الباحث القرآني

فِيهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ [[كذا في كل الأصول، غير أنها ست وعشرون سقط المسألة الثالثة عشرة ما عدا: ل. سقط منها المسألة السادسة والعشرون.]] مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما﴾ الْآيَةَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَخْذَ الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ ذَكَرَ حُكْمَ السَّارِقِ مِنْ غير حراب على ما يأتي بَيَانُهُ أَثْنَاءَ الْبَابِ، وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالسَّارِقِ قَبْلَ السَّارِقَةِ عَكْسَ الزِّنَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ آخِرَ الْبَابِ. وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حُكِمَ بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ الْخِيَارَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَ الْيَمَنِيِّ [[هو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل سرق عقدا لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضى الله عنه فقطع يده اليسرى.]] الَّذِي سَرَقَ الْعِقْدَ، وَقَطَعَ عُمَرُ يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن ابن سَمُرَةَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ" بَعْضَ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، أَوْ فِيمَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ سَرَقَ دِرْهَمَيْنِ وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ لِانْحِطَاطِ الصَّرْفِ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ فِيهِمَا. وَالْعُرُوضُ لَا تُقْطَعُ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَلَّ الصَّرْفُ أَوْ كَثُرَ، فَجَعَلَ مَالِكٌ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ تَقْوِيمَ الْعُرُوضِ بِالدَّرَاهِمِ فِي الْمَشْهُورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِنْ سَرَقَ ذَهَبًا فَرُبُعُ دِينَارٍ، وَإِنْ سَرَقَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَانَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنَ الْوَرِقِ. وَهَذَا نَحْوَ مَا صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْحُجَّةُ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ حَجَفَةً [[الحجفة بالتحريك: الترس، وقيل: هي من الجلود خاصة كالدرقة.]]، فَأَتَى به النبي ﷺ فأمر بِهَا فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الرُّبُعِ دِينَارٍ أَصْلًا رَدَّ إِلَيْهِ تَقْوِيمَ الْعُرُوضِ لَا بِالثَّلَاثَةِ دَرَاهِمَ عَلَى غَلَاءِ الذَّهَبِ وَرُخْصِهِ، وَتَرَكَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ لِمَا رَآهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي الْمِجَنِّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَنَسٌ يَقُولُ: خمسة دراهم، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الرُّبُعِ دِينَارٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَهُ، وَرَفَعَهُ [[حديث عائشة صحيح عند الإباضية مرفوع كما في مسند الربيع. وحديث المجن أيضا فيه عن أبي سعيد الخدري الآتي بأربعة دراهم إلا أن العمل بحديث عائشة.]] مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ لِحِفْظِهِ وَعَدَالَتِهِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا فَإِنْ بَلَغَ الْعَرَضُ الْمَسْرُوقُ رُبُعَ دِينَارٍ بِالتَّقْوِيمِ قُطِعَ سَارِقُهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، فَقِفْ عَلَى هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فَهُمَا عُمْدَةُ الْبَابِ، وما أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَيْلًا، أَوْ دِينَارًا ذَهَبًا عَيْنًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِالْمَتَاعِ مِنْ مِلْكِ الرَّجُلِ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قُوِّمَ الْمِجَنُّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَرَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهُ، قَالَهُ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ. وَقَوْلٌ سَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ في كل ماله قِيمَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ عَنْهُ، وَالثَّانِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَالثَّالِثَةُ حَكَاهَا قَتَادَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا الْقَطْعَ فِي كَمْ يَكُونُ عَلَى عَهْدِ زِيَادٍ؟ فَاتَّفَقَ رَأْيُنَا عَلَى دِرْهَمَيْنِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَكَافِئَةٌ وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ لَكَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ [[من ع.]]، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ مَجْرَى الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ [[مفحص القطاة حيث تفرخ فيه من الأرض.]] قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ضَرِيَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْأَعْمَشُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ كَالتَّفْسِيرِ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ. قُلْتُ: كَحِبَالِ السَّفِينَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- اتَّفَقَ جُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَخْرَجَ مِنْ حِرْزٍ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: إِذَا جَمَعَ الثِّيَابَ في البيت قطع. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا فِي قَوْلٍ آخَرَ مِثْلَ قَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فصار اتفاقا صحيحا. والحمد لله. الثالثة- الحزر هُوَ مَا نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وهو يختلف في كل شي بِحَسَبِ حَالِهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ خَبَرٌ ثَابِتٌ لَا مَقَالَ فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْحِرْزَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ، أَنَّ رسول الله ﷺ قال: (لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ [[الثمر المعلق: الثمر في الأشجار. وحريسة الجبل: ما يحرس بالجبل. والجرين: البيدر موضع يداس فيه البر وقد يكون للتمر والعنب.]] وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ يَتَّصِلُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: (مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً [[الخبنة: الحجزة في السراويل، والوعاء يحمل فيه الشيء أيضا وما يحمل تحت الإبط.]] فلا شي عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ (وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ) بَدَلَ (وَالْعُقُوبَةُ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: ثُمَّ نُسِخَ الْجَلْدُ وَجُعِلَ مَكَانَهُ الْقَطْعُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُهُ (غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ) منسوخ لا أعلم أحد مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ إِلَّا مَا جَاءَ عن عمر في دقيق حاطب ابن أبي بلتعة، خرج مَالِكٌ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالَّذِي عليه الناس في الغرم بالمثل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" [[راجع ج ٢ ص ٣٥٤.]]] البقرة: ١٩٤]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ [[الخميصة: ثوب خزا وصوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة.]] لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ: فأتيته فقلت أتقطع مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا، قَالَ: (فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ)؟. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ الْحِكْمَةُ الْأَوَّلِيَّةُ حَكَمَتْ فِيهَا بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا، وَبَقِيَتِ الْأَطْمَاعُ مُتَعَلِّقَةً بِهَا، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا، فَتَكُفُّهَا الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، فَإِذَا أَحْرَزَهَا مَالِكُهَا فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتِ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتِ الْعُقُوبَةُ، وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ. الرَّابِعَةُ- فَإِذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَاشْتَرَكُوا فِي إِخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ، فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أولا إِلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُقْطَعُ فِيهِ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَا: لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إِلَّا بِشَرْطٍ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حِصَّتِهِ نِصَابٌ، لِقَوْلِهِ] ﷺ [[[من ع وج.]]: (لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ. وَوَجْهُ الْقَطْعِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْجِنَايَةِ لَا يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّا إِنَّمَا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ذكره ابن العربي. الْخَامِسَةُ- فَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ بِأَنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ، فَإِنْ كَانَا مُتَعَاوِنَيْنِ قُطِعَا. وَإِنِ انْفَرَدَ كُلٌّ [[في ج وهـ وز وك: كل واحد.]] مِنْهُمَا بِفِعْلِهِ دُونَ اتفاق بينهما، بأن يجئ آخَرُ فَيُخْرِجُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ تَعَاوَنَا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِخْرَاجِ فَالْقَطْعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَطْعَ، لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ، وَالْآخَرُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَارَكَ فِي النَّقْبِ وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي النَّقْبِ التَّحَامُلُ عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ التَّعَاقُبُ فِي الضَّرْبِ تَحْصُلُ بِهِ الشَّرِكَةُ. السَّادِسَةُ- وَلَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ إِلَى بَابِ الْحِرْزِ فَأَدْخَلَ الْآخَرُ يَدَهُ فَأَخَذَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَيُعَاقَبُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُقْطَعَانِ. وَإِنْ وَضَعَهُ خَارِجَ الْحِرْزِ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ لَا عَلَى الْآخِذِ، وَإِنْ وَضَعَهُ فِي وَسَطِ النَّقْبِ فَأَخَذَهُ الْآخَرُ وَالْتَقَتْ أَيْدِيهِمَا فِي النَّقْبِ قُطِعَا جَمِيعًا. السَّابِعَةُ- وَالْقَبْرُ وَالْمَسْجِدُ حِرْزٌ، فَيُقْطَعُ النَّبَّاشُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ لَهُ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ تُتَّقَى الْأَعْيُنُ، وَيُتَحَفَّظُ مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى نَفْيِ السَّرِقَةِ عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءِ النَّهَرِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ سَارِقٌ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَاتَّقَى الْأَعْيُنَ، وَقَصَدَ وَقْتًا لَا ناظر فيه ولا ماز عَلَيْهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ بُرُوزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ، وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ فباطل، لان حرز كل شي بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمْكِنَةِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًا فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ. وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً" [[راجع ج ١٩ ص ١٥٨.]]] المرسلات: ٢٦ - ٢٥] لِيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا، وَيُدْفَنُ فِيهَا مَيِّتًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:] إِنَّهُ [[[من ك وج وع.]] عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ، فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنَ الثَّانِي، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يكون البيت [[البيت هنا القبر. والوصيف الخادم غلاما كان أو جارية. والمعنى، أن الموت يكثر حتى يشترى موضع قبر بعبد.]] فيه بالوصيف)، يعني الْقَبْرَ، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ) قَالَ حَمَّادٌ: فَبِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيِّتِ بَيْتَهُ. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ، فَمَنْ سَرَقَ حُصُرَهُ قُطِعَ، رَوَاهُ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ بَابٌ، وَرَآهَا مُحْرَزَةً. وَإِنْ سَرَقَ الْأَبْوَابَ قُطِعَ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا إِنْ كَانَتْ سَرِقَتُهُ لِلْحُصُرِ نَهَارًا لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا لَيْلًا قُطِعَ، وَذُكِرَ عَنْ سَحْنُونٍ إِنْ كَانَتْ حُصُرُهُ خِيطَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ قُطِعَ، وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ. قَالَ أَصْبَغُ: يُقْطَعُ سَارِقُ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ وَبَلَاطِهِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ بَابَهُ مُسْتَسِرًّا أَوْ خَشَبَةً مِنْ سَقْفِهِ أَوْ مِنْ جَوَائِزِهِ [[الجائز من البيت الخشبة التي تحمل خشب البيت، والجمع أجوزة وجوزان وجوائز.]]. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا قَطْعَ فِي شي مِنْ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ وَبَلَاطِهِ. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكُونُ غُرْمٌ مَعَ الْقَطْعِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ مَعَ الْقَطْعِ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَغْرَمُ قِيمَةَ السَّرِقَةِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ أَدَّاهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً رَدَّهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا غَرِمَ، وَإِنْ كان معسرا لم يتبع به دينا ولم يكن عليه شي، وَرَوَى مَالِكٌ [[سقط (مالك) من ج وهـ وك وع.]] مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُتْبَعُ بِهَا دَيْنًا مَعَ الْقَطْعِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ] مِنْ عُلَمَائِنَا [[[من ك.]] مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا أَقُولُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ لِلْمَشْهُورِ بِقَوْلِهِ ﷺ: (إِذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) وَأَسْنَدَهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ عُقُوبَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَغْرَمُ السَّارِقُ مَا سَرَقَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ إذا قطع الطريق، قال: ولا يسقط الْحَدُّ لِلَّهِ مَا أَتْلَفَ لِلْعِبَادِ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا مِنَ الْحَدِيثِ (إِذَا كَانَ معسرا) فيه احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْقِيَاسُ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ مَا اسْتَهْلَكَ. وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: تَرْكُ الْقِيَاسِ لِضَعِيفِ الْأَثَرِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا. التَّاسِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ يَدِ مَنْ سَرَقَ الْمَالَ مِنَ الذِي سَرَقَهُ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقْطَعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ وَمِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: حُرْمَةُ المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، وئد السارق كلائد، كَالْغَاصِبِ لَوْ سُرِقُ مِنْهُ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ قُطِعَ، فَإِنْ قِيلَ: اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ، قُلْنَا: الْحِرْزُ قَائِمٌ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ وَلَمْ يَبْطُلِ الْمِلْكُ فِيهِ فَيَقُولُوا لَنَا أَبْطِلُوا الْحِرْزَ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَرَّرَ السَّرِقَةَ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُ: يُقْطَعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا فِي السَّارِقِ يَمْلِكُ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ قَبْلَ الْقَطْعِ: فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما" فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يسقطه شي. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ "وَالسَّارِقُ" بِالرَّفْعِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَفِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. وَقِيلَ: الرَّفْعُ فِيهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ "فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما". وَلَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى مُعَيَّنٍ إِذْ لَوْ قَصَدَ مُعَيَّنًا لَوَجَبَ النَّصْبُ، تَقُولُ: زَيْدًا اضْرِبْهُ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ: مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعْ يَدَهُ. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرى "وَالسَّارِقُ" بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ اقْطَعُوا السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِالْأَمْرِ أَوْلَى، قَالَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّصْبُ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا اضربه، ولكن الْعَامَّةَ أَبَتِ إِلَّا الرَّفْعَ، يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ وَجُلَّهُمْ، فَأَنْزَلَ سِيبَوَيْهِ النَّوْعَ السَّارِقَ مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ" وَهُوَ يُقَوِّي قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ. وَالسَّرِقُ وَالسَّرِقَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِيهِمَا هُوَ اسْمُ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، وَالْمَصْدَرُ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا بِفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَأَصْلُ هَذَا اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ مِنَ الْأَعْيُنِ، وَمِنْهُ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، وَسَارَقَهُ النَّظَرُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ظَاهِرٍ فَهُوَ مُخْتَلِسٌ وَمُسْتَلِبٌ وَمُنْتَهِبٌ وَمُحْتَرِسٌ [[المحترس الذي يسرق حريسة الجبل.]]، فَإِنْ تَمَنَّعَ [[من ع.]] بِمَا فِي يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ. قُلْتُ: وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ) قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ وَغَيْرُهُ، فَسَمَّاهُ سَارِقًا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ سَارِقًا مِنْ حَيْثُ] هُوَ [[[من ج.]] مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّهُ ليس قيه مُسَارَقَةُ الْأَعْيُنِ غَالِبًا. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ الْقَطْعُ مَعْنَاهُ الْإِبَانَةُ وَالْإِزَالَةُ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِجَمْعِ أَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ فِي السَّارِقِ وَفِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَفِي صِفَتِهِ. فَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي السَّارِقِ فَخَمْسَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَالِكٍ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَلَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ إِنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ إِنْ أَخَذَ مَالَ عَبْدِهِ لَا قَطْعَ بِحَالٍ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ. وَلَمْ يُقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ آخِذٌ لِمَالِهِ، وَسَقَطَ قَطْعُ الْعَبْدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ [[الخليفة عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- والسارق كان غلاما لعبد الله بن عمرو الحضرمي سرق مرآة لامرأته ثمنها ستون درهما.]]: غُلَامُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا سَرَقَ قَطْعٌ وَلَا عَلَى الذِّمِّيِّ) قَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ فَهْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالصَّوَابُ] أَنَّهُ [[[من ك.]] مَوْقُوفٌ. وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إذا سرق الْعَبْدُ فَبِيعُوهُ وَلَوْ بِنَشٍّ [[النش: (بفتح النون وتشديد الشين) عشرون درهما ويطلق على النصف من كل شي فالمراد البيع ولو بنصف القيمة.]] (أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: وَحَدَّثَنَا جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَقْطَعْهُ. وَقَالَ: (مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَجُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ مَتْرُوكٌ، قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ. وَلَا قَطْعَ عَلَى صَبِيٍّ ولا مجنون. وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ، وَالْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ. وَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ فَأَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ النِّصَابُ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَمَوَّلُ وَيُتَمَلَّكُ وَيَحِلُّ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ وَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ حَاشَا الْحُرِّ الصَّغِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقِيلَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَالِ، وَلَمْ يُقْطَعِ السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ. وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَلُحُومِ الضَّحَايَا، فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْكَلْبِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: ذَلِكَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنِ اتِّخَاذِهِ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ فِي اتِّخَاذِهِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ. قَالَ: وَمَنْ سَرَقَ لَحْمَ أُضْحِيَّةٍ أَوْ جِلْدِهَا قُطِعَ إِذَا كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ: إِنْ سَرَقَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ قُطِعَ، وَأَمَّا إِنْ سَرَقَهَا بَعْدَ الذَّبْحِ فَلَا يُقْطَعُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اتِّخَاذُ أَصْلِهِ وَبَيْعِهِ، فَصَنَعَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَالطُّنْبُورِ وَالْمَلَاهِي مِنَ الْمِزْمَارِ وَالْعُودِ وَشِبْهِهِ مِنَ آلَاتِ اللَّهْوِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ يَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ فَسَادِ صُوَرِهَا وَإِذْهَابِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا رُبُعُ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ قُطِعَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا وَيُؤْمَرُ بِكَسْرِهَا فَإِنَّمَا يُقَوَّمُ مَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ دُونَ صَنْعَةٍ. وَكَذَلِكَ الصَّلِيبُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَالزَّيْتُ النَّجِسُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ نِصَابًا قُطِعَ فِيهِ. الْوَصْفُ الثَّالِثُ، أَلَّا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ مِلْكٌ، كَمَنْ سَرَقَ مَا رَهَنَهُ أَوْ مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَا شُبْهَةُ مِلْكٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي مُرَاعَاةِ شُبْهَةِ مِلْكٍ كَالَّذِي يَسْرِقُ مِنَ الْمَغْنَمِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَرَقَ [[المغفر (بكسر الميم): زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.]] مِغْفَرًا مِنَ الْخُمُسِ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَطْعًا وَقَالَ: لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ. وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ لَفْظِ آيَةِ [[من ع.]] السَّرِقَةِ. وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا تَصِحُّ سَرِقَتُهُ كَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ مَا لَا تَصِحُّ سَرِقَتُهُ كَالْعَبْدِ الْفَصِيحِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ. وَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَوَصْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحِرْزُ لِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ المسروق. وجملة القول فيه أن كل شي له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شي مَعَهُ حَافِظٌ فَحَافِظُهُ حِرْزُهُ، فَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْحَوَانِيتُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، غَابَ عَنْهَا أَهْلُهَا أَوْ حَضَرُوا، وَكَذَلِكَ بَيْتُ الْمَالِ حِرْزٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالسَّارِقُ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّرِقَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِمَامُ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَقُّ كُلِّ مُسْلِمٍ بِالْعَطِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ الْمَالِ إِلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُفَرِّقُهُ فِي النَّاسِ، أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ آخَرَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، فَفِي التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا السَّارِقَ مِمَّنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْمَغَانِمُ لَا تَخْلُو: أَنْ تَتَعَيَّنَ بِالْقِسْمَةِ، فَهُوَ مَا ذكرناه في بيت المال، أو تتعين بنفس التناول لمن شهد الوقعة، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى قَدْرُ مَا سَرَقَ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ حَقِّهِ قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ [[كل الأصول لم تذكر الثالثة عشرة، إلا ك، ثم سقط منها التاسعة عشرة.]]. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَظُهُورُ الدَّوَابِّ حِرْزٌ لِمَا حَمَلَتْ، وَأَفْنِيَةُ الْحَوَانِيتِ حِرْزٌ لِمَا وُضِعَ فِيهَا فِي مَوْقِفِ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَانُوتٌ، كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ أَمْ لَا، سُرِقَتْ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ الشَّاةِ فِي السُّوقِ مَرْبُوطَةً أَوْ غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ، وَالدَّوَابُّ عَلَى مَرَابِطِهَا مُحْرَزَةٌ، كَانَ مَعَهَا أَهْلُهَا أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي السُّوقِ لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَافِظٌ، وَمَنْ رَبَطَهَا بِفِنَائِهِ أَوِ اتَّخَذَ مَوْضِعًا مَرْبِطًا لِدَوَابِّهِ فَإِنَّهُ حِرْزٌ لَهَا. وَالسَّفِينَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا وَسَوَاءُ كَانَتْ سَائِبَةً أَوْ مَرْبُوطَةً، فَإِنْ سُرِقَتِ السَّفِينَةُ نَفْسُهَا فَهِيَ كَالدَّابَّةِ إِنْ كَانَتْ سَائِبَةً فَلَيْسَتْ بِمُحْرَزَةٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا رَبَطَهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَرْسَاهَا فِيهِ فَرَبْطُهَا حِرْزٌ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ حَيْثُمَا كَانَتْ فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، كَالدَّابَّةِ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَعَهَا حَافِظٌ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا بِالسَّفِينَةِ فِي سَفَرِهِمْ مَنْزِلًا فَيَرْبِطُوهَا فَهُوَ حِرْزٌ لَهَا كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَلَا خِلَافَ أَنَّ السَّاكِنِينَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ كَالْفَنَادِقِ الَّتِي يَسْكُنُ فِيهَا كُلُّ رَجُلٍ بَيْتَهُ عَلَى حِدَةٍ، يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ بَيْتِ صَاحِبِهِ إِذَا أَخَذَ وَقَدْ خَرَجَ بِسَرِقَتِهِ إِلَى قَاعَةِ الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَيْتَهُ وَلَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الدَّارِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ قَاعَةِ الدَّارِ شَيْئًا وَإِنْ أَدْخَلَهُ بَيْتَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ مِنَ الدَّارِ، لِأَنَّ قَاعَتَهَا مُبَاحَةٌ لِلْجَمِيعِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ دَابَّةً فِي مَرْبِطِهَا أَوْ مَا يُشْبِهُهَا مِنَ الْمَتَاعِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَلَا يُقْطَعُ الْأَبَوَانِ بِسَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِمَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ). وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ. وَقِيلَ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ، لِأَنَّ الِابْنَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ أَبِيهِ فِي الْعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ فَلِأَنْ لَا يُقْطَعَ ابْنُهُ فِي مَالِهِ أَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ أشهب: يقطع. وقول مالك أصح لأنه أَبٌ، قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَلَّا يُقْطَعَ الْأَجْدَادُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ لَهُمْ نَفَقَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَيُقْطَعُ مَنْ سِوَاهُمَا مِنَ الْقَرَابَاتِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ جُوعٍ أَصَابَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِثْلُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَالْأُخْتِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ كُلُّ سَارِقٍ سَرَقَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، إِلَّا أَنْ يجمعوا على شي فَيُسَلَّمُ لِلْإِجْمَاعِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [[[في ك.]]. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي سَارِقِ الْمُصْحَفِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ النُّعْمَانُ: لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مُصْحَفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرَّارِ [[الطرار: هو الذي يشق كم الرجل ويسل ما فيه، من الطر وهو القطع والشق.]] يَطُرُّ النَّفَقَةَ مِنَ الْكُمِّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقْطَعُ مَنْ طَرَّ مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ أو من خارج، وهو قول مالك وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَيَعْقُوبَ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً فِي ظَاهِرِ كُمِّهِ فَطَرَّهَا فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً إِلَى دَاخِلِ الْكُمِّ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَسَرَقَهَا قُطِعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُقْطَعُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ طَرَّ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْيَدِ فِي السَّفَرِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُقَامُ الْحُدُودُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُقِيمُ مَنْ غَزَا عَلَى جَيْشٍ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ مِصْرَ مِنَ الْأَمْصَارِ- الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ غَيْرَ الْقَطْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا غَزَا الْجُنْدُ أَرْضَ الْحَرْبِ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامَ مِصْرَ أَوْ الشَّامَ أَوْ الْعِرَاقَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَيُقِيمُ الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ. اسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ مِصْدَرٌ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً [[البختية: الأنثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الأعناق واللفظة معربة.]]، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي في الغزو) [[في التهذيب: وأسد الغابة (في السفر).]] ولولا ذلك لقطعته. يسر هَذَا] يُقَالُ [[[من ج وع.]] وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَتْ لَهُ أَخْبَارُ سُوءٍ فِي جَانِبِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَبَحَ طِفْلَيْنِ [[كذا في الأصول. وفي التهذيب: وأسد الغابة: قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله بن العباس.]] لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَفَقَدَتْ أُمُّهُمَا عَقْلَهَا فَهَامَتْ عَلَى وَجْهِهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُطِيلَ اللَّهُ عُمُرَهُ ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى ابن مَعِينٍ: كَانَ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ رَجُلَ سُوءٍ. اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقَطْعِ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَوْلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِمَنْ مَنَعَ الْقَطْعَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْحُدُودِ: مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالشِّرْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ أَوِ الرِّجْلُ فَإِلَى أَيْنَ تُقْطَعُ؟ فَقَالَ الْكَافَّةُ: تُقْطَعُ مِنَ الرُّسْغِ وَالرِّجْلُ مِنَ الْمَفْصِلِ، وَيُحْسَمُ السَّاقُ إِذَا قُطِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقْطَعُ إِلَى الْمِرْفَقِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمَنْكِبِ، لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ وَيُتْرَكُ لَهُ الْعَقِبُ [[العقب: مؤخر المقدم.]]، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. قَالَ ابن المنذر: وقد روينا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ: (احْسِمُوهَا) وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبُرْءِ وَأَبْعَدُ مِنَ التَّلَفِ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- لَا خِلَافَ أَنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ أَوَّلًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِنْ سَرَقَ ثَانِيَةً، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ: تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ خَامِسَةً يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُقْتَلُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ أن رسول الله ﷺ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:] (اقْتُلُوهُ) [[من ك، هـ، ز.]]، قَالُوا: يَا رسول إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ [: (اقْطَعُوا يَدَهُ)، قَالَ: ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا، ثُمَّ سَرَقَ أَيْضًا] الْخَامِسَةَ [[[من ك، هـ، ز.]] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمَ بِهَذَا حِينَ قَالَ: (اقْتُلُوهُ) ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ يُحِبُّ الْإِمَارَةَ فَقَالَ: أَمِّرُونِي عَلَيْكُمْ فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِسَارِقٍ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ). قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَرَمَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَحَدُ رُوَاتِهِ [[هو مصعب بن ثابت. (النسائي).]] لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا صَحِيحًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [[[من ع.]] أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَدَ بَعْدَ الْيَدِ وَالرِّجْلَ بَعْدَ الرِّجْلِ. وَقِيلَ: تُقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ لَا قَطْعَ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ إِذَا عَادَ عُزِّرَ وَحُبِسَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَبْلُغْنَا فِي السُّنَّةِ إِلَّا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى خَاصَّةً وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: أَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فإن الصحابة قالوا قبله خلافه. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاكِمِ يَأْمُرُ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ الْيُمْنَى فَتُقْطَعُ يَسَارُهُ، فَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَخْطَأَ الْقَاطِعُ فَقَطَعَ شِمَالَهُ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: عَلَى الْحَزَّازِ [[في ك، ع: الجزار.]] الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ إِلَّا أَنْ يُمْنَعَ بِإِجْمَاعٍ [[في ج، ز، ك، هـ: إلا أن يمنع منه إجماع.]]. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ يَخْلُو قَطْعُ يَسَارِ السَّارِقِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاطِعُ عَمَدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ يَكُونَ أَخْطَأَ فَدِيَّتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ، وَقَطْعُ يَمِينِ السَّارِقِ يَجِبُ، وَلَا يَجُوزُ إِزَالَةُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَعَدِّي مُعْتَدٍ أَوْ خَطَأِ مُخْطِئٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الَّذِي يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي يَمِينِهِ فَيُقَدِّمُ شِمَالَهُ فَتُقْطَعُ، قَالَ: تُقْطَعُ يَمِينُهُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُقْطَعُ يَمِينُهُ إِذَا بَرِئَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ أتلف يساره، ولا شي عَلَى الْقَاطِعِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ إِذَا بَرِئَتْ. وَقَالَ قتادة والشعبي: لا شي عَلَى الْقَاطِعِ وَحَسْبُهُ مَا قَطَعَ مِنْهُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَتُعَلَّقُ يَدُ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ سَأَلْتُ فَضَالَةَ عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ أَمِنَ السُّنَّةِ هو؟ فقال: جئ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ- وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ- وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- إِذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ رَجُلًا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ الْقَطْعُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ] وَيُقْتَلُ [[[من ع.]]، لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَيْدِيَهُما﴾ لَمَّا قَالَ "أَيْدِيَهُما" وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ اللِّسَانِ [[في ج، ع: البيان.]] فِي ذَلِكَ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَتَابَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ [[زاد ابن العربي (من غير تحقيق لكلامهم).]] - فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شي يُوجَدُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اثْنَيْنِ جُمِعَ تَقُولُ: هُشِّمَتْ رُءُوسُهُمَا وَأُشْبِعَتْ بُطُونُهُمَا، "إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما" [[راجع ج ١٨ ص ١٨٨.]]] التحريم: ٤]، ولهذا قال: "فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما" وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا. وَالْمُرَادُ فَاقْطَعُوا يَمِينًا مِنْ هَذَا وَيَمِينًا مِنْ هَذَا. وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ، فَاقْطَعُوا يَدَيْهِمَا وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ [[راجع ج ٥ ص ٧٣.]] فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ: وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ وَقِيلَ: فُعِلَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعُ إِذَا أَرَدْتَ بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ، وَضَعَا رِحَالَهُمَا. وَيُرِيدُ] بِهِ [[[من ج.]] رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ "أَيْدِيَهُما" [[كذا في الأصول إلا ا، فيعود قول مالك إلى أربعة.]] إِلَى أَرْبَعَةٍ وَهِيَ جَمْعٌ فِي الِاثْنَيْنِ، وَهُمَا تَثْنِيَةٌ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا، لِأَنَّ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرِدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُمَا اسْمَا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿جَزاءً بِما كَسَبا﴾ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَصْدَرًا وَكَذَا (نَكالًا مِنَ اللَّهِ) يُقَالُ: نَكَّلْتُ بِهِ إِذَا فَعَلْتُ بِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَنْكُلَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لَا يُغَالَبُ (حَكِيمٌ) فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ "فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ". وَمَعْنَى "مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ" مِنْ بَعْدِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ. وَالْقَطْعُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّارِقِ. وَقَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَعَزَاهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا. وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: "إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْوُجُوبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلُنَا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ الْمُحَارِبِ قَالَ: "إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ وَقَالَ فِيهِ: "فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ" فَلَوْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيَا معشر الشَّافِعِيَّةِ سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ [[في ك: الفهمية.]]، وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ، الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ؟! أَلَمْ تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدى بسلاحه، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إِلَى الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ كَيْفَ أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي وَهُمَا فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ حُكْمَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ؟! أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُقَاسُ عَلَى الْمُحَارِبِ وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحِكْمَةُ وَالْحَالَةُ! هَذَا مَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ وَالْقَطْعُ كَفَّارَةٌ لَهُ. "وَأَصْلَحَ" أَيْ كَمَا تَابَ عَنِ السَّرِقَةِ تَابَ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ. وَقِيلَ: "وَأَصْلَحَ" أَيْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ السَّرِقَةَ بِالزِّنَى أَوِ التَّهَوُّدَ بِالتَّنَصُّرِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُ التَّوْبَةُ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- يُقَالُ: بَدَأَ اللَّهُ بِالسَّارِقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ السَّارِقَةِ، وَفِي الزِّنَى بِالزَّانِيَةِ قَبْلَ الزَّانِي مَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ حُبُّ الْمَالِ عَلَى الرِّجَالِ أَغْلَبَ، وَشَهْوَةُ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى النِّسَاءِ أَغْلَبَ بَدَأَ بِهِمَا في الموضعين، هَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ فِي الْمَرْأَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "النُّورِ" [[راجع ج ١٢ ص ١٥٩.]] مِنَ الْبِدَايَةِ بِهَا عَلَى الزَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ حَدَّ السَّرِقَةِ قَطْعَ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ الْمَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدَّ الزِّنَى قَطْعَ الذَّكَرِ مَعَ مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ بِهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُّهَا: أَنَّ لِلسَّارِقِ مِثْلَ يَدِهِ الَّتِي قُطِعَتْ فَإِنِ انْزَجَرَ بِهَا اعْتَاضَ بِالثَّانِيَةِ [[في ك وج: الباقية.]]، وَلَيْسَ لِلزَّانِي مِثْلُ ذَكَرِهِ إِذَا قُطِعَ فَلَمْ يَعْتَضْ بِغَيْرِهِ لَوِ انْزَجَرَ بِقَطْعِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ زَجْرٌ لِلْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ، وَقَطْعُ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ ظَاهِرٌ: وَقَطْعُ الذَّكَرِ فِي الزِّنَى بَاطِنٌ. الثَّالِثُ- أَنَّ قَطْعَ الذَّكَرِ فِيهِ إِبْطَالٌ لِلنَّسْلِ وَلَيْسَ فِي قَطْعِ اليد إبطاله. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب