قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ . واعْلَمْ أنَّ السَّرِقَةَ في العُرْفِ واللُّغَةِ اخْتِزالُ شَيْءٍ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ ومُسارَقَةِ الأعْيُنِ، وقَدْ ورَدَ في بَعْضِ الأخْبارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ أسْوَأ النّاسِ سَرِقَةً هو الَّذِي يَسْرِقُ صَلاتَهُ” . قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْرِقُ صَلاتَهُ؟ قالَ: لا يُتِمُّ رُكُوعَها وسُجُودَها». إلّا أنَّهُ لَيْسَ سارِقًا مِن حَيْثُ مَوْضِعُ الِاشْتِقاقِ، فَإنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُسارَقَةُ الأعْيُنِ غالِبًا. (p-٧١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ . ولَمْ يَخْتَلِفِ العُلَماءُ في أنَّ اليَدَ المَقْطُوعَةَ بِأوَّلِ سَرِقَةٍ هي اليُمْنى، فَهي إذا مُرادُ اللَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ . واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾ عِنْدَ قَوْمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ في إيجابِ قَطْعِ مَن شَمَلَهُ اسْمُ سارِقٍ، إلّا مَن خَصَّهُ الدَّلِيلُ وهو عُمُومٌ، وعِنْدَهم في كُلٍّ مِقْدارٌ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وأبى ذَلِكَ آخَرُونَ فَإنَّهُ لَمّا قالَ: سارِقٌ، ولَمْ يَقُلْ: سارِقُ ماذا؟، والإنْسانُ يَقُولُ: سَرَقْتُ كَلامَ فُلانٍ، وسَرَقْتُ عِلْمَهُ وحَدِيثَهُ، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «“إنَّ أسْوَأ النّاسِ سَرِقَةً مَن سَرَقَ مِن صَلاتِهِ. قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْرِقُ صَلاتَهُ؟ قالَ: لا يُتِمُّ رُكُوعَها وسُجُودَها» . فَذَكَرُوا أنَّ اسْمَ السّارِقِ لا يُمْكِنُ أنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ القَطْعُ، لِاعْتِبارِنا فِيهِ شُرُوطًا لا يَدُلُّ لَفْظُ السّارِقِ عَلَيْها، ولَزِمَهم عَلى هَذا أنْ لا يَتَعَلَّقَ بِعُمُومِ لَفْظِ البَيْعِ والنِّكاحِ والإجارَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، لِاعْتِبارِ شُرُوطٍ فِيها لا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْها.
وقَدْ قالَ غَيْرُهُمْ: بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ وبِأمْثالِهِ نَظَرًا إلى عُمُومِ اللَّفْظِ، نَعَمْ؛ سَرِقَةُ الكَلامِ والعِلْمِ لا تُفْهَمُ في المُتَعارَفِ مِن إطْلاقِ اسْمِ السَّرِقَةِ، وإنَّما الكَلامُ في المُتَعارَفِ، كَما لا يُفْهَمُ مِن إطْلاقِ الزِّنا زِنا القِرْدِ والبَهائِمِ، ولِما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”أسْوَأُ السُّرّاقِ حالًا مَن سَرَقَ مِن صَلاتِهِ“،» لَمْ يَفْهَمِ النّاسُ وهم أهْلُ اللُّغَةِ مَعْناهُ، حَتّى فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ مَعْناهُ وما أرادَهُ، لِأنَّهُ (p-٧٢)لَمْ يَكُنْ مِن تَعارُفِ أهْلِ اللُّغَةِ، ولَوْ قالَ: ”أسْوَأُ السُّرّاقِ مَن سَرَقَ مالَ فُلانٍ“، لَما احْتاجُوا إلى المُراجَعَةِ، ولَما قالُوا: كَيْفَ يَسْرِقُ مالَ فُلانٍ؟ . نَعَمْ؛ هَذا الجِنْسُ إنَّما يَمْتَنِعُ التَّعَلُّقُ بِهِ إذا كانَ مَخْصُوصًا بِمَخْصُوصٍ مُجْمَلٍ، فَأمّا إذا لَمْ يَكُنِ المَخْصُوصُ مُجْمَلًا، فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ، والمَخْصُوصُ المُجْمَلُ طارِئٌ عَلى اللَّفْظِ العامِّ، فَلا بُدَّ مِن بَيانِ مِثْلِهِ هاهُنا حَتّى يَمْتَنِعَ التَّعَلُّقُ بِهِ، وإلّا فالتَّعَلُّقُ بِهِ جائِزٌ، وهَذا مِمّا بَسَطْنا القَوْلَ فِيهِ في الأُصُولِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ ذَكَرْناها هُناكَ، فَلْيُوجَدْ مِن ثَمَّ.
وإذا تَبَيَّنَ أنَّ المُخَصَّصَ في حُكْمِ العارِضِ، فَإذا اخْتَلَفْنا في مِقْدارٍ، فالَّذِي يَأْخُذُ بِالأقَلِّ ويُوجِبُ القَطْعَ فِيهِ أسْعَدُ حالًا، لِأنَّهُ يَسْتَنِدُ فِيهِ إلى عُمُومِ اللَّفْظِ، إلّا فِيما يَسْتَيْقِنُ خُصُوصَهُ بِهِ، وكَذَلِكَ إذا حَصَلَ الخِلافُ في النَّبّاشِ أوِ الفَواكِهِ الرَّطْبَةِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَخْتَلِفُ فِيهِ. والمُتَّفَقُ عَلَيْهِ في مَوْضِعِ القَطْعِ مَفْصِلُ الكُوعِ، واسْمُ اليَدِ مُطْلَقًا يَتَعارَفُ بِهِ ذَلِكَ، قالَ تَعالى: ﴿إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ [النور: ٤٠] . وقالَ لِمُوسى: ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ﴾ [النمل: ١٢] . ويَمْتَنِعُ أنْ يَدْخُلَ بِها إلى المِرْفَقِ، ولَوْ كانَ اسْمُ اليَدِ مُتَناوِلًا لِلْعُضْوِ إلى المَنكِبِ، لَكانَ يُقالُ: قَطَعَ بَعْضَ يَدِ السّارِقِ، وهَذا خِلافُ العُرْفِ، وقَدْ شَرَحْنا هَذا مِن قَبْلُ، والمُعْتَمَدُ فِيهِ الإجْماعُ. والشّافِعِيُّ حَمَلَ مُطْلَقَ اليَدِ في التَّيَمُّمِ عَلى اليَدِ إلى المِرْفَقِ كَما في الوُضُوءِ، لا لِأنَّ اسْمَ اليَدِ يَشْمَلُ ذَلِكَ مِن حَيْثُ اللُّغَةُ، ولَكِنْ لِأنَّ التَّوْقِيفَ ورَدَ بِذَلِكَ، (p-٧٣)ولِأنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ في اليَدِ، والظّاهِرُ أنَّهُ يَجْرِي عَلى ما أُجْرِيَ الأصْلُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ بَيْنَ البَدَلِ والأصْلِ خِلافٌ في الرَّأْسِ والرِّجْلِ، إذا شَرَعَ في اليَدِ يَظْهَرُ عَلى أنَّهُ شَرَعَ عَلى نَحْوِ ما شَرَعَ لَهُ الأصْلُ. وهَذا وإنْ كانَ لا يَظْهَرُ عَلى ما يَجِبُ، فالتَّوْقِيفُ أقْوى مُعْتَصِمٍ. واعْلَمْ أنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ لَيْسَ فِيها تَعَرُّضٌ لِدُفُعاتِ السَّرِقَةِ، وإنَّما فِيهِ التَّعَرُّضُ لِلدُّفْعَةِ الأُولى، وقَطْعُ اليَدِ اليُسْرى والرِّجْلِ اليُمْنى عَلى مَذْهَبِ الإمامِ الشّافِعِيِّ، والرِّجْلِ اليُسْرى في الكَرَّةِ الثّانِيَةِ عَلى المَذاهِبِ كُلِّها مُتَلَقّى مِنَ السُّنَّةِ لا مِنَ الكِتابِ فاعْلَمْهُ، ولَيْسَ في الكِتابِ إلّا بَيانُ الكَرَّةِ الأُولى. نَعَمْ؛ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى بَيانُ مُوجِباتِ جَرائِمِ قُطّاعِ الطَّرِيقِ عَلى اخْتِلافِ جَرائِمِهِمْ عَلى ما ذَكَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، فَإنَّ تِلْكَ العُقُوباتِ المُخْتَلِفَةَ تَعَلَّقَتْ بِجَرائِمَ مُخْتَلِفَةٍ في الكَرَّةِ الأُولى، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ ما تَعَلَّقَ بِالأُولى، وبَيَّنَ ما يَتَعَلَّقُ بِالكَرَّةِ الثّانِيَةِ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ الأُولى. نَعَمْ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدُّفْعَةِ الثّانِيَةِ لِأنَّهُ يَنْدُرُ مِنَ السّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ أنْ يَرْجِعَ وهو ناقِصٌ إلى السَّرِقَةِ الَّتِي يَحْتاجُ فِيها إلى مُلابَسَةِ الإغْرارِ، وسُرْعَةِ الحَرَكَةِ، والمُخاطَرَةِ بِالمُهْجَةِ، وشِدَّةِ العَدْوِ، والَّذِي يَدُهُ ناقِصَةٌ لا يَتَأتّى مِنهُ ذَلِكَ، فَأبانَ اللَّهُ تَعالى جَزاءَ السّارِقِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَرَّةِ الثّانِيَةِ، وتَعَرَّضَ الرَّسُولُ ﷺ لَها.
والسّارِقُ مِن بَيْتِ المالِ لا قَطْعَ عَلَيْهِ في ظاهِرِ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ، وهو مَذْهَبُ الجَماعَةِ لِأنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا، وإلَيْهِ أشارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ مِغْفَرًا مِنَ الخُمْسِ، فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَطْعًا، قالَ: لِأنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا، وفي وجْهٍ يَجِبُ القَطْعُ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ الآيَةِ وبِلَفْظِ السَّرِقَةِ.
ويَتَعَلَّقُ بِعُمُومِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى والإيماءِ إلى التَّعْلِيلِ في إيجابِ القَطْعِ عَلى ذَوِي الأرْحامِ، بِسَرِقَةِ أمْوالِ أقارِبِهِمْ خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ. (p-٧٤)وإذا سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ عادَ وسَرَقَ ذَلِكَ الشَّيْءَ نَفْسَهُ قُطِعَتْ رِجْلُهُ عِنْدَنا، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن جِهَةِ العُمُومِ، فَإنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ العُمُومُ قَطْعُ اليَدِ، والواجِبُ في الكَرَّةِ الثّانِيَةِ قَطْعُ الرِّجْلِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مِن حَيْثُ التَّعْلِيلُ، وأنَّ الثّانِي إذا كانَ مِثْلَ الأوَّلِ، وتَعَلَّقَ بِهِ ما تَعَلَّقَ بِالأوَّلِ، أوْ مِثْلَ ما تَعَلَّقَ بِالأوَّلِ، فَيَكُونُ الِاحْتِجاجُ بِالعِلَّةِ، لا بِالِاسْمِ، فَلْيَعْرِفِ العارِفُ هَذِهِ المَراتِبَ ما يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ مِنهُ بِالعُمُومِ، وما يَحْتَجُّ فِيهِ بِالمَفْهُومِ مِن الِاسْمِ.
واعْلَمْ أنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلى السّارِقِ مِنَ القَطْعِ، يَجِبُ جَزاءً عَلى الفِعْلِ أوْ زَجْرًا، فالشَّرْعُ اعْتَنى بِبَيانِهِ وإيضاحِ حُكْمِهِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِلضَّمانِ الَّذِي لا يَرْجِعُ إلى الفِعْلِ، ولا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وإنَّما هو بَدَلٌ عَنِ المَحَلِّ، كَما أوْجَبَ عَلى الزّانِي الجَلْدَ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَهْرِ، وأوْجَبَ عَلى قاطِعِ الطَّرِيقِ القَتْلَ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدِّيَةِ مِن بَعْدِ التَّوْبَةِ في قَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤] لِأنَّ ذَلِكَ حَوالَةٌ عَلى بَيانٍ آخَرَ.
{"ayah":"وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤا۟ أَیۡدِیَهُمَا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلࣰا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ"}