الباحث القرآني

﴿يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ﴾ أيْ: يَرْجُونَ، أوْ يَتَمَنَّوْنَ، أوْ يَكادُونَ، أوْ يَسْألُونَ: أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، والإرادَةُ مُمْكِنَةٌ في حَقِّهِمْ، فَلا يَنْبَغِي أنْ تَخْرُجَ عَنْ ظاهِرِها. قالَ الحَسَنُ: إذا فارَتْ بِهِمُ (p-٤٧٥)النّارُ فَرُّوا مِن بَأْسِها، فَحِينَئِذٍ يُرِيدُونَ الخُرُوجَ ويَطْمَعُونَ فِيهِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ. وقِيلَ لِجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّكم يا أصْحابَ مُحَمَّدٍ تَقُولُونَ: إنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النّارِ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنها﴾ فَقالَ جابِرٌ إنَّما هَذا في الكُفّارِ خاصَّةً. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ نافِعِ بْنِ الأزْرَقِ الخارِجِيِّ أنَّهُ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: يا أعْمى البَصَرِ، يا أعْمى القَلْبِ، أتَزْعُمُ أنْ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النّارِ وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنها﴾ ؟ فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: اقْرَأْ ما فَوْقُ، هَذِهِ الآيَةُ في الكُفّارِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وما يُرْوى عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّ نافِعَ بْنَ الأزْرَقِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ، وذَكَرَ الحِكايَةَ، ثُمَّ قالَ: فَمِمّا لَفَّقَتْهُ المُجَبِّرَةُ ولَيْسَ بِأوَّلِ تَكاذِيبِهِمْ وافْتِرائِهِمْ، وكَفاكَ بِما فِيهِ مِن مُواجَهَةِ ابْنِ الأزْرَقِ لِابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وهو بَيْنَ أظْهُرِ أعْضادِهِ مِن قُرَيْشٍ، وأنْضادِهِ مِن بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، وهو حَبْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ وبَحْرُها، ومُفَسِّرُها بِالخِطابِ الَّذِي لا يَجْسَرُ عَلى مِثْلِهِ أحَدٌ مِن أهْلِ الدُّنْيا، وبِرَفْعِهِ إلى عِكْرِمَةَ - دَلِيلَيْنِ ناصَّيْنِ أنَّ الحَدِيثَ فِرْيَةٌ ما فِيها مِرْيَةٌ. انْتَهى. وهو عَلى عادَتِهِ وسَفاهَتِهِ في سَبِّ أهْلِ السُّنَّةِ، ومَذْهَبُهُ: أنَّ مَن دَخَلَ النّارَ لا يَخْرُجُ مِنها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنْ يَخْرُجُوا؛ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ويُناسِبُهُ: ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنها﴾ . وقَرَأ النَّخَعِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، وأبُو واقِدٍ: أنْ يُخْرَجُوا؛ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. ﴿ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ أيْ: مُتَأبِّدٌ لا يُحَوَّلُ. ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ قالَ السّائِبُ: نَزَلَتْ في طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، ومَضَتْ قِصَّتُهُ (p-٤٧٦)فِي النِّساءِ. ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ جَزاءَ المُحارِبِينَ بِالعُقُوباتِ الَّتِي فِيها قَطْعُ الأيْدِي والأرْجُلِ مِن خِلافٍ، ثُمَّ أمَرَ بِالتَّوَقِّي لِئَلّا يَقَعَ الإنْسانُ في شَيْءٍ مِنَ الحِرابَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حالَ الكُفّارِ - ذَكَرَ حُكْمَ السَّرِقَةِ لِأنَّ فِيها قَطْعَ الأيْدِي بِالقُرْآنِ، والأرْجُلِ بِالسُّنَّةِ؛ عَلى ما يَأْتِي ذِكْرُهُ، وهو أيْضًا حِرابَةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، لِأنَّ فِيهِ سَعْيًا بِالفَسادِ إلّا أنَّ تِلْكَ تَكُونُ عَلى سَبِيلِ الشَّوْكَةِ والظُّهُورِ والسَّرِقَةَ عَلى سَبِيلِ الِاخْتِفاءِ والتَّسَتُّرِ، والظّاهِرُ وُجُوبُ القَطْعِ بِمُسَمّى السَّرِقَةِ، وهو ظاهِرُ النَّصِّ. يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، ويَسْرِقُ الجَمَلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ اليُمْنى، سَرَقَ شَيْئًا ما، قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا، قُطِعَتْ يَدُهُ، وإلى هَذا ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ ومِنَ التّابِعِينَ مِنهُمُ: الحَسَنُ، وهو مَذْهَبُ الخَوارِجِ وداوُدَ. وقالَ داوُدُ ومَن وافَقَهُ: لا يُقْطَعُ في سَرِقَةِ حَبَّةٍ واحِدَةٍ ولا تَمْرَةٍ واحِدَةٍ، بَلْ أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمّى مالًا، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يُخْرِجُ الشُّحَّ والضِّنَةَ. وقِيلَ: النِّصابُ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ اليَدُ عَشَرَةُ دَراهِمَ فَصاعِدًا، أوْ قِيمَتُها مِن غَيْرِها، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ: ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عَمْرٍو أيْمَنَ الحَبَشِيِّ، وأبِي جَعْفَرٍ، وعَطاءٍ، وإبْراهِيمَ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، وأبِي يُوسُفَ، وزُفَرَ، ومُحَمَّدٍ. وقِيلَ: رُبُعُ دِينارٍ فَصاعِدًا، ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وعُثْمانَ، وعَلِيٍّ، وعائِشَةَ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وهو قَوْلُ: الأوْزاعِيِّ، واللَّيْثِ، والشّافِعِيِّ، وأبِي ثَوْرٍ؛ وقِيلَ: خَمْسَةُ دَراهِمَ؛ وهو قَوْلُ: أنَسٍ، وعُرْوَةَ، وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، والزُّهْرِيِّ. وقِيلَ: أرْبَعَةُ دَراهِمَ؛ وهو مَرْوِيٌّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وأبِي هُرَيْرَةَ. وقِيلَ: ثَلاثَةُ دَراهِمَ؛ وهو قَوْلُ: ابْنِ عُمَرَ، وبِهِ قالَ مالِكٌ، وإسْحاقُ، وأحْمَدُ، إلّا إنْ كانَ ذَهَبًا فَلا تُقْطَعُ إلّا في رُبْعِ دِينارٍ. وقِيلَ: دِرْهَمٌ فَما فَوْقَهُ، وبِهِ قالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ. وقَطَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ في دِرْهَمٍ. ولِلسَّرِقَةِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيها اليَدُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ في الفِقْهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: والسّارِقُ والسّارِقَةُ؛ بِالرَّفْعِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: والسّارِقُونَ والسّارِقاتُ فاقْطَعُوا أيْمانَهم، وقالَ الخَفّافُ: وجَدْتُ في مُصْحَفِ أُبِيٍّ: والسُّرُقُ والسُّرُقَةُ، بِضَمِّ السِّينِ المُشَدَّدَةِ فِيهِما، كَذا ضَبَطَهُ أبُو عَمْرٍو. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا تَصْحِيفًا مِنَ الضّابِطِ، لِأنَّ قِراءَةَ الجَماعَةِ إذا كُتِبَتِ السّارِقُ بِغَيْرِ ألْفٍ وافَقَتْ في الخَطِّ هَذِهِ. والرَّفْعُ في، والسّارِقُ والسّارِقَةُ، عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ والتَّقْدِيرُ: فِيما يُتْلى عَلَيْكم، أوْ فِيما فُرِضَ عَلَيْكم؛ السّارِقُ والسّارِقَةُ أيْ: حُكْمُهُما. ولا يُجَوِّزُ سِيبَوَيْهِ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ قَوْلُهُ: فاقْطَعُوا، لِأنَّ الفاءَ لا تَدْخُلُ إلّا في خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَوْصُولٍ بِظَرْفٍ أوْ مَجْرُورٍ؛ أيْ: جُمْلَةٍ صالِحَةٍ لِأداةِ الشَّرْطِ. والمَوْصُولُ هُنا ألْ، وصِلَتُها اسْمُ فاعِلٍ أوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وما كانَ هَكَذا لا تَدْخُلُ الفاءُ في خَبَرِهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وقَدْ أجازَ ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنَ البَصْرِيِّينَ أعْنِي: أنْ يَكُونَ والسّارِقُ والسّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ جُمْلَةُ الأمْرِ، أجْرَوْا ألْ وصِلَتَها مُجْرى المَوْصُولِ المَذْكُورِ، لِأنَّ المَعْنى فِيهِ عَلى العُمُومِ إذْ مَعْناهُ: الَّذِي سَرَقَ والَّتِي سَرَقَتْ. ولَمّا كانَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ، تَأوَّلَهُ عَلى إضْمارِ الخَبَرِ، فَيَصِيرُ تَأوُّلُهُ: فِيما فُرِضَ عَلَيْكم حُكْمُ السّارِقِ والسّارِقَةِ - جُمْلَةً ظاهِرُها أنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، ولَكِنَّ المَقْصُودَ هو في قَوْلِهِ: ﴿فاقْطَعُوا﴾، فَجِيءَ بِالفاءِ رابِطَةً لِلْجُمْلَةِ الثّانِيَةِ، فالأُولى مُوَضِّحَةٌ لِلْحُكْمِ المُبْهَمِ في الجُمْلَةِ الأُولى. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: والسّارِقَ والسّارِقَةَ، بِالنَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: الوَجْهُ في كَلامِ العَرَبِ النَّصْبُ كَما تَقُولُ: زَيْدًا فاضْرِبْهُ، ولَكِنْ أبَتِ العامَّةُ إلّا الرَّفْعَ، يَعْنِي عامَّةَ القُرّاءِ وجُلَّهم. ولَمّا كانَ مُعْظَمُ القُرّاءِ عَلى الرَّفْعِ، تَأوَّلَهُ سِيبَوَيْهِ عَلى وجْهٍ يَصِحُّ، وهو أنَّهُ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، لِأنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً والخَبَرُ فاقْطَعُوا لَكانَ تَخْرِيجًا عَلى غَيْرِ الوَجْهِ في كَلامِ العَرَبِ، ولَكانَ قَدْ تَدْخُلُ الفاءُ في خَبَرِ ألْ وهو لا يَجُوزُ عِنْدَهُ. وقَدْ تَجاسَرَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ المَدْعُوُّ بِالفَخْرِ الرّازِيِّ بْنِ خَطِيبِ الرِّيِّ عَلى سِيبَوَيْهِ وقالَ عَنْهُ ما لَمْ يَقُلْهُ فَقالَ: الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، ويَدُلُّ عَلى فَسادِهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ طَعَنَ في القِراءَةِ (p-٤٧٧)المَنقُولَةِ بِالمُتَواتِرِ عَنِ الرَّسُولِ، وعَنْ أعْلامِ الأُمَّةِ، وذَلِكَ باطِلٌ قَطْعًا. (قُلْتُ): هَذا تَقَوُّلٌ عَلى سِيبَوَيْهِ، وقِلَّةُ فَهْمٍ عَنْهُ، ولَمْ يَطْعَنْ سِيبَوَيْهِ عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ، بَلْ وجَّهَها التَّوْجِيهَ المَذْكُورَ، وأفْهَمَ أنَّ المَسْألَةَ لَيْسَتْ مِن بابِ الِاشْتِغالِ المَبْنِيِّ عَلى جَوازِ الِابْتِداءِ فِيهِ، وكَوْنِ جُمْلَةِ الأمْرِ خَبَرَهُ، أوْ لَمْ يَنْصِبِ الِاسْمَ، إذْ لَوْ كانَتْ مِنهُ لَكانَ النَّصْبُ أوْجَهَ كَما كانَ في زَيْدًا اضْرِبْهُ، عَلى ما تَقَرَّرَ في كَلامِ العَرَبِ، فَكَوْنُ جُمْهُورِ القُرّاءِ عَدَلُوا إلى الرَّفْعِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم لَمْ يَجْعَلُوا الرَّفْعَ فِيهِ عَلى الِابْتِداءِ المُخْبَرِ عَنْهُ بِفِعْلِ الأمْرِ، لِأنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأجْلِ الفاءِ. فَقَوْلُهُ: أبَتِ العامَّةُ إلّا الرَّفْعَ - تَقْوِيَةٌ لِتَخْرِيجِهِ، وتَوْهِينٌ لِلنَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ مَعَ وُجُودِ الفاءِ؛ لِأنَّ النَّصْبَ عَلى الِاشْتِغالِ المُرَجَّحِ عَلى الِابْتِداءِ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ لا يَجُوزُ، إلّا إذا جازَ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُخْبَرًا عَنْهُ بِالفِعْلِ الَّذِي يُفَسِّرُ العامِلَ في الِاشْتِغالِ، وهُنا لا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأجْلِ الفاءِ الدّاخِلَةِ عَلى الخَبَرِ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ لا يَجُوزَ النَّصْبُ. فَمَعْنى كَلامِ سِيبَوَيْهِ يُقَوِّي الرَّفْعَ عَلى ما ذُكِرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ طاعِنًا في الرَّفْعِ ؟ وقَدْ قالَ سِيبَوَيْهِ: وقَدْ يَحْسُنُ ويَسْتَقِيمُ: عَبْدُ اللَّهِ فاضْرِبْهُ، إذا كانَ مَبْنِيًّا عَلى مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ أوْ مُظْهَرٍ، فَأمّا في المُظْهَرِ فَقَوْلُكَ: هَذا زَيْدٌ فاضْرِبْهُ؛ وإنْ شِئْتَ لَمْ تُظْهِرْ هَذا، ويَعْمَلُ عَمَلَهُ إذا كانَ مُظْهَرًا وذَلِكَ قَوْلُكَ: الهِلالُ واللَّهِ فانْظُرْ إلَيْهِ، فَكَأنَّكَ قُلْتَ: هَذا الهِلالُ، ثُمَّ جِئْتَ بِالأمْرِ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: وقائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فَتاتَهم وأُكْرُومَةُ الحَيَّيْنِ خَلْوٌ كَما هِيا هَكَذا سُمِعَ مِنَ العَرَبِ تُنْشِدُهُ. انْتَهى. فَإذا كانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: وقَدْ يَحْسُنُ ويَسْتَقِيمُ. عَبْدُ اللَّهِ فاضْرِبْهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ طاعِنًا في الرَّفْعِ، وهو يَقُولُ: أنَّهُ يَحْسُنُ ويَسْتَقِيمُ ؟ لَكِنَّهُ جَوَّزَهُ عَلى أنْ يَكُونَ المَرْفُوعُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ، كَما تَأوَّلَهُ في السّارِقِ والسّارِقَةِ، أوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ: الهِلالُ، واللَّهِ، فانْظُرْ إلَيْهِ. وقالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ) - يَعْنِي سِيبَوَيْهِ -: لا أقُولُ إنَّ القِراءَةَ بِالرَّفْعِ غَيْرُ جائِزَةٍ، ولَكِنِّي أقُولُ: القِراءَةُ بِالنَّصْبِ أوْلى، فَنَقُولُ لَهُ: هَذا أيْضًا رَدِيءٌ، لِأنَّ تَرْجِيحَ القِراءَةِ الَّتِي لَمْ يَقْرَأْ بِها إلّا عِيسى بْنُ عُمَرَ عَلى قِراءَةِ الرَّسُولِ وجَمِيعِ الأُمَّةِ في عَهْدِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ أمْرٌ مُنْكَرٌ مَرْدُودٌ. (قُلْتُ): هَذا السُّؤالُ لَمْ يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ، ولا هو مِمَّنْ يَقُولُهُ، وكَيْفَ يَقُولُهُ وهو قَدْ رَجَّحَ قِراءَةَ الرَّفْعِ عَلى ما أوْضَحْناهُ ! وأيْضًا فَقَوْلُهُ: لِأنَّ تَرْجِيحَ القِراءَةِ الَّتِي لَمْ يَقْرَأُ بِها إلّا عِيسى بْنُ عُمَرَ عَلى قِراءَةِ الرَّسُولِ وجَمِيعِ الأُمَّةِ في عَهْدِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ - تَشْنِيعٌ وإيهامٌ أنَّ عِيسى بْنَ عُمَرَ قَرَأها مِن قِبَلِ نَفْسِهِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قِراءَتُهُ مُسْتَنِدَةٌ إلى (p-٤٧٨)الصَّحابَةِ وإلى الرَّسُولِ، فَقِراءَتُهُ قِراءَةُ الرَّسُولِ أيْضًا، وقَوْلُهُ: وجَمِيعُ الأُمَّةِ، لا يَصِحُّ هَذا الإطْلاقُ لِأنَّ عِيسى بْنَ عُمَرَ وإبْراهِيمَ بْنَ أبِي عَبْلَةَ ومَن وافَقَهُما وأشْياخَهُمُ الَّذِينَ أخَذُوا عَنْهم هَذِهِ القِراءَةَ هم مِنَ الأُمَّةِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: وقَدْ قَرَأ ناسٌ والسّارِقَ والسّارِقَةَ والزّانِيَةَ والزّانِيَ، فَأخْبَرَ أنَّها قِراءَةُ ناسٍ. وقَوْلُهُ: وجَمِيعُ الأُمَّةِ لا يَصِحُّ هَذا العُمُومُ. قالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: الثّانِي مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: أنَّ القِراءَةَ بِالنَّصْبِ لَوْ كانَتْ أوْلى لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ في القُرّاءِ مَن قَرَأ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما﴾ [النساء: ١٦] بِالنَّصْبِ، ولَمّا لَمْ يُوجَدْ في القِراءَةِ أحَدٌ قَرَأ كَذَلِكَ، عَلِمْنا سُقُوطَ هَذا القَوْلِ. (قُلْتُ): لَمْ يَدَّعِ سِيبَوَيْهِ أنَّ قِراءَةَ النَّصْبِ أوْلى فَيَلْزَمُهُ ما ذَكَرَ، وإنَّما قالَ سِيبَوَيْهِ: وقَدْ قَرَأ ناسٌ والسّارِقَ والسّارِقَةَ والزّانِيَةَ والزّانِيَ، وهو في العَرَبِيَّةِ عَلى ما ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ القُوَّةِ، ولَكِنْ أبَتِ العامَّةُ إلّا القِراءَةَ بِالرَّفْعِ. ويَعْنِي سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ القُوَّةِ، لَوْ عُرِّيَ مِنَ الفاءِ المُقَدَّرِ دُخُولُها عَلى خَبَرِ الِاسْمِ المَرْفُوعِ عَلى الِابْتِداءِ، وجُمْلَةُ الأمْرِ خَبَرُهُ، ولَكِنْ أبَتِ العامَّةُ؛ أيْ: جُمْهُورُ القُرّاءِ، إلّا الرَّفْعَ؛ لِعِلَّةِ دُخُولِ الفاءِ، إذْ لا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الأمْرِ خَبَرًا لِهَذا المُبْتَدَأِ، فَلَمّا دَخَلَتِ الفاءُ رَجَّحَ الجُمْهُورُ الرَّفْعَ. ولِذَلِكَ لَمّا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ اخْتِيارَ النَّصْبِ في الأمْرِ والنَّهْيِ، لَمْ يُمَثِّلْهُ بِالفاءِ بَلْ عارِيًا مِنها. قالَ سِيبَوَيْهِ: وذَلِكَ (p-٤٧٩)قَوْلُكَ: زَيْدًا اضْرِبْهُ وعَمْرًا أُمْرُرْ بِهِ، وخالِدًا اضْرِبْ أباهُ، وزَيْدًا اشْتَرِ لَهُ ثَوْبًا؛ ثُمَّ قالَ: وقَدْ يَكُونُ في الأمْرِ والنَّهْيِ أنْ يُبْنى الفِعْلُ عَلى الِاسْمِ وذَلِكَ قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ فاضْرِبْهُ، ابْتَدَأْتَ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعْتَ بِالِابْتِداءِ، ونَبَّهْتَ المُخاطَبَ لَهُ لِيَعْرِفَهُ بِاسْمِهِ، ثُمَّ بَنَيْتَ الفِعْلَ عَلَيْهِ كَما فَعَلْتَ ذَلِكَ في الخَبَرِ. فَإذا قُلْتَ: زَيْدًا فاضْرِبْهُ، لَمْ يَسْتَقِمْ، لَمْ تَحْمِلْهُ عَلى الِابْتِداءِ. ألا تَرى أنَّكَ لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، لَمْ يَسْتَقِمْ ؟ فَهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً يَعْنِي مُخْبَرًا عَنْهُ بِفِعْلِ الأمْرِ المَقْرُونِ بِالفاءِ الجائِزِ دُخُولُها عَلى الخَبَرِ. ثُمَّ قالَ سِيبَوَيْهِ: فَإنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلى شَيْءٍ هَذا يُفَسِّرُهُ. لَمّا مَنَعَ سِيبَوَيْهِ الرَّفْعَ فِيهِ عَلى الِابْتِداءِ وجُمْلَةُ الأمْرِ خَبَرُهُ لِأجْلِ الفاءِ - أجازَ نَصْبَهُ عَلى الِاشْتِغالِ، لا عَلى أنَّ الفاءَ هي الدّاخِلَةُ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ. وتَلْخِيصُ ما يُفْهَمُ مِن كَلامِ سِيبَوَيْهِ: أنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ أمْرًا بِغَيْرِ فاءٍ بَعْدَ اسْمٍ - يُخْتارُ فِيهِ النَّصْبُ ويَجُوزُ فِيهِ الِابْتِداءُ، وجُمْلَةُ الأمْرِ خَبَرُهُ، فَإنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الفاءُ فَإمّا أنْ تُقَدِّرَها الفاءَ الدّاخِلَةَ عَلى الخَبَرِ، أوْ عاطِفَةً، فَإنْ قَدَّرْتَها الدّاخِلَةَ عَلى الخَبَرِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ مُبْتَدَأً وجُمْلَةُ الأمْرِ خَبَرَهُ، إلّا إذا كانَ المُبْتَدَأُ أُجْرِيَ مُجْرى اسْمِ الشَّرْطِ لِشَبَهِهِ بِهِ، ولَهُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ. وإنْ كانَتْ عاطِفَةً كانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا، إمّا مُبْتَدَأٌ كَما (p-٤٨٠)تَأوَّلَ سِيبَوَيْهِ في قَوْلِهِ: والسّارِقُ والسّارِقَةُ، وإمّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَما قِيلَ: القَمَرُ واللَّهِ فانْظُرْ إلَيْهِ. والنَّصْبُ عَلى هَذا المَعْنى دُونَ الرَّفْعِ، لِأنَّكَ إذا نَصَبْتَ احْتَجْتَ إلى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ تُعْطَفُ عَلَيْها بِالفاءِ، وإلى حَذْفِ الفِعْلِ النّاصِبِ، وإلى تَحْرِيفِ الفاءِ إلى غَيْرِ مَحَلِّها. فَإذا قُلْتَ زَيْدًا فاضْرِبْهُ، فالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهْ فاضْرِبْ زَيْدًا اضْرِبْهُ؛ حُذِفَتْ تَنَبَّهْ، وحُذِفَتِ اضْرِبْ، وأُخِّرَتِ الفاءُ إلى دُخُولِها عَلى المُفَسَّرِ، وكانَ الرَّفْعُ أوْلى، لِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لا حَذْفُ مُبْتَدَأٍ، أوْ حَذْفُ خَبَرٍ. فالمَحْذُوفُ أحَدُ جُزْئَيِ الإسْنادِ فَقَطْ، والفاءُ واقِعَةٌ في مَوْقِعِها، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ المَحْذُوفِ سِياقُ الكَلامِ والمَعْنى. قالَ سِيبَوَيْهِ: وأمّا قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما﴾ [النور: ٢] ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ فَإنَّ هَذا لَمْ يُبْنَ عَلى الفِعْلِ، ولَكِنَّهُ جاءَ عَلى مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ [محمد: ١٥] ثُمَّ قالَ بَعْدُ فِيها: (أنْهارٌ فِيها) كَذا وكَذا، فَإنَّما وُضِعَ مَثَلٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وذُكِرَ بَعْدَ أخْبارٍ وأحادِيثَ كَأنَّهُ قالَ: ومِنَ القَصَصِ مَثَلُ الجَنَّةِ أوْ مِمّا نَقُصُّ عَلَيْكم مَثَلُ الجَنَّةِ، فَهو مَحْمُولٌ عَلى هَذا الإضْمارِ أوْ نَحْوِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. وكَذَلِكَ الزّانِيَةُ والزّانِي؛ لَمّا قالَ تَعالى: ﴿سُورَةٌ أنْزَلْناها وفَرَضْناها﴾ [النور: ١] قالَ في الفَرائِضِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ [النور: ٢] أوِ ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ [النور: ٢] في الفَرائِضِ، ثُمَّ قالَ: فاجْلِدُوا، فَجاءَ بِالفِعْلِ بَعْدَ أنْ مَضى فِيها الرَّفْعُ كَما قالَ. وقائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فَتاتَهم، فَجاءَ بِالفِعْلِ بَعْدَ أنْ عَمِلَ فِيهِ الضَّمِيرُ، وكَذَلِكَ السّارِقُ والسّارِقَةُ. كَأنَّهُ قالَ: مِمّا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السّارِقُ والسّارِقَةُ، أوِ السّارِقُ والسّارِقَةُ فِيما فُرِضَ عَلَيْكم. وإنَّما جاءَتْ هَذِهِ الأسْماءُ بَعْدَ قَصَصٍ وأحادِيثَ. انْتَهى. فَسِيبَوَيْهِ إنَّما اخْتارَ هَذا التَّخْرِيجَ لِأنَّهُ أقَلُّ كُلْفَةً مِنَ النَّصْبِ مَعَ وُجُودِ الفاءِ، ولَيْسَتِ الفاءُ الدّاخِلَةَ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ، لِأنَّ سِيبَوَيْهِ لا يُجِيزُ ذَلِكَ في ألِ المَوْصُولَةِ. فالآيَتانِ عِنْدَهُ مِن بابِ زَيْدٍ فاضْرِبْهُ، فَكَما أنَّ المُخْتارَ في هَذا الرَّفْعِ فَكَذَلِكَ في الآيَتَيْنِ. * * * وقَوْلُ الرّازِيِّ: لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ في القُرّاءِ مَن قَرَأ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما﴾ [النساء: ١٦] بِالنَّصْبِ إلى آخَرِ كَلامِهِ، لَمْ يَقُلْ سِيبَوَيْهِ إنَّ النَّصْبَ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ أوْلى، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ في القُرّاءِ مَن يَنْصِبُ واللَّذانِ يَأْتِيانِها، بَلْ حَلَّ سِيبَوَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ مَحَلَّ قَوْلِهِ: والسّارِقُ والسّارِقَةُ، لِأنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ ما يَدُلُّ عَلى المَحْذُوفِ وهو قَوْلُهُ: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكُمْ﴾ [النساء: ١٥] فَخَرَّجَ سِيبَوَيْهِ الآيَةَ عَلى الإضْمارِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: وقَدْ يَجْرِي هَذا في زَيْدٍ وعَمْرٍو عَلى هَذا الحَدِّ إذا (p-٤٨١)كُنْتَ تُخْبِرُ بِأشْياءَ، أوْ تُوصِي، ثُمَّ تَقُولُ: زَيْدٌ؛ أيْ: زَيْدٌ فِيمَن أُوصِي فَأحْسِنْ إلَيْهِ وأكْرِمْهُ، ويَجُوزُ في: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٦]، أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الِابْتِداءِ، والجُمْلَةُ الَّتِي فِيها الفاءُ خَبَرٌ لِأنَّهُ مَوْصُولٌ مُسْتَوْفٍ شُرُوطَ المَوْصُولِ الَّذِي يَجُوزُ دُخُولُ الفاءِ في خَبَرِهِ لِشَبَهِهِ بِاسْمِ الشَّرْطِ، بِخِلافِ قَوْلِهِ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ دُخُولَ الفاءِ في خَبَرِهِ، لِأنَّهُ لا يَجْرِي مَجْرى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلا يُشَبَّهُ بِهِ في دُخُولِ الفاءِ. قالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: الثّالِثُ، يَعْنِي مِن وُجُوهِ فَسادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، إنّا إنَّما قُلْنا السّارِقُ والسّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ هو الَّذِي يُضْمِرُهُ، وهو قَوْلُنا: فِيما يُتْلى عَلَيْكم، وفي شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ . (قُلْتُ): تَقَدَّمَ لَنا حِكْمَةُ المَجِيءِ بِالفاءِ وما رَبَطَتْ، وقَدْ قَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ: ومِمّا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السّارِقُ والسّارِقَةُ؛ والمَعْنى: حُكْمُ السّارِقِ والسّارِقَةِ، لِأنَّها آيَةٌ جاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ جَزاءِ المُحارِبِينَ وأحْكامِهِمْ، فَناسَبَ تَقْدِيرَ سِيبَوَيْهِ. وجِيءَ بِالفاءِ رابِطَةً الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ بِالأُولى، والثّانِيَةُ جاءَتْ مُوَضِّحَةً لِلْحُكْمِ المُبْهَمِ فِيما قَبْلَ ذَلِكَ. قالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: فَإنْ قالَ - يَعْنِي سِيبَوَيْهِ - الفاءُ تَتَعَلَّقُ بِالفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: والسّارِقُ والسّارِقَةُ؛ يَعْنِي: أنَّهُ إذا أتى بِالسَّرِقَةِ فاقْطَعُوا يَدَهُ، فَنَقُولُ: إذا احْتَجْتَ في آخِرِ الأمْرِ أنْ تَقُولَ السّارِقُ والسّارِقَةُ تَقْدِيرُهُ مَن سَرَقَ، فاذْكُرْ هَذا أوَّلًا حَتّى لا يُحْتاجَ إلى الإضْمارِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. (قُلْتُ): هَذا لا يَقُولُهُ سِيبَوَيْهِ، وقَدْ بَيَّنّا حُكْمَ الفاءِ وفائِدَتَها. قالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: الرّابِعُ، يَعْنِي مِن وُجُوهِ فَسادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: إذا اخْتَرْنا القِراءَةَ بِالنَّصْبِ، لَمْ تَدُلَّ عَلى أنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ القَطْعِ، وإذا اخْتَرْنا القِراءَةَ بِالرَّفْعِ أفادَتِ الآيَةُ هَذا المَعْنى، ثُمَّ إنَّ هَذا المَعْنى مُتَأكِّدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿جَزاءً بِما كَسَبا﴾، فَثَبَتَ أنَّ القِراءَةَ بِالرَّفْعِ أوْلى. (قُلْتُ): هَذا عَجِيبٌ مِن هَذا الرَّجُلِ، يَزْعُمُ أنَّ النَّصْبَ لا يُشْعِرُ بِالعِلَّةِ المُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ ويُفِيدُها الرَّفْعُ، وهَلْ هَذا إلّا مِنَ التَّعْلِيلِ بِالوَصْفِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الحُكْمُ ؟ فَلا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ الرَّفْعِ والنَّصْبِ لَوْ قُلْتَ: السّارِقُ لِيُقْطَعَ، أوِ اقْطَعِ السّارِقَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما فَرْقٌ مِن حَيْثُ التَّعْلِيلُ. وكَذَلِكَ الزّانِي لِيُجْلَدْ، أوِ اجْلِدِ الزّانِيَ. ثُمَّ قَوْلُهُ: إنَّ هَذا المَعْنى مُتَأكِّدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿جَزاءً بِما كَسَبا﴾، والنَّصْبُ أيْضًا يَحْسُنُ أنَّ يُؤَكَّدَ بِمِثْلِ هَذا، لَوْ قُلْتَ: اقْطَعِ اللِّصَّ جَزاءً بِما كَسَبَ صَحَّ. وقالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: الخامِسُ، يَعْنِي مِن وُجُوهِ فَسادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أنَّ سِيبَوَيْهِ قالَ: وهم يُقَدِّمُونَ الأهَمَّ فالأهَمَّ. والَّذِي هم بِبَيانِهِ أعْنى، فالقِراءَةُ بِالرَّفْعِ تَقْتَضِي ذِكْرَ كَوْنِهِ سارِقًا عَلى ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْعِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ أكْثَرُ العِنايَةِ مَصْرُوفًا إلى شَرْحِ ما يَتَعَلَّقُ بِحالِ السّارِقِ مِن حَيْثُ إنَّهُ سارِقٌ، وأمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ فَإنَّها تَقْتَضِي أنْ تَكُونَ العِنايَةُ بِبَيانِ القَطْعِ أتَمَّ مِنَ العِنايَةِ بِكَوْنِهِ سارِقًا. ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنَّ المَقْصُودَ في هَذِهِ الآيَةِ بَيانُ تَقْبِيحِ السَّرِقَةِ والمُبالَغَةُ في الزَّجْرِ عَنْها، فَثَبَتَ أنَّ القِراءَةَ بِالرَّفْعِ هي المُتَعَيِّنَةُ قَطْعًا. (قُلْتُ): الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ سِيبَوَيْهِ أنَّهم كانُوا يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيانُهُ أهَمُّ لَهم، وهم بِبَيانِهِ أعْنى - هو ما اخْتَلَفَتْ فِيهِ نِسْبَةُ الإسْنادِ كالفاعِلِ والمَفْعُولِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: فَإنْ قَدَّمْتَ المَفْعُولَ وأخَّرْتَ الفاعِلَ جَرى اللَّفْظُ كَما جَرى في الأوَّلِ، يَعْنِي في: ضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ زَيْدًا؛ قالَ: وذَلِكَ ضَرَبَ زَيْدًا عَبْدُ اللَّهِ، لِأنَّكَ إنَّما أرَدْتَ بِهِ مُؤَخَّرًا ما أرَدْتَ بِهِ مُقَدَّمًا، ولَمْ تُرِدْ أنْ تُشْغِلَ الفِعْلَ بِأوَّلَ مِنهُ وإنْ كانَ مُؤَخَّرًا في اللَّفْظِ، فَمِن ثَمَّ كانَ حَدُّ اللَّفْظِ أنْ يَكُونَ فِيهِ مُقَدَّمًا، وهو عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَثِيرٌ كَأنَّهم يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيانُهُ لَهم أهَمُّ، وهم بِبَيانِهِ أعْنى، وإنْ كانا جَمِيعًا يُهِمّانِهِمْ ويَعْنِيانِهِمْ. انْتَهى. والرّازِيُّ حَرَّفَ كَلامَ سِيبَوَيْهِ وأخَذَهُ حَيْثُ لا يُتَصَوَّرُ اخْتِلافُ نِسْبَةٍ وهو المُبْتَدَأُ والخَبَرُ، فَإنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلّا نِسْبَةٌ واحِدَةٌ بِخِلافِ الفاعِلِ والمَفْعُولِ، لِأنَّ المُخاطِبَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ في ذِكْرِ مَن صَدَرَ مِنهُ الضَّرْبُ فَيُقَدِّمُ الفاعِلَ، أوْ في ذِكْرِ مَن حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ فَيُقَدِّمُ المَفْعُولَ، لِأنَّ نِسْبَةَ الضَّرْبِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنَّظَرِ إلَيْهِما. وأمّا الآيَةُ فَهي مِن بابِ ما النِّسْبَةُ فِيهِ لا تَخْتَلِفُ، إنَّما هي (p-٤٨٢)الحُكْمُ عَلى السّارِقِ بِقَطْعِ يَدِهِ. وما ذَكَرَهُ الرّازِيُّ لا يَتَفَرَّعُ عَلى كَلامِ سِيبَوَيْهِ بِوَجْهٍ، والعَجَبُ مِن هَذا الرَّجُلِ وتَجاسُرِهِ عَلى العُلُومِ حَتّى صَنَّفَ في النَّحْوِ كِتابًا سَمّاهُ المُحَرَّرَ، وسَلَكَ فِيهِ طَرِيقَةً غَرِيبَةً بَعِيدَةً مِن مُصْطَلَحِ أهْلِ النَّحْوِ ومِن مَقاصِدِهِمْ، وهو كِتابٌ لَطِيفٌ مُحْتَوٍ عَلى بَعْضِ أبْوابِ العَرَبِيَّةِ، وقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنا أبا جَعْفَرِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَذْكُرُ هَذا التَّصْنِيفَ ويَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ جارِيًا عَلى مُصْطَلَحِ القَوْمِ، وإنَّ ما سَلَكَهُ في ذَلِكَ مِنَ التَّخْلِيطِ في العُلُومِ، ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ فَنٌّ ظَهَرَ فِيما يَتَكَلَّمُ بِهِ مِن غَيْرِ ذَلِكَ الفَنِّ أوْ قَرِيبًا مِنهُ مِن هَذا المَعْنى، ولَمّا وقَفْتُ عَلى هَذا الكِتابِ بِدِيارِ مِصْرَ رَأيْتُ ما كانَ الأُسْتاذُ أبُو جَعْفَرٍ يَذُمُّ مِن هَذا الكِتابِ ويَسْتَزِلُّ عَقْلَ فَخْرِ الدِّينِ في كَوْنِهِ صَنَّفَ في عِلْمٍ ولَيْسَ مِن أهْلِهِ. وكانَ أبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: لِكُلِّ عِلْمٍ حَدٌّ يُنْتَهى إلَيْهِ، فَإذا رَأيْتَ مُتَكَلِّمًا في فَنٍّ ما ومَزَجَهُ بِغَيْرِهِ فاعْلَمْ أنَّ: إمّا أنْ يَكُونَ مِن تَخْلِيطِهِ وتَخْبِيطِ ذِهْنِهِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مِن قِلَّةِ مَحْصُولِهِ وقُصُورِهِ في ذَلِكَ العِلْمِ، فَتَجِدُهُ يَسْتَرِيحُ إلى غَيْرِهِ مِمّا يَعْرِفُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ في إعْرابِ والسّارِقُ والسّارِقَةُ ما نَصُّهُ: ووَجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يَرْتَفِعا بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما، ودُخُولُ الفاءِ لِتَضَمُّنِها مَعْنى الشَّرْطِ، لِأنَّ المَعْنى: والَّذِي سَرَقَ والَّتِي سَرَقَتْ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما، والِاسْمُ المَوْصُولُ تَضَمَّنَ مَعْنى الشَّرْطِ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ، وفَضَّلَها سِيبَوَيْهِ عَلى قِراءَةِ العامَّةِ لِأجْلِ الأمْرِ، لِأنَّ زَيْدًا فاضْرِبْهُ أحْسَنُ مِن زَيْدٌ فاضْرِبْهُ. انْتَهى. وهَذا الوَجْهُ الَّذِي أجازَهُ وإنْ كانَ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم لا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأنَّ المَوْصُولَ لَمْ يُوصَلْ بِجُمْلَةٍ تَصْلُحُ لِأداةِ الشَّرْطِ، ولا بِما قامَ مَقامَها مِن ظَرْفٍ أوْ مَجْرُورٍ، بَلِ المَوْصُولُ هُنا ألْ، وصِلَةُ ألْ لا تَصْلُحُ لِأداةِ الشَّرْطِ، وقَدِ امْتَزَجَ المَوْصُولُ بِصِلَتِهِ حَتّى صارَ الإعْرابُ في الصِّلَةِ بِخِلافِ الظَّرْفِ والمَجْرُورِ، فَإنَّ العامِلَ فِيهِما جُمْلَةٌ لا تَصْلُحُ لِأداةِ الشَّرْطِ. وأمّا قَوْلُهُ في قِراءَةِ عِيسى: إنْ سِيبَوَيْهِ فَضَّلَها عَلى قِراءَةِ العامَّةِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الَّذِي ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ أنَّهُما تَرْكِيبانِ: أحَدُهُما زَيْدًا اضْرِبْهُ، والثّانِي زَيْدٌ فاضْرِبْهُ. فالتَّرْكِيبُ الأوَّلُ اخْتارَ فِيهِ النَّصْبَ، ثُمَّ جَوَّزُوا الرَّفْعَ بِالِابْتِداءِ. والتَّرْكِيبُ الثّانِي مَنَعَ أنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِداءِ، وتَكُونُ الجُمْلَةُ الأمْرِيَّةُ خَبَرًا لَهُ لِأجْلِ الفاءِ، وأجازَ نَصْبَهُ عَلى الِاشْتِغالِ، أوْ عَلى الإغْراءِ، وذَكَرَ أنَّهُ يَسْتَقِيمُ رَفْعُهُ عَلى أنْ يَكُونَ جُمْلَتانِ، ويَكُونَ زَيْدٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: هَذا زَيْدٌ فاضْرِبْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الآيَةَ فَخَرَّجَها عَلى حَذْفِ الخَبَرِ، ودَلَّ كَلامُهُ أنَّ هَذا التَّرْكِيبَ هو لا يَكُونُ إلّا عَلى جُمْلَتَيْنِ: الأُولى ابْتِدائِيَّةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قِراءَةَ ناسٍ بِالنَّصْبِ ولَمْ يُرَجِّحْها عَلى قِراءَةِ العامَّةِ، إنَّما قالَ: وهي في العَرَبِيَّةِ عَلى ما ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ القُوَّةِ؛ أيْ: نَصَبَها عَلى الِاشْتِغالِ أوِ الإغْراءِ، وهو قَوِيٌّ لا ضَعِيفٌ، وقَدْ مَنَعَ سِيبَوَيْهِ رَفْعَهُ عَلى الِابْتِداءِ، والجُمْلَةُ الأمْرِيَّةُ خَبَرٌ لِأجْلِ الفاءِ. وقَدْ ذَكَرْنا التَّرْجِيحَ بَيْنَ رَفْعِهِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وبَيَّنَ نَصْبَهُ عَلى الِاشْتِغالِ بِأنَّ الرَّفْعَ يَلْزَمُ فِيهِ حَذْفُ خَبَرٍ واحِدٍ، والنَّصْبُ يَلْزَمُ فِيهِ حَذْفُ جُمْلَةٍ وإضْمارُ أُخْرى، وزَحْلَقَةُ الفاءِ عَنْ مَوْضِعِها. وظاهِرُ قَوْلِهِ: والسّارِقُ؛ أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ حِرْزٌ لِلْمَسْرُوقِ، وبِهِ قالَ داوُدُ والخَوارِجُ، وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ شَرْطَ القَطْعِ إخْراجُهُ مِنَ الحِرْزِ، ولَوْ جَمَعَ الثِّيابَ في البَيْتِ ولَمْ يُخْرِجْها لَمْ يُقْطَعْ. وقالَ الحَسَنُ: يُقْطَعُ. والظّاهِرُ انْدِراجُ كُلِّ مَن يُسَمّى سارِقًا في عُمُومِ والسّارِقُ والسّارِقَةُ، لَكِنَّ الإجْماعَ مُنْعَقِدٌ عَلى أنَّ الأبَ إذا سَرَقَ مِن مالِ ابْنِهِ لا يُقْطَعُ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لا يُقْطَعُ الِابْنُ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: إنْ كانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِما فَلا قَطْعَ، وإنْ كانا يَنْهَيانِهِ عَنِ الدُّخُولِ قُطِعَ، ولا يُقْطَعُ ذَوُو المَحارِمِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، ولا الأجْدادُ مِن جِهَةِ الأبِ والأُمِّ عِنْدَ الجُمْهُورِ وعِنْدَ أشْهَبَ. وقالَ أبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ كُلُّ سارِقٍ سَرَقَ ما تُقْطَعُ فِيهِ اليَدُ، إلّا أنْ يُجْمِعُوا عَلى شَيْءٍ فَيُسَلَّمُ لِلْإجْماعِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ: لا تُقْطَعُ المَرْأةُ إذا سَرَقَتْ مِن مالِ زَوْجِها، ولا هو (p-٤٨٣)إذا سَرَقَ مِن مالِ زَوْجَتِهِ. وقالَ مالِكٌ: يُقْطَعانِ. والظّاهِرُ أنَّ مَن أقَرَّ مَرَّةً بِسَرِقَةٍ قُطِعَ، وبِهِ قالَ: أبُو حَنِيفَةَ، وزُفَرُ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، والثَّوْرِيُّ. وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وأبُو يُوسُفَ وابْنُ أبِي لَيْلى: لا يُقْطَعُ حَتّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُقْطَعُ سارِقُ المُصْحَفِ. وقالَ الشّافِعِيُّ، وأبُو يُوسُفَ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ القاسِمِ: يُقْطَعُ؛ إذا كانَتْ قِيمَتُهُ نِصابًا. والظّاهِرُ قَطْعُ الطَّيّارِ نِصابًا وبِهِ قالَ مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، ويَعْقُوبُ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ: وذَهَبَ مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، ويَعْقُوبُ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ: وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدٌ، وإسْحاقُ إلى أنَّهُ إنْ كانَتِ الدَّراهِمُ مَصْرُورَةً في كُمِّهِ لَمْ يُقْطَعْ، أوْ في داخِلِهِ قُطِعَ. واخْتُلِفَ في النَّبّاشِ إذا أخَذَ الكَفَنَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ومُحَمَّدٌ: لا يُقْطَعُ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ومَكْحُولٍ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: أجْمَعَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، في زَمَنٍ كانَ مَرْوانُ أمِيرًا عَلى المَدِينَةِ أنَّ النَّبّاشَ يُعَزَّرُ ولا يُقْطَعُ، وكانَ الصَّحابَةُ مُتَوافِرِينَ يَوْمَئِذٍ. وقالَ أبُو الدَّرْداءِ، وابْنُ أبِي لَيْلى، ورَبِيعَةُ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، والزُّهْرِيِّ ومَسْرُوقٍ، والحَسَنِ، والنَّخَعِيِّ، وعَطاءٍ، والظّاهِرُ أنَّهُ إذا كَرَّرَ السَّرِقَةَ في العَيْنِ بَعْدَ القَطْعِ فِيها لَمْ يُقْطَعْ، وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُقْطَعُ، وأنَّهُ إذا سَرَقَ نِصابًا مِن سارِقٍ لا يُقْطَعُ، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ. وقالَ مالِكٌ: قُطِعَ؛ والمُخاطَبُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْطَعُوا﴾ الرَّسُولُ أوْ وُلاةُ الأمْرِ كالسُّلْطانِ، ومَن أُذِنَ لَهُ في إقامَةِ الحُدُودِ، أوِ القُضاةُ والحُكّامُ، أوِ المُؤْمِنُونَ، لِيَكُونُوا مُتَظافِرِينَ عَلى إقامَةِ الحُدُودِ، أقْوالٌ أرْبَعَةٌ. وفَصَّلَ بَعْضُ العُلَماءِ فَقالَ: إنْ كانَ في البَلَدِ إمامٌ أوْ نائِبٌ لَهُ فالخِطابُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ وفِيها حاكِمٌ فالخِطابُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَإلى عامَّةِ المُؤْمِنِينَ، وهو مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ إذْ ذاكَ، إذا قامَ بِهِ بَعْضُهم سَقَطَ عَنِ الباقِينَ. والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ أنَّهُ يُقْطَعُ مِنَ السّارِقِ الثِّنْتانِ، لَكِنَّ الإجْماعَ عَلى خِلافِ هَذا الظّاهِرِ، وإنَّما يُقْطَعُ مِنَ السّارِقِ يُمْناهُ، ومِنَ السّارِقَةِ يُمْناها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْدِيَهُما يَدَيْهِما، ونَحْوُهُ: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤] اكْتَفى بِتَثْنِيَةِ المُضافِ إلَيْهِ عَنْ تَثْنِيَةِ المُضافِ، وأُرِيدَ بِاليَدَيْنِ اليَمِينانِ بِدَلِيلِ قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: والسّارِقُونَ والسّارِقاتُ فاقْطَعُوا أيْمانَهم. انْتَهى. وسَوّى بَيْنَ أيْدِيَهُما وقُلُوبُكُما ولَيْسا بِشَيْئَيْنِ، لِأنَّ بابَ صَغَتْ قُلُوبُكُما يَطَّرِدُ فِيهِ وضْعُ الجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، وهو ما كانَ اثْنَيْنِ مِن شَيْئَيْنِ كالقَلْبِ والأنْفِ والوَجْهِ والظَّهْرِ، وأمّا إنْ كانَ في كُلِّ شَيْءٍ مِنهُما اثْنانِ كاليَدَيْنِ والأُذُنَيْنِ والفَخِذَيْنِ فَإنَّ وضْعَ الجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ لا يَطَّرِدُ، وإنَّما يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ. لِأنَّ الذِّهْنَ إنَّما يَتَبادَرُ إذا أُطْلِقَ الجَمْعُ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ، فَلَوْ قِيلَ: قُطِعَتْ آذانُ الزَّيْدَيْنِ، فَظاهِرُهُ قَطْعُ أرْبَعَةِ الآذانِ، وهو اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ في مَدْلُولِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَمَعَ الأيْدِي مِن حَيْثُ كانَ لِكُلِّ سارِقٍ يَمِينٌ واحِدَةٌ، وهي المُعَرَّضَةُ لِلْقَطْعِ في السَّرِقَةِ، ولِلسُّرّاقِ أيْدٍ، ولِلسّارِقاتِ أيْدٍ، كَأنَّهُ قالَ: اقْطَعُوا أيْمانَ النَّوْعَيْنِ، فالتَّثْنِيَةُ لِلضَّمِيرِ إنَّما هي لِلنَّوْعَيْنِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: أيْدِيَهُما، أنَّهُ لا يُقْطَعُ الرِّجْلُ، فَإذا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمْنى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ اليُسْرى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ عُزِّرَ وحُبِسَ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ والجُمْهُورِ، وبِهِ قالَ: أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ. وقالَ عَلِيٌّ، والزُّهْرِيُّ، وحَمّادُ بْنُ أبِي سَلَمَةَ، وأحْمَدُ: تُقْطَعُ يَدُهُ اليُمْنى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ عُزِّرَ وحُبِسَ. ورَوى عَطاءٌ: لا تُقْطَعُ في السَّرِقَةِ إلّا اليَدُ اليُمْنى فَقَطْ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ عُزِّرَ وحُبِسَ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا سَرَقَ أوَّلًا قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمْنى، ثُمَّ في الثّانِيَةِ رِجْلُهُ اليُسْرى، ثُمَّ في الثّالِثَةِ يَدُهُ اليُسْرى، ثُمَّ في الرّابِعَةِ رِجْلُهُ اليُمْنى، ورُوِيَ هَذا عَنْ عُمَرَ. قِيلَ: ثُمَّ رَجَعَ إلى قَوْلِ عَلِيٍّ. وظاهِرُ قَطْعِ اليَدِ أنَّهُ يَكُونُ مِنَ المَنكِبِ مِنَ المِفْصَلِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أنَّهُ في اليَدِ مِنَ الأصابِعِ، وفي الرِّجْلِ مِن نِصْفِ القَدَمِ وهو مَعْقِدُ الشِّراكِ. ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَطاءٍ، وأبِي جَعْفَرٍ. وقالَ أبُو صالِحٍ السَّمّانُ: رَأيْتُ الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ (p-٤٨٤)مَقْطُوعًا مِن أطْرافِ الأصابِعِ، فَقِيلَ لَهُ: مَن قَطَعَكَ ؟ قالَ: خَيْرُ النّاسِ. والظّاهِرُ أنَّ المُتَرَتِّبَ عَلى السَّرِقَةِ هو قَطْعُ اليَدِ فَقَطْ. فَإنْ كانَ المالُ قائِمًا بِعَيْنِهِ أخَذَهُ صاحِبُهُ، وإنْ كانَ السّارِقُ اسْتَهْلَكَهُ فَلا ضَمانَ عَلَيْهِ، وبِهِ قالَ: مَكْحُولٌ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، وابْنُ سِيرِينَ، والنَّخَعِيُّ في قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ. وقالَ الحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، والنَّخَعِيُّ في قَوْلِ حَمّادٍ، وعُثْمانُ البَتِّيُّ، واللَّيْثُ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ وإسْحاقُ: يَضْمَنُ ويُغَرَّمُ. وقالَ مالِكٌ: إنْ كانَ مُوسِرًا ضَمِنَ أوْ مُعْسِرًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. ﴿جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ﴾ قالَ الكِسائِيُّ: انْتَصَبَ جَزاءً عَلى الحالِ. وقالَ قُطْرُبٌ: عَلى المَصْدَرِ، أيْ: جازاهم جَزاءً. وقالَ الجُمْهُورُ: هو عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، وبِما مُتَعَلِّقٌ بِجَزاءً، وما مَوْصُولَةٌ؛ أيْ: بِالَّذِي كَسَباهُ. ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ أيْ: جَزاءً بِكَسْبِهِما، وانْتِصابُ نَكالًا عَلى المَصْدَرِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. والعَذابُ: النَّكالُ، والنَّكَلُ: القَيْدُ؛ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ في قَوْلِهِ: (فَجَعَلْناها نَكالًا) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَزاءً ونَكالًا مَفْعُولٌ لَهُما. انْتَهى، وتَبِعَ في ذَلِكَ الزَّجّاجَ. قالَ الزَّجّاجُ: هو مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ؛ يَعْنِي جَزاءً. قالَ: وكَذَلِكَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. إلّا إذا كانَ الجَزاءُ هو النَّكالُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ البَدَلِ. وأمّا إذا كانا مُتَبايِنَيْنِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونا مَفْعُولَيْنِ لَهُما إلّا بِواسِطَةِ حَرْفِ العَطْفِ. ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قِيلَ: المَعْنى عَزِيزٌ في شَرْعِ الرَّدْعِ، حَكِيمٌ في إيجابِ القَطْعِ. وقِيلَ: عَزِيزٌ في انْتِقامِهِ مِنَ السّارِقِ وغَيْرِهِ مِن أهْلِ المَعْصِيَةِ، حَكِيمٌ في فَرائِضِهِ وحُدُودِهِ. رُوِيَ أنَّ بَعْضَ الأعْرابِ سَمِعَ قارِئًا يَقْرَأُ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾؛ إلى آخِرِها، وخَتَمَها بِقَوْلِهِ: واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ فَقالَ: ما هَذا كَلامٌ فَصِيحٌ، فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ التِّلاوَةُ كَذَلِكَ، وإنَّما هي: واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ فَقالَ: بَخٍ بَخٍ، عَزَّ فَحَكَمَ، فَقَطَعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب