الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة ٣٨]. السارق هذه اسم مشتق من السرقة، والاسم المشتق المحلى بـ(أل) يقولون: إنه للعموم، ولهذا نقول: (أل) من الأسماء الموصولة، وصلتها الصفة الصريحة ﴿السَّارِقُ﴾. فما معنى السارق؟ السارق قال العلماء في الاصطلاح: هو الذي يأخذ المال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائب مالكه، هذا السارق الذي يأخذ المال على وجه الاختفاء من أيش؟ من مالكه أو نائب مالكه. فقولنا: (الذي يأخذ المال) خرج به من أخذ ما ليس بمال، كما لو أخذ خمرًا فإن هذا ليس بسارق، ليس بسارق اصطلاحا؛ لأن الخمر أيش؟ ليس بمال. وخرج به من أخذ حرًّا، يعني سرق صبيًّا من بيت أهله، فهذا ليس بسارق اصطلاحًا، لماذا؟ لأنه ليس بمال حر، ويدخل فيه لو سرق عبدًا ولو كبيرًا، فإنه يعتبر سارقًا؛ لأن العبد مال مملوك لسيده. وقولنا: (من مالكه) احترازًا مما لو أخذه من غير مالكه، كما لو كان من غاصب، يعني أن رجلًا غصب مالًا فسرقه سارق، أي سرق هذا المال المغصوب، فإنه لا يعد سارقًا اصطلاحًا، وإن كان يعد سارقًا لغةً لكنه اصطلاحًا ليس بسارق؛ لأنه -أي المال- أخذ من شخص لا حرمة له؛ إذ إنه وضع يده عليه بغير حق. وقولنا: (أو نائبه) يعني نائب المالك، مثل الوكيل والوصي والناظر وما أشبه ذلك، المهم أنه إذا أخذ المال من نائب المالك فهو سارق، وعلى هذا فالذي يسرق من الدكاكين التي فيها أموال للغير يُحَرِّج عليها صاحب الدكان هل يعتبر سارقًا؟ المال اللي في الدكان ليس لصاحب الدكان، هو يبيع للناس؟ نقول: نعم إنه نائب عن المالك، فإذا قال السارق: أنا لم أسرق هذا المال من مالكه، قلنا: لكنك سرقته من نائب المالك. (على وجه الاختفاء) احترازًا مما لو أخذه قهرًا؛ فإنه لا يعد سارقًا، بل يعد غاصبًا، وكذلك لو أنه أخذه وهو مار وفي يد شخص ساعة يُحَرِّج عليها مثلًا ينادي عليه في مروره خطفها ومشى، هل هو سارق؟ لا؛ لأن هذا غير مختفٍ، لكنه منتهب أو مختلس. على وجه الاختفاء؛ احترازًا مما لو أخذه قهرًا فإنه لا يُعَدُّ سارقًا بل يُعَدُّ غاصبًا، وكذلك لو أنه أخذه وهو مارٌّ، وفي يد شخصٍ ساعة يحرِّج عليها مثلًا ينادي عليها، في مروره خَطَفَها ومشى، هل هو سارق؟ لا؛ لأن هذا غير مُخْتفٍ، لكنه منتهِب أو مختلِس. إنسان مثلًا وقف عند الدكَّان وكلَّم صاحب الدكَّان، قال له: عندك السلعة الفلانية؟ قال: نعم، قال: أَرِني إياها، التفت صاحب الدكَّان وأتى بها، فجاء بها، قال: لا، ما أريد هذا، أريد هذاك بطَرَف الدكَّان، فذهب صاحب الدكَّان يأتي بالسلعة وهذا سرق من المال اللي في الدكَّان؛ هل يُعتبر سارقا؟ لا، هذا مختلس؛ لأن التفريط من صاحب المال؛ كيف تذهب تأتي بالسلعة من أقصى الدكَّان وعندك رجل ما تدري عن أمانته؟! فأنت الآن الذي فرَّطت. إذن السرقة ما هي؟ أخذ المال على وجه الاختفاء من مالكٍ أو نائبِهِ، هذا اصطلاحًا. أما في اللغة: فهي أخذ المال خُفيةً من المالك أو من غيره. ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ [المائدة ٣٨] الأنثى يُقام عليها الحدُّ كما يُقام على السارق، وهنا نجد أن الله سبحانه وتعالى بدأ بالسارق قبل السارقة، وفي باب الزنى ذكر الله الزانيةَ قبل الزاني، والحكمة في ذلك أن السرقة مبناها على القوة والْجَلَد والنشاط، والرجال أخصُّ من النساء في هذا فبدأ بهم، ولذلك نجد السُّرَّاقَ من الرجال أكثر منهم من النساء، أليس كذلك؟ الزانية بالعكس؛ الزنى سِلَع البغايا -والعياذ بالله- فبدأ بالزانية لأنه في النساء أكثر كما هو مُشاهَد. ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ ﴿اقْطَعُوا﴾ الخطاب لمن؟ الخطاب للأُمَّة جميعًا، لكن المقصود بالذات والعين هو الإمام أو نائبه، لكن المسؤولية على الجميع؛ بمعنى: لو تهاون الإمام مثلًا وجب على الأُمَّة أن تطالب بقطع يد السارق كما سنذكره إن شاء الله في الفوائد. وقوله: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ الفاء هنا ما موقعها؟ يعني كيف جاءت الفاء؟ والجواب على هذا أن نقول: لما كان الاسم الموصول موغِلًا في الإبهام صار كاسم الشرط، واسم الشرط إذا كان جوابه طلبًا -يعني: أمرًا أو نهيًا- وجب اقترانه بالفاء، وهذا واضح، ومثلها: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ أيش؟ ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ﴾ [النور ٢]. ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (أَيْدٍ) هنا جُمِعت، مع أن المقصود أن يُقطع من كلٍّ منهما يدٌ واحدةٌ، فكيف جُمِعت؟ هل المعنى أن نقطع أربع الأيدي أم ماذا؟ نقول: لا، لا نقطع الأربع الأيدي، إنما يُقطع من السارق والسارقة يدانِ اثنتانِ، لكن الأفصح في اللغة العربية أنه إذا أُضيفَ المثنى إلى ما يفيد التعدد فإنه يُجمع كراهةَ أن تجتمع تثنيتان فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأن المضاف والمضاف إليه كأنهما كلمة واحدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾ اثنتانِ ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم ٤]، مع أن الواحدة لها قلبٌ واحدٌ؛ ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب ٤]، لكن الأفصح في اللغة العربية هو أن يكون المضاف مجموعًا إذا أُضيفَ إلى مثنى كراهة أيش؟ اجتماع تثنيتينِ فيما هو كالكلمة الواحدة، ويجوز التثنية في غير القرآن؛ مثلًا: اقطعوا يَدَيْهما، يجوز، ويجوز الإفراد: اقطعوا يَدَهما، إلا إذا كان يترتب على ذلك التباس واختلاف فإنه يجب أن يكون الجزء الأول من المضاف والمضاف إليه على حسب الواقع؛ فمثلًا إذا قلت: اشتريت من الرجلين عبدهما، هنا إذا كان عبدًا واحدًا يجب أن تقول أيش؟ عبدهما، ويدل ذلك على أن العبد أيش؟ مشترك بينهما، إذا كنتَ اشتريتَ من كلِّ واحدٍ عبدَه تقول: عبديهما، إذا كنتَ اشتريتَ جمعًا؛ يعني كل واحدٍ مثلًا عنده عبدان واشتريتَ الأربعة ماذا تقول؟ عبيدهما، يتعيَّن هذا لئلَّا يلتبس المعنى، أما إذا كان المعنى واضحًا فإنه إذا أُضيفَ ما يفيد التعدد إلى ما يفيد التعدد فإنه يكون أيش؟ مجموعًا. ﴿اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ وهنا (أَيْد) مطلقة من حيث الحدِّ -يعني: حدّ اليد- ومن حيث الجهة: من حيث الحدِّ: يعني هل نقطع إلى الكفِّ أو إلى المرفق أو إلى الْمَنكِب؛ لأن كل هذا يُسمَّى يدًا، اليد من الْمَنكِب إلى الأصابع، كل هذا يد، فهل نقطع من الْمَنكِب أو من المرفق أو من الكف، هذه واحدة. ثانيا: الجهة ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ أيُّ الجهتين؟ اليمين أو الشمال؟ أيضا الآية مبهمة. فنقول: المراد قطع الأيدي اليُمنى، والحدُّ هو الكفُّ، فما الذي جعلنا نعيِّن اليد باليمنى؟ قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لقد كان يقرؤها: (فاقطعوا أيمانهما) ، وهذه القراءة إن كانت ثابتة عن النبي ﷺ بلفظها فهي قرآن، وإن كانت تفسيرًا من ابن مسعود رضي الله عنه فهو صحابيٌّ جليلٌ عالِمٌ بالتفسير، والأقرب أنها قراءة؛ لأن النبي ﷺ حثَّ على أن نقرأ بقراءة ابن أمِّ عبدٍ[[أخرجه ابن ماجه (١٣٨) من حديث ابن مسعود.]]، وهو ابن مسعود. إذن تعيَّنت الآن ولَّا ما تعيَّنت؟ تعيَّنت الجهة؛ اليمين. الحدُّ هل هو الكفُّ أو المرفق أو الكتف؟ نقول: اليد إذا أُطلقت فالمراد بها الكفُّ، والدليل قول الله تبارك وتعالى في التيمم: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة ٦]، واليد هنا حدُّها أيش؟ الكفُّ، بدليل السُّنَّة الصريحة في هذا كما في حديث عمار بن ياسر[[متفق عليه؛ البخاري (٣٤٧) ومسلم (٣٦٨ / ١١٠) من حديث عمار بن ياسر.]] وغيره، ولهذا لما أراد الله سبحانه وتعالى الزيادة على الكفِّ قال في آية الوضوء: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة ٦] إذن فتعيَّن أن المراد باليد هنا اليد اليمنى، وأن حد القطع أيش؟ * طالب: الكف. * الشيخ: من مفصل الكفِّ. ثم قال: ﴿جَزَاءً﴾ هذه منصوبة على أنها مفعولٌ من أجله؛ أي: لأجل مجازاتهما على فعلهما. ﴿بِمَا كَسَبَا﴾ أي: بما كَسَبا من الجريمة والمعصية والعدوان، وهذا المعنى يؤيد أن المراد باليد أيش؟ اليمين؛ لأن الغالب أن الإنسان يأخذ بيمينه ويعطي بيمينه، والغالب أيضًا أن اليمين أقوى من أيش؟ أقوى من اليسار. ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ أي: مجازاةً لهما على ما كَسَبا من المال المبني على العدوان والظلم. ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ أيضًا ﴿نَكَالًا﴾ مفعول من أجله؛ أي: تنكيلًا لغيرهما ولهما أيضًا أن يعودا إلى مثله، فإن أيَّ إنسان مهما بلغ من الطمع في المال إذا علم أن يده سوف تُقطع فإنه سوف ينكل عن السرقة خوفًا من أن تُقطع يده. وأصل النِّكْل -بالكسر- أصله القيد الذي تُقيَّد به يد الدابة فيمنعها عن الهرب؛ كذلك النَّكال يمنع السُّرَّاق من أن يسرقوا. فذكر الله تعالى حكمتين: الحكمة الأولى: مجازاة هؤلاء على فعلهم -أي: السُّرَّاق- لقوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾. والثاني: منع اعتياد السرقة منهم ومن غيرهم، وذلك في قوله: ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾. ثم قال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ختم الآية باسمينِ عظيمَينِ من أسمائه: أولهما: (العزيز) الدالُّ على العِزَّة والغَلَبة والقهر. والثاني: (الحكيم) الدالة على نفوذ حُكمه، وعلى أن حُكمه مقرونٌ بالحِكمة؛ لأن ﴿حَكِيمٌ﴾ مشتقة من الْحُكم والحِكمة، فهو سبحانه وتعالى له الحكم التامُّ، وله الحِكمة البالغة. يُذكَر أن أعرابيًّا جلس إلى قارئ يقرأ: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله غفورٌ رحيمٌ)، أعرابيٌّ بدويٌّ، قال: اقرأ الآية، قراءتك هذه غير صواب، فأعاد وقال: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله غفورٌ رحيمٌ)، قال: اقرأ، قرأها الثالثة فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، قال: الآن أصبتَ؛ لأنه سبحانه وتعالى عزَّ وحَكَم فقَطَع، ولو غَفَر ورَحِم ما قَطَع. فانظر إلى الذكاء من هذا الأعرابي؛ لأن ختام الآيات في الغالب يكون مطابقًا، ولا يَرِد على هذا قول الله تبارك وتعالى عن عيسى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة ١١٨] ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأنه ذكر العذاب والمغفرة، فكأنه قال أنت عزيز فيمن تعذب، وأيش؟ حكيمٌ فيمن تثيب، ولا يقع الثواب والعقاب إلا مطابقًا للعزة و الحكمة. * طالب: شيخ، لو أن سارقًا -بارك الله فيك- وجدناه (...) يعني يستعمل شماله فقط، يعتمد على شماله، فيبقى حكم واحد يا شيخ نقطع يمينه؟ * الشيخ: إي نعم، حتى لو سرق في فمه، نعم، وجد حُلِيًّا معلَّقًا فعضَّه حتى قطع حبله علشان ما يشوفون الناس يديه فإنه يُقطع. * طالب: بارك الله فيك، علامة الإعراب في ﴿بِخَارِجِينَ﴾ [المائدة ٣٧]، علامة إعراب خبر (ما)؟ * الشيخ: يعني كيف إعرابها؟ المعربون يقولون: الباء حرف جر زائد، و(خارجين) اسم مجرور بحرف الجر الزائد وعلامة جره الياء الموجودة. أو يقولون: (خارجين) خبر (ما) منصوب بالياء المقدرة في مكان الياء التي جلبها حرف الجر، عرفت؟ وأنا عندي -كما تعلمون- توسعة في مسألة النحو؛ أقول: إن شئتَ قُل: علامة جره أو علامة نصبه الياء، فنقول: اشترك في تسلط العامل؛ يعني تسلَّط عليه العاملان فعمِلا فيه، فتكون الياء علامةً للجر بالنسبة لحرف الجر، وتكون علامة النصب بالنسبة للمحلِّ. واضح؟ * طالب: (...) المرأة المخزومية التي (...)؟ * الشيخ: إي نعم، هذه المرأة -بارك الله فيك- اختلف العلماء في تخريج حديثها؛ فمنهم من قال: إن النبي ﷺ إنما قطعها لأنها تسرق لا لأنها تجحد المتاع، لكنها ذُكِرتْ بهذا الوصف لأنها اشتهرت به لا لأن الحكم مبني عليه. أعرفتم؟ «كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي ﷺ بقطع يدها»[[أخرجه أبو داود (٤٣٩٥) والنسائي (٤٨٨٧) من حديث ابن عمر.]]. قالوا: إن الحديث معناه أنها كانت تستعير المتاع فتجحده لأنها عُرِفتْ بهذا، ولكنَّ هناك إضمارًا تقديره: فسرقت فقطع يدها. لكن هذا غير صحيح، هذا تحريفٌ للكَلِم عن مواضعه، لكن الصحيح أن جحد العاريَّة سرقة؛ لأن أيَّ إنسان يريد أن يسرق فبدلًا من أن يذهب ويكسر الأقفال والأبواب ويأخذ على وجه الاختفاء، بدلًا من ذلك يأتي إلى الشخص ويقول: جزاك الله خيرًا، أنا محتاج للإناء هذا أطبخ به للضيوف وآتِي به إليك إن شاء الله، وربما يبقى في الطعام فضْلة يجيئك أيضًا طعام. ويُلين له القول فيعطيه، ثم بعد ذلك يجحد، لا فرق بين هذا وهذا، ولهذا التحقيقُ أنَّ جحد العاريَّة نوع من السرقة؛ لأنه أخذ المال على وجه الاختفاء. * طالب: (...) يُخفَّف عنهم يوم من العذاب (...) أنهم لا يعرفون أن العذاب للأبد؟ * الشيخ: نعم، أو يطمعون، ولكنه طمع لن يتحقق. * طالب: إن الذين كفروا (...)؟ * الشيخ: لا، لو أن لهم لدفعوه ليفتدوا به، لكن ما هو حصل. * الطالب: (...)؟ * الشيخ: كل أهل النار. * الطالب: (...) فداء واحد. * الشيخ: لا، الواحد منهم أيضًا لو يحصل له كل الدنيا ما نفع. (...) * * * * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾، وأظن أنا تكلمنا على شرحها. * من فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب قطع يد السارق والسارقة؛ لقوله: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾. * ومن فوائدها: أن قطع أيديهما مخاطَبٌ به جميع الأُمَّة؛ لقوله: ﴿فَاقْطَعُوا﴾، والخطاب للأُمَّة كلها، لكن الأُمَّة في الواقع تتمثل في وُلاة أمورها لأنهم هم الذين يرعون مصالحها، فإذا حصل التقصير من وُلاة الأمور وجب على الأُمَّة أن ينبِّهوهم على ذلك. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن ظاهرها وجوب قطع أيديهما بأيِّ سرقة كانت، قليلةً كانت أم كثيرةً، وسواء كانت من حِرزٍ أو من غير حِرزٍ، وسواء كانت ممن له شبهةٌ في الأخذ أم لا، والسُّنَّة قد قيَّدت هذا العموم؛ فمثلًا السُّنَّة قيَّدت هذا العموم بما إذا كان نِصابًا تُقطع فيه اليد، والنِّصاب ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما يساويهما من المتاع. فهذه ثلاثة أشياء: ربع الدينار، ثلاثة دراهم، ما يساويهما. وهل الأصل ربع الدينار، أم ربع الدينار وثلاثة الدراهم؟ في هذا خلافٌ بين أهل العلم، ويظهر أثر الخلاف فيما لو سرق متاعًا قيمته ثلاثة دراهم ولكنه لا يساوي ربع دينار، فإذا قلنا: إن كليهما أصل؛ فقد سرق نِصابًا، وإذا قلنا: إن الأصل ربع الدينار؛ فإنه لم يسرق نِصابًا، والصحيح أن النِّصاب ربع دينار، لكن ثلاثة دراهم في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت تساوي ربع دينار، بدليل الدِّيات؛ تقديرها ألف مثقال ذهب، واثنا عشر ألف درهم فضة، فكانت ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، «وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قطع في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم»[[أخرجه البخاري (٦٧٩٥) من حديث ابن عمر.]]، لكن ثلاثة الدراهم في ذلك العهد تساوي ربع دينار، فالصواب أن المعتبر ربع دينار تُقطع به اليد. الثاني: الحِرز، الآية ليس فيها ذكر الحِرز، الحِرز بمعنى أن يسرق السارق المال مما يُحرَز به عادةً، ومعنى يُحرَز: يُحفظ، مما يُحفظ به عادةً، فإن سرق من غير حِرزٍ فلا قطْع؛ مثال ذلك: الدراهم والدنانير أين تُحرز؟ * طالب: الخِزانات. * الشيخ: نعم، تُحرَز في البيوت وفي الصناديق ويُقفَل عليها وتُراقَب، فلو جعل الإنسان الدراهم والدنانير على عتبة الباب أو في مراح الغنم فسُرِق فقد سُرِقتْ من غير حِرزٍ، فإذا قلنا: إن الحِرز شرطٌ؛ قلنا: لا قطع على هذا الذي سرق الدراهم من غير حِرزها، وهذا يحتاج إلى دليل؛ إذ لو طالبَنا مُطالِبٌ وقال: لا بد أن تُقطع يده لأنه سرق، فما هو المانع من القطع؟ نقول: المانع من القطع أن كلمة السرقة: أخْذ المال على وجه الاختفاء، هذه واحدة، وأن الذي جعل المال في غير حِرزه هو الذي فرَّط، فلا يُقطع، إذن لا بد أن تكون السرقة من حِرز. حِرز المال: ما جرت العادة بحفظه فيه، هذا الحِرز. وهل يختلف؟ نعم يختلف؛ يختلف باختلاف الأموال، ويختلف باختلاف الأحوال؛ أحوال الخوف والفوضى ليست كأحوال الأمن والقرار، أليس كذلك؟ يختلف أيضًا باختلاف السلطان؛ هل هو قوي أو ضعيف، وهل هو عدل أو جائر، يختلف بهذا؛ إذا كان السلطان قويًّا فهُنا لا يتكلَّف الناس في أحراز الأموال تكلُّفًا شديدًا؛ لأن قوة السلطان تمنع من السرقة، وإذا كان ضعيفًا كان بالعكس. إذا كان عادلًا وإذا كان جائرًا أيُّهما أشدُّ حفظًا للأموال؛ أن يكون عادلًا أو أن يكون جائرًا؟ * الطلبة: عادلًا. * الشيخ: أن يكون عادلًا؛ لأن الجائر ليس معناه القوي في العقوبة، الجائر هو الذي يقضي على هذا بقطع اليد وعلى هذا بعدم قطع اليد، إذن العادل لا شك أن الناس يأمنون في عهده أكثر من الجائر لا من الناحية الإلهية -يعني: لا من ناحية الرب عز وجل- ولا من ناحية الواقع. أيضًا يختلف الحِرز باختلاف حال الناس من إيمان وضعف إيمان؛ إذا كان عند الناس إيمانٌ كان الحِرز يَسْهُل، وإذا لم يكن عندهم إيمانٌ كان لا بد من التحرُّز الشديد. كذلك يختلف الحِرز بإقامة هذا الحدِّ؛ قطعِ يد السارق؛ إذا كانت تُقطع يد السارق فإن الإنسان لا يتكلَّف الحِرز لأنه يعرف أن السُّرَّاق لن يفعلوا، وإذا كانت لا تُقطع -يُحكَم عليه بحبس أسبوع، شهر، شهرين، سنة، سنتين- فإنه يجب التشديد في الحِرز، المهم أن الحِرز يختلف باعتبارات متعدِّدة، لكن لا بد لثبوت القطع من أن تكون السرقة من حرز. يُشترط أيضًا أن يكون المسروق مالًا محترَمًا؛ فلو سرق إنسانٌ آلة لَهْوٍ فإن آلة اللَّهْو ليست محترمة ولا قيمة لها شرعًا، فهل إذا سرق آلة لَهْو فخمة تساوي خمسة آلافٍ عشرة آلافٍ يقطع؟ لا؛ لأنه أيش؟ * الطلبة: غير محترم. * الشيخ: لأنه مالٌ غير محترم من أصله. فإن كان غير محترمٍ بوصفه مثل أن يسرق حُلِيًّا على صورة دابَّة، على صورة أسد، وما أشبه ذلك، هذا غير محترم بوصفه؛ لأن الصورة يجب طمسها أو كسرها إذا كانت مما يُكسر، فهل يُقطع أو لا؟ نقول: يُقطع اعتبارًا بأيش؟ * الطلبة: بالأصل. * الشيخ: بالأصل أنه مالٌ محترمٌ. إذن لا بد أن يكون مالًا محترمًا وهو الذي له قيمة شرعًا، فأما غير المحترم فلا يُقطع به؛ لأنه ليس بمالٍ شرعيٍّ ولا يتقوَّم وليس له قيمة ولا ثمن. يشترط أيضًا انتفاء الشُّبهة؛ ألَّا يكون للسارق شُبهة؛ فلو سرق من بيت المال فإنها لا تُقطع يده، لماذا؟ لأن له شُبهة؛ إذ إن له حقًّا في بيت المال، كلُّ واحد له حقٌّ في بيت المال، فهو وإن كان محرزًا لكن بالنسبة لهذا الشخص له حقٌّ فيه. وقد توسَّع الفقهاء رحمهم الله في مسألة الشُّبهة، ومن هذه المسألة أنه إذا سرق الْحُرُّ من بيت المال فإنه لا يُقطع لأن له فيه شُبهة، والصواب أنه إن كانت الشُّبهة قويةً فنعم يُدرأ عنه الحد، وأما إذا كانت غيرَ قويةٍ بعيدةً فلا ينبغي أن تُعطَّل الحدود من أجل أن يكون له حقٌّ من مليون مليون مليون مثلًا، هذا فيه تعطيل للحدود. ومن الشُّبَه إذا كان الناس في عام مجاعة، أو إذا كان الإنسان جائعًا، أيهما أن نقول؟ * الطلبة: الأول. * الشيخ: الأول؛ يعني إذا كانت المجاعة عامة، الناس في سنةٍ، دهرٍ، جدبٍ، جوعٍ، فإنه لا قطع لوجود الشُّبهة، وهي اضطرار هذا السارق إلى السرقة، ولو كان صاحب المال حاضرًا لأوجبنا عليه أن يبذله له. أما إذا كان الجوع خاصًّا فهذا لا يمنع من القطع؛ لأن هناك فرقًا بين هذا وهذا؛ إذ إن كل سارق يمكن أن يقول: إنه جائع، لكن المجاعة العامة هي التي تمنع القطع. كذلك أيضًا قال أهل العلم: ولا يُقطع في بلاد الكفر، كالغُزاة مثلًا، الغُزاة في بلاد الكفر لا يقطعون؛ ليش؟ لأنه لو قُطع لكان في ذلك تنفيرٌ عن الإسلام وربما يهرب هذا الرجل إلى البلاد ويبقى عندهم، وهذه مفسدة عظيمة، ولكن هل يرتفع عنه القطع دائمًا أو يؤجَّل؟ يؤجَّل، ومثل ذلك أيضًا ما وقع الآن في بعض البلاد التي تحرَّرت من الكفر ودخلت في الإسلام، لو قالوا: نحن إذا أقمنا الحدود ثار علينا الناس، فيثور علينا أولًا الشعب ثم الدول، فهل لنا الحق أن نؤجِّل حتى يتقوَّى الجانب الإسلامي؟ نقول: نعم، بدليل أن الحدود إنما جاءت في الشريعة الإسلامية أيش؟ * الطلبة: لدرء المفاسد. * الشيخ: متأخِّرة، هي نعم لدرء المفاسد لكن هي أيضًا متأخِّرة؛ حتى يتمكَّن الناس من قبولها، ثم إن المقصود بالحد إصلاح الْخَلق والتكفير عن المحدود، فإذا كان يترتب على إقامته مفسدة أعظم فليؤجَّل. إذا وجب الحد على حاملٍ؛ امرأةٍ حاملٍ سرقتْ، هل يُقام عليها الحد؟ لا، تؤجَّل؛ لأن القطع يُخشى منه على الجنين، والجنين بريء ما منه جناية. لو سرق الإنسان من مال أبيه، يُقطع؟ * الطلبة: لا. * الشيخ: ليش؟ * الطلبة: لأن له شُبهة. * الشيخ: العامة يقولون: السارق من السارق كالسارق من أبيه. والمعنى أنه لا يُقطع، السارق من أبيه يقولون: لا يقطع. لماذا؟ لأنه له حقٌّ في مال أبيه وهو الإنفاق عليه إذا كان محتاجًا. الزوج مع زوجته؟ كذلك؛ لأن هذا فيه شُبهة، وجرت العادة بأن الزوجين يتبسَّط أحدهما في مال الآخر، إذن لا بد لإقامة الحد من انتفاء الشُّبهة، ولكن -كما قلتُ لكم- هناك شُبهة بعيدة وشُبهة قريبة. هل يُشترط ثبوت السرقة؟ لو ادُّعي على شخصٍ أنه سارق هل نقول: لا يُقام عليه الحد حتى تثبت السرقة؟ الجواب: نعم؛ لأن الله قال: ﴿السَّارِقُ﴾، ولا يَصْدُق عليه وصف السرقة إلا إذا ثبتت، وبدون الثبوت لا يَصْدُق عليه أنه سارق. وبماذا تثبت السرقة؟ تثبت السرقة بشهادة رجلين عدلين، فإن شهد رجلٌ وامرأتان لم يُقَم الحد لكن يُضمن المال؛ لأن المال يثبت بشهادة رجل وامرأتين والحد لا يثبت إلا بشهادة رجلين، ولهذا اعلموا أنه لا مدخل للنساء في الحدود؛ لو يشهد أربع مئة امرأة على رجل أنه زنى فإنه لا يُقام عليه الحد، وكذلك في السرقة، وكذلك في بقية الحدود، لا مدخل للنساء في الحدود، بل شهادة الحدود للرجال فقط. إذن لا بد من ثبوت السرقة، تثبت بشاهدينِ أو بإقرار السارق، إذا أقرَّ السارق فإنها تثبت السرقة، لكن هل يُشترط تكرار الإقرار أو لا؟ في هذا خلافٌ بين العلماء: منهم من يقول: لا بد أن يكرِّر الإقرار مرتين، كل مرةٍ بإزاء شاهد؛ لأنه لا بد من شاهدينِ فلا بد أن يُقِرَّ مرتين، فلو أقرَّ مرةً لم تثبت السرقة. وقال بعض أهل العلم: تثبت بالإقرار مرةً؛ لأنه شهد على نفسه ولا عُذر لمن أقرَّ، فتثبت السرقة بإقراره مرة. وإذا أقرَّ سواء قلنا: مرتين، أو: مرةً، فهل له أن يرجع؟ يعني هل يُقبل رجوعه بحيث لا نقيم عليه الحد؟ أكثر الفقهاء يقولون: نعم، يُقبل رجوعه عن الإقرار؛ وعلى هذا لا يُقطع، لكن يؤخذ بحقِّ الآدمي؛ يضمن المال، أما القطع فلا؛ لأنه رجع عن إقراره. وقال بعض العلماء: لا يرجع إذا أقرَّ عند الحاكم؛ عند القاضي. والصحيح في هذا: التفصيل؛ أنه إذا وُجِدت قرائن تدلُّ على صحة إقراره فإنه لا يُقبل الرجوع، وإذا لم توجد قرائن فإنه يُقبل رجوعه ويكون الأمر بينه وبين ربه. فلو قال السارق: إنه سرق. قلنا كيف سرقتَ؟ قال: أتيت في الليل كسرتُ الباب وكسرتُ الصندوق وأخذتُ المال، وهذا البيت هو الذي أنا سرقته. ووصفه تمامًا ثم رجع، هل يُقبل مثل هذا؟ لا يمكن أن يُقبل، لو أنه قُبِل مثل هذا -أي: قُبِل الرجوع عن إقراره- لتعطَّلت الحدود، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: لو قُبِل رجوع الْمُقِرِّ في الحد ما أُقيمَ حدٌّ في الدنيا؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يُقِرَّ ثم يرجع، لا سِيَّما إذا لُقِّن وقيل له: ارجع، ما عليك. بعد أن أمر القاضي بقطع يده وأُحضِرت السكين وأُحضِر الزيت لتُحسَم يده وحضر رجال الأمير: خلاص، أنا هوَّنت، رجعتُ عن إقراري. هذا شبه تلاعُب، فنقول: هذا لا يُقبل؛ لأنه وُجِدتْ قرائن تدل على أن إقراره حقٌّ وليس عن تلاعب وليس عن إكراه؛ هو الذي دلَّ الناس على مكان السرقة وعلى كيفية السرقة، ولا شكَّ أن مثل هذا لا يمكن أن يُقبل رجوعه عن إقراره، لا يمكن. إذن يُشترط ثبوت السرقة، والدليل؟ * طالب: الآية. * الشيخ: الآية: ﴿والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾؛ إذ لا يَصْدُق عليهم سارق وسارقة إلا بثبوت، الثبوت بماذا؟ * طالب: بأحد أمرين. * الشيخ: وهما؟ * الطالب: بشهادة رجلين عدلين، وإما باعتراف. * الشيخ: وإما باعتراف، طيب. الاعتراف هل لا بد من التكرار أو لا؟ فيه خلاف. * ترى من فوائد الآية الكريمة: وجوب قطع يد السارق والسارقة، أيّ اليدين؟ * الطلبة: اليُمنى. * الشيخ: اليُمنى، كما فسَّر ذلك قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فاقطعوا أيمانهم)، فتُقطع اليد اليمنى بربع دينار. ومن أين تُقطع؟ تُقطع مما يَصْدُق عليه أنه يدٌ، أقلُّ ما يَصْدُق أنه يدٌ تُقطع به؛ لأن ما زاد على ما يَصْدق عليه اليد مشكوك فيه. وما الذي يَصْدُق عليه أنه يدٌ؟ أيش؟ * الطلبة: الكف. * الشيخ: الكف، فتُقطع من مفصل الكف من الرسغ والكوع وأيش؟ * الطلبة: والكرسوع. * الشيخ: والكرسوع. الأخ، تعرف كوعك من كرسوعك؟ * طالب: لا. * الشيخ: ما تعرف! * الشيخ لطالب آخر: تعرف؟ قل. * طالب: الكوع الذي يلي الإبهام. * الشيخ: نعم، الكوع: الذي يلي الإبهام في طرف الذراع. * الطالب: الذي يلي الخنصر الكرسوع. * الشيخ: الكرسوع: الذي يلي الخنصر. والرسغ؟ * الطالب: في الوسط. * الشيخ: الذي في الوسط، تمام جيد. تُقطع من هنا. فإن قال قائل: كيف تُقطع بربع دينار وهي لو قُطِعت عمدًا لكان فيها خمس مئة دينار، أليس كذلك؟ يعني لو إنسان جنى على شخص وقطع يده قلنا: عليه خمس مئة دينار، والسارق يسرق ربع دينار وتُقطع يده. ولهذا أورد التشكيك في هذه المسألة أبو العلاء المعري فقال: ؎يَــــــــــــــــــــدٌ بِخَمْـــــــسِ مِئِينٍعَسْجَـــــــــــدًا وُدِيَــــــــتْ ∗∗∗ لَكِنَّهَـــــــــــــــــــا قُطِعَتْ فِيرُبْـــــــــــــــــعِدِينَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارِ؎تَنَاقُـــــضٌ مَـــــا لَنَــــا إِلَّاالسُّكُـــــــــــــــــوتُ لَــــــــــــــــــــــهُ ∗∗∗ وَنَسْتَعِيذُ -أو قال كلمة أخرى- بِمَوْلَانَا مِنَالنَّارِ فقال: "تَنَاقُضٌ"، وجه التناقض عنده أنه كيف ديتها خمس مئة دينار وتُقطع -تُهْدَر- بربع دينار، هذا تناقض؛ لأنه إذا كانت ديتها خمس مئة دينار فلا تُقطع إلا بسرقة خمس مئة دينار، وإذا كانت تُقطع بربع دينار صارت ديتها ربع دينار، وإلا فتناقض، لكنه ردُّوا عليه فقالوا: ؎قُـــــــــــــلْ لِلْمَعَرِّيِّ عَــــــــــــــــارٌأَيُّمَــــــــــــــــــــــــــا عَـــــــــــــــــــــــــــارِ ∗∗∗ جَهْلُ الْفَتَى وَهْوَ عَــــــنْ ثَـــــــوْبِالتُّقَــــــــى عَــــــــــــارِي؎يَــــــــــــــدٌ بِخَمْسِ مِئِينٍعَسْجَــــــــــــــــدًا وُدِيَــــــــــــــــــــتْ ∗∗∗ لَكِنَّهَــــــــــــــــــــــــــــــا قُطِعَتْ فِيرُبْــــــــــــــــــــــــــعِدِينَـــــــــــــــــــــــــــــارِ؎حِمَايَةُ النَّفْسِ أَغْلَاهَـــــــــــــــــــــــا،وَأَرْخَصَهَــــــــــــــــــــــــا ∗∗∗ حِمَايَةُ الْمَالِ فَافْهَـــــــــــــــمْحِكْمَـــــــــــــــــةَ الْبَـــــــــــــــــــــــــارِي يقول: ؎قُــــــــــــــلْ لِلْمَعَرِّيِّعَــــــــــــــــارٌ أَيُّمَـــــــــــــــــــاعَــــــــــــــــــــــــــــارِ ∗∗∗ جَهْلُ الْفَتَى وَهْــــوَ عَــــنْ ثَــــــوْبِالتُّقَـــــــى عَــــــــارِي يعني: ما عنده علم ولا عبادة. ؎يَــــــــــــــــدٌ بِخَمْسِ مِئِينٍعَسْجَـــــــــــدًا وُدِيَــــــــــــــــــتْ ∗∗∗ لَكِنَّهَــــــــــــــــــــــــــــا قُطِعَتْ فِيرُبْــــــــــــــــــــــــــــعِدِينَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارِ؎حِمَايَةُ النَّفْسِ أَغْلَاهَــــــــــــــــــــــا،وَأَرْخَصَهَـــــــــــــــــــــا ∗∗∗ حِمَايَةُ الْمَالِ فَافْهَـــــــــــــــــمْحِكْمَـــــــــــــــــــــةَالْبَــــــــــــــــــــــــارِي النقطة في البيت الأخير؛ يعني أنها جُعِلت ديتها خمس مئة دينار حمايةً للنفوس حتى لا يجترئ أحدٌ على قطع أيدي الناس، وقُطِعت في ربع دينار حمايةً للأموال حتى لا يجترئ أحدٌ على السرقة، وهذا جوابٌ واضحٌ معقول. فيه جواب آخر يشبه أن يكون أدبيًّا قال: إنها لما خانت هانت، ولما كانت أمينة كانت ثمينة. (لما خانت) بماذا خانت؟ * الطلبة: بالسرقة. * الشيخ: بالسرقة، (هانت) صارت قيمتها ربع دينار. و(لما كانت أمينة كانت ثمينة) كانت قيمتها كم؟ خمس مئة دينار، وعلى كل حال هذه أجوبة في الواقع لهؤلاء الذين يُورِدون مثل هذه الشُّبَه، وإلَّا فإننا نعلم علم اليقين أن الله لا يفرق بين شيئين إلا وبينهما فرقٌ أوجب التفريق في الحكم. قوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ إذا قُدِّر أنه ليس له يدٌ يُمْنى، فهل تُقطع اليُسرى أو لا؟ فيها خلاف يا إخوان؛ منهم من يقول: لا تُقطع؛ لأن الله إنما نصَّ على اليُمنى فقط؛ يعني إنما جاءت الآية في اليُمنى فقط واليُسرى ما تُقطع، ولأننا إذا قطعنا يُسراه فوَّتنا عليه منفعة اليدين كلتيهما، أليس كذلك؟ وهذا لا ينبغي؛ كما قالوا: إن عين الأعور لا تُفقأ بعين الصحيح؛ يعني: رجلٌ أعور عنده العين اليُمنى فقط فقأ عينَ سليمٍ اليُمنى هل تُفقأ عينه؟ * الطلبة: لا. * الشيخ: المشهور من المذهب: لا نفقؤها؛ لأننا إذا فقأنا عينه فوَّتنا عليه البصر كله، وهو لم يفوِّت البصر على المجني عليه، وقد قال الله تعالى: ﴿الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ [المائدة ٤٥]، وعين الأعور تؤدي البصر كله فلا مساواة. فأقول: إن بعض العلماء يقول: إذا لم يكن للسارق إلا يد يُسرى فإنها لا تُقطع؛ لأن ذلك يُفوِّت عليه أيش؟ منفعةَ اليدين، ولذلك أمر الله عز وجل في قُطَّاع الطريق أن تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف لئلَّا تتعطَّل اليدان جميعًا؛ فمنهم من يقول: لا تُقطع اليد اليُسرى، ومنهم من يقول: تُقطع، وإذا فوَّتنا عليه ذلك فهو الذي جنى على نفسه؛ لأننا إنما قطعناها لأيش؟ لأنه هو الذي جنى على نفسه؛ والمسألة تتجاذب فيها الأدلة. إذا لم يكن له يدان هل نقطع الرِّجْل؟ لا؛ لأنها ليست من جنسها، ما نقطع الرِّجْل. إذا كانت اليُمنى شلَّاء نقطعها؟ * طلبة: لا. * الشيخ: شلَّاء تُقطع؛ الآية عامة، تُقطع، ولا نقول: إننا لا نقطعها ونقطع اليد اليسرى السليمة، بل نقطع الشلَّاء. قوله: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ هل يجب علينا عند القطع أن نفعل ما يمنع نزيف الدم ولّا نتركه ينزف الدم يموت؟ * الطلبة: الأول. * الشيخ: الأول؛ يجب أن نفعل ما يمنع نزيف الدم وألَّا ندعه يموت؛ لأن المقصود قطع اليد. هل يجوز أو يلزم أن نبنِّج هذا السارق عند قطعه؟ * الطلبة: يجوز. * الشيخ: يجوز أن نبنِّج هذا؛ لأنه يحصل القطع مع البنج وعدمه، بخلاف القِصاص؛ لاحِظوا: لو أن رجلًا قطع يد إنسان وحكمنا بالقِصاص وقال: بنج يده علشان قطع يد الجاني؛ فإننا لا نبنِّجه، بل نذيقه الألم كما أذاق هو ألم المجني عليه، وهذا فرقٌ واضح. فيما سبق يحسمون الدم بأن يأتوا بزيت يغلونه على النار، فإذا قُطعت اليد غمسوا طرف الذراع بهذا الزيت، وإذا انغمس تسدَّدت أفواه العروق، لكن في ظني الآن الطِّب ترقَّى، وأنه يمكن إيقاف الدم بدون هذه العملية، والواجب أننا نسلك أسهل ما يكون بالنسبة لإيقاف الدم؛ لأن المقصود هو إتلاف اليد وقد حصل، فإذا وجدنا طريقًا يمكن فيها إيقاف الدم غير الحسم الذي ذكره العلماء واستعملوه فيما سبق فإننا نستعمله. إذا سرق مرتين هل نقطع غير اليمنى؟ نقول: إذا كان ذلك قبل القطع فإنه لا تُقطع إلا اليد اليمنى؛ يعني لو سرق عشرين مرةً قبل أن نقطعه ما نقطع إلا يدًا واحدة، فإن قطعناها أول مرة ثم سرق ثانية فإنها تُقطع رِجله اليسرى، لا يده اليسرى بل رِجله اليسرى؛ لقول الله تبارك وتعالى في المحاربين: ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ [المائدة ٣٣] يكون اليد اليمنى والرِّجل اليسرى لئلَّا يتعطَّل جانبٌ منه كاملٌ عن المنفعة. بعض العلماء يقول: إذا تكرر منه السرقة بعد القطْع فإنه لا يُقطع؛ لأن الله إنما أباح قطع اليد اليمنى فقط، والأصل احترام المسلم، فلا يُقطع لو تكرر عشرين مرة لا يُقطع إلا اليمنى فقط، لكن إذا لم يندفع أذاه إلا بالحبس أو القتل فعلنا ما يندفع به أذاه، أما أن نقطع شيئًا من أعضائه واللهُ عز وجل إنما ذكر قطْع يدٍ واحدةٍ فلا. لكن المشهور عندنا في المذهب أنه تُقطع رِجله اليسرى إلحاقًا له بمن؟ بالمحاربين. فإن سرق الثالثة فإنه لا يُقطع، وقال بعض العلماء: إنها تُقطع يده اليسرى. كم يبقى عنده؟ رِجْل واحدة. فإن سرق الرابعة فقال بعض أهل العلم: إنها تقطع رِجله اليمنى، ويش يبقى له؟ ما يبقى شيء. فإن سرق الخامسة؟ سمع أحدُ العوام رجلًا يحدِّث في المسجد وقال هذا القولَ؛ قال: تُقطع اليد اليمنى، ثم الرِّجل اليسرى، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، ثم إن سرق قُتِل. فقال العامي على البديهة: طيب بماذا يسرق وما له لا يديه ولا رجليه؟ نعم لكن يمكن يسرق؛ لأنه باقي عنده ذراع، ويستطيع أنه مثلًا يَحُوش المال بيده. * طالب: (...)؟ * الشيخ: لا ما جاء هذا (...)، إنما -على كل حال- الذي يظهر أننا لا نتعدَّى حدَّ المحاربين؛ يعني نقطع يده اليمنى، فإن عاد فرجله اليسرى فقط. * من فوائد الآية الكريمة: الحكمة في وجوب قطع يد السارق؛ من قوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾. * ومن فوائدها: أن العقوبة من جنس العمل، وإن شئت فقل: الجزاء من جنس العمل؛ لأنه لما سَرَق -والغالب أن الأخذ والإعطاء بأيِّ يدٍ؟ باليمين- قُطِعت يده. فإن قال قائل: يلزم على قولكم بقطع الآلة التي سرق بها أن توجبوا قطع ذَكَرِ الزاني فما الجواب؟ * طلبة: (...). * الشيخ: نعم، الجواب على كل حال واضحٌ لنا؛ الزاني ذكر الله له عقوبة خاصة، والسارق له عقوبة خاصة، لكن حتى أيضًا الحكمة المعقولة؛ لأن هذا الدليل سمعي، لكن حتى بالدليل العقلي الضررُ الذي يترتب على قطْع الذَّكَر ليس كالضرر الذي يترتب على قطع اليد؛ لأن هذا يلزم قطع النسل ومصادمة ما يريده الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الأُمَّة وهو تكثير النسل[[كما في قوله: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» أخرجه أبو داود (٢٠٥٢) من حديث معقل بن يسار.]]، وحِكَم أخرى، فلذلك لم يوجب الله تعالى أن يُقطع ذَكَرُ الزاني، بل أوجب الجلد والتغريب لغير الْمُحْصَن والرجم للمُحْصَن. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية، من أين؟ * طلبة: ﴿بِمَا كَسَبَا﴾ * الشيخ: ﴿بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ وجه آخر معنوي وهو أنه لو كان السارق والسارقة مجبَريْنِ ما صحَّ أن يُعاقَبا، لماذا؟ لأن المجبَر لا حُكم لفعله، حتى المكرَه على الكفر إذا كان قلبه مطمئنًّا بالإيمان فإنه لا يكفر، فالمهم أن في الآية ردًّا على الجبرية، وما أكثر الردود على أهل البدع والحمد لله. * طالب: أحسن الله إليك، قلنا: إن كان السارق ابنًا فلا يُقطع، فإذا كان أخًا؟ * الشيخ: يُقطع. * طالب: شيخ، بارك الله فيكم، إذا لم نُقِم الحد على السارق لكونه مقطوع اليد اليمنى أو الأعور الذي فقأ عين الصحيح، فكيف نضمِّنهما، كيف يُقام عليهما الحد؟ * الشيخ: ما يُقام عليه الحد، لكن للإمام أن يعزره؛ لأن هذه معصية ليس فيها حد. * طالب: فتح الله عليك يا شيخ، لو أراد السارق بعد قطع يده أن يعيدها هل له ذلك؟ * الشيخ: سؤال جيد؛ يعني لو حاول السارق أن يُجري عملية لردِّ يده هل يُمَكَّن من هذا؟ * الطلبة: لا يُمَكَّن. * الشيخ: لا يُمَكَّن؛ لأن المقصود قطعها. لو كان قِصاصًا اقتُصَّ منه ثم أراد أن يُجري عملية لردِّها، هل نقول: القِصاص حصل؟ القِصاص حصل لا شكَّ، ما فيه إشكال، لكن هل نقول: إنه إذا ردَّها نمنعه؟ الظاهر أن لا نمنع، بخلاف السرقة، السرقة للشارع قصدٌ في إتلاف هذه اليد، والقِصاص المقصود منه أن تُقطع يد الجاني كما قُطعت يد المجني عليه، ولهذا لو أن المجني عليه لو فُرِض أنه ردَّ يده وعادت سليمة مئة بالمئة ما يُقطع الجاني. * طالب: أحسن الله إليك (...)؟ * الشيخ: وقت إخراجها من الحرز. * طالب: بارك الله فيك، ذكرنا أن من شروط إقامة الحد على السارق شهادة رجلين أو إقراره بنفسه، لو قام مثلًا رجل الأمن على السارق أو رجل الحسبة، رجل واحد، هل يقام عليه الحد؟ * الشيخ: لا؛ لأنه لا بد من اثنين. * طالب: (...)؟ * الشيخ: مثاله مثلًا في بلاد الكفر، حرب، يحاربون الآن في بلاد الكفار وسرق يؤجَّل عليه إقامة الحد. * طالب: (...)؟ * الشيخ: ربع دينار، واللهِ هذا يختلف، يُسأل أهل الذهب الذين يبيعون، والدينار مثقال. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [المائدة ٣٩، ٤٠]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هل انتهينا من الفوائد؟ (...) الخمس الفوائد. * طالب: أقرأها يا شيخ؟ * الشيخ: إي، اقرأ. * الطالب: أولًا: وجوب قطع يد السارق والسارقة. ثانيا: أن قطع أيديهما يُخاطَب به جميع الأمة. ثالثا: وجوب القطع لكل سرقة، ثم ذكرنا الشروط يا شيخ. الرابع: وجوب قطع يد السارق والسارقة، وتُقطع اليمنى كما فسرته قراءة ابن مسعود بقطع اليمنى. الخامس: أن الجزاء من جنس العمل. السادس: الرد على الجبرية. * الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. * من فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية، وذلك من عدَّة أوجه: من جهة السارق، ومن جهة (...)، ومن جهة ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: ذكرنا أن الجزاء من جنس العمل. * من فوائد الآية الكريمة: الحكمة في إيجاب الحدود؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ والنكال هنا يكون للغير كما قال الله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ [البقرة ٦٦]؛ فإن مَن عَلِم أن يده ستُقطع بالسرقة سوف ينفر عنها ولا يسرق. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أن الله سبحانه وتعالى مع كمال رحمته ورأفته فإنه شَرَع الحدود وأوجبها؛ لأن ذلك عين الرحمة؛ إذ لولا الحدود لفشتْ بين الناس المعاصي، لكن الحدود تردعهم إذا لم يردعهم الإيمان، ولهذا يقولون: إذا خلا الإنسان من الوازع الديني فإنه يُقْرع بالرادع السلطاني. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله، وهما: العزيز الحكيم، وما أكثر ما يقترنان في القرآن الكريم؛ لأن بهما تمام السلطة وكمالها. و(العزيز) يعني أنه ذو عِزَّة، والعِزَّة ذكر ابن القيم رحمه الله لها ثلاثة معانٍ: العزة بمعنى الغَلَبة؛ ومنه قوله تعالى: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون ٨]، ومنها قول الشاعر: ؎أَيْــــــــــــنَ الْمَفَــــــرُّوَالْإِلَـــــــــــــهُ الطَّالِــــــــــــــــبُ ∗∗∗ وَالْأَشْــرَمُ الْمَغْلُـــوبُ لَيْسَالْغَالِــــــبُ المعنى الثاني للعزة يعني أنه سبحانه وتعالى ممتنع عن كل نقص؛ مأخوذ من الأرض العَزاز؛ يعني الصلبة التي لا تُنال إلا بقوة ومَعاول كبيرة وحديدة. والثالث: العزة التي هي كماله؛ أي: كمال وصفه. ؎وَهُـــــــــوَ الْعَـــزِيــــزُ بِعِـــــزَّةٍهِــــــــيَ وَصْفُـــــــــــهُ ∗∗∗ فَالْعِـــــزُّ حِينَئِـــــــذٍ ثَـــــــلَاثُمَــــعَــــــــــــانِي أما (الحكيم) فإن الحكيم مشتق من معنيين؛ المعنى الأول: الْحُكْم، والمعنى الثاني: الْحِكمة؛ لأن هذه المادة (الحاء والكاف والميم) تدل على هذين؛ على الحكم وعلى الحكمة؛ يعني الإحكام. فأما (الْحُكم) فإن حكم الله تعالى نوعان؛ النوع الأول: الحكم القدري، والنوع الثاني: الحكم الشرعي. مثال الأول قول الله تبارك وتعالى عن أخي يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف ٨٠] يعني: يُقَدِّر، هذا حُكم كوني، والحكم الكوني لا بد من وقوعه؛ إذا حَكَم اللهُ تعالى بالشيء كونًا فلا بد أن يقع. أما الحكم الشرعي فمِثله قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠] يعني حُكمًا شرعيًّا. وأما قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة ٥٠] فالظاهر أنها شاملة وإن كان السياق يقتضي أن المراد به الحكم الشرعي. لكننا نقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فقوله: ﴿مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا﴾ [المائدة ٥٠] يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي. الحكم الكوني ذكرنا أنه لا بد من وقوعه. الحكم الشرعي، إذا حَكَم الله على أحد بشيء شرعًا هل يلزم منه الوقوع؟ الجواب: لا؛ لأن من الناس من لم يحكم بما أنزل الله ولم يمتثل أمر الله، فلا يلزم من الحكم الشرعي أن يقع المحكوم به؛ لأنه شَرْع، والشرع قد يخالَف وقد يوافَق. أما (الْحِكمة) فإنها وضع الشيء في مواضعه، على حد قول بعض السلف: إن الله تعالى لم يأمر بشيء فيقول العقل: ليته لم يأمر به، ولم ينهَ عن شيء فيقول العقل: ليته لم ينه عنه. فهي وضع الأشياء في مواضعها. وأنت إذا تأمَّلت أحكام الله تعالى الكونية وأحكامه الشرعية وجدت أنها في موضعها؛ فإنْ أدرك ذلك عقلُك فهذا المطلوب، وإن لم يدركه فسَلِّمْ الأمر لمن له الحكمة البالغة. نجد الشرائع مطابقة للحكمة تمامًا: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، بر الوالدين، صلة الأرحام، وما أشبه ذلك، كلها مطابقة للحكمة، ونجد أيضًا الأحكام الكونية مطابقة للحكمة؛ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ لماذا؟ ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١]؛ فالفساد الذي يكون في البر أو في البحر هو فسادٌ، لكنه لحكمة عظيمة، وهي أن يرجع الناس إلى دينهم ويكُفُّوا عما كسبت أيديهم من المعاصي وهلُمَّ جرًّا؛ يعني أحكام الله الكونية والشرعية كلها مطابقة للحكمة، ولكن لا يلزم من كونها مطابقة للحكمة أن يفهم الحكمة كل أحد من الناس، قد تخفى على كثير من الناس وقد تخفى على بعض الناس دون بعض، وما خفي عليك فكِلْه إلى عالِمه؛ لما سألت المرأة عائشةَ رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت عائشة: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢١) ومسلم (٣٣٥ / ٦٩) من حديث معاذة.]]. إذن مجرد كون هذا الشيء محكومًا به مِن قِبَل الله شرعًا فإننا نعلم أنه لحكمة، مجرد كون الشيء يقع في أحكام الله الكونية وإن كنا لا يظهر لنا المصلحة فيه فإننا نعلم أنه لحكمة، فعلينا أن نستسلم وألَّا نُعارض وألَّا نقول: كيف؟ ولا: لِمَ؟ لأن ذلك فيه اعتراض، اللَّهم إلا رجلًا يريد أن يسأل عن الحكمة حتى يطمئن قلبه وحتى يعرف من صفات الله ما لا يعرفه. الحكمة قالوا: إنها نوعان: حكمة غاية، وحكمة وضع الشيء على ما هو عليه، هذه أيضًا لها حكمة، ممكن نقول: صوريَّة وغائيَّة؛ فالصورية: أن يكون الشيء على هذه الصورة؛ كونه على هذه الصورة هذا حكمة، كون الصلوات مثلًا خمسًا وفي أوقات مختلفة هذه حكمة، كونها تنقطع على وِتر هذه حكمة؛ صلاة النهار وترها المغرب، وصلاة الليل وترها النافلة المعروفة، هذه حكمة، كون هذه الأمور المشروعة لغاية أيضًا حكمة، وهكذا أيضًا المخلوقات هي على وضعها اللي هي عليه حكمة، والغاية التي تصل إليها هذه المخلوقات لا شكَّ أنها حكمة. فصار (الحكيم) مشتقًّا من الْحُكم، والإحكام الذي هو الحكمة، والحكم نوعان: كوني وشرعي، والحكمة نوعان: صورية وغائية، ومعنى (صورية) أي أن وجود الشيء على هذه الصورة المعيَّنة حكمة، والغاية منه كذلك حكمة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حسن الختام في الآيات الكريمة وأنها مطابقة تمامًا للأحكام التي خُتِمت بها. العِزَّة من معناها الغَلَبة، ولا شكَّ أن إيجاب قطْع الأيدي يدلُّ على العزة والغَلَبة وكمال السلطة. الحكمة أيضًا تُناسِب القطع؛ لأن فيها حُكمًا صارمًا، وفيها أيضًا حكمة بالغة؛ ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾، فلذلك كانت الجملة ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ مطابِقة تمامًا لما ذُكِر في الآية الكريمة من قطع يد السارق وبيان الحكمة من ذلك. ورأيت في كتاب السيوطي الإتقان أن أعرابيًّا سمع قارئًا يقرأ يقول: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله غفورٌ رحيمٌ)، فاستنكر الأعرابي هذا وقال: أَعِد الآية، فأعادها مرة ثانية باللفظ الأول: (والله غفورٌ رحيمٌ)، ثم قال: أعدها، فأعادها مرتين أو ثلاثًا، ثم أعادها على الصواب فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قال: الآن أصبت؛ لأنه عَزَّ وحَكَم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع. شوف كيف الفهم، وهو أعرابي ما درس، لكن واضح أن الله سبحانه وتعالى لو قال: (والله غفورٌ رحيمٌ) ما ناسب وجوب القطع، هذا يُناسب التوبة؛ ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة ٣٩]، أما القطع فإنه يناسب العزة والحكمة. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على كل ناعقٍ يقول: إن قطْع الأيدي وحشيَّةٌ، وإن ذلك يستلزم أن يكون نصف الشعب أشلَّ ليس له إلا يدٌ واحدةٌ؛ مأخوذ من قوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فيقال: بل هذه عين الحكمة وعين الصواب؛ لأنه لو تُرِك الناس لحصلت الفوضى وابتزاز الأموال والسطو على الآمنين، فكان قطع اليد لا شك أنه هو الحكمة، وانظر إلى الشعوب التي تطبق هذه الحدود الشرعية كيف تقِلُّ فيها الجريمة، وعلى العكس الشعوب التي لا تطبقها، وهذا كقول القائل: إن قتل القاتل يعني كثرة إزهاق النفوس. وهذا أيضًا مصادم تمامًا لقول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة ١٧٩]، فالقصاص هو الحياة في الواقع، لنا فيه حياة؛ لأن من هَمَّ بالقتل ثم ذكر أنه سيُقتل امتنع وكفَّ عن القتل، ثم ليُعلم أن المقتول ظلمًا لا بد أن يُقتل قاتله؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء ٣٣] سلطانًا شرعيًّا بأن له القصاص، وسلطانًا قَدَريًّا بأن الله تعالى يُمكِّن من العثور على هذا القاتل حتى يُقتَل، وهذا شيءٌ مشاهَد؛ دائمًا يَقتُل القاتل ويهرب، وإذا به يأتي بقَدَر الله عز وجل، وهذا داخلٌ في قوله: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء ٣٣] أي: قدريًّا وشرعيًّا، وكأنَّ الأمر حاصلٌ ولا بد، ولهذا قال: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء ٣٣] كأنه قال: لا بد أن يَقتُل -أي: وليُّ المقتول ظلمًا- ولكن لا يسرف في القتل؛ وذلك لأن وليَّ المقتول ظلمًا قد تأخذه الحميَّة والغضب فيسرف في القتل، فنهى الله عن ذلك وجعل الأمر قِصاصًا. يقول: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ ﴿مَنْ﴾ هذه شرطية، وهي عامَّة تعمُّ السارق وغير السارق، كل إنسانٍ يتوب من بعد ظلمه ويُصلِح فإن الله يتوب عليه. يدخل فيها السارق أو لا؟ يدخل من باب أَوْلى؛ لأنها في سياق الحكم على السارق؛ فإذا تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه. والفائدة من هذا بعد ذكر ﴿اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ هي أن السارق قد تُقطع يده، والحدُّ هنا يُكَفِّر ما سبق من ذنب، لكنه في قرارة نفسه يريد أن يسرق إذا سنحت له الفرصة، فهل يتوب الله عليه في هذه الحال؟ لا؛ لأنه لم يتُبْ، لا بد أن يتوب، فلا يقال: إنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أن مَن فَعَل شيئًا من هذه القاذورات وأُصيبَ به في الدنيا فإنه كفَّارة له»[[متفق عليه؛ البخاري (١٨) ومسلم (١٧٠٩ / ٤١) من حديث عبادة بن الصامت، ولفظه «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ».]]؛ يعني الحدود كفَّارة، كما يدل عليه أيضًا ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾. * وهي فائدة لعلكم تُلحِقونها في فوائد الآية: أن الحدود كفَّارة؛ لقوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾، ولا يُضاعف الله عليه الجزاء.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب