الباحث القرآني

(p-٣٣٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿إذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنكم أنْ تَفْشَلا واللهُ ولِيُّهُما وعَلى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ ذَهَبَ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَعْنى ما تَقَدَّمَها مِنَ الآياتِ، والظاهِرُ أنَّها اسْتِقْبالُ أمْرٍ آخَرَ. لِأنَّ تِلْكَ مُقاوَمَةٌ في شَأْنِ مُنافِقِي اليَهُودِ، وهَذا ابْتِداءُ عَتْبِ المُؤْمِنِينَ في أمْرِ أُحُدٍ، فالعامِلُ في "إذْ" فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ. وقالَ الحَسَنُ: هَذا الغُدُوُّ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ لِتَبَوُّئِ المُؤْمِنِينَ الَّذِي كانَ في غَزْوَةِ الأحْزابِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وخالَفَهُ الناسُ. والجُمْهُورُ عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ، وفِيها نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ كُلُّها. وكانَ مِن أمْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ أنَّ المُشْرِكِينَ اجْتَمَعُوا في ثَلاثَةِ آلافِ رَجُلٍ، وقَصَدُوا المَدِينَةَ لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ في يَوْمِ بَدْرٍ، فَنَزَلُوا عِنْدَ أُحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعاءِ الثانِي عَشَرَ مِن شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، عَلى رَأْسِ أحَدٍ وثَلاثِينَ شَهْرًا مِنَ الهِجْرَةِ، وأقامُوا هُنالِكَ يَوْمَ الخَمِيسِ، ورَسُولُ اللهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ يُدَبِّرُ ويَنْتَظِرُ أمْرَ اللهِ تَعالى، فَلَمّا كانَ في صَبِيحَةِ يَوْمِ الجُمُعَةِ جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الناسَ واسْتَشارَهُمْ، وأخْبَرَهم أنَّهُ كانَ رَأى في مَنامِهِ بَقَرَةً تُذْبَحُ وثَلْمًا في ذُبابِ سَيْفِهِ، وأنَّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ في دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وأنَّهُ تَأوَّلَها المَدِينَةَ، وقالَ لَهُمْ، أرى ألّا نَخْرُجَ إلى هَؤُلاءِ الكُفّارِ، فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ: أقِمْ يا رَسُولَ اللهِ ولا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ بِالناسِ، فَإنْ هم أقامُوا أقامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ، وإنِ انْصَرَفُوا مَضَوْا خائِبِينَ، وإنْ جاؤُونا إلى المَدِينَةِ قاتَلْناهم في الأفْنِيَةِ، ورَماهُمُ النِساءُ والصِبْيانُ بِالحِجارَةِ مِنَ الآطامِ، فَواللهِ ما حارَبْنا قَطُّ عَدُوًّا في هَذِهِ المَدِينَةِ إلّا غَلَبْناهُ، ولا خَرَجْنا مِنها إلى عَدُوٍّ إلّا غَلَبَنا، فَوافَقَ هَذا الرَأْيُ رَأْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ورَأْيَ جَماعَةٍ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ. وقالَ قَوْمٌ مِن صُلَحاءِ المُؤْمِنِينَ مِمَّنْ كانَ فاتَتْهُ بَدْرٌ: يا رَسُولَ اللهِ، اخْرُجْ بِنا إلى عَدُوِّنا، وشَجَّعُوا الناسَ ودَعَوْا إلى الحَرْبِ، فَقامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَصَلّى بِالناسِ صَلاةَ الجُمُعَةِ وقَدْ جَشَّمَهُ هَؤُلاءِ الداعُونَ إلى الحَرْبِ، فَدَخَلَ إثْرَ صَلاتِهِ بَيْتَهُ ولَبِسَ سِلاحَهُ، فَنَدِمَ أُولَئِكَ القَوْمُ وقالُوا: أكْرَهْنا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَلَمّا خَرَجَ عَلَيْهِمُ (p-٣٣٩)النَبِيُّ ﷺ في سِلاحِهِ، قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ أقِمْ إنْ شِئْتَ، فَإنّا لا نُرِيدُ أنْ نُكْرِهَكَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ما يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إذا لَبِسَ سِلاحَهُ أنْ يَضَعَها حَتّى يُقاتِلَ. ثُمَّ خَرَجَ بِالناسِ، وسارَ حَتّى قَرُبَ مِن عَسْكَرِ المُشْرِكِينَ هُناكَ، وباتَ تِلْكَ اللَيْلَةَ، وقَدْ غَضِبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وقالَ: أطاعَهم وعَصانِي. فَلَمّا كانَ في صَبِيحَةِ يَوْمِ السَبْتِ اعْتَزَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلى السَيْرِ إلى مُناجَزَةِ المُشْرِكِينَ، فَنَهَضَ وهو في ألْفِ رَجُلٍ، فانْخَزَلَ عنهُ عِنْدَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ بِثَلاثِمِائَةٍ مِنَ الناسِ، مِن مُنافِقٍ ومُتَّبِعٍ، وقالُوا: نَظُنُّ أنَّكم لا تَلْقَوْنَ قِتالًا، ومَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ، في سَبْعِمِائَةٍ، فَهَمَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو حارِثَةَ مِنَ الأوسِ وبَنُو سَلَمَةَ مِنَ الخَزْرَجِ بِالِانْصِرافِ، ورَأوا كَثافَةَ المُشْرِكِينَ وقِلَّةَ المُسْلِمِينَ، وكادُوا أنْ يَجْبُنُوا ويَفْشَلُوا فَعَصَمَهُمُ اللهُ تَعالى، وذَمَرَ بَعْضُهم بَعْضًا، ونَهَضُوا مَعَ النَبِيِّ ﷺ، فَمَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتّى أطَلَّ عَلى المُشْرِكِينَ، فَتَصافَّ الناسُ. وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ أمَّرَ عَلى الرُماةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ وكانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا، وجَعَلَهم يَحْمُونَ الجَبَلَ وراءَ المُسْلِمِينَ، وأسْنَدَ هو إلى الجَبَلِ، فَلَمّا اضْطَرَمَتِ الحَرْبُ انْكَشَفَ المُشْرِكُونَ وانْهَزَمُوا، وجَعَلَ نِساءُ المُشْرِكِينَ تَبْدُو خَلاخِلُهُنَّ وهُنَّ يُسْنِدْنَ في صَفْحِ جَبَلٍ، فَلَمّا رَأى الرُماةُ ذَلِكَ قالُوا: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ أيُّها المُسْلِمُونَ. وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قالَ لَهُمْ: لا تَبْرَحُوا مِن هُنا ولَوْ رَأيْتُمُونا تَتَخَطَّفُنا الطَيْرُ، فَقالَ لَهم عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ وقَوْمٌ مِنهُمُ: اتَّقُوا اللهَ واثْبُتُوا كَما أمَرَكم نَبِيُّكُمْ، فَعَصَوْا وخالَفُوا وزالُوا مُتْبِعِينَ، وكانَ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ قَدْ تَجَرَّدَ في جَرِيدَةِ خَيْلٍ وجاءَ مِن خَلْفِ المُسْلِمِينَ حَيْثُ كانَ الرُماةُ، فَحَمَلَ عَلى الناسِ، ووَقَعَ التَخاذُلُ وصِيحَ في المُسْلِمِينَ مِن مُقَدِّمَتِهِمْ ومِن ساقَتِهِمْ، وصَرَخَ صارِخٌ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَتَخاذَلَ الناسُ واسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ نَيِّفٌ عَلى سَبْعِينَ. قالَ مَكِّيٌّ: قالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: قُتِلَ مِنَ المُهاجِرِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أرْبَعَةٌ، ومِنَ الأنْصارِ سَبْعُونَ، وتَحَيَّزَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في أعْلى الجَبَلِ وتَجاوَزَ الناسَ. (p-٣٤٠)هَذا مُخْتَصَرٌ مِنَ القِصَّةِ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الآيَةِ، وأمْرُ "أُحُدٍ" بِطُولِهِ وما تَخَلَّلَهُ مِنَ الأفْعالِ والأقْوالِ مُسْتَوْعَبٌ في كُتُبِ السِيَرِ، ولَيْسَ هَذا التَعْلِيقُ مِمّا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ. وحَكى مَكِّيٌّ عَنِ السُدِّيِّ ما يَظْهَرُ مِنهُ أنَّ القِتالَ كانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وحَكى عنهُ الطَبَرِيُّ، أنَّ نُزُولَ أبِي سُفْيانَ بِأُحُدٍ كانَ فِي الثالِثِ مِن شَوّالٍ، وذَلِكَ كُلُّهُ ضَعِيفٌ، وقالَ النَقّاشُ: وقْعَةُ أُحُدٍ في الحادِي عَشَرَ مِن شَوّالٍ، وذَلِكَ خَطَأٌ. قالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ: فَغُدُوُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلى التَدْبِيرِ مَعَ الناسِ واسْتِشارَتِهِمْ هو الَّذِي عُبِّرَ عنهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا سِيَّما أنَّ غُدُوَّ النَبِيِّ ﷺ إنَّما كانَ ورَأْيُهُ أنْ لا يَخْرُجَ الناسُ، فَكانَ لا يَشُكُّ في نَفْسِهِ أنْ يُقَسِّمَ أقْطارَ المَدِينَةِ عَلى قَبائِلِ الأنْصارِ. وقالَ غَيْرُ الطَبَرِيِّ: بَلْ نُهُوضُ النَبِيِّ ﷺ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ الصَلاةِ هو غُدُوُّهُ، وبَوَّأ المُؤْمِنِينَ في وقْتِ حُضُورِ القِتالِ، وقِيلَ ذَلِكَ في لَيْلَتِهِ، وسَمّاهُ غُدُوًّا إذْ كانَ قَدِ اعْتَزَمَ التَدْبِيرَ، والشُرُوعَ في الأمْرِ مِن وقْتِ الغُدُوِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا سِيَّما أنَّ صَلاةَ الجُمُعَةِ رُبَّما كانَتْ قَبْلَ الزَوالِ، حَسْبَما ورَدَتْ بِذَلِكَ أحادِيثُ، فَيَجِيءُ لَفْظُ الغُدُوِّ مُتَمَكِّنًا، وقِيلَ: إنَّ الغُدُوَّ المَذْكُورَ هو غُدْوَةُ يَوْمِ السَبْتِ إلى القِتالِ، ومِن حَيْثُ لَمْ يَكُنْ في تِلْكَ اللَيْلَةِ مُوافِقًا لِلْغُدُوِّ فَهو كَأنَّهُ كانَ في أهْلِهِ، وبَوَّأ المُسْلِمِينَ بِأمْرِهِ الرُماةَ وبِغَيْرِ ذَلِكَ مِن تَدْبِيرِهِ مَصافَّ الناسِ، و"تُبَوِّئُ" مَعْناهُ: تُعَيِّنُ لَهم مَقاعِدَ يَتَمَكَّنُونَ فِيها ويَثْبُتُونَ تَقُولُ: تَبَوَّأْتُ مَكانَ كَذا، إذا حَلَلْتَهُ حُلُولًا مُتَمَكِّنًا ثَبَتَّ فِيهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ﴾ [الزمر: ٧٤] ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: ( «مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ» ) ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: (p-٣٤١) ؎ كَمْ صاحِبٍ لِي صالِحٍ ∗∗∗ بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدا ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ وما بَوَّأ الرَحْمَنُ بَيْتَكَ مَنزِلًا ∗∗∗ بِشَرْقِيِّ أجْيادِ الصَفا والمُحَرَّمِ وقَوْلُهُ تَعالى: "مَقاعِدَ" جَمْعُ مَقْعَدٍ، وهو مَكانُ القُعُودِ، وهَذا بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: مَواقِفُ، ولَكِنَّ لَفْظَةَ القُعُودِ أدَلُّ عَلى الثُبُوتِ، ولا سِيَّما أنَّ الرُماةَ إنَّما كانُوا قُعُودًا، وكَذَلِكَ كانَتْ صُفُوفُ المُسْلِمِينَ أوَّلًا، والمُبارِزَةُ والسَرْعانُ يَجُولُونَ. وقَوْلُهُ: "واللهُ سَمِيعٌ" أيْ: ما تَقُولُ ويُقالُ لَكَ وقْتَ المُشاوَرَةِ وغَيْرَهُ؛.وَ"إذْ" الثانِيَةُ بَدَلٌ مِنَ الأُولى، و"هَمَّتْ" مَعْناهُ: أرادَتْ ولَمْ تَفْعَلْ، والفَشَلُ في هَذا المَوْضِعِ: هو الجُبْنُ الَّذِي كادَ يَلْحَقُ بَنِي سَلَمَةَ وبَنِي حارِثَةَ، والفَشَلُ في البَدَنِ: هو الإعْياءُ والتَبْلِيحُ، والفَشَلُ في الرَأْيِ: هو العَجْزُ والحَيْرَةُ وفَسادُ العَزْمِ، وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: ما ودِدْنا أنَّها لَمْ تَنْزِلْ، لِقَوْلِهِ تَعالى: "واللهُ ولِيُّهُما". وقَوْلُهُ: ﴿وَعَلى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ أمْرٌ في ضِمْنِهِ التَغْبِيطُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ ما فَعَلَهُ بَنُو حارِثَةَ وبَنُو سَلَمَةَ مِنَ المَسِيرِ مَعَ النَبِيِّ ﷺ. وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "تُبَوِّئُ لِلْمُؤْمِنِينَ" بِلامِ الجَرِّ، وقَرَأ-: "واللهُ ولِيُّهُمْ" عَلى مَعْنى الطائِفَتَيْنِ لا عَلى اللَفْظِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب