الباحث القرآني

قوله تعالي: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ الآية. اختلف النحويون في وجه رفعها: فقال سيبويه والأخفش وكثير من البصريين: ارتفع (السارقُ والسارقةُ) على معنى: ومما نقُصّ عليك ونوحي إليك السارق والسارقة. قالوا: ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾ [النور: 2] وقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: 16]. قال سيبويه: والاختيار في هذا النصب في العربية كما تقول: زيدا أضربه. وأبت العامة القراءة إلا بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر [[هو أبو عمر عيسى بن عمر الهمداني الكوفي الأعمى القارئ الثقة، قرأ على == عاصم بن أبي النجود وغيره وقرأ عليه الكسائي وغيره، وكان مقرئ الكوفة بعد حمزة توفي -رحمه الله- سنة 156 هـ. انظر: "معرفة القراء الكبار" 1/ 119، "غاية النهاية" 1/ 612، "التقريب" ص 440 (5314).]]: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بالنصب، ومثله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النور: 2] أيضًا [["الكتاب" 1/ 142 - 144، "معاني الزجاج" 2/ 171، 172، بتصرف، وانظر: "البحر المحيط" 3/ 477، 478.]]. فالاختيار عند سيبويه النصب في هذا. قال أبو إسحاق: والجماعة أولى بالاتباع، والدليل على أن القراءة الجيدة بالرفع قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ [النساء: 16] لم يقرأه أحد: واللذين [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 172.]]. قال المبرد [[لا يزال المؤلف ينقل من "معاني الزجاج" 2/ 172.]]: وأختار أن يكون ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ رفعًا بالابتداء؛ لأن قصد ليس إلى أحد بعينه، فليس هو مثل قولك: زيدًا أضربه، إنما هو كقولك: من سرق فاقطع يده، ومن زنا فاجلده [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 172.]]. وهذا قول الفراء؛ لأنه قال: وإنما يختار العرب الرفع في: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ لأنهما غير مؤقتين، فوجها توجيه الجزاء، كقولك: من سرق فاقطعوا يده، و (من) لا يكون إلا رفعا، ولو أردت سارقًا بعينه وسارقة بعينها كان النصب وجه الكلام [["معاني القرآن" للفراء 1/ 306، وانظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 228.]]. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 172.]]. وقوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾. دخلت الفاء في خبر السارق للشرط المنوي؛ لأن المعنى: من سرق فاقطعوا يده [[انظر: "زاد المسير" 2/ 349، "البحر المحيط" 3/ 482.]]، وعلى هذا أيضًا قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: 16]، ومثله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾ [النور: 2]. والمراد بالأيدي في هذه الآية: الأيمان، قاله الحسن والسدي والشعبي [[انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 228، "بحر العلوم" 1/ 433.]]. وكذلك هو في قراءة عبد الله: (فاقطعوا أيمانهما) [[أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" 6/ 228، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 433، و"النكت والعيون" 2/ 35، والبغوي في "تفسيره" 3/ 51.]]. وإنما قال: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ ولم يقل: يديهما؛ لأنه أراد يمينًا من هذا، أو يمينًا من هذه [[في (ش): (هذا).]]، فجمع إذ ليس في الجسد إلا يمين واحدة. قال الفراء: وكل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافًا إلى اثنين فصاعدًا جمع، فقيل: هُشّمت رؤوسهما، ومُلِئتَ ظهورهما وبطونهما ضربًا، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4]. قال: وإنما اختير الجمع على التثنية؛ لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين [[في (ش): (اثنان اثنان)، وما أثبته هو الموافق لـ "معاني القرآن".]] في الإنسان، كاليدين والرجلين والعينين، واثنان من اثنين جمع، لذلك [[في (ش): (كذلك).]] تقول قطعت أرجلهما وفقأت عيونهما، فلما جرى الأكثر على هذا ذهب بالواحد إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين [[في "معاني القرآن" 1/ 307 التثنية.]]. قال: ويجوز التثنية كقول الهُذَلي [[هو أبو ذؤيب، تقدمت ترجمته.]]: فتخَالَسَا نفسَيهِمَا بنَوافذٍ [[عجز البيت كما عند الفراء: كنوافذ العبط التي لا ترقع وهو في "ديوان الهذليين" 1/ 20. والبيت في وصف فارسين يتنازلان، وتخالسا نفسيهما أراد كل واحد منهما اختلاس نفس الآخر وانتهاز الفرصة للقضاء عليه، والنوافذ الطعنات النافذة، والعبط جمع عبيط وهو ما يشق.]] لأنه الأصل، ويجوز هذا أيضاً فيما ليس من خلق الإنسان، كقولك للاثنين: خليتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قمصكما. قال: ويجوز التوحيد أيضاً لو قلت في الكلام: السارق والسارقة فاقطعوا يمينهما، جاز؛ لأن المعنى: اليمين من كل واحد منهما، كما قال الشاعر: كُلُوا في نِصفِ بَطنِكم تَعِيشُوا [[عجزه كما عند الفراء: فان زمانكم زمن خميص وهو في "الكتاب" 1/ 210 ولا يعرف قائله. والخميص من المخمصة وهي الجوع. والشاهد منه أنه استعمل المفرد للجمع: بطنكم والمراد: بطونكم.]] ويجوز في الكلام أن تقول: ائتني برأس شاتين، وبرأسي شاة، فمن قال: برأس شاتين، أراد الرأس من كل شاة، ومن قال: برأسي شاة، أراد رأسي هذا الجنس [["معاني القرآن" 1/ 306 - 308 بتصرف، وانظر: "الكتاب" 1/ 210، "زاد المسير" 2/ 349.]]. وقال الزجاج: إنما جمع ما كان في الشيء منه واحد عند الإضافة إلى اثنين؛ لأن الإضافة تبين أن المراد بذلك الجمع التثنية لا الجمع، وذلك أنك إذا قلت: أشبعت بطونهما، علم أن للاثنين بطنين فقط، وأصل التثنية الجمع؛ لأنك إذا ثنّيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد، (وربما كان لفظ الجمع أخف من لفظ الاثنين، فيختار لفظ الجمع ولا يشتبه ذلك بالتثنية عند الإضافة إلى اثنين [[ما بين القوسين ليس في "معاني الزجاج".]])؛ لأنك إذا قلت: قلوبهما، فالتثنية في (هما) قد أغنتك عن التثنية في (قلب). قال: وإن ثُنَّي ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند جميع النحويين، وأنشد: ظَهْراهُما مِثل ظُهُور التُّرسَينْ [[رجز لخطام المجاشعي أو لهميان بن قحافة وهو في "الكتاب" 2/ 48، "معاني الفراء" 3/ 17، يصف فيه فلاتين، وقبله: وَمهَمهين قَذِفين مَرْتَين ... جِبتُهما بالنَّعت لا بِالنَّعتَين ظهرهما ................]] فجاء باللغتين [[وشبه الفلاتين بالترسين في الاستواء. والشاهد منه أنه ثَنَّى وجَمَع المضاف للمثنى.]]. وهذا كما حكينا عن الفراء في قول الهذلي: فتخالسا نفسيهما [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 173، وانظر: "الكتاب" 2/ 48، 49.]]. (قال [[ساقط من (ش).]]) وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد الذي ليس من شيء إذا أردت به التثنية، كقول العرب: وضعا رحالهما، يريد رَحلَي راحلتيهما [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 173، وانظر: "الكتاب" 2/ 48، 49.]]. وهذا كما حكى الفراء: فرقتما قمصكما. قال أبو علي: (..) [[ما بين القوسين بياض في النسختين.]] اليد اليمنى وتركهم لقطع اليد اليسرى في دلالة على أن اليد اليسرى لم ترد بقوله تعالى [[ساقط من (ج).]]: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ ألا ترى أنها لو أريدت بذلك لم يكونوا ليدعوا نص القرآن إلى غيره. وهذا يدل على أن جمع اليد في هذه الآية على حد جمع القلب في قوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4]. ودلت قراءة عبد الله على أن المراد بالأيدي الأيمان [[تقدم تخريج هذه القراءة قريبًا، ولم أقف على قول أبي علي.]]. فإن قيل: إن قراءة عبد الله لا تُعلم اليوم قراءة، لانقطاع النقل، فلا يلزم به حجة. قيل: قراءته تكون حجة في إيجاب العمل، كما أنه لو روى خبرًا أن المراد بالأيدي التخصيص والقصر على الأيمان وجب المصير إليه، فكذلك إذا رُوي عنه على أنه قرآن وجب قبوله والعمل به، وكان أولى من الخبر الذي يرويه. قال أهل العلم: هذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق، وتفصيل ذلك مأخوذ من السنة [[انظر: "زاد المسير" 2/ 350.]]. أما السارق الذي يجب عليه القطع فهو البالغ العاقل [[انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 167.]] العالم بتحريم السرقة، فأما من كان حديث العهد بالإسلام لا يعلم أن السرقة حرام فلا قطع عليه. والمسروق يجب أن تكون قيمته ربع دينار [[هذا ما عليه أكثر العلماء، انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 229، والبغوي في "تفسيره" 3/ 52، "زاد المسير" 2/ 350، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 160، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63.]]، والاعتبار بالمضروب. فإذا أخرجه من حرز مثله، بعد أن لا يكون له شبهة فيه وجب القطع، والشبهة مثل شبهة المملوك في مال السيد، والولد مع الوالد، والوالد مع الولد، وكذلك شبهة المضطر عند المخمصة، وخوف التلف. ولذلك رفع عمر -رضي الله عنه- القطع عام الرمادة [[قال ابن منظور: سمي بذلك لأن الناس والأموال هلكوا فيه كثيراً، وقيل: هو لجدب تتابع فصير الأرض والشجر مثل لون الرماد، والأول أجود. "اللسان" 3/ 1727 (رمد).]]. هذا جملة مذهب الشافعي -رضي الله عنه- [[انظر: "الأم" 6/ 147 - 149، والبغوي في "تفسيره" 3/ 52، و"التفسير الكبير" 11/ 226، 227، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63.]]. وعند أبي حنيفة -رضي الله عنه- لا يجب القطع فيما دون عشرة دراهم [[انظر: الطبري في "تفسيره" 6/ 229، و"بحر العلوم" 1/ 434، والبغوي في "تفسيره" 3/ 52، و"زاد المسير" 2/ 351، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63 - 64.]]. وعند مالك -رضي الله عنه- يقطع في ثلاثة دراهم فصاعد [[انظر: "المدونة" 4/ 413، والطبري في "تفسيره" 6/ 229، "زاد المسير" 2/ 351، والقرطبي في "تفسيره" 6/ 160، وابن كثير في "تفسيره" 2/ 63.]]. ودليل الشافعي ما روى الزهري عن عمرة [[هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، أكثرت من الرواية عن عائشة -رضي الله عنها-، وهي فقيهة ثقة أخرج حديثها الجماعة، ماتت == -رحمها الله- قبل سنة 100هـ، وقيل بعدها. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 507، "التقريب" ص 750 (8643).]]، عن عائشة أن النبي ﷺ: كان يقطع في ربع دينار فصاعد [[أخرجه البخاري (6789) كتاب الحدود، باب: قول الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ 8/ 16، 17، ومسلم (1684) كتاب الحدود، باب: حد السرقة ونصابها 3/ 1312 (ح 1).]]. وهذا مذهب الأوزاعي وإسحاق [[ذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 161 عن إسحاق.]]. وذهب ابن عباس وابن الزبير إلى ظاهر الآية، فأوجبا القطع في القليل. قال ابن عباس: في دانِق [[لم أقف عليه. وقد أخرج الطبري في "تفسيره" عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ أخاص أم عام؟ فقال: بل عام. "جامع البيان" 6/ 229. وهذا يحتمل أنه أراد القلة أو هو موافق لما تقدم من أقوال العلماء، انظر ابن كثير في "تفسيره" 2/ 63.]]، وقال ابن الزبير: في دِرهَم [[قال السمرقندي: ورُوي عن ابن الزبير أنه قطع في نَعلٍ ثمنه درهم "بحر العلوم" 1/ 433. هذا ما وجدته عن ابن الزبير.]]. والقطع يكون من المفصل بين الكف والساعد [[انظر: "زاد المسير" 2/ 354.]]، وهو الكوع والرُّسغ ويقطع في المرة الأولى يده اليمنى، وفي المرة الثانية رجله اليسرى، وفي المرة الثالثة يده اليسرى، وفي المرة الرابعة رجله اليمنى، ثم يحبس في المرة الخامسة [[هذا قول مالك والشافعي. انظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 53، "زاد المسير" 2/ 354.]]، والقتل منسوخ [[هذا إذا كان القتل ثابتًا، مع أنه لم يثبت، انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 172.]]. وعند أبي حنيفة لا يقطع في الثالثة [[وهو قول أحمد أيضًا. انظر: البغوي في "تفسيره" 3/ 54، "زاد المسير" 2/ 354.]]، وعند الشافعي يغرم قيمة السرقة مع القطع، وعند أبي حنيفة لا غرم مع القطع، ولكن إذا وجد المسروق عنده أخذ وردّ إلى صاحبه [[انظر القرطبي في "تفسيره" 6/ 165.]]. وقوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾. قال الزجاج: نصب؛ لأنه مفعول له [[في "معاني الزجاج" 2/ 174: به.]]. المعنى: فاقطعوهم لجزاء [[عند الزجاج: بجزاء.]] فعلهم، وكذلك ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾، وإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ لأن المعنى: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ جازوهم ونكلوا بهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 174، وانظر: القرطبي في "تفسيره" 6/ 174.]]. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي: (عزيز) في انتقامه، (حكيم) فيما أوجبه من قطع يده [[أي: يد السارق.]]. قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة وبجنبي أعرابي فقرأت هذه الآية، فقلت: (نكالًا من الله والله غفور رحيم) سهوًا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد. فأعدت: والله غفور رحيم. فقال: ليس هذا كلام الله. فتنبهت وقرأت: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع [[ذكره في "الوسيط" 3/ 876، وانظر: "زاد المسير" 2/ 354.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب