الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿والسارِقُ والسارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالا مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: ﴿والسارِقُ والسارِقَةُ﴾ ؛ بِالرَفْعِ؛ وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ ؛ وإبْراهِيمُ بْنُ أبِي عَبْلَةَ: "والسارِقَ والسارِقَةَ"؛ بِالنَصْبِ؛ قالَ سِيبَوَيْهِ - رَحِمَهُ اللهُ -: اَلْوَجْهُ في (p-١٦١)كَلامِ العَرَبِ النَصْبُ؛ كَما تَقُولُ: زَيْدًا اضْرِبْهُ؛ ولَكِنْ أبَتِ العامَّةُ إلّا الرَفْعَ - يَعْنِي عامَّةَ القُرّاءِ وجُلَّهم - قالَ سِيبَوَيْهِ: اَلرَّفْعُ في هَذا؛ وفي قَوْلِهِ: ﴿الزانِيَةُ والزانِي﴾ [النور: ٢] ؛ وفي قَوْلِ اللهِ: ﴿واللَذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٦] ؛ هو عَلى مَعْنى: "فِيما فَرَضَ عَلَيْكُمْ". والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "فاقْطَعُوا"؛﴾ رَدَّتِ المُسْتَقِلَّ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: "فِيما فَرَضَ عَلَيْكُمُ السارِقُ"؛ جُمْلَةٌ حَقُّها وظاهِرُها الِاسْتِقْلالُ؛ لَكِنَّ المَعْنى المَقْصُودَ لَيْسَ إلّا في قَوْلِهِ: "فاقْطَعُوا"؛ فَهَذِهِ الفاءُ هي الَّتِي رَبَطَتِ الكَلامَ الثانِيَ بِالأوَّلِ؛ وأظْهَرَتِ الأوَّلَ هُنا غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ؛ وقالَ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ - وهو قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ البَصْرِيِّينَ -: أخْتارُ أنْ يَكُونَ "والسارِقُ والسارِقَةُ"؛ رَفْعًا بِالِابْتِداءِ؛ لِأنَّ القَصْدَ لَيْسَ إلى واحِدٍ بِعَيْنِهِ؛ فَلَيْسَ هو مِثْلَ قَوْلِكَ: "زَيْدًا فاضْرِبْهُ"؛ إنَّما هو كَقَوْلِكَ: "مَن سَرَقَ فاقْطَعْ يَدَهُ"؛ قالَ الزَجّاجُ: هو المُخْتارُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: أنْزَلَ سِيبَوَيْهِ النَوْعَ السارِقَ مَنزِلَةَ الشَخْصِ المُعَيَّنِ؛ وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ؛ وإبْراهِيمُ النَخَعِيُّ: "والسارِقُونَ والسارِقاتُ فاقْطَعُوا أيْمانَهُمْ"؛ وقالَ الخَفّافُ: وُجِدَتْ في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "والسُرَّقُ والسُرَّقَةُ"؛ هَكَذا ضُبِطا بِضَمِّ السِينِ المُشَدَّدَةِ؛ وفَتْحِ الراءِ المُشَدَّدَةِ فِيهِما؛ هَكَذا ضَبَطَهُما أبُو عَمْرٍو. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُشْبِهُ أنَّ يَكُونَ هَذا تَصْحِيفًا مِنَ الضابِطِ؛ لِأنَّ قِراءَةَ الجَماعَةِ إذا كُتِبَ "اَلسّارِقُ"؛ بِغَيْرِ ألِفٍ وافَقَتْ في الخَطِّ هَذِهِ. وأخْذُ مِلْكِ الغَيْرِ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ قَرائِنِهِ؛ فَمِنهُ الغَصْبُ؛ وقَرِينَتُهُ عِلْمُ المَغْصُوبِ مِنهُ وقْتَ الغَصْبِ؛ أو عِلْمُ مُشاهِدٍ غَيْرِهِ؛ ومِنهُ الخِيانَةُ؛ وقَرِينَتُها أنَّ الخائِنَ قَدْ طَرَقَ إلى المالِ بِتَصَرُّفٍ ما؛ ومِنهُ السَرِقَةُ؛ وقَرائِنُها أنْ يُؤْخَذَ مالٌ لَمْ يُطْرَقْ إلَيْهِ عَلى غَيْرِ عِلْمٍ مِنَ المَسْرُوقِ مالُهُ؛ وفي خَفاءٍ مِن جَمِيعِ الناسِ؛ فِيما يَرى السارِقُ؛ وهَذا هو الَّذِي (p-١٦٢)يَجِبُ عَلَيْهِ القَطْعُ؛ وحْدَهُ؛ مِن بَيْنِ أخَذَةِ الأمْوالِ؛ لِخُبْثِ هَذا المَنزَعِ؛ وقِلَّةِ العُذْرِ فِيهِ؛ وحاطَ اللهُ تَعالى البَشَرَ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ بِأنَّ القَطْعَ لا يَكُونُ إلّا بِقَرائِنَ: مِنها الإخْراجُ مِن حِرْزٍ؛ ومِنها القَدْرُ المَسْرُوقُ؛ عَلى اخْتِلافِ أهْلِ العِلْمِ فِيهِ؛ ومِنها أنْ يَعْلَمَ السارِقُ بِتَحْرِيمِ السَرِقَةِ؛ وأنْ تَكُونَ السَرِقَةُ فِيما يَحِلُّ مِلْكُهُ؛ فَلَفْظُ "والسارِقُ"؛ في الآيَةِ عُمُومٌ مَعْناهُ الخُصُوصُ. فَأمّا القَدْرُ المَسْرُوقُ فَقالَتْ طائِفَةٌ: لا قَطْعَ إلّا في رُبْعِ دِينارٍ فَصاعِدًا؛ قالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ ؛ وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ ؛ وعَلِيٌّ؛ وعائِشَةُ ؛ وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ ؛ والأوزاعِيُّ ؛ واللَيْثُ ؛ والشافِعِيُّ ؛ وأبُو ثَوْرٍ - رَضِيَ اللهُ عنهم - وفِيهِ حَدِيثٌ عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ قالَ: « "اَلْقَطْعُ في رُبْعِ دِينارٍ فَصاعِدًا"؛» وقالَ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ -: تُقْطَعُ اليَدُ في رُبْعِ دِينارٍ؛ أو في ثَلاثَةِ دَراهِمَ؛ فَإنْ سَرَقَ دِرْهَمَيْنِ - وهي رُبْعُ دِينارٍ - لِانْحِطاطِ الصَرْفِ؛ لَمْ يُقْطَعْ؛ وكَذَلِكَ العُرُوضُ لا يُقْطَعُ فِيها؛ إلّا أنْ تَبْلُغَ ثَلاثَةَ دَراهِمَ؛ قَلَّ الصَرْفُ أو كَثُرَ؛ وقالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ ؛ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إنْ كانَتْ قِيمَةُ السِلْعَةِ رُبْعَ دِينارٍ؛ أو ثَلاثَةَ دَراهِمَ قُطِعَ فِيهِما؛ قَلَّ الصَرْفُ أو كَثُرَ؛ وفي القَطْعِ قَوْلٌ رابِعٌ؛ وهو أنْ لا قَطْعَ إلّا في خَمْسَةِ دَراهِمَ؛ أو قِيمَتِها؛ رُوِيَ هَذا عن عُمَرَ ؛ وبِهِ قالَ سُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ ؛ وابْنُ أبِي لَيْلى ؛ وابْنُ شُبْرُمَةَ ؛ ومِنهُ قَوْلُ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: "قَطَعَ أبُو بَكْرٍ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَراهِمَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولا حُجَّةَ في هَذا عَلى أنَّ الخَمْسَةَ حَدٌّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ؛ وعَطاءٌ: لا قَطْعَ في أقَلَّ مِن عَشَرَةِ دَراهِمَ؛ وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ ؛ وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: لا تُقْطَعُ اليَدُ في أقَلَّ مِن أرْبَعَةِ دَراهِمَ؛ وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: تُقْطَعُ اليَدُ في دِرْهَمٍ فَما فَوْقَهُ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُبَيْرِ قَطَعَ في دِرْهَمٍ؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: تُقْطَعُ اليَدُ في كُلِّ ما لَهُ قِيمَةٌ قَلَّ أو (p-١٦٣)كَثُرَ؛ عَلى ظاهِرِ الآيَةِ؛ وقَدْ حَكى الطَبَرِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -؛ وهو قَوْلُ أهْلِ الظاهِرِ؛ وقَوْلُ الخَوارِجِ؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أيْضًا أنَّهُ قالَ: تَذاكَرْنا القَطْعَ في كَمْ يَكُونُ؛ عَلى عَهْدِ زِيادٍ ؛ فاتَّفَقَ رَأْيُنا عَلى دِرْهَمَيْنِ؛ وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ التَوْبَةَ لا تُسْقِطُ عَنِ السارِقِ القَطْعَ؛ ورُوِيَ عَنِ الشافِعِيِّ أنَّهُ إذا تابَ قَبْلَ أنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ؛ وتَمْتَدَّ إلَيْهِ يَدُ الأحْكامِ؛ فَإنَّ القَطْعَ يَسْقُطُ عنهُ قِياسًا عَلى المُحارِبِ؛ وجُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّ القَطْعَ لا يَكُونُ إلّا عَلى مَن أخْرَجَ مِن حِرْزٍ؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: إذا جَمَعَ الثِيابَ في البَيْتِ قُطِعَ؛ وإنْ لَمْ يُخْرِجْها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ ؛ جَمَعَ الأيْدِيَ مِن حَيْثُ كانَ لِكُلِّ سارِقٍ يَمِينٌ واحِدَةٌ؛ وهي المُعَرَّضَةُ لِلْقَطْعِ في السَرِقَةِ أوَّلًا؛ فَجاءَتْ لِلسُّرّاقِ أيْدٍ؛ ولِلسّارِقاتِ أيْدٍ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "اِقْطَعُوا أيْمانَ النَوْعَيْنِ"؛ فالتَثْنِيَةُ في الضَمِيرِ إنَّما هي لِلنَّوْعَيْنِ؛ قالَ الزَجّاجُ عن بَعْضِ النَحْوِيِّينَ: إنَّما جُعِلَتْ تَثْنِيَةُ ما في الإنْسانِ مِنهُ واحِدٌ جَمْعًا؛ كَقَوْلِهِ: ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤] ؛ لِأنَّ أكْثَرَ أعْضائِهِ فِيهِ مِنهُ اثْنانِ؛ فَحُمِلَ ما كانَ فِيهِ الواحِدُ عَلى مِثالِ ذَلِكَ؛ قالَ أبُو إسْحاقَ: وحَقِيقَةُ هَذا البابِ أنَّ ما كانَ في الشَيْءِ مِنهُ واحِدٌ لَمْ يُثَنَّ؛ ولُفِظَ بِهِ عَلى لَفْظِ الجَمْعِ؛ لِأنَّ الإضافَةَ تُبَيِّنُهُ؛ فَإذا قُلْتَ: "أشْبَعْتُ بُطُونَهُما؛ عُلِمَ أنَّ لِلِاثْنَيْنِ بَطْنَيْنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: كَأنَّهم كَرِهُوا اجْتِماعَ تَثْنِيَتَيْنِ في كَلِمَةٍ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَرْتِيبِ القَطْعِ؛ فَمَذْهَبُ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللهُ -؛ وجُمْهُورِ الناسِ أنْ تُقْطَعَ اليُمْنى مِن يَدِ السارِقِ؛ ثُمَّ - إنْ عادَ - قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرى؛ ثُمَّ - إنْ عادَ - قُطِعَتْ يَدُهُ اليُسْرى؛ ثُمَّ - إنْ عادَ - قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُمْنى؛ ثُمَّ إنْ سَرَقَ عُزِّرَ؛ وحُبِسَ؛ وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ والزُهْرِيُّ ؛ وحَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ ؛ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: تُقْطَعُ يَدُهُ اليُمْنى؛ ثُمَّ - إنْ سَرَقَ - قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرى؛ ثُمَّ - إنْ سَرَقَ - عُزِّرَ وحُبِسَ؛ ورُوِيَ عن عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ: لا تُقْطَعُ في السَرِقَةِ إلّا اليَدُ اليُمْنى فَقَطْ؛ ثُمَّ - إنْ سَرَقَ - عُزِّرَ وحُبِسَ. (p-١٦٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا تَمَسُّكٌ بِظاهِرِ الآيَةِ؛ والقَوْلٌ شاذٌّ؛ فَيَلْزَمُ - عَلى ظاهِرِ الآيَةِ - أنْ تُقْطَعَ اليَدُ ثُمَّ اليَدُ؛ ومَذْهَبُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ أنَّ القَطْعَ في اليَدِ مِنَ الرُسْغِ؛ وفي الرِجْلِ مِنَ المَفْصِلِ؛ ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - أنَّ القَطْعَ في اليَدِ مِنَ الأصابِعِ؛ وفي الرِجْلِ مِن نِصْفِ القَدَمِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَزاءً بِما كَسَبا﴾ ؛ نَصَبَهُ عَلى المَصْدَرِ؛ وقالَ الزَجّاجُ: مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ؛ وكَذَلِكَ: ﴿نَكالا مِنَ اللهِ﴾ ؛ والنَكالُ: اَلْعَذابُ؛ والنَكْلُ: اَلْقَيْدُ؛ وسائِرُ مَعْنى الآيَةِ بَيِّنٌ؛ وفِيهِ بَعْضُ الإعْرابِ حِكايَةً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب