قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ} العامل في «إذ» مضمرٌ تقديرهُ: واذكر إذ غدوت، فينتصِبُ انتصابَ المفعول به لا على الظرف. وجَوَّز بعضُهم أَن يكونَ معطوفاً على «فئتين» في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] أي: قد كان لكم آيةٌ في فئتين وفي إذ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يُعَرَّج عليه.
والغدوُّ: الخروجُ أولَ النهار يقال: غَدا يَغْدُو أي: خَرَجَ غُدْوَةً، ويُسْتعمل بمعنى صار عند بعضهم، فيكونُ ناقصاً يرفع الاسم وينصبُ الخبر، وعليه قولُه [عليه] السلام: «لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّلهِ لرزقكم كما يَرزق الطيرَ تَغْدُو خِماصاً وتروُح بِطاناً» .
وقوله: {مِنْ أَهْلِكَ} متعلق ب «غَدَوْتَ» وفي «من» وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية أي: من بين أهلك، قال أبو البقاء: «وموضعُه نصب تقديره: فارقْتَ أهلك» وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ولا تفسير معنى، فإن المعنى على غير ما ذكر. والثاني: أنها بمعنى مع أي: مع أهلك، وهذا لا يساعده لا لفظٌ ولا معنى.
قوله: {تُبَوِّىءُ} الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل «غدوت» ، وهي حال مقدرة أي: قاصداً تَبْوِئَةَ المؤمنين، لأنَّ وقت الغدو ليس وقتاً للتَبْوِئة. ويحتمل أن تكون مقارنةً؛ لأنَّ الزمان متسع.
وتُبَوِّىءُ أي: تُنَزِّلُ فهو يتعدى لمفعولين إلى أحدهما نفسه وإلى آخر بحرف الجر، وقد يُحْذف كهذه الآية. ومِنْ عدم الحذف قولُه تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] وأصله من المَبَاءة وهي المَرْجِعُ. قال:
1418 - وما بَوَّأ الرحمنُ بَيْتَك منزلاً ... بشرقيِّ أجيادِ الصَّفا والمُحَرَّمِ
وقال آخر:
1419 - كم مِن أخٍ لي صَالحٍ ... بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْدا
وقد تقدَّم اشتقاق هذه اللفظة. وقيل: «اللام في قوله» لإِبراهيم «مزيدةٌ، فعلى هذا يكون متعدياً للاثنين بنفسه» .
ومقاعد جمع «مَقْعَد» . والمراد به هنا مكانُ القُعودِ. وقعد قد يكون بمعنى صار في المَثَل خاصة. وقال الزمخشري: «وقد اتُّسِع في قعد وقام حتى أُجْريا مُجرى صار» . قال الشيخ: «أمَّا إجراء» قَعَد «مُجْرى» صار « فقال بعض أصحابنا إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل في قولهم:» شَحَذَ شَفْرَته حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبة «، وكذلك نَقَد على الزمخشري تخريجَه قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} [الإسراء: 22] بمعنى: فتصيرَ، لأنه لا يَطِّرِدُ إجراء قَعَد مُجْرى صار» قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشري صحيح من كون «قعد» يكون بمعنى صارَ في غير ما أشار إليه هذا القائل، حكى أبو عمر الزاهد عن ابن الأعرابي أن العرب تقول: «قَعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً» أي صار.
ثم قال الشيخ: «وأمَّا إجراء» قام «مجرى» صار «فلا أعلم أحداً عَدَّها في أخوات» كان «، ولا جعلها بمعنى صار، إلا ابن هشام الخضرواي فإنه ذَكَر في قول الشاعر: /
1420 - على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رماد
أنها من أفعال المقاربة قلت: وغيرُه من النحويين يجعلُها زائدةً، وهو شاذ أيضاً.
وقرأ العامة:» تُبَوِّىءُ «عَدَّوْه بالتضعيف. وعبد الله:» تُبْوِىءُ «بسكون الباء عَدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أَبْوأَ كأكرم، وقرأ يحيى بن وثاب» تُبْوي «كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل الهمزة بإبدالها ياء فصار لفظه كلفظ» تُحْيي «كقولهم: تُقْري في تُقْرىء. وقرأ عبد الله:» للمؤمنين «بلام الجر كقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} [الحج: 26] . وتقدَّم أنَّ في هذه اللامِ قولين. والظاهرُ أنها مُعَدِّية؛ لأنه قبل التضعيفِ والهمزةِ غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكونَ قد ضَمَّنه هنا معنى» تُهَيِّىء «، و» ترتِّب «.
وقرأ الأشهب:» مقاعدَ القتالِ «بإضافتها للقتال. واللام في» للقتال «في قراءة الجمهور فيها وجهان، أظهرهما: أنها متعلقة ب» تُبَوِّىء «على أنها لام العلة، والثاني: أنها متعلقة بمحذوف لأنها صفة ل مقاعد أي: مقاعد كائنة ومهيئة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب» مقاعد «وإن كانت مشتقةً، لأنها مكانٌ والأمكنة لا تعمل.
{"ayah":"وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}