وَقَوْلُهُ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾، اِخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في تَفْسِيرِ الرَّفْعِ فِيهِما، قالَ سِيبَوَيْهِ، وكَثِيرٌ مِنَ البَصْرِيِّينَ: إنَّ هَذا وقَوْلَهُ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: ٢]، وقَوْلَهُ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما﴾ [النساء: ١٦]، هَذِهِ الأشْياءُ مَرْفُوعَةٌ عَلى مَعْنى: ”وَفِيما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكم: اَلسّارِقُ والسّارِقَةُ، والزّانِيَةُ والزّانِي“، أوْ: ”اَلسّارِقُ والسّارِقَةُ فِيما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكم“، ومَعْنى قَوْلِهِمْ هَذا: ”فِيما فُرِضَ عَلَيْكم حُكْمُ السّارِقِ والسّارِقَةِ“، وقالَ سِيبَوَيْهِ: اَلِاخْتِيارُ في هَذا النَّصْبُ في العَرَبِيَّةِ، كَما تَقُولُ: ”زَيْدًا اضْرِبْهُ“، وقالَ: أبَتِ العامَّةُ القِراءَةَ إلّا بِالرَّفْعِ، يَعْنِي بِالعامَّةِ (p-١٧٢)الجَماعَةَ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: ”والسّارِقَ والسّارِقَةَ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما“، وكَذَلِكَ ”اَلزّانِيَةَ والزّانِيَ“، وهَذِهِ القِراءَةُ - وإنْ كانَ القارِئُ بِها مُقَدَّمًا - لا أُحِبُّ أنْ يُقْرَأ بِها، لِأنَّ الجَماعَةَ أوْلى بِالِاتِّباعِ، إذْ كانَتِ القِراءَةُ سُنَّةً، قالَ أبُو إسْحاقَ: ودَلِيلِي أنَّ القِراءَةَ الجَيِّدَةَ بِالرَّفْعِ في ”والزّانِيَةُ والزّانِي، وفي“ والسّارِقُ والسّارِقَةُ ”، قَوْلُهُ - جَلَّ ثَناؤُهُ -: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما﴾ [النساء: ١٦]، وقالَ غَيْرُ سِيبَوَيْهِ مِنَ البَصْرِيِّينَ، وهو مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ المُبَرِّدُ: أخْتارُ أنْ يَكُونَ“ والسّارِقُ والسّارِقَةُ ”، رَفْعًا بِالِابْتِداءِ، لِأنَّ القَصْدَ لَيْسَ إلى واحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ هو مِثْلَ قَوْلِكَ:“ زَيْدًا فاضْرِبْهُ ”، إنَّما هو كَقَوْلِكَ:“ مَن سَرَقَ فاقْطَعْ يَدَهُ، ومَن زَنى فاجْلِدْهُ ”، وهَذا القَوْلُ هو المُخْتارُ، وهو مَذْهَبُ بَعْضِ البَصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ، وقِيلَ:“ أيْدِيَهُما ”، يَعْنِي بِهِ أيْمانَهُما، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:“ والسّارِقُونَ والسّارِقاتُ فاقْطَعُوا أيْمانَهم ”، قالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إنَّما جُعِلَتْ تَثْنِيَةُ ما في الإنْسانِ مِنهُ واحِدٌ، لِأنَّ أكْثَرَ أعْضائِهِ فِيهِ مِنهُ اثْنانِ، فَحَمْلُ ما كانَ فِيهِ الواحِدُ عَلى مِثْلِ ذَلِكَ، قالَ: لِأنَّ لِلْإنْسانِ عَيْنَيْنِ، فَإذا ثَنَّيْتَ قُلْتَ:“ عُيُونُهُما ”، فَجُعِلْتَ“ قُلُوبُكُما ”، و“ ظُهُورُهُما ”، في القُرْآنِ، وكَذَلِكَ“ أيْدِيَهُما ”، وهَذا خَطَأٌ، إنَّما يَنْبَغِي أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ ما في الشَّيْءِ مِنهُ واحِدٌ، وبَيْنَ ما في الشَّيْءِ مِنهُ اثْنانِ، (p-١٧٣)وَقالَ قَوْمٌ: إنَّما فَعَلْنا ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ ما في الشَّيْءِ مِنهُ واحِدٌ وبَيْنَ ما في الشَّيْءُ مِنهُ اثْنانِ، فَجُعِلَ ما في الشَّيْءِ مِنهُ واحِدٌ تَثْنِيَتُهُ جَمْعًا، نَحْوَ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إنْ تَتُوبا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤]، قالَ أبُو إسْحاقَ: وحَقِيقَةُ هَذا البابِ أنَّ كُلَّ ما كانَ في الشَّيْءِ مِنهُ واحِدٌ لَمْ يُثَنَّ، ولُفِظَ بِهِ عَلى لَفْظِ الجَمْعِ، لِأنَّ الإضافَةَ تُبَيِّنُهُ، فَإذا قُلْتَ:“ أشْبَعْتُ بُطُونَهُما ”، عُلِمَ أنَّ لِلِاثْنَيْنِ بَطْنَيْنِ فَقَطْ، وأصْلُ التَّثْنِيَةِ الجَمْعُ، لِأنَّكَ إذا ثَنَّيْتَ الواحِدَ فَقَدْ جَمَعْتَ واحِدًا إلى واحِدٍ، وكانَ الأصْلُ أنْ يُقالَ:“ اِثْنا رِجالٍ ”، ولَكِنَّ“ رَجُلانِ ”، يَدُلُّ عَلى جِنْسِ الشَّيْءِ، وعَدَدِهِ، فالتَّثْنِيَةُ يُحْتاجُ إلَيْها لِلِاخْتِصارِ، فَإذا لَمْ يَكُنِ اخْتِصارٌ رُدَّ الشَّيْءُ إلى أصْلِهِ، وأصْلُهُ الجَمْعُ، فَإذا قُلْتَ:“ قُلُوبُهُما ”، فالتَّثْنِيَةُ في“ هُما ”، قَدْ أغْنَتْكَ عَنْ تَثْنِيَةِ“ قَلْبٌ ”، فَصارَ الِاخْتِصارُ هَهُنا تَرْكَ تَثْنِيَةِ“ قَلْبٌ "، وإنْ ثُنِّيَ ما كانَ في الشَّيْءِ مِنهُ واحِدٌ فَذَلِكَ جائِزٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، قالَ الشّاعِرُ:
؎ظَهْراهُما مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
فَجاءَ بِالتَّثْنِيَةِ، والجَمْعِ، في بَيْتٍ واحِدٍ، وحَكى سِيبَوَيْهِ أنَّهُ قَدْ يُجْمَعُ المُفْرَدُ، والَّذِي لَيْسَ مِن شَيْءٍ، إذا أرَدْتَ بِهِ التَّثْنِيَةَ، وحُكِيَ عَنِ العَرَبِ: ”وَضَعا رِحالَهُما“، يُرِيدُ: ”رَحْلَيْ راحِلَتِهِما“ .
(p-١٧٤)وَأجْمَعَتِ الفُقَهاءُ أنَّ السّارِقَ يُقْطَعُ، حُرًّا كانَ أوْ عَبْدًا، وأنَّ السّارِقَةَ تُقْطَعُ، حُرَّةً كانَتْ أوْ أمَةً، وأجْمَعُوا أنَّ القَطْعَ مِنَ الرُّسْغِ، و”اَلرُّسْغُ“: اَلْمِفْصَلُ بَيْنَ الكَفِّ والسّاعِدِ، ويُقالُ: ”رُسْغٌ“، و”رُصْغٌ“، والسِّينُ أجْوَدُ.
﴿جَزاءً بِما كَسَبا﴾، ”جَزاءً“، نُصِبَ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، المَعْنى: فاقْطَعُوا بِجَزاءِ فِعْلِهِمْ، وكَذَلِكَ ﴿نَكالا مِنَ اللَّهِ﴾، وإنْ شِئْتَ كانا مَنصُوبَيْنِ عَلى المَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ”فاقْطَعُوا“، لِأنَّ مَعْنى ”فاقْطَعُوا“: جازُوهُمْ، ونَكِّلُوا بِهِمْ.
{"ayah":"وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤا۟ أَیۡدِیَهُمَا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلࣰا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ"}