الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: القَطْعُ لِإفْسادِ الأمْوالِ] وَجَعَلَ سُبْحانَهُ القَطْعَ بِإزاءِ فَسادِ الأمْوالِ الَّذِي لا يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ مِنهُ، لِأنَّهُ يَأْخُذُ الأمْوالَ في الِاخْتِفاءِ، ويُنَقِّبُ الدُّورَ، ويَتَسَوَّرُ مِن غَيْرِ الأبْوابِ، فَهو كالسِّنَّوْرِ والحَيَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْكَ مِن حَيْثُ لا تَعْلَمُ، فَلَمْ تَرْتَفِعْ مَفْسَدَةُ سَرِقَتِهِ إلى القَتْلِ، ولا تَنْدَفِعُ بِالجَلْدِ، فَأحْسَنُ ما دُفِعَتْ بِهِ مَفْسَدَتُهُ إبانَةُ العُضْوِ الَّذِي يَتَسَلَّطُ بِهِ عَلى الجِنايَةِ، وجُعِلَ الجَلْدُ بِإزاءِ إفْسادِ العُقُولِ وتَمْزِيقِ الأعْراضِ بِالقَذْفِ. فَدارَتْ عُقُوباتُهُ سُبْحانَهُ الشَّرْعِيَّةُ عَلى هَذِهِ الأنْواعِ الثَّلاثَةِ، كَما دارَتِ الكَفّاراتُ عَلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ: العِتْقِ، وهو أعْلاها، والإطْعامِ، والصِّيامِ. * (لطيفة) سمع بعض العَرَب قارِئًا يقْرَأ ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ الله﴾ [والله غَفُور رَحِيم] قالَ لَيْسَ هَذا كَلام الله تَعالى. فَقالَ القارئ أتكذب بِكَلام الله تَعالى؟! فَقالَ لا ولَكِن لَيْسَ هَذا بِكَلام الله، فَعاد إلى حفظه وقَرَأ ﴿والله عَزِيز حَكِيم﴾ فَقالَ الأعرابِي صدقت عز فَحكم فَقطع، ولَو غفر ورحم لما قطع. وَلِهَذا إذا ختمت آيَة الرَّحْمَة باسم عَذاب أو بِالعَكْسِ ظهر تنافر الكَلام وعدم انتظامه. * (فصل) وَلَمّا كانَ داعِي السَّرِقَةِ قَوِيًّا ومَفْسَدَتُها كَذَلِكَ، قَطَعَ فِيها اليَدَ. وَتَأمَّلْ حِكْمَتَهُ في إفْسادِ العُضْوِ الَّذِي باشَرَ بِهِ الجِنايَةَ، كَما أفْسَدَ عَلى قاطِعِ الطَّرِيقِ يَدَهُ ورِجْلَهُ اللَّتَيْنِ هُما آلَةُ قَطْعِهِ، ولَمْ يُفْسِدْ عَلى القاذِفِ لِسانَهُ الَّذِي جَنى بِهِ، إذْ مَفْسَدَتُهُ تَزِيدُ عَلى مَفْسَدَةِ الجِنايَةِ ولا يَبْلُغُها، فاكْتَفى مِن ذَلِكَ بِإيلامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِالجَلْدِ. فَإنْ قِيلَ: فَهَلّا أفْسَدَ عَلى الزّانِي فَرْجَهُ الَّذِي باشَرَ بِهِ المَعْصِيَةَ. قِيلَ: لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ مَفْسَدَةَ ذَلِكَ تَزِيدُ عَلى مَفْسَدَةِ الجِنايَةِ، إذْ فِيهِ قَطْعُ النَّسْلِ وتَعْرِيضُهُ لِلْهَلاكِ. الثّانِي: أنَّ الفَرْجَ عُضْوٌ مَسْتُورٌ، لا يَحْصُلُ بِقَطْعِهِ مَقْصُودُ الحَدِّ مِنَ الرَّدْعِ والزَّجْرِ لِأمْثالِهِ مِنَ الجُناةِ، بِخِلافِ قَطْعِ اليَدِ. الثّالِثُ: أنَّهُ إذا قَطَعَ يَدَهُ أبْقى لَهُ يَدًا أُخْرى تُعَوِّضُ عَنْها، بِخِلافِ الفَرْجِ. الرّابِعُ: أنَّ لَذَّةَ الزِّنا عَمَّتْ جَمِيعَ البَدَنِ، فَكانَ الأحْسَنُ أنْ تَعُمَّ العُقُوبَةُ جَمِيعَ البَدَنِ، وذَلِكَ أوْلى مِن تَخْصِيصِها بِبُضْعَةٍ مِنهُ. فَعُقُوباتُ الشّارِعِ جاءَتْ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ وأوْفَقِها لِلْعَقْلِ، وأقْوَمِها بِالمَصْلَحَةِ. والمَقْصُودُ أنَّ الذُّنُوبَ إنَّما تَتَرَتَّبُ عَلَيْها العُقُوباتُ الشَّرْعِيَّةُ أوِ القَدَرِيَّةُ أوْ يَجْمَعُها اللَّهُ لِلْعَبْدِ، وقَدْ يَرْفَعُها عَمَّنْ تابَ وأحْسَنَ. * [فَصْلٌ: الفَرْقُ بَيْنَ اليَدِ في الدِّيَةِ وفي السَّرِقَةِ] وَأمّا قَطْعُ اليَدِ في رُبُعِ دِينارٍ وجَعْلُ دِيَتِها خَمْسَمِائَةِ دِينارٍ فَمِن أعْظَمِ المَصالِحِ والحِكْمَةِ؛ فَإنَّهُ احْتاطَ في المَوْضِعَيْنِ لِلْأمْوالِ والأطْرافِ، فَقَطَعَها في رُبُعِ دِينارٍ حِفْظًا لِلْأمْوالِ، وجَعَلَ دِيَتَها خَمْسَمِائَةِ دِينارٍ حِفْظًا لَها وصِيانَةً، وقَدْ أوْرَدَ بَعْضُ الزَّنادِقَةِ هَذا السُّؤالَ وضَمَّنَهُ بَيْتَيْنِ، فَقالَ: ؎يَدٌ بِخَمْسِمِئِي مِن عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ∗∗∗ ما بالُها قُطِعَتْ في رُبُعِ دِينارِ ؎تَناقُضٌ ما لَنا إلّا السُّكُوتُ لَهُ ∗∗∗ ونَسْتَجِيرُ بِمَوْلانا مِن العارِ فَأجابَهُ بَعْضُ الفُقَهاءِ بِأنَّها كانَتْ ثَمِينَةً لَمّا كانَتْ أمِينَةً، فَلَمّا خانَتْ هانَتْ، وضَمَّنَهُ النّاظِمُ قَوْلَهُ: ؎يَدٌ بِخَمْسِ مِئِي مِن عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ∗∗∗ لَكِنَّها قُطِعَتْ في رُبْعِ دِينارِ ؎حِمايَةُ الدَّمِ أغْلاها وأرْخَصَها ∗∗∗ خِيانَةُ المالِ فانْظُرْ حِكْمَةَ البارِي وَرُوِيَ أنَّ الشّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجابَ بِقَوْلِهِ: ؎هُناكَ مَظْلُومَةٌ غالَتْ بِقِيمَتِها ∗∗∗ وها هُنا ظَلَمَتْ هانَتْ عَلى البارِي وَأجابَ شَمْسُ الدِّينِ الكُرْدِيُّ بِقَوْلِهِ: ؎قُلْ لِلْمَعَرِّيِّ عارٌ أيُّما عارِ ∗∗∗ جَهْلُ الفَتى وهْوَ عَنْ ثَوْبِ التُّقى عارِ ؎لا تَقْدَحَنَّ زِنادَ الشِّعْرِ عَنْ حِكَمٍ ∗∗∗ شَعائِرُ الشَّرْعِ لَمْ تُقْدَحْ بِأشْعارِ ؎فَقِيمَةُ اليَدِ نِصْفُ الألْفِ مِن ذَهَبٍ ∗∗∗ فَإنْ تَعَدَّتْ فَلا تَسْوى بِدِينارِ * [فَصْلٌ: الفَرْقُ بَيْنَ السّارِقِ والمُنْتَهِبِ] وَأمّا قَطْعُ يَدِ السّارِقِ في ثَلاثَةِ دَراهِمَ، وتَرْكُ قَطْعِ المُخْتَلِسِ والمُنْتَهِبِ والغاصِبِ فَمِن تَمامِ حِكْمَةِ الشّارِعِ أيْضًا؛ فَإنَّ السّارِقَ لا يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ مِنهُ، فَإنَّهُ يَنْقُبُ الدُّورَ ويَهْتِكُ الحِرْزَ ويَكْسِرُ القُفْلَ، ولا يُمْكِنُ صاحِبَ المَتاعِ الِاحْتِرازُ بِأكْثَرَ مِن ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَشْرَعْ قَطْعَهُ لَسَرَقَ النّاسُ بَعْضَهم بَعْضًا، وعَظُمَ الضَّرَرُ، واشْتَدَّتْ المِحْنَةُ بِالسُّرّاقِ، بِخِلافِ المُنْتَهِبِ والمُخْتَلِسِ؛ فَإنَّ المُنْتَهِبَ هو الَّذِي يَأْخُذُ المالَ جَهْرَةً بِمَرْأى مِن النّاسِ، فَيُمْكِنُهم أنْ يَأْخُذُوا عَلى يَدَيْهِ، ويُخَلِّصُوا حَقَّ المَظْلُومِ، أوْ يَشْهَدُوا لَهُ عِنْدَ الحاكِمِ، وأمّا المُخْتَلِسُ فَإنَّهُ إنّما يَأْخُذُ المالَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن مالِكِهِ وغَيْرِهِ، فَلا يَخْلُو مِن نَوْعِ تَفْرِيطٍ يُمَكِّنُ بِهِ المُخْتَلِسَ مِن اخْتِلاسِهِ، وإلّا فَمَعَ كَمالِ التَّحَفُّظِ والتَّيَقُّظِ لا يُمْكِنُهُ الِاخْتِلاسُ، فَلَيْسَ كالسّارِقِ، بَلْ هو بِالخائِنِ أشْبَهُ؛ وأيْضًا فالمُخْتَلِسُ إنّما يَأْخُذُ المالَ مِن غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهِ غالِبًا، فَإنَّهُ الَّذِي يُغافِلُكَ ويَخْتَلِسُ مَتاعَكَ في حالِ تَخَلِّيكَ عَنْهُ وغَفْلَتِكَ عَنْ حِفْظِهِ، وهَذا يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ مِنهُ غالِبًا، فَهو كالمُنْتَهِبِ؛ وأمّا الغاصِبُ فالأمْر فِيهِ ظاهِرٌ، وهو أوْلى بِعَدَمِ القَطْعِ مِن المُنْتَهِبِ، ولَكِنْ يَسُوغُ كَفُّ عُدْوانِ هَؤُلاءِ بِالضَّرْبِ والنَّكالِ والسِّجْنِ الطَّوِيلِ والعُقُوبَةِ بِأخْذِ المالِ كَما سَيَأْتِي. فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ ورَدَتْ السُّنَّةُ بِقَطْعِ جاحِدِ العارِيَّةِ، وغايَتُهُ أنَّهُ خائِنٌ، والمُعِيرُ سَلَّطَهُ عَلى قَبْضِ مالِهِ. والِاحْتِرازُ مِنهُ مُمْكِنٌ بِأنْ لا يَدْفَعَ إلَيْهِ المالَ؛ فَبَطَلَ ما ذَكَرْتُمْ مِن الفَرْقِ. قِيلَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ صَحَّ الحَدِيثُ بِأنَّ «امْرَأةً كانَتْ تَسْتَعِيرُ المَتاعَ وتَجْحَدُهُ، فَأمَرَ بِها النَّبِيُّ ﷺ فَقُطِعَتْ يَدُها»، فاخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في سَبَبِ القَطْعِ: هَلْ كانَ لِسَرِقَتِها؟ وعَرَّفَها الرّاوِي بِصِفَتِها؛ لِأنَّ المَذْكُورَ هو سَبَبُ القَطْعِ كَما يَقُولُهُ الشّافِعِيِّ وأبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ أوْ كانَ السَّبَبُ المَذْكُورُ هو سَبَبَ القَطْعِ مِمّا يَقُولُهُ أحْمَدُ ومَن وافَقَهُ؟ ونَحْنُ في هَذا المَقامِ لا نَنْتَصِرُ لِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ ألْبَتَّةَ، فَإنْ كانَ الصَّحِيحُ قَوْلَ الجُمْهُورِ انْدَفَعَ السُّؤالُ، وإنْ كانَ الصَّحِيحُ هو القَوْلَ الآخَرَ فَمُوافَقَتُهُ لِلْقِياسِ والحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ ظاهِرٌ جِدًّا؛ فَإنَّ العارِيَّةَ مِن مَصالِحِ بَنِي آدَمَ الَّتِي لا بُدَّ لَهم مِنها، ولا غِنًى لَهم عَنْها، وهي واجِبَةٌ عِنْدَ حاجَةِ المُسْتَعِيرِ وضَرُورَتُهُ إلَيْها إمّا بِأُجْرَةٍ أوْ مَجّانًا، ولا يُمَكَّنُ المُعِيرَ كُلَّ وقْتٍ أنْ يَشْهَدَ عَلى العارِيَّةِ، ولا يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ بِمَنعِ العارِيَّةِ شَرْعًا وعادَةً وعُرْفًا، ولا فَرْقَ في المَعْنى بَيْنَ مَن تَوَصَّلَ إلى أخْذِ مَتاعِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ وبَيْنَ مَن تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِالعارِيَّةِ وجَحَدَها، وهَذا بِخِلافِ جاحِدِ الوَدِيعَةِ؛ فَإنَّ صاحِبَ المَتاعِ فَرَّطَ حَيْثُ ائْتَمَنَهُ. * [فَصْلٌ: حِكْمَةُ جَعْلِ نِصابِ السَّرِقَةِ رُبُعَ دِينارٍ] وَأمّا تَخْصِيصُ القَطْعِ بِهَذا القَدْرِ فَلِأنَّهُ لا بُدَّ مِن مِقْدارٍ يُجْعَلُ ضابِطًا لِوُجُوبِ القَطْعِ؛ إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ فِلْسٍ أوْ حَبَّةِ حِنْطَةٍ أوْ تَمْرَةٍ، ولا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِهَذا، وتُنَزَّهُ حِكْمَةُ اللَّهِ ورَحْمَتُهُ وإحْسانُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلا بُدَّ مِن ضابِطٍ، وكانَتْ الثَّلاثَةُ دَراهِمَ أوَّلَ مَراتِبِ الجَمْعِ، وهي مِقْدارُ رُبُعِ دِينارٍ، وقالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ وغَيْرُهُ مِن التّابِعِينَ: كانُوا لا يَقْطَعُونَ في الشَّيْءِ التّافِهِ؛ فَإنَّ عادَةَ النّاسِ التَّسامُحُ في الشَّيْءِ الحَقِيرِ مِن أمْوالِهِمْ، إذْ لا يَلْحَقُهم ضَرَرٌ بِفَقْدِهِ، وفي التَّقْدِيرِ بِثَلاثَةِ دَراهِمَ حِكْمَةٌ ظاهِرَةٌ؛ فَإنَّها كِفايَةُ المُقْتَصِدِ في يَوْمِهِ لَهُ ولِمَن يَمُونُهُ غالِبًا، وقُوتُ اليَوْمِ لِلرَّجُلِ وأهْلِهِ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَ غالِبِ النّاسِ؛ وفي الأثَرِ المَعْرُوفِ: «مَن أصْبَحَ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعافًى في بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بِحَذافِيرِها». * [فَصْلٌ: سُقُوطُ الحَدِّ عامَ المَجاعَةِ] المِثالُ الثّالِثُ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسْقَطَ القَطْعَ عَنْ السّارِقِ في عامِ المَجاعَةِ، قالَ السَّعْدِيُّ: حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ إسْماعِيلَ الخَزّازُ ثنا عَلِيُّ بْنُ المُبارَكِ ثنا يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي حَسّانُ بْنُ زاهِرٍ أنَّ ابْنَ حُدَيْرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُمَرَ قالَ: لا تُقْطَعُ اليَدُ في عِذْقٍ ولا عامِ سَنَةٍ. قالَ السَّعْدِيُّ: سَألْت أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذا الحَدِيثِ فَقالَ: العِذْقُ النَّخْلَةُ، وعامُ سَنَةٍ: المَجاعَةُ، فَقُلْت لِأحْمَدَ: تَقُول بِهِ؟ فَقالَ: إي لَعَمْرِي، قُلْت: إنْ سَرَقَ في مَجاعَةٍ لا تَقْطَعُهُ؟ فَقالَ: لا، إذا حَمَلَتْهُ الحاجَةُ عَلى ذَلِكَ والنّاسُ في مَجاعَةٍ وشِدَّةٍ. قالَ السَّعْدِيُّ: وهَذا عَلى نَحْوِ قَضِيَّةِ عُمَرَ في غِلْمانِ حاطِبٍ، ثنا أبُو النُّعْمانِ عارِمٌ ثنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ ابْنِ حاطِبٍ أنَّ غِلْمَةً لِحاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا ناقَةً لِرَجُلٍ مِن مُزَيْنَةَ، فَأتى بِهِمْ عُمَرُ، فَأقَرُّوا، فَأرْسَلَ إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حاطِبٍ فَجاءَ فَقالَ لَهُ: إنّ غِلْمانَ حاطِبٍ سَرَقُوا ناقَةَ رَجُلٍ مِن مُزَيْنَةَ وأقَرُّوا عَلى أنْفُسِهِمْ، فَقالَ عُمَرُ: يا كَثِيرُ بْنَ الصَّلْتِ اذْهَبْ فاقْطَعْ أيْدِيَهُمْ، فَلَمّا ولّى بِهِمْ رَدَّهم عُمَرُ ثُمَّ قالَ: أما واللَّهُ لَوْلا أنِّي أعْلَمُ أنَّكم تَسْتَعْمِلُونَهم وتُجِيعُونَهم حَتّى إنّ أحَدَهم لَوْ أكَلَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَلَّ لَهُ لَقَطَعْت أيْدِيَهُمْ، واَيْمُ اللَّهِ إذا لَمْ أفْعَلْ لَأُغَرِّمَنَّكَ غَرامَةً تُوجِعُكَ، ثُمَّ قالَ: يا مُزَنِيُّ بِكَمْ أُرِيدَتْ مِنك ناقَتُك؟ قالَ: بِأرْبَعِ مِائَةٍ، قالَ عُمَرُ: اذْهَبْ فَأعْطِهِ ثَمانِي مِائَةٍ. وَذَهَبَ أحْمَدُ إلى مُوافَقَةِ عُمَرَ في الفَصْلَيْنِ جَمِيعًا؛ في مَسائِلِ إسْماعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشّالَنْجِيِّ الَّتِي شَرَحَها السَّعْدِيُّ بِكِتابٍ سَمّاهُ المُتَرْجِمُ، قالَ: سَألْت أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَحْمِلُ الثَّمَرَ مِن أكْمامِهِ، فَقالَ: فِيهِ الثَّمَنُ مَرَّتَيْنِ وشَرَبُ نَكالٍ، وقالَ: وكُلُّ مَن دَرَأْنا عَنْهُ الحَدُّ والقَوَدُ أضْعَفْنا عَلَيْهِ الغُرْمَ، وقَدْ وافَقَ أحْمَدَ عَلى سُقُوطِ القَطْعِ في المَجاعَةِ الأوْزاعِيُّ، وهَذا مَحْضُ القِياسِ، ومُقْتَضى قَواعِدِ الشَّرْعِ؛ فَإنَّ السَّنَةَ إذا كانَتْ سَنَةَ مَجاعَةٍ وشِدَّةٍ غَلَبَ عَلى النّاسِ الحاجَةُ والضَّرُورَةُ، فَلا يَكادُ يَسْلَمُ السّارِقُ مِن ضَرُورَةٍ تَدْعُوهُ إلى ما يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، ويَجِبُ عَلى صاحِبِ المالِ بَذْلُ ذَلِكَ لَهُ، إمّا بِالثَّمَنِ أوْ مَجّانًا، عَلى الخِلافِ في ذَلِكَ؛ والصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِهِ مَجّانًا؛ لِوُجُوبِ المُواساةِ وإحْياءِ النُّفُوسِ مَعَ القُدْرَةِ عَلى ذَلِكَ والإيثارِ بِالفَضْلِ مَعَ ضَرُورَةِ المُحْتاجِ، وهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ تَدْرَأُ القَطْعَ عَنْ المُحْتاجِ، وهي أقْوى مِن كَثِيرٍ مِن الشُّبَهِ الَّتِي يَذْكُرُها كَثِيرٌ مِن الفُقَهاءِ، بَلْ إذا وازَنْت بَيْنَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وبَيْنَ ما يَذْكُرُونَهُ ظَهَرَ لَك التَّفاوُتُ، فَأيْنَ شُبْهَةُ كَوْنِ المَسْرُوقِ مِمّا يُسْرِعُ إلَيْهِ الفَسادُ، وكَوْنُ أصْلِهِ عَلى الإباحَةِ كالماءِ، وشُبْهَةُ القَطْعِ بِهِ مَرَّةً، وشُبْهَةُ دَعْوى مِلْكِهِ بِلا بَيِّنَةٍ، وشُبْهَةُ إتْلافِهِ في الحِرْزِ بِأكْلٍ أوْ احْتِلابٍ مِن الضَّرْعِ، وشُبْهَةُ نُقْصانِ مالِيَّتِهِ في الحِرْزِ بِذَبْحٍ أوْ تَحْرِيقٍ ثُمَّ إخْراجُهُ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن الشُّبَهِ الضَّعِيفَةِ جِدًّا إلى هَذِهِ الشُّبْهَةِ القَوِيَّةِ؟ لا سِيَّما وهو مَأْذُونٌ لَهُ في مُغالَبَةِ صاحِبِ المالِ عَلى أخْذِ ما يَسُدُّ رَمَقَهُ. وَعامُ المَجاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ المَحاوِيجُ والمُضْطَرُّونَ، ولا يَتَمَيَّزُ المُسْتَغْنِي مِنهم والسّارِقُ لِغَيْرِ حاجَةٍ مِن غَيْرِهِ، فاشْتَبَهَ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ بِمَن لا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَدُرِئَ. نَعَمْ إذا بانَ أنَّ السّارِقَ لا حاجَةَ بِهِ وهو مُسْتَغْنٍ عَنْ السَّرِقَةِ قُطِعَ. * [فَصْلٌ: القَطْعُ ومُوجِبُهُ] وَأمّا القَطْعُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ مِثْلِهِ عَدْلًا، وعُقُوبَةَ السّارِقِ؛ فَكانَتْ عُقُوبَتُهُ بِهِ أبْلَغَ وأرْدَعَ مِن عُقُوبَتِهِ بِالجَلْدِ، ولَمْ تَبْلُغْ جِنايَتُهُ حَدَّ العُقُوبَةِ بِالقَتْلِ؛ فَكانَ ألْيَقَ العُقُوباتِ بِهِ إبانَةَ العُضْوِ الَّذِي جَعَلَهُ وسِيلَةً إلى أذى النّاسِ، وأخْذِ أمْوالِهِمْ، ولَمّا كانَ ضَرَرُ المُحارِبِ أشَدَّ مِن ضَرَرِ السّارِقِ وعُدْوانُهُ أعْظَمَ؛ ضَمَّ إلى قَطْعِ يَدِهِ قَطْعَ رِجْلِهِ؛ لِيَكُفَّ عُدْوانَهُ، وشَرَّ يَدِهِ الَّتِي بَطَشَ بِها، ورِجْلِهِ الَّتِي سَعى بِها، وشَرَعَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن خِلافٍ لِئَلّا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ مَنفَعَةَ الشِّقِّ بِكَمالِهِ، فَكَفَّ ضَرَرَهُ وعُدْوانَهُ، ورَحِمَهُ بِأنْ أبْقى لَهُ يَدًا مِن شِقٍّ ورِجْلًا مِن شِقٍّ. * [فَصْلٌ: حِكْمَةُ قَطْعِ يَدِ السّارِقِ دُونَ لِسانِ القاذِفِ (مَثَلًا)] وَأمّا قَوْلُهُ: " وقَطَعَ يَدَ السّارِقِ الَّتِي باشَرَ بِها الجِنايَةَ، ولَمْ يَقْطَعْ فَرْجَ الزّانِي وقَدْ باشَرَ بِهِ الجِنايَةَ، ولا لِسانَ القاذِفِ وقَدْ باشَرَ بِهِ القَذْفَ " فَجَوابُهُ أنَّ هَذا مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مُنَزَّلَةٌ مِن عِنْدِ أحْكَمِ الحاكِمِينَ وأرْحَمِ الرّاحِمِينَ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَصْلًا نافِعًا في الحُدُودِ ومَقادِيرِها، وكَمالِ رُتَبِها عَلى أسْبابِها، واقْتِضاءِ كُلِّ جِنايَةٍ لِما رُتِّبَ عَلَيْها دُونَ غَيْرِها، وأنَّهُ لَيْسَ وراءَ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ اقْتِراحٌ، ونُورِدُ أسْئِلَةً لَمْ يُورِدْها هَذا السّائِلُ، ونَنْفَصِلُ عَنْها بِحَوْلِ اللَّهِ وقُوَّتِهِ أحْسَنَ انْفِصالٍ، واللَّهُ المُسْتَعانُ وعَلَيْهِ التُّكْلانُ. إنّ اللَّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ وتَقَدَّسَتْ أسْماؤُهُ لَمّا خَلَقَ العِبادَ وخَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ وجَعَلَ ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِيَبْلُوَ عِبادَهُ ويَخْتَبِرَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ في حِكْمَتِهِ بُدٌّ مِن تَهْيِئَةِ أسْبابِ الِابْتِلاءِ في أنْفُسِهِمْ وخارِجًا عَنْها، فَجَعَلَ في أنْفُسِهِمْ العُقُولَ الصَّحِيحَةَ والأسْماعَ والأبْصارَ والإرادَةَ والشَّهَواتِ والقُوى والطَّبائِعَ والحُبَّ والبُغْضَ والمَيْلَ والنُّفُورَ والأخْلاقَ المُتَضادَّةَ المُقْتَضِيَةَ لِآثارِها اقْتِضاءَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبِهِ واَلَّتِي في الخارِجِ الأسْبابُ الَّتِي تَطْلُبُ النُّفُوسُ حُصُولَها فَتُنافِسُ فِيهِ، وتَكْرَهُ حُصُولَهُ فَتَدْفَعُهُ عَنْها، ثُمَّ أكَّدَ أسْبابَ هَذا الِابْتِلاءِ بِأنْ وكَّلَ بِها قُرَناءَ مِن الأرْواحِ الشِّرِّيرَةِ الظّالِمَةِ الخَبِيثَةِ وقُرَناءَ مِن الأرْواحِ الخَيِّرَةِ العادِلَةِ الطَّيِّبَةِ، وجَعَلَ دَواعِيَ القَلْبِ ومُيُولَهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَهُما؛ فَهو إلى داعِي الخَيْرِ مَرَّةً وإلى داعِي الشَّرِّ مَرَّةً، لِيَتِمَّ الِابْتِلاءُ في دارِ الِامْتِحانِ، وتَظْهَرَ حِكْمَةُ الثَّوابِ والعِقابِ في دارِ الجَزاءِ، وكِلاهُما مِن الحَقِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ بِهِ ومِن أجْلِهِ، وهُما مُقْتَضى مُلْكِ الرَّبِّ وحَمْدِهِ؛ فَلا بُدَّ أنْ يَظْهَرَ مُلْكُهُ وحَمْدُهُ فِيهِما كَما ظَهَرَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما، وأوْجَبَ ذَلِكَ في حِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ وعَدْلِهِ بِحُكْمِ إيجابِهِ عَلى نَفْسِهِ أنْ أرْسَلَ رُسُلَهُ وأنْزَلَ كُتُبَهُ وشَرَعَ شَرائِعَهُ لِيُتِمَّ ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ، وأقامَ سُوقَ الجِهادِ لِما حَصَلَ مِن المُعاداةِ والمُنافَرَةِ بَيْنَ هَذِهِ الأخْلاقِ والأعْمالِ والإراداتِ كَما حَصَلَ بَيْنَ مَن قامَتْ بِهِ. فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن حُصُولِ مُقْتَضى الطِّباعِ البَشَرِيَّةِ وما قارَنَها مِن الأسْبابِ مِن التَّنافُسِ والتَّحاسُدِ والِانْقِيادِ لِدَواعِي الشَّهْوَةِ والغَضَبِ وتَعَدِّي ما حُدَّ لَهُ والتَّقْصِيرُ عَنْ كَثِيرٍ مِمّا تُعُبِّدَ بِهِ، وسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْها اغْتِرارُها بِمَوارِدِ المَعْصِيَةِ مَعَ الإعْراضِ مِن مَصادِرِها، وإيثارِها ما تَتَعَجَّلُهُ مِن يَسِيرِ اللَّذَّةِ في دُنْياها عَلى ما تَتَأجَّلُهُ مِن عَظِيمِ اللَّذَّةِ في أُخْراها، ونُزُولِها عَلى الحاضِرِ المُشاهَدِ، وتَجافِيها عَنْ الغائِبِ المَوْعُودِ وذَلِكَ مُوجِبُ ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِن جَهْلِها وظُلْمِها؛ فاقْتَضَتْ أسْماءُ الرَّبِّ الحُسْنى وصِفاتُهُ العُلْيا وحِكْمَتُهُ البالِغَةُ ونِعْمَتُهُ السّابِغَةُ ورَحْمَتُهُ الشّامِلَةُ وجُودُهُ الواسِعُ أنْ لا يَضْرِبَ عَنْ عِبادِهِ الذِّكْرَ صَفْحًا، وأنْ لا يَتْرُكَهم سُدًى، ولا يُخَلِّيَهم ودَواعِيَ أنْفُسِهِمْ وطَبائِعِهِمْ، بَلْ رَكَّبَ في فِطَرِهِمْ وعُقُولِهِمْ مَعْرِفَةَ الخَيْرِ والشَّرِّ والنّافِعِ والضّارِّ والألَمِ واللَّذَّةِ ومَعْرِفَةِ أسْبابِها، ولَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتّى عَرَّفَهم بِهِ مُفَصَّلًا عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ، وقَطَعَ مَعاذِيرَهم بِأنْ أقامَ عَلى صِدْقِهِمْ مِن الأدِلَّةِ والبَراهِينِ ما لا يَبْقى مَعَهُ لَهم عَلَيْهِ حُجَّةٌ، لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، ويَحْيى مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، وصَرَفَ لَهم طُرُقَ الوَعْدِ والوَعِيدِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، وضَرَبَ لَهم الأمْثالَ وأزالَ عَنْهم كُلَّ إشْكالٍ، ومَكَّنَهم مِن القِيامِ بِما أمَرَهم بِهِ وتَرْكِ ما نَهاهم عَنْهُ غايَةَ التَّمْكِينِ، وأعانَهم عَلَيْهِ بِكُلِّ سَبَبٍ، وسَلَّطَهم عَلى قَهْرِ طِباعِهِمْ بِما يَجُرُّهم إلى إيثارِ العَواقِبِ عَلى المُبادِي ورَفْضِ اليَسِيرِ الفانِي مِن اللَّذَّةِ إلى العَظِيمِ الباقِي مِنها، وأرْشَدَهم إلى التَّفْكِيرِ والتَّدَبُّرِ وإيثارِ ما تَقْضِي بِهِ عُقُولُهم وأخْلاقُهم مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، وأكْمَلَ لَهم دِينَهُمْ، وأتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ بِما أوْصَلَهُ إلَيْهِمْ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ مِن أسْبابِ العُقُوبَةِ والمَثُوبَةِ والبِشارَةِ والنِّذارَةِ والرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، وتَحْقِيقِ ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ لِبَعْضِهِ في دارِ المِحْنَةِ لِيَكُونَ عَلَمًا وإمارَةً لِتَحْقِيقِ ما أخَّرَهُ عَنْهم في دارِ الجَزاءِ والمَثُوبَةِ، ويَكُونُ العاجِلُ مُذَكِّرًا بِالآجِلِ، والقَلِيلُ المُنْقَطِعُ بِالكَثِيرِ المُتَّصِلِ، والحاضِرُ الفائِتُ مُؤْذِنًا بِالغائِبِ الدّائِمِ، فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ وأحْكَمُ الحاكِمِينَ وأرْحَمُ الرّاحِمِينَ، وسُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَظُنُّهُ بِهِ مَن لَمْ يُقَدِّرْهُ مِمَّنْ أنْكَرَ أسْماءَهُ وصِفاتِهِ وأمْرَهُ ونَهْيَهُ ووَعْدَهُ ووَعِيدَهُ، وظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَأرْداهُ ظَنُّهُ فَأصْبَحَ مِن الخاسِرِينَ. فَكانَ مِن بَعْضِ حِكْمَتِهِ سُبْحانَهُ ورَحْمَتِهِ أنْ شَرَعَ العُقُوباتِ في الجِناياتِ الواقِعَةِ بَيْنَ النّاسِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، في الرُّءُوسِ والأبْدانِ والأعْراضِ والأمْوالِ، كالقَتْلِ والجِراحِ والقَذْفِ والسَّرِقَةِ؛ فَأحْكَمَ سُبْحانَهُ وُجُوهَ الزَّجْرِ الرّادِعَةَ عَنْ هَذِهِ الجِناياتِ غايَةَ الإحْكامِ، وشَرَعَها عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ المُتَضَمِّنَةِ لِمَصْلَحَةِ الرَّدْعِ والزَّجْرِ، مَعَ عَدَمِ المُجاوَزَةِ لِما يَسْتَحِقُّهُ الجانِي مِن الرَّدْعِ؛ فَلَمْ يَشْرَعْ في الكَذِبِ قَطْعَ اللِّسانِ ولا القَتْلَ، ولا في الزِّنا الخِصاءَ، ولا في السَّرِقَةِ إعْدامَ النَّفْسِ. وَإنَّما شَرَعَ لَهم في ذَلِكَ ما هو مُوجِبُ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ مِن حِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ ولُطْفِهِ وإحْسانِهِ وعَدْلِهِ لِتَزُولَ النَّوائِبُ، وتَنْقَطِعَ الأطْماعُ عَنْ التَّظالُمِ والعُدْوانِ، ويَقْتَنِعَ كُلُّ إنْسانٍ بِما آتاهُ مالِكُهُ وخالِقُهُ؛ فَلا يَطْمَعُ في اسْتِلابِ غَيْرِهِ حَقَّهُ. * (فَصْلٌ) [لَيْسَ مِن الحِكْمَةِ إتْلافُ كُلِّ عُضْوٍ وقَعَتْ بِهِ مَعْصِيَةٌ] وَأمّا مُعاقَبَةُ السّارِقِ بِقَطْعِ يَدِهِ وتَرْكِ مُعاقَبَةِ الزّانِي بِقَطْعِ فَرْجِهِ فَفي غايَةِ الحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ، ولَيْسَ في حِكْمَةِ اللَّهِ ومَصْلَحَةِ خَلْقِهِ وعِنايَتِهِ ورَحْمَتِهِ بِهِمْ أنْ يُتْلِفَ عَلى كُلِّ جانٍ كُلَّ عُضْوٍ عَصاهُ بِهِ، فَيَشْرَعُ قَلْعَ عَيْنِ مَن نَظَرَ إلى المُحَرَّمِ وقَطْعَ أُذُنِ مَن اسْتَمَعَ إلَيْهِ، ولِسانِ مَن تَكَلَّمَ بِهِ، ويَدِ مَن لَطَمَ غَيْرَهُ عُدْوانًا، ولا خَفاءَ بِما في هَذا مِن الإسْرافِ والتَّجاوُزِ في العُقُوبَةِ وقَلْبِ مَراتِبِها؛ وأسْماءُ الرَّبِّ الحُسْنى وصِفاتُهُ العُلْيا وأفْعالُهُ الحَمِيدَةُ تَأْبى ذَلِكَ، ولَيْسَ مَقْصُودُ الشّارِعِ مُجَرَّدَ الأمْنِ مِن المُعاوَدَةِ لَيْسَ إلّا، ولَوْ أُرِيدَ هَذا لَكانَ قَتَلَ صاحِبَ الجَرِيمَةِ فَقَطْ، وإنَّما المَقْصُودُ الزَّجْرُ والنَّكالُ والعُقُوبَةُ عَلى الجَرِيمَةِ، وأنْ يَكُونَ إلى كَفِّ عُدْوانِهِ أقْرَبَ، وأنْ يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ، وأنْ يُحْدِثَ لَهُ ما يَذُوقُهُ مِن الألَمِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وأنْ يُذَكِّرَهُ ذَلِكَ بِعُقُوبَةِ الآخِرَةِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الحِكَمِ والمَصالِحِ. [الحِكْمَةُ في حَدِّ السَّرِقَةِ] ثُمَّ إنّ في حَدِّ السَّرِقَةِ مَعْنًى آخَرَ، وهو أنَّ السَّرِقَةَ إنّما تَقَعُ مِن فاعِلِها سِرًّا كَما يَقْتَضِيهِ اسْمُها، ولِهَذا يَقُولُونَ: " فُلانٌ يَنْظُرُ إلى فُلانٍ مُسارَقَةً " إذا كانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرًا خَفِيًّا لا يُرِيدُ أنْ يَفْطِنَ لَهُ، والعازِمُ عَلى السَّرِقَةِ مُخْتَفٍ كاتِمٌ خائِفٌ أنْ يُشْعَرَ بِمَكانِهِ فَيُؤْخَذَ بِهِ، ثُمَّ هو مُسْتَعِدٌّ لِلْهَرَبِ والخَلاصِ بِنَفْسِهِ إذا أخَذَ الشَّيْءَ، واليَدانِ لِلْإنْسانِ كالجَناحَيْنِ لِلطّائِرِ في إعانَتِهِ عَلى الطَّيَرانِ، ولِهَذا يُقالُ: " وصَلْت جَناحَ فُلانٍ " إذا رَأيْته يَسِيرُ مُنْفَرِدًا فانْضَمَمْت إلَيْهِ لِتَصْحَبَهُ، فَعُوقِبَ السّارِقُ بِقَطْعِ اليَدِ قَصًّا لِجَناحِهِ، وتَسْهِيلًا لِأخْذِهِ إنْ عاوَدَ السَّرِقَةَ، فَإذا فَعَلَ بِهِ هَذا في أوَّلِ مَرَّةٍ بَقِيَ مَقْصُوصَ أحَدِ الجَناحَيْنِ ضَعِيفًا في العَدْوِ، ثُمَّ يَقْطَعُ في الثّانِيَةِ رِجْلَهُ فَيَزْدادُ ضَعْفًا في عَدْوِهِ، فَلا يَكادُ يَفُوتُ الطّالِبَ، ثُمَّ تُقْطَعُ يَدُهُ الأُخْرى في الثّالِثَةِ ورِجْلُهُ الأُخْرى في الرّابِعَةِ، فَيَبْقى لَحْمًا عَلى وضَمٍ، فَيَسْتَرِيحُ ويُرِيحُ. [أقْسامُ الذُّنُوبِ] ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ الذُّنُوبَ ثَلاثَةَ أقْسامٍ: قِسْمًا فِيهِ الحَدُّ، فَهَذا لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ كَفّارَةً اكْتِفاءً بِالحَدِّ. وَقِسْمًا لَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ حَدًّا، فَشَرَعَ فِيهِ الكَفّارَةَ، كالوَطْءِ في نَهارِ رَمَضانَ، والوَطْءِ في الإحْرامِ، والظِّهارِ، وقَتْلِ الخَطَأِ، والحِنْثِ في اليَمِينِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِسْمًا لَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ حَدًّا ولا كَفّارَةً، وهو نَوْعانِ: أحَدُهُما: ما كانَ الوازِعُ عَنْهُ طَبِيعِيًّا، كَأكْلِ العَذِرَةِ، وشُرْبِ البَوْلِ والدَّمِ. والثّانِي: ما كانَتْ مَفْسَدَتُهُ أدْنى مِن مَفْسَدَةِ ما رُتِّبَ عَلَيْهِ الحَدُّ، كالنَّظَرِ والقُبْلَةِ واللَّمْسِ والمُحادَثَةِ، وسَرِقَةِ فِلْسٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ. الكَفّاراتُ في ثَلاثَةِ أنْواعٍ وَشَرَعَ الكَفّاراتِ في ثَلاثَةِ أنْواعٍ: أحَدُها: ما كانَ مُباحَ الأصْلِ، ثُمَّ عَرَضَ تَحْرِيمُهُ فَباشَرَهُ في الحالَةِ الَّتِي عَرَضَ فِيها التَّحْرِيمُ، كالوَطْءِ في الإحْرامِ والصِّيامِ، وطَرْدُهُ: الوَطْءُ في الحَيْضِ والنِّفاسِ، بِخِلافِ الوَطْءِ في الدُّبُرِ، ولِهَذا كانَ إلْحاقُ بَعْضِ الفُقَهاءِ لَهُ بِالوَطْءِ في الحَيْضِ لا يَصِحُّ، فَإنَّهُ لا يُباحُ في وقْتٍ دُونَ وقْتٍ، فَهو بِمَنزِلَةِ التَّلَوُّطِ، وشُرْبِ المُسْكِرِ. النَّوْعُ الثّانِي: ما عُقِدَ لِلَّهِ مِن نَذْرٍ أوْ بِاللَّهِ مِن يَمِينٍ، أوْ حَرَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أرادَ حِلَّهُ، فَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ حِلَّهُ بِالكَفّارَةِ وسَمّاها نِحْلَةً، ولَيْسَتْ هَذِهِ الكَفّارَةُ ماحِيَةً لِهَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ بِالحِنْثِ، كَما ظَنَّهُ بَعْضُ الفُقَهاءِ، فَإنَّ الحِنْثَ قَدْ يَكُونُ واجِبًا، وقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وقَدْ يَكُونُ مُباحًا، وإنَّما الكَفّارَةُ حِلٌّ لِما عَقَدَهُ. النَّوْعُ الثّالِثُ: ما تَكُونُ فِيهِ جابِرَةً لِما فاتَ، كَكَفّارَةِ قَتْلِ الخَطَأِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ إثْمٌ، وكَفّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً، فَإنَّ ذَلِكَ مِن بابِ الجَوابِرِ، والنَّوْعُ الأوَّلُ مِن بابِ الزَّواجِرِ، والنَّوْعُ الوَسَطُ مِن بابِ التَّحِلَّةِ لِما مِنهُ العَقْدُ. (لا يَجْتَمِعُ الحَدُّ والتَّعْزِيرُ) لا يَجْتَمِعُ الحَدُّ والتَّعْزِيرُ في مَعْصِيَةٍ، بَلْ إنْ كانَ فِيها حَدٌّ اكْتُفِيَ بِهِ وإلّا اكْتُفِيَ بِالتَّعْزِيرِ، ولا يَجْتَمِعُ الحَدُّ والكَفّارَةُ في مَعْصِيَةٍ، بَلْ كُلُّ مَعْصِيَةٍ فِيها حَدٌّ فَلا كَفّارَةَ فِيها، وما فِيهِ كَفّارَةٌ فَلا حَدَّ فِيهِ، وهَلْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ والكَفّارَةُ في المَعْصِيَةِ الَّتِي لا حَدَّ فِيها؟ فِيهِ وجْهانِ: وهَذا كالوَطْءِ في الإحْرامِ والصِّيامِ، ووَطْءِ الحائِضِ، وإذا أوْجَبْنا فِيهِ الكَفّارَةَ، فَقِيلَ: يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ لِما انْتَهَكَ مِنَ الحُرْمَةِ بِرُكُوبِ الجِنايَةِ، وقِيلَ: لا تَعْزِيرَ في ذَلِكَ، اكْتِفاءً بِالكَفّارَةِ لِأنَّها جابِرَةٌ وماحِيَةٌ. * (فائدة) قول النبي ﷺ: "رأى عيسى رجلا يسرق فقال: سرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت بصري" قيل هو استفهام من المسيح لا أنه إخبار والمعنى: أسرقت فلما حلف له صدقه. ويرد هذا قوله: "وكذبت بصري". وقيل: لما رآه المسيح أخذ المال بصورة السارق فقال: "سرقت؟ " قال: كلا أي ليس بسرقة إما لأنه ماله أو له فيه حق أو لأنه أخذه ليقلبه ويعيده والمسيح عليه السلام أحال على ظاهر ما رأى فلما حلف له قال: "آمنت بالله وكذبت نفسي" في ظني أنها سرقة لا أنه كذب نفسه في أخذه المال عيانا فالتكذيب واقع على الظن لا على العيان، وهكذا الرواية "كذبت نفسي" ولا تنافي بينها وبين رواية "وكذبت بصري" لأن البصر ظن أن ذلك الأخذ سرقة فأنا كذبته في ظن أنه رأى سرقة ولعله إنما رأى أخذا ليس بسرقة. وفي الحديث معنى ثالث ولعله أليق به وهو أن المسيح عليه السلام لعظمة وقار الله في قلبه وجلاله ظن أن هذا الحالف بوحدانية الله تعالى صادقا عمله إيمانه بالله على تصديقه وجوز أن يكون بصره قد كذبه وأراه ما لم ير فقال: "آمنت بالله وكذبت بصري" ولا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه والمسيح صلوات الله عليه وسلامه حكم إيمانه على بصره ونسب الغلط إليه والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب