ عِبارَةٌ عَنِ الإقْرارِ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْرِفَةٍ، ومَعْناهُ أنَّهم أقَرُّوا بِذَنْبِهِمْ، وفِيهِ دَقِيقَةٌ، كَأنَّهُ قِيلَ لَمْ يَعْتَذِرُوا عَنْ تَخَلُّفِهِمْ بِالأعْذارِ الباطِلَةِ كَغَيْرِهِمْ، ولَكِنِ اعْتَرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنَّهم بِئْسَما فَعَلُوا وأظْهَرُوا النَّدامَةَ وذَمُّوا أنْفُسَهم عَلى ذَلِكَ التَّخَلُّفِ.
فَإنْ قِيلَ: الِاعْتِرافُ بِالذَّنْبِ هَلْ يَكُونُ تَوْبَةً أمْ لا ؟
قُلْنا: مُجَرَّدُ الِاعْتِرافِ بِالذَّنْبِ لا يَكُونُ تَوْبَةً، فَأمّا إذا اقْتَرَنَ بِهِ النَّدَمُ عَلى الماضِي، والعَزْمُ عَلى تَرْكِهِ في المُسْتَقْبَلِ، وكانَ هَذا النَّدَمُ والتَّوْبَةُ لِأجْلِ كَوْنِهِ مَنهِيًّا عَنْهُ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، كانَ هَذا المَجْمُوعُ تَوْبَةً، إلّا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ قَدْ تابُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ والمُفَسِّرُونَ قالُوا: إنَّ عَسى مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا﴾ وفِيهِ بَحْثانِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: في هَذا العَمَلِ الصّالِحِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: العَمَلُ الصّالِحُ هو الِاعْتِرافُ بِالذَّنْبِ والنَّدامَةُ عَلَيْهِ والتَّوْبَةُ مِنهُ، والسَّيِّءُ هو التَّخَلُّفُ عَنِ الغَزْوِ.
والثّانِي: العَمَلُ الصّالِحُ خُرُوجُهم مَعَ الرَّسُولِ إلى سائِرِ الغَزَواتِ، والسَّيِّءُ هو تَخَلُّفُهم عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
والثّالِثُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في حَقِّ المُسْلِمِينَ كانَ العَمَلُ الصّالِحُ إقْدامَهم عَلى أعْمالِ البِرِّ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهم.
البَحْثُ الثّانِي: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَدْ جُعِلَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ العَمَلِ الصّالِحِ والسَّيِّءِ مَخْلُوطًا. فَما المَخْلُوطُ بِهِ ؟ وجَوابُهُ أنَّ الخَلْطَ عِبارَةٌ عَنِ الجَمْعِ المُطْلَقِ، وأمّا قَوْلُكَ خَلَطْتُهُ، فَإنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الَّذِي يَمْتَزِجُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِالآخَرِ، ويَتَغَيَّرُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِسَبَبِ تِلْكَ المُخالَطَةِ عَنْ صِفَتِهِ الأصْلِيَّةِ كَقَوْلِكَ خَلَطْتُ الماءَ بِاللَّبَنِ. واللّائِقُ بِهَذا المَوْضِعِ هو الجَمْعُ المُطْلَقُ؛ لِأنَّ العَمَلَ الصّالِحَ والعَمَلَ السَّيِّءَ إذا حَصَلا بَقِيَ كُلُّ (p-١٤٠)واحِدٍ مِنهُما كَما كانَ عَلى مَذْهَبِنا، فَإنَّ عِنْدَنا القَوْلَ بِالإحْباطِ باطِلٌ، والطّاعَةَ تَبْقى مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ والثَّوابِ، والمَعْصِيَةَ تَبْقى مُوجِبَةً لِلذَّمِّ والعِقابِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا﴾ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى نَفْيِ القَوْلِ بِالمُحابَطَةِ، وأنَّهُ بَقِيَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما كَما كانَ مِن غَيْرِ أنْ يَتَأثَّرَ أحَدُهُما بِالآخَرِ، ومِمّا يُعِيِنُ هَذِهِ الآيَةَ عَلى نَفْيِ القَوْلِ بِالمُحابَطَةِ أنَّهُ تَعالى وصَفَ العَمَلَ الصّالِحَ والعَمَلَ السَّيِّءَ بِالمُخالَطَةِ. والمُخْتَلِطانِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونا باقِيَيْنِ حالَ اخْتِلاطِهِما؛ لِأنَّ الِاخْتِلاطَ صِفَةٌ لِلْمُخْتَلِطِينَ، وحُصُولُ الصِّفَةِ حالَ عَدَمِ المَوْصُوفِ مُحالٌ، فَدَلَّ عَلى بَقاءِ العَمَلَيْنِ حالَ الِاخْتِلاطِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ:
البَحْثُ الأوَّلُ: هَهُنا سُؤالٌ، وهو أنَّ كَلِمَةَ ﴿عَسى﴾ شَكٌّ وهو في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، وجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ:
الوَجْهِ الأوَّلِ: قالَ المُفَسِّرُونَ: كَلِمَةُ عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ﴾ (المائِدَةِ: ٥٢) وفَعَلَ ذَلِكَ، وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ عَلى عُرْفِ النّاسِ في الكَلامِ، والسُّلْطانُ العَظِيمُ إذا التَمَسَ المُحْتاجُ مِنهُ شَيْئًا فَإنَّهُ لا يُجِيبُ إلَيْهِ إلّا عَلى سَبِيلِ التَّرَجِّي مَعَ كَلِمَةِ عَسى، أوْ لَعَلَّ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يُلْزِمَنِي شَيْئًا وأنْ يُكَلِّفَنِي بِشَيْءٍ بَلْ كُلُّ ما أفْعَلُهُ فَإنَّما أفْعَلُهُ عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ والتَّطَوُّلِ، فَذِكْرُ كَلِمَةِ ﴿عَسى﴾ الفائِدَةُ فِيهِ هَذا المَعْنى، مَعَ أنَّهُ يُفِيدُ القَطْعَ بِالإجابَةِ.
الوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ، المَقْصُودِ مِنهُ بَيانُ أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُكَلَّفُ عَلى الطَّمَعِ والإشْفاقِ لِأنَّهُ أبْعَدُ مِنَ الإنْكارِ والإهْمالِ.
البَحْثُ الثّانِي: قالَ أصْحابُنا قَوْلُهُ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ صَرِيحٌ في أنَّ التَّوْبَةَ لا تَحْصُلُ إلّا مِن خَلْقِ اللَّهِ تَعالى، والعَقْلُ أيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الأصْلَ في التَّوْبَةِ النَّدَمُ، والنَّدَمُ لا يَحْصُلُ بِاخْتِيارِ العَبْدِ؛ لِأنَّ إرادَةَ الفِعْلِ والتَّرْكِ إنْ كانَتْ فِعْلًا لِلْعَبْدِ افْتَقَرَ في فِعْلِها إلى إرادَةٍ أُخْرى، وأيْضًا فَإنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكُونُ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ في فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عَظِيمَ النَّدامَةِ عَلَيْهِ، وحالَ كَوْنِهِ راغِبًا فِيهِ لا يُمْكِنُهُ دَفْعُ تِلْكَ الرَّغْبَةِ عَنِ القَلْبِ، وحالَ صَيْرُورَتِهِ نادِمًا عَلَيْهِ لا يُمْكِنُهُ دَفْعُ تِلْكَ النَّدامَةِ عَنِ القَلْبِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ لا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلى تَحَصُّلِ النَّدامَةِ، وعَلى تَحْصِيلِ الرَّغْبَةِ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ أنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ.
والجَوابُ: أنَّ الصَّرْفَ عَنِ الظّاهِرِ إنَّما يَحْسُنُ إذا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ لا يُمْكِنُ إجْراءُ اللَّفْظِ عَلى ظاهِرِهِ، أمّا هَهُنا، فالدَّلِيلُ العَقْلِيُّ أنَّهُ لا يُمْكِنُ إجْراءُ اللَّفْظِ إلّا عَلى ظاهِرِهِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ التَّأْوِيلُ.
البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ يَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ إنَّما تَحْصُلُ في المُسْتَقْبَلِ. وقَوْلُهُ: ﴿وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ دَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرافَ حَصَلَ في الماضِي، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرافَ ما كانَ نَفْسَ التَّوْبَةِ، بَلْ كانَ مُقَدِّمَةً لِلتَّوْبَةِ، وأنَّ التَّوْبَةَ إنَّما تَحْصُلُ بَعْدَها.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفَ النّاسُ في المُرادِ. فَقالَ بَعْضُهم: هَذا راجِعٌ إلى هَؤُلاءِ الَّذِينَ تابُوا، وذَلِكَ لِأنَّهم بَذَلُوا أمْوالَهم لِلصَّدَقَةِ، فَأوْجَبَ اللَّهُ تَعالى أخْذَها، وصارَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا في كَمالِ تَوْبَتِهِمْ لِتَكُونَ جارِيَةً في (p-١٤١)حَقِّهِمْ مَجْرى الكَفّارَةِ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ، وكانَ يَقُولُ: لَيْسَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الصَّدَقَةَ الواجِبَةَ، وإنَّما هي صَدَقَةُ كَفّارَةِ الذَّنْبِ الَّذِي صَدَرَ مِنهم.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الزَّكَواتِ كانَتْ واجِبَةً عَلَيْهِمْ، فَلَمّا تابُوا مِن تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الغَزْوِ وحَسُنَ إسْلامُهم، وبَذَلُوا الزَّكاةَ أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يَأْخُذَها مِنهم.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ، والمَقْصُودُ مِنها إيجابُ أخْذِ الزَّكاةِ مِنَ الأغْنِياءِ وعَلَيْهِ أكْثَرُ الفُقَهاءِ إذِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ في إيجابِ الزَّكَواتِ. وقالُوا في الزَّكاةِ إنَّها طُهْرَةٌ، أمّا القائِلُونَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ: فَقَدِ احْتَجُّوا عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأنَّ الآياتِ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مُنْتَظِمَةً مُتَناسِقَةً، أمّا لَوْ حَمَلْناها عَلى الزَّكَواتِ الواجِبَةِ ابْتِداءً، لَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الآيَةِ تَعَلُّقٌ بِما قَبْلَها، ولا بِما بَعْدَها، وصارَتْ كَلِمَةً أجْنَبِيَّةً، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِكَلامِ اللَّهِ تَعالى، وأمّا القائِلُونَ بِأنَّ المُرادَ مِنهُ أخْذُ الزَّكَواتِ الواجِبَةِ، قالُوا: المُناسَبَةُ حاصِلَةٌ أيْضًا عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا أظْهَرُوا التَّوْبَةَ والنَّدامَةَ، عَنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهم أقَرُّوا بِأنَّ السَّبَبَ المُوجِبَ لِذَلِكَ التَّخَلُّفِ حُبُّهم لِلْأمْوالِ وشِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلى صَوْنِها عَنِ الإنْفاقِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهم إنَّما يَظْهَرُ صِحَّةُ قَوْلِكم في ادِّعاءِ هَذِهِ التَّوْبَةِ والنَّدامَةِ لَوْ أخْرَجْتُمُ الزَّكاةَ الواجِبَةَ، ولَمْ تُضايِقُوا فِيها؛ لِأنَّ الدَّعْوى لا تَتَقَرَّرُ إلّا بِالمَعْنى، وعِنْدَ الِامْتِحانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ أوْ يُهانُ، فَإنْ أدَّوْا تِلْكَ الزَّكَواتِ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ ظَهَرَ كَوْنُهم صادِقِينَ في تِلْكَ التَّوْبَةِ والإنابَةِ، وإلّا فَهم كاذِبُونَ مُزَوِّرُونَ بِهَذا الطَّرِيقِ. لَكِنَّ حَمْلَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى التَّكْلِيفِ بِإخْراجِ الزَّكَواتِ الواجِبَةِ مَعَ أنَّهُ يَبْقى نَظْمُ هَذِهِ الآياتِ سَلِيمًا أوْلى، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ الصَّدَقاتُ الواجِبَةُ. قَوْلُهُ: ﴿تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ والمَعْنى تُطَهِّرُهم عَنِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ أخْذِ تِلْكَ الصَّدَقاتِ، وهَذا إنَّما يَصِحُّ لَوْ قُلْنا إنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ تِلْكَ الصَّدَقَةَ لَحَصَلَ الذَّنْبُ، وذَلِكَ إنَّما يَصِحُّ حُصُولُهُ في الصَّدَقاتِ الواجِبَةِ. وأمّا القائِلُونَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ: فَقالُوا: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا عَذَرَ أُولَئِكَ التّائِبِينَ وأطْلَقَهم، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أمْوالُنا الَّتِي بِسَبَبِها تَخَلَّفْنا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِها عَنّا وطَهِّرْنا واسْتَغْفِرْ لَنا، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ مِن أمْوالِكم شَيْئًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآياتِ فَأخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُلُثَ أمْوالِهِمْ، وتَرَكَ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ ولَمْ يَقُلْ خُذْ أمْوالَهم، وكَلِمَةُ(مِن) تُفِيدُ التَّبْعِيضَ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ لا تَمْنَعُ القَوْلَ الَّذِي اخْتَرْناهُ كَأنَّهُ قِيلَ لَهم: إنَّكم لَمّا رَضِيتُمْ بِإخْراجِ الصَّدَقَةِ الَّتِي هي غَيْرُ واجِبَةٍ؛ فَلِأنْ تَصِيرُوا راضِينَ بِإخْراجِ الواجِباتِ أوْلى.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى كَثِيرٍ مِن أحْكامِ الزَّكاةِ.
الحُكْمُ الأوَّلُ
أنَّ قَوْلَهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ القَدْرَ المَأْخُوذَ بَعْضُ تِلْكَ الأمْوالِ لا كُلُّها إذْ مِقْدارُ ذَلِكَ البَعْضِ غَيْرُ مَذْكُورٍ هَهُنا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، بَلِ المَذْكُورُ هَهُنا قَوْلُهُ: ﴿صَدَقَةً﴾ ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ التَّنْكِيرَ حَتّى يَكْفِيَ أخْذَ أيِّ جُزْءٍ كانَ، وإنْ كانَ في غايَةِ القِلَّةِ، مِثْلُ الحَبَّةِ الواحِدَةِ مِنَ الحِنْطَةِ أوِ الجُزْءِ الحَقِيرِ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ صَدَقَةً مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ والكَيْفِيَّةِ والكِمِّيَّةِ عِنْدَهم، حَتّى يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ أمْرًا بِأخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ المَعْلُومَةِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ الإجْمالُ. ومَعْلُومٌ أنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ لَيْسَتْ إلّا الصَّدَقاتُ الَّتِي وصَفَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وبَيَّنَ كَيْفِيَّتَها، والصَّدَقَةُ الَّتِي بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هي أنَّهُ أمَرَ (p-١٤٢)بِأنْ يُؤْخَذَ في خَمْسٍ وعِشْرِينَ بِنْتُ مَخاضٍ، وفي سِتَّةٍ وثَلاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَراتِبِ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ أمْرًا بِأنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الأشْياءَ المَخْصُوصَةَ والأعْيانَ المَخْصُوصَةَ، وظاهِرُ الآيَةِ لِلْوُجُوبِ، فَدَلَّ هَذا النَّصُّ عَلى أنَّ أخْذَها واجِبٌ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ القِيمَةَ لا تَكُونُ مُجْزِأةً عَلى ما هو قَوْلُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
الحُكْمُ الثّانِي
أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المالُ مالًا لَهم، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الفَقِيرُ شَرِيكًا لِلْمالِكِ في النِّصابِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ الزَّكاةُ مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ وأنْ لا يَكُونَ لَها تَعَلُّقٌ البَتَّةَ بِالنِّصابِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ إذا فَرَّطَ في الزَّكاةِ حَتّى هَلَكَ النِّصابُ، فالَّذِي هَلَكَ ما كانَ مَحَلًّا لِلْحَقِّ، بَلْ مَحَلُّ الحَقِّ باقٍ كَما كانَ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى ذَلِكَ الوُجُوبُ بَعْدَ هَلاكِ النِّصابِ كَما كانَ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
الحُكْمُ الثّالِثُ
ظاهِرُ هَذا العُمُومِ يُوجِبُ الزَّكاةَ في مالِ المَدْيُونِ، وفي مالِ الضَّمانِ، وهو ظاهِرٌ.
الحُكْمُ الرّابِعُ
ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الزَّكاةَ إنَّما وجَبَتْ طُهْرَةً عَنِ الآثامِ، فَلا تَجِبُ إلّا حَيْثُ تَصِيرُ طُهْرَةً عَنِ الآثامِ، وكَوْنُها طُهْرَةً عَنِ الآثامِ لا يَتَقَرَّرُ إلّا حَيْثُ يُمْكِنُ حُصُولُ الآثامِ، وذَلِكَ لا يُعْقَلُ إلّا في حَقِّ البالِغِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَثْبُتَ وُجُوبُ الزَّكاةِ إلّا في حَقِّ البالِغِ كَما هو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلّا أنَّ الشّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجِيبُ ويَقُولُ: إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أخْذِ الصَّدَقَةِ مِن أمْوالِهِمْ، وأخْذُ الصَّدَقَةِ مِن أمْوالِهِمْ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَها طُهْرَةً، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ أخْذَ الزَّكاةِ مِن أمْوالِ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ طُهْرَةٌ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفاءِ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ انْتِفاءُ الحُكْمِ مُطْلَقًا ؟
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ أقْوالٌ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خُذْ يا مُحَمَّدُ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً فَإنَّكَ تُطَهِّرُهم.
القَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ تُطَهِّرُهم مُعَلَّقًا بِالصَّدَقَةِ، والتَّقْدِيرُ: خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً مُطَهِّرَةً، وإنَّما حَسُنَ جَعْلُ الصَّدَقَةِ مُطَهِّرَةً لِما جاءَ أنَّ الصَّدَقَةَ أوْساخُ النّاسِ، فَإذا أُخِذَتِ الصَّدَقَةُ فَقَدِ انْدَفَعَتْ تِلْكَ الأوْساخُ فَكانَ انْدِفاعُها جارِيًا مَجْرى التَّطْهِيرِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
إنَّ عَلى هَذا القَوْلِ وجَبَ أنْ نَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وتُزَكِّيهِمْ﴾ يَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنِ الأوَّلِ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ﴿خُذْ﴾ يا مُحَمَّدُ ﴿مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ تِلْكَ الصَّدَقَةُ، وتُزَكِّيهِمْ أنْتَ بِها.
القَوْلُ الثّالِثُ: أنْ يُجْعَلَ التّاءُ فِي﴿تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ﴾ ضَمِيرَ المُخاطَبِ، ويَكُونُ المَعْنى: تُطَهِّرُهم أنْتَ أيُّها الآخِذُ بِأخْذِها مِنهم وتُزَكِّيهِمْ بِواسِطَةِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ: (تُطْهِرُهم) مِن أطْهَرِهِ بِمَعْنى طَهَّرَهُ. (وتُطْهِرْهم) بِالجَزْمِ جَوابًا لِلْأمْرِ، ولَمْ يُقْرَأْ﴿وتُزَكِّيهِمْ﴾ إلّا بِإثْباتِ الياءِ.
(p-١٤٣)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وتُزَكِّيهِمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ التَّزْكِيَةَ لَمّا كانَتْ مَعْطُوفَةً عَلى التَّطْهِيرِ وجَبَ حُصُولُ المُغايَرَةِ، فَقِيلَ: التَّزْكِيَةُ مُبالَغَةٌ في التَّطْهِيرِ، وقِيلَ: التَّزْكِيَةُ بِمَعْنى الإنْماءِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى يَجْعَلُ النُّقْصانَ الحاصِلَ بِسَبَبِ إخْراجِ قَدْرِ الزَّكاةِ سَبَبًا لِلْإنْماءِ، وقِيلَ: الصَّدَقَةُ تُطَهِّرُهم عَنْ نَجاسَةِ الذَّنْبِ والمَعْصِيَةِ، والرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يُزَكِّيهِمْ ويُعَظِّمُ شَأْنَهم ويُثْنِي عَلَيْهِمْ عِنْدَ إخْراجِها إلى الفُقَراءِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ﴿إنَّ صَلاتَكَ﴾ بِغَيْرِ واوٍ وفَتْحِ التّاءِ عَلى التَّوْحِيدِ، والمُرادُ مِنهُ الجِنْسُ، وكَذَلِكَ في سُورَةِ هُودٍ﴿أصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧] بِغَيْرِ واوٍ وعَلى التَّوْحِيدِ، والباقُونَ (صَلَواتِكَ)، وكَذَلِكَ في هُودٍ عَلى الجَمْعِ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: والقِراءَةُ الأُولى أوْلى لِأنَّ الصَّلاةَ أكْثَرُ؛ ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿أقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ والصَّلَواتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، تَقُولُ ثَلاثُ صَلَواتٍ وخَمْسُ صَلَواتٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: هَذا غَلَطٌ لِأنَّ بِناءَ الصَّلَواتِ لَيْسَ لِلْقِلَّةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٢٧] ولَمْ يُرِدِ القَلِيلَ وقالَ: ﴿وهم في الغُرُفاتِ آمِنُونَ﴾ (سَبَأٍ: ٢٧) وقالَ: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ﴾ (الأحْزابِ: ٣٥) .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ مانِعُو الزَّكاةِ في زَمانِ أبِي بَكْرٍ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالُوا إنَّهُ تَعالى أمَرَ رَسُولَهُ بِأخْذِ الصَّدَقاتِ، ثُمَّ أمَرَهُ بِأنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ وذَكَرَ أنَّ صَلاتَهُ سَكَنٌ لَهم، فَكانَ وُجُوبُ الزَّكاةِ مَشْرُوطًا بِحُصُولِ ذَلِكَ السَّكَنِ، ومَعْلُومٌ أنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ لا يَقُومُ مَقامَهُ في حُصُولِ ذَلِكَ السَّكَنِ. فَوَجَبَ أنْ لا يَجِبَ دَفْعُ الزَّكاةِ إلى أحَدٍ غَيْرَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، واعْلَمْ أنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ سائِرَ الآياتِ دَلَّتْ عَلى أنَّ الزَّكاةَ إنَّما وجَبَتْ دَفْعًا لِحاجَةِ الفَقِيرِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ (التَّوْبَةِ: ٦٠) وكَما في قَوْلِهِ: ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ (الذّارِياتِ: ١٩) .
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لا شَكَّ أنَّ الصَّلاةَ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ الدُّعاءِ، فَإذا قُلْنا صَلّى فُلانٌ عَلى فُلانٍ، أفادَ الدُّعاءَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الأصْلِيَّةِ. إلّا أنَّهُ صارَ بِحَسَبِ العُرْفِ يُفِيدُ أنَّهُ قالَ لَهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ، فَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ: مَعْناهُ ادْعُ لَهم، قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والسُّنَّةُ لِلْإمامِ إذا أخَذَ الصَّدَقَةَ أنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ ويَقُولَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيما أعْطَيْتَ وبارَكَ لَكَ فِيما أبْقَيْتَ، وقالَ آخَرُونَ: مَعْناهُ أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى فُلانٍ، ونَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، «أنَّ آلَ أبِي أوْفى لَمّا أتَوْهُ بِالصَّدَقَةِ قالَ: ”اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى آلِ أبِي أوْفى» “ ونَقَلَ القاضِي في ”تَفْسِيرِهِ“ عَنِ الكَعْبِيِّ في ”تَفْسِيرِهِ“ أنَّهُ قالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ وهو مُسَجًّى: عَلَيْكَ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومِنَ النّاسِ مَن أنْكَرَ ذَلِكَ، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ لا تَنْبَغِي الصَّلاةُ مِن أحَدٍ عَلى أحَدٍ إلّا في حَقِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - .
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أنَّ أصْحابَنا يَمْنَعُونَ مِن ذِكْرِ صَلَواتِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلّا في حَقِّ الرَّسُولِ، والشِّيعَةُ يَذْكُرُونَهُ في عَلِيٍّ وأوْلادِهِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأنَّ نَصَّ القُرْآنِ دَلَّ عَلى أنَّ هَذا الذِّكْرَ جائِزٌ في حَقِّ مَن يُؤَدِّي الزَّكاةَ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ ذِكْرُهُ في حَقِّ عَلِيٍّ والحَسَنِ والحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ؟ ورَأيْتُ بَعْضَهم قالَ: ألَيْسَ أنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ: سَلامُ عَلَيْكم، يُقالُ لَهُ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ ؟ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ ذِكْرَ هَذا اللَّفْظِ جائِزٌ في حَقِّ جُمْهُورِ المُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ ذِكْرُهُ في حَقِّ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ؟ قالَ القاضِي: إنَّهُ جائِزٌ في حَقِّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهم «قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنا السَّلامَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ (p-١٤٤)الصَّلاةُ عَلَيْكَ ؟ فَقالَ عَلى وجْهِ التَّعْلِيمِ: ”قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلى إبْراهِيمَ وعَلى آلِ إبْراهِيمَ“» ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ في آلِ مُحَمَّدٍ نَبِيٌّ، فَيَتَناوَلُ عَلِيًّا ذَلِكَ، كَما يَجُوزُ مِثْلُهُ في آلِ إبْراهِيمَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: كُنْتُ قَدْ ذَكَرْتُ لِطائِفَ في قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: سَلامٌ عَلَيْكم، وهي غَيْرُ لائِقَةٍ بِهَذا المَوْضِعِ إلّا أنِّي رَأيْتُ أنْ أكْتُبَها هَهُنا لِئَلّا تَضِيعَ، فَقُلْتُ: إذا قالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ سَلامٌ عَلَيْكم. فَقَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكم مُبْتَدَأٌ وهو نَكِرَةٌ، وزَعَمُوا أنَّ جَعْلَ النَّكِرَةِ مُبْتَدَأٌ لا يَجُوزُ، قالُوا: لِأنَّ الإخْبارَ إنَّما يُفِيدُ إذا أخْبَرَ عَلى المَعْلُومِ بِأمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، إلّا أنَّهم قالُوا: النَّكِرَةُ إذا كانَتْ مَوْصُوفَةً حَسُنَ جَعْلُها مُبْتَدَأً كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ﴾ (البَقَرَةِ: ٢٢١) .
إذا عَرَفْتَ هَذا فَهَهُنا وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلى الكَمالِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ﴾ (البَقَرَةِ: ٩٦) والمَعْنى: ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ دائِمَةٍ كامِلَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَقَوْلُهُ: (سَلامٌ) لَفْظَةٌ مُنَكَّرَةٌ، فَكانَ المُرادُ مِنهُ سَلامٌ كامِلٌ تامٌّ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَقَدْ صارَتْ هَذِهِ النَّكِرَةُ مَوْصُوفَةً، فَصَحَّ جَعْلُها مُبْتَدَأً، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الخَبَرُ وهو قَوْلُهُ: (عَلَيْكم) والتَّقْدِيرُ: سَلامٌ كامِلٌ تامٌّ عَلَيْكم.
والثّانِي: أنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: (عَلَيْكم) صِفَةً لِقَوْلِهِ: (سَلامٌ) فَيَكُونُ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: ”سَلامٌ عَلَيْكُمْ“ مُبْتَدَأً ويُضْمَرُ لَهُ خَبَرٌ، والتَّقْدِيرُ: سَلامٌ عَلَيْكم واقِعٌ كائِنٌ حاصِلٌ، ورُبَّما كانَ حَذْفُ الخَبَرِ أدَلَّ عَلى التَّهْوِيلِ والتَّفْخِيمِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ عِنْدَ الجَوابِ يُقْلَبُ هَذا التَّرْتِيبُ فَيُقالُ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، والسَّبَبُ فِيهِ ما قالَهُ سِيبَوَيْهِ: أنَّهم يُقَدِّمُونَ الأهَمَّ والَّذِي هم بِشَأْنِهِ أعَنى، فَلَمّا قالَ وعَلَيْكُمُ السَّلامُ دَلَّ عَلى أنَّ اهْتِمامَ هَذا المُجِيبِ بِشَأْنِ ذَلِكَ القائِلِ شَدِيدٌ كامِلٌ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: (وعَلَيْكُمُ السَّلامُ) يُفِيدُ الحَصْرَ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ إنْ كُنْتَ قَدْ أوْصَلْتَ السَّلامَ إلَيَّ فَأنا أزِيدُ عَلَيْهِ وأجْعَلُ السَّلامَ مُخْتَصًّا بِكَ ومَحْصُورًا فِيكَ امْتِثالًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ (النِّساءِ: ٨٦) ومِن لَطائِفِ قَوْلِهِ: (سَلامٌ عَلَيْكم) أنَّها أكْمَلُ مِن قَوْلِهِ: (السَّلامُ عَلَيْكَ”وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ:“سَلامٌ عَلَيْكَ) مَعْناهُ: سَلامٌ كامِلٌ تامٌّ شَرِيفٌ رَفِيعٌ عَلَيْكَ. وأمّا قَوْلُهُ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فالسَّلامُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلّى بِالألِفِ واللّامِ، وأنَّهُ لا يُفِيدُ إلّا أصْلَ الماهِيَّةِ، واللَّفْظُ الدّالُّ عَلى أصْلِ الماهِيَّةِ لا إشْعارَ فِيهِ بِالأحْوالِ العارِضَةِ لِلْماهِيَّةِ وبِكِمالاتِ الماهِيَّةِ، فَكانَ قَوْلُهُ: (سَلامٌ عَلَيْكَ ) أكْمَلَ مِن قَوْلِهِ: (السَّلامُ عَلَيْكَ) ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا المَعْنى أنَّهُ أيْنَما جاءَ لَفْظُ (السَّلامِ) مِنَ اللَّهِ تَعالى ورَدَ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ (الأنْعامِ: ٥٤) وقَوْلِهِ: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ (النَّمْلِ: ٥٩) وفي القُرْآنِ مِن هَذا الجِنْسِ كَثِيرٌ. أمّا لَفْظُ (السَّلامِ) بِالألِفِ واللّامِ، فَإنَّما جاءَ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -، كَقَوْلِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِن رَبِّكَ والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ (طه: ٤٧) وأمّا في سُورَةِ مَرْيَمَ فَلَمّا ذَكَرَ اللَّهُ يَحْيى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ﴾ (مَرْيَمَ: ١٥) وهَذا السَّلامُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وفي قِصَّةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ﴾ (مَرْيَمَ: ٣٣) وهَذا كَلامُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ قَوْلَهُ: (سَلامٌ عَلَيْكَ ) أكْمَلُ مِن قَوْلِهِ: (السَّلامُ (p-١٤٥)عَلَيْكَ ) فَلِهَذا السَّبَبِ اخْتارَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قِراءَةِ التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلَيْكَ أيُّها النَّبِيُّ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، ومِن لَطائِفِ السَّلامِ أنَّهُ لا شَكَّ أنَّ هَذا العالَمَ مَعْدِنُ الشُّرُورِ والآفاتِ والمِحَنِ والمُخالَفاتِ، واخْتَلَفَ العُلَماءُ الباحِثُونَ عَنْ أسْرارِ الأخْلاقِ، أنَّ الأصْلَ في جِبِلَّةِ الحَيَوانِ الخَيْرُ أوِ الشَّرُّ ؟ فَمِنهم مَن قالَ: الأصْلُ فِيها الشَّرُّ، وهَذا كالإجْماعِ المُنْعَقِدِ بَيْنَ جَمِيعِ أفْرادِ الإنْسانِ، بَلْ نَزِيدُ ونَقُولُ: إنَّهُ كالإجْماعِ المُنْعَقِدِ بَيْنَ جَمِيعِ الحَيَوانِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ كُلَّ إنْسانٍ يَرى إنْسانًا يَعْدُو إلَيْهِ مَعَ أنَّهُ لا يَعْرِفُهُ، فَإنَّ طَبْعَهُ يَحْمِلُهُ عَلى الِاحْتِرازِ مِنهُ والتَّأهُّبِ لِدَفْعِهِ، ولَوْلا أنَّ طَبْعَهُ يَشْهَدُ بِأنَّ الأصْلَ في الإنْسانِ الشَّرُّ، وإلّا لَما أوْجَبَتْ فِطْرَةُ العَقْلِ التَّأهُّبَ لِدَفْعِ شَرِّ ذَلِكَ السّاعِي إلَيْهِ، بَلْ قالُوا: هَذا المَعْنى حاصِلٌ في كُلِّ الحَيَواناتِ، فَإنَّ كُلَّ حَيَوانٍ عَدا إلَيْهِ حَيَوانٌ آخَرُ فَرَّ ذَلِكَ الحَيَوانُ الأوَّلُ واحْتَرَزَ مِنهُ، فَلَوْ تَقَرَّرَ في طَبْعِهِ أنَّ الأصْلَ في هَذا الواصِلِ هو الخَيْرَ لَوَجَبَ أنْ يَقِفَ؛ لِأنَّ أصْلَ الطَّبِيعَةِ يَحْمِلُ عَلى الرَّغْبَةِ في وِجْدانِ الخَيْرِ، ولَوْ كانَ الأصْلُ في طَبْعِ الحَيَوانِ أنْ يَكُونَ خَيْرُهُ وشَرُّهُ عَلى التَّعادُلِ والتَّساوِي، وجَبَ أنْ يَكُونَ الفِرارُ والوُقُوفُ مُتَعادِلِينَ، فَلَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ حَيَوانٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِ حَيَوانٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الأوَّلِ، فَإنَّ ذَلِكَ الأوَّلَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ فِطْرَتِهِ الأصْلِيَّةِ، عَلِمْنا أنَّ الأصْلَ في الحَيَوانِ هو الشَّرُّ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: دَفْعُ الشَّرِّ أهَمُّ مِن جَلْبِ الخَيْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ دَفْعَ الشَّرِّ يَقْتَضِي إبْقاءَ الأصْلِ [ لِأنَّ إبْقاءَ الأصْلِ ] أهَمُّ مِن تَحْصِيلِ الزّائِدِ.
والثّانِي: أنَّ إيصالَ الخَيْرِ إلى كُلِّ أحَدٍ لَيْسَ في الوُسْعِ، أمّا كَفُّ الشَّرِّ عَنْ كُلِّ أحَدٍ داخِلٌ في الوُسْعِ، لِأنَّ الأوَّلَ فِعْلٌ والثّانِيَ تَرْكٌ، وفِعْلُ ما لا نِهايَةَ لَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، أمّا تَرْكُ ما لا نِهايَةَ لَهُ مُمْكِنٌ.
والثّالِثُ: أنَّهُ إذا لَمْ يَحْصُلْ دَفْعُ الشَّرِّ فَقَدْ حَصَلَ الشَّرُّ، وذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الألَمِ والحُزْنِ، وهو في غايَةِ المَشَقَّةِ، وأمّا إذا لَمْ يَحْصُلْ أيْضًا إيصالُ الخَيْرِ بَقِيَ الإنْسانُ لا في الخَيْرِ ولا في الشَّرِّ، بَلْ عَلى السَّلامَةِ الأصْلِيَّةِ، وتَحَمُّلُ هَذِهِ الحالَةِ سَهْلٌ. فَثَبَتَ أنَّ دَفْعَ الشَّرِّ أهَمُّ مِن إيصالِ الخَيْرِ، وثَبَتَ أنَّ الدُّنْيا دارُ الشُّرُورِ والآفاتِ والمِحَنِ والبَلِيّاتِ، وثَبَتَ أنَّ الحَيَوانَ في أصْلِ الخِلْقَةِ ومُوجَبِ الفِطْرَةِ مَنشَأٌ لِلشُّرُورِ، وإذا وصَلَ إنْسانٌ إلى إنْسانٍ كانَ أهَمُّ المُهِمّاتِ أنْ يُعَرِّفَهُ أنَّهُ مِنهُ في السَّلامَةِ والأمْنِ والأمانِ، فَلِهَذا السَّبَبِ وقَعَ الِاصْطِلاحُ عَلى أنْ يَقَعَ ابْتِداءُ الكَلامِ بِذِكْرِ السَّلامِ، وهو أنْ يَقُولَ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ومِن لَطائِفِ قَوْلِنا (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أنَّ ظاهِرَهُ يَقْتَضِي إيقاعَ السَّلامِ عَلى جَماعَةٍ، والأمْرُ كَذَلِكَ بِحَسَبِ العَقْلِ، وبِحَسَبِ الشَّرْعِ. أمّا بِحَسَبِ الشَّرْعِ فَلِأنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّ الإنْسانَ لا يَخْلُو عَنْ جَمْعٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ ويُراقِبُونَ أمْرَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ عَلَيْكم لَحافِظِينَ﴾ ﴿كِرامًا كاتِبِينَ﴾ (الِانْفِطارِ: ١١) والعَقْلُ أيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ أنْواعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُها أرْواحٌ خَيِّرَةٌ عاقِلَةٌ، وبَعْضُها كَدِرَةٌ خَبِيثَةٌ، وبَعْضُها شَهْوانِيَّةٌ، وبَعْضُها غَضَبِيَّةٌ، ولِكُلِّ طائِفَةٍ مِن طَوائِفِ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ رُوحٌ عُلْوِيٌّ قَوِيٌّ يَكُونُ كالأبِ لِتِلْكَ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ، وتَكُونُ هَذِهِ الأرْواحُ بِالنِّسْبَةِ إلى ذَلِكَ الرُّوحِ العُلْوِيِّ كالأبْناءِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأبِ، وذَلِكَ الرُّوحُ العُلْوِيُّ هو الَّذِي يَخُصُّها بِالإلْهاماتِ، تارَةً في اليَقَظَةِ، وتارَةً في النَّوْمِ. وأيْضًا الأرْواحُ المُفارِقَةُ عَنْ أبْدانِها المُشاكِلَةُ لِهَذِهِ الأرْواحِ في الصِّفاتِ والطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ. يَحْصُلُ لَها نَوْعُ تَعَلُّقٍ بِهَذا البَدَنِ بِسَبَبِ المُشاكَلَةِ والمُجانَسَةِ، وتَصِيرُ كالمُعاوِنَةِ لِهَذِهِ الرُّوحِ عَلى أعْمالِها إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وإذا عَرَفْتَ هَذا السِّرَّ فالإنْسانُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَصْحُوبًا بِتِلْكَ الأرْواحِ المُجانِسَةِ لَهُ، فَقَوْلُهُ: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إشارَةٌ إلى تَسْلِيمِ هَذا الشَّخْصِ المَخْصُوصِ عَلى جَمِيعِ الأرْواحِ المُلازِمَةِ المُصاحِبَةِ إيّاهُ بِسَبَبِ المُصاحَبَةِ الرُّوحانِيَّةِ. ومِن لَطائِفِ هَذا البابِ (p-١٤٦)أنَّ الأرْواحَ الإنْسانِيَّةَ إذا اتَّصَفَتْ بِالمَعارِفِ الحَقِيقِيَّةِ والأخْلاقِ الفاضِلَةِ، وقَوِيَتْ وتَجَرَّدَتْ، ثُمَّ قَوِيَ تَعَلُّقُ بَعْضِها بِبَعْضٍ انْعَكَسَ أنْوارُها بَعْضُها عَلى بَعْضٍ عَلى مِثالِ المِرْآةِ المُشْرِقَةِ المُتَقابِلَةِ. فَلِهَذا السَّبَبِ فَإنْ أرادَ أنْ يَقْرَأ وظِيفَةً عَلى أُسْتاذِهِ فالأدَبُ أنْ يَبْدَأ بِحَمْدِ اللَّهِ والثَّناءِ عَلى المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ، ثُمَّ يَدْعُو لِأُسْتاذِهِ ثُمَّ يَشْرَعُ في القِراءَةِ، والمَقْصُودُ مِنها أنْ يُقَوِّيَ التَّعَلُّقَ بَيْنَ رُوحِهِ وبَيْنَ هَذِهِ الأرْواحِ المُقَدَّسَةِ الطّاهِرَةِ، حَتّى أنَّ بِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ رُبَّما ظَهَرَ شَيْءٌ مِن أنْوارِها وآثارِها في رُوحِ هَذا الطّالِبِ، فَيَسْتَقِرُّ في عَقْلِهِ مِنَ الأنْوارِ الفائِضَةِ مِنها، ويُقَوِّي رُوحَهُ بِمَدَدِ ذَلِكَ الفَيْضِ عَلى إدْراكِ المَعارِفِ والعُلُومِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَإذا قالَ لِغَيْرِهِ: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) حَدَثَ بَيْنَهُما تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ، وحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ تَطابُقِ الأرْواحَ وتَعاكُسِ الأنْوارِ، ولْنَكْتَفِ بِهَذا القَدْرِ في هَذا البابِ، فَإنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّ هَذا الفَصْلَ أجْنَبِيٌّ عَنْ هَذا الكَلامِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: السَّكَنُ في اللُّغَةِ: ما سَكَنْتَ إلَيْهِ، والمَعْنى: أنَّ صَلاتَكَ عَلَيْهِمْ تُوجِبُ سُكُونَ نُفُوسِهِمْ إلَيْكَ، ولِلْمُفَسِّرِينَ عِباراتٌ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: دُعاؤُكَ رَحْمَةٌ لَهم. وقالَ قَتادَةُ: وقارٌ لَهم. وقالَ الكَلْبِيُّ: طُمَأْنِينَةٌ لَهم، وقالَ الفَرّاءُ: إذا اسْتَغْفَرْتَ لَهم سَكَنَتْ نُفُوسُهم إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَبِلَ تَوْبَتَهم. وأقُولُ: إنَّ رُوحَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَتْ رُوحًا قَوِيَّةً مُشْرِقَةً صافِيَةً باهِرَةً، فَإذا دَعا مُحَمَّدٌ لَهم وذَكَرَهم بِالخَيْرِ فاضَتْ آثارٌ مِن قُوَّتِهِ الرُّوحانِيَّةِ عَلى أرْواحِهِمْ، فَأشْرَقَتْ بِهَذا السَّبَبِ أرْواحُهم وصَفَتْ أسْرارَهم، وانْتَقَلُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إلى النُّورِ، ومِنَ الجُسْمانِيَّةِ إلى الرُّوحانِيَّةِ، وتَقْرِيرُهُ ما تَقَدَّمَ في المَسْألَةِ الخامِسَةِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لِقَوْلِهِمْ: ﴿عَلِيمٌ﴾ بِنِيّاتِهِمْ.
{"ayahs_start":102,"ayahs":["وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُوا۟ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُوا۟ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَءَاخَرَ سَیِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ","خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"],"ayah":"خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}