الباحث القرآني
قالَ الزُّهْرِيُّ، وعاصم بن عمر، ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ حِبّانَ وغَيْرُهُمْ: كانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلاءٍ وتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ المُؤْمِنِينَ، وأظْهَرَ بِهِ المُنافِقِينَ مِمَّنْ كانَ يُظْهِرُ الإسْلامَ بِلِسانِهِ، وهو مُسْتَخْفٍ بِالكُفْرِ، فَأكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَن أرادَ كَرامَتَهُ بِالشَّهادَةِ مِن أهْلِ وِلايَتِهِ، فَكانَ مِمّا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ في يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِن آلِ عِمْرانَ، أوَّلُها: ﴿وَإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] إلى آخِرِ القِصَّةِ.
* [فَصْلٌ فِيما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الغَزاةُ مِنَ الأحْكامِ والفِقْهِ]
مِنها: أنَّ الجِهادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، حَتّى إنَّ مَن لَبِسَ لَأْمَتَهُ وشَرَعَ في أسْبابِهِ، وتَأهَّبَ لِلْخُرُوجِ، لَيْسَ لَهُ أنْ يَرْجِعَ عَنِ الخُرُوجِ حَتّى يُقاتِلَ عَدُوَّهُ.
وَمِنها: أنَّهُ لا يَجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ إذا طَرَقَهم عَدُوُّهم في دِيارِهِمُ الخُرُوجُ إلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهم أنْ يَلْزَمُوا دِيارَهُمْ، ويُقاتِلُوهم فِيها إذا كانَ ذَلِكَ أنْصَرَ لَهم عَلى عَدُوِّهِمْ، كَما أشارَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَمِنها: جَوازُ سُلُوكِ الإمامِ بِالعَسْكَرِ في بَعْضِ أمْلاكِ رَعِيَّتِهِ إذا صادَفَ ذَلِكَ طَرِيقَهُ، وإنْ لَمْ يَرْضَ المالِكُ.
وَمِنها: أنَّهُ لا يَأْذَنُ لِمَن لا يُطِيقُ القِتالَ مِنَ الصِّبْيانِ غَيْرِ البالِغِينَ، بَلْ يَرُدُّهم إذا خَرَجُوا، كَما رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ابْنَ عُمَرَ ومَن مَعَهُ.
وَمِنها: جَوازُ الغَزْوِ بِالنِّساءِ، والِاسْتِعانَةِ بِهِنَّ في الجِهادِ.
وَمِنها: جَوازُ الِانْغِماسِ في العَدُوِّ، كَما انْغَمَسَ أنس بن النضر وغَيْرُهُ.
وَمِنها: أنَّ الإمامَ إذا أصابَتْهُ جِراحَةٌ صَلّى بِهِمْ قاعِدًا، وصَلَّوْا وراءَهُ قُعُودًا، كَما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في هَذِهِ الغَزْوَةِ، واسْتَمَرَّتْ عَلى ذَلِكَ سُنَّتُهُ إلى حِينِ وفاتِهِ
وَمِنها: جَوازُ دُعاءِ الرَّجُلِ أنَّ يُقْتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وتَمَنِّيهِ ذَلِكَ، ولَيْسَ هَذا مِن تَمَنِّي المَوْتِ المَنهِيِّ عَنْهُ، كَما قالَ عبد الله بن جحش: «اللَّهُمَّ لَقِّنِي مِنَ المُشْرِكِينَ رَجُلًا عَظِيمًا كُفْرُهُ، شَدِيدًا حَرَدُهُ، فَأُقاتِلُهُ، فَيَقْتُلُنِي فِيكَ، ويَسْلُبُنِي، ثُمَّ يَجْدَعُ أنْفِي، وأُذُنِي، فَإذا لَقِيتُكَ، فَقُلْتَ: يا عبد الله بن جحش، فِيمَ جُدِعْتَ؟ قُلْتُ: فِيكَ يا رَبُّ».
وَمِنها: أنَّ المُسْلِمَ إذا قَتَلَ نَفْسَهُ فَهو مِن أهْلِ النّارِ لِقَوْلِهِ ﷺ في قزمان الَّذِي أبْلى يَوْمَ أُحُدٍ بَلاءً شَدِيدًا، فَلَمّا اشْتَدَّتْ بِهِ الجِراحُ نَحَرَ نَفْسَهُ، فَقالَ ﷺ: «هُوَ مِن أهْلِ النّارِ».
وَمِنها: أنَّ السُّنَّةَ في الشَّهِيدِ أنَّهُ لا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلّى عَلَيْهِ ولا يُكَفَّنُ في غَيْرِ ثِيابِهِ بَلْ يُدْفَنُ فِيها بِدَمِهِ وكُلُومِهِ، إلّا أنْ يُسْلَبَها، فَيُكَفَّنَ في غَيْرِها.
وَمِنها: أنَّهُ إذا كانَ جُنُبًا غُسِّلَ كَما غَسَّلَتِ المَلائِكَةُ حنظلة بن أبي عامر.
وَمِنها: أنَّ السُّنَّةَ في الشُّهَداءِ أنْ يُدْفَنُوا في مَصارِعِهِمْ، ولا يُنْقَلُوا إلى مَكانٍ آخَرَ، فَإنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحابَةِ نَقَلُوا قَتْلاهم إلى المَدِينَةِ، فَنادى مُنادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالأمْرِ بِرَدِّ القَتْلى إلى مَصارِعِهِمْ، قالَ جابر: «بَيْنا أنا في النَّظّارَةِ إذْ جاءَتْ عَمَّتِي بِأبِي وخالِي عادَلَتْهُما عَلى ناضِحٍ، فَدَخَلَتْ بِهِما المَدِينَةَ لِنَدْفِنَهُما في مَقابِرِنا،
وَجاءَ رَجُلٌ يُنادِي: ألا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُكم أنْ تَرْجِعُوا بِالقَتْلى، فَتَدْفِنُوها في مَصارِعِها حَيْثُ قُتِلَتْ. قالَ: فَرَجَعْنا بِهِما، فَدَفَنّاهُما في القَتْلى حَيْثُ قُتِلا، فَبَيْنا أنا في خِلافَةِ مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ إذْ جاءَنِي رَجُلٌ، فَقالَ: يا جابر، واللَّهِ لَقَدْ أثارَ أباكَ عُمّالُ معاوية، فَبَدا، فَخَرَجَ طائِفَةٌ مِنهُ، قالَ: فَأتَيْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلى النَّحْوِ الَّذِي تَرَكْتُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنهُ شَيْءٌ. قالَ: فَوارَيْتُهُ، فَصارَتْ سُنَّةً في الشُّهَداءِ أنْ يُدْفَنُوا في مَصارِعِهِمْ».
وَمِنها: جَوازُ دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ أوِ الثَّلاثَةِ في القَبْرِ الواحِدِ، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كانَ يَدْفِنُ الرَّجُلَيْنِ والثَّلاثَةَ في القَبْرِ، ويَقُولُ: أيُّهم أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإذا أشارُوا إلى رَجُلٍ قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ».
وَدَفَنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرامٍ، وعَمْرَو بْنَ الجَمُوحِ في قَبْرٍ واحِدٍ لِما كانَ بَيْنَهُما مِنَ المَحَبَّةِ فَقالَ: «ادْفِنُوا هَذَيْنِ المُتَحابَّيْنِ في الدُّنْيا في قَبْرٍ واحِدٍ»
ثُمّ حُفِرَ عَنْهُما بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ، ويَدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرامٍ عَلى جُرْحِهِ كَما وضَعَها حِينَ جُرِحَ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ، فانْبَعَثَ الدَّمُ فَرُدَّتْ إلى مَكانِها، فَسَكَنَ الدَّمُ.
وَقالَ جابر: (رَأيْتُ أبِي في حُفْرَتِهِ حِينَ حُفِرَ عَلَيْهِ كَأنَّهُ نائِمٌ، وما تَغَيَّرَ مِن حالِهِ قَلِيلٌ ولا كَثِيرٌ. وقِيلَ لَهُ: أفَرَأيْتَ أكْفانَهُ؟ فَقالَ: إنَّما دُفِنَ في نَمِرَةٍ، خُمِّرَ وجْهُهُ، وعَلى رِجْلَيْهِ الحَرْمَلُ، فَوَجَدْنا النَّمِرَةَ كَما هِيَ، والحَرْمَلُ عَلى رِجْلَيْهِ عَلى هَيْئَتِهِ، وبَيْنَ ذَلِكَ سِتٌّ وأرْبَعُونَ سَنَةً).
* [فَصْلٌ في ذِكْرِ بَعْضِ الحِكَمِ والغاياتِ المَحْمُودَةِ الَّتِي كانَتْ في وقْعَةِ أُحُدٍ]
وَقَدْ أشارَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - إلى أُمَّهاتِها، وأُصُولِها في سُورَةِ (آلِ عِمْرانَ) حَيْثُ افْتَتَحَ القِصَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١]، إلى تَمامِ سِتِّينَ آيَةً.
فَمِنها: تَعْرِيفُهم سُوءَ عاقِبَةِ المَعْصِيَةِ والفَشَلِ والتَّنازُعِ، وأنَّ الَّذِي أصابَهم إنّما هو بِشُؤْمِ ذَلِكَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ حَتّى إذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ وعَصَيْتُمْ مِن بَعْدِ ما أراكم ما تُحِبُّونَ مِنكم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا ومِنكم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكم عَنْهم لِيَبْتَلِيَكم ولَقَدْ عَفا عَنْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢]، [آل عمران: ١٥٢].
فَلَمّا ذاقُوا عاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرَّسُولِ، وتَنازُعِهِمْ، وفَشَلِهِمْ، كانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أشَدَّ حَذَرًا ويَقَظَةً، وتَحَرُّزًا مِن أسْبابِ الخِذْلانِ.
وَمِنها: أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وسُنَّتَهُ في رُسُلِهِ وأتْباعِهِمْ جَرَتْ بِأنْ يُدالُوا مَرَّةً ويُدالَ عَلَيْهِمْ أُخْرى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمُ العاقِبَةُ، فَإنَّهم لَوِ انْتَصَرُوا دائِمًا دَخَلَ مَعَهُمُ المُؤْمِنُونَ وغَيْرُهُمْ، ولَمْ يَتَمَيَّزِ الصّادِقُ مِن غَيْرِهِ، ولَوِ انْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دائِمًا لَمْ يَحْصُلِ المَقْصُودُ مِنَ البَعْثَةِ والرِّسالَةِ، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أنْ جَمَعَ لَهم بَيْنَ الأمْرَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ مَن يَتَّبِعُهم ويُطِيعُهم لِلْحَقَّ، وما جاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتَّبِعُهم عَلى الظُّهُورِ والغَلَبَةِ خاصَّةً.
وَمِنها: أنّ هَذا مِن أعْلامِ الرُّسُلِ كَما قالَ هرقل لأبي سفيان: (هَلْ قاتَلْتُمُوهُ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكم وبَيْنَهُ؟ قالَ: سِجالٌ يُدالُ عَلَيْنا المَرَّةَ، ونُدالُ عَلَيْهِ الأُخْرى، قالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العاقِبَةُ)
وَمِنها: أنْ يَتَمَيَّزَ المُؤْمِنُ الصّادِقُ مِنَ المُنافِقِ الكاذِبِ، فَإنَّ المُسْلِمِينَ لَمّا أظْهَرَهُمُ اللَّهُ عَلى أعْدائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وطارَ لَهُمُ الصِّيتُ دَخَلَ مَعَهم في الإسْلامِ ظاهِرًا مَن لَيْسَ مَعَهم فِيهِ باطِنًا، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أنْ سَبَّبَ لِعِبادِهِ مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ المُؤْمِنِ والمُنافِقِ، فَأطْلَعَ المُنافِقُونَ رُءُوسَهم في هَذِهِ الغَزْوَةِ، وتَكَلَّمُوا بِما كانُوا يَكْتُمُونَهُ، وظَهَرَتْ مُخَبَّآتُهُمْ، وعادَ تَلْوِيحُهم تَصْرِيحًا، وانْقَسَمَ النّاسُ إلى كافِرٍ ومُؤْمِنٍ ومُنافِقٍ انْقِسامًا ظاهِرًا، وعَرَفَ المُؤْمِنُونَ أنَّ لَهم عَدُوًّا في نَفْسِ دُورِهِمْ، وهم مَعَهم لا يُفارِقُونَهُمْ، فاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وتَحَرَّزُوا مِنهم. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ ولَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ﴾ [آل عمران: ١٧٩].
أيْ ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَكم عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التِباسِ المُؤْمِنِينَ بِالمُنافِقِينَ حَتّى يَمِيزَ أهْلَ الإيمانِ مِن أهْلِ النِّفاقِ كَما مَيَّزَهم بِالمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ الَّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ، فَإنَّهم مُتَمَيِّزُونَ في غَيْبِهِ وعِلْمِهِ وهو سُبْحانَهُ يُرِيدُ أنْ يَمِيزَهم تَمْيِيزًا مَشْهُودًا فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الَّذِي هو غَيْبٌ شَهادَةً. وقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ﴾ اسْتِدْراكٌ لِما نَفاهُ مِنَ اطِّلاعِ خَلْقِهِ عَلى الغَيْبِ سِوى الرُّسُلِ، فَإنَّهُ يُطْلِعُهم عَلى ما يَشاءُ مِن غَيْبِهِ كَما قالَ: ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٧] فَحَظُّكم أنْتُمْ وسَعادَتُكم في الإيمانِ بِالغَيْبِ الَّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ فَإنْ آمَنتُمْ بِهِ وأيْقَنْتُمْ فَلَكم أعْظَمُ الأجْرِ والكَرامَةِ.
وَمِنها: اسْتِخْراجُ عُبُودِيَّةِ أوْلِيائِهِ وحِزْبِهِ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وفِيما يُحِبُّونَ وما يَكْرَهُونَ، وفي حالِ ظَفَرِهِمْ وظَفَرِ أعْدائِهِمْ بِهِمْ، فَإذا ثَبَتُوا عَلى الطّاعَةِ والعُبُودِيَّةِ فِيما يُحِبُّونَ وما يَكْرَهُونَ فَهم عَبِيدُهُ حَقًّا، ولَيْسُوا كَمَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ مِنَ السَّرّاءِ والنِّعْمَةِ والعافِيَةِ.
وَمِنها: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَوْ نَصَرَهم دائِمًا، وأظْفَرَهم بِعَدُوِّهِمْ في كُلِّ مَوْطِنٍ، وجَعَلَ لَهُمُ التَّمْكِينَ والقَهْرَ لِأعْدائِهِمْ أبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وشَمَخَتْ وارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمُ النَّصْرَ والظَّفَرَ لَكانُوا في الحالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيها لَوْ بَسَطَ لَهُمُ الرِّزْقَ، فَلا يُصْلِحُ عِبادَهُ إلّا السَّرّاءُ والضَّرّاءُ، والشِّدَّةُ والرَّخاءُ، والقَبْضُ والبَسْطُ، فَهو المُدَبِّرُ لِأمْرِ عِبادِهِ كَما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إنّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
وَمِنها: أنَّهُ إذا امْتَحَنَهم بِالغَلَبَةِ والكَسْرَةِ والهَزِيمَةِ ذَلُّوا وانْكَسَرُوا وخَضَعُوا، فاسْتَوْجَبُوا مِنهُ العِزَّ والنَّصْرَ، فَإنَّ خُلْعَةَ النَّصْرِ إنّما تَكُونُ مَعَ وِلايَةِ الذُّلِّ والِانْكِسارِ، قالَ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: ١٢٣].
وَقالَ: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكم شَيْئًا﴾ [التوبة: ٢٥] فَهو - سُبْحانَهُ - إذا أرادَ أنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ ويَجْبُرَهُ ويَنْصُرَهُ كَسَرَهُ أوَّلًا، ويَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ ونَصْرُهُ عَلى مِقْدارِ ذُلِّهِ وانْكِسارِهِ.
وَمِنها: أنَّهُ سُبْحانَهُ هَيَّأ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ مَنازِلَ في دارِ كَرامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْها أعْمالُهُمْ، ولَمْ يَكُونُوا بالِغِيها إلّا بِالبَلاءِ والمِحْنَةِ، فَقَيَّضَ لَهُمُ الأسْبابَ الَّتِي تُوصِلُهم إلَيْها مِنَ ابْتِلائِهِ وامْتِحانِهِ، كَما وفَّقَهم لِلْأعْمالِ الصّالِحَةِ الَّتِي هي مِن جُمْلَةِ أسْبابِ وُصُولِهِمْ إلَيْها.
وَمِنها: أنَّ النُّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنَ العافِيَةِ الدّائِمَةِ والنَّصْرِ والغِنى طُغْيانًا ورُكُونًا إلى العاجِلَةِ، وذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُها عَنْ جِدِّها في سَيْرِها إلى اللَّهِ والدّارِ الآخِرَةِ، فَإذا أرادَ بِها رَبُّها ومالِكُها وراحِمُها كَرامَتَهُ قَيَّضَ لَها مِنَ الِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ ما يَكُونُ دَواءً لِذَلِكَ المَرَضِ العائِقِ عَنِ السَّيْرِ الحَثِيثِ إلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ البَلاءُ والمِحْنَةُ بِمَنزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي العَلِيلَ الدَّواءَ الكَرِيهَ، ويَقْطَعُ مِنهُ العُرُوقَ المُؤْلِمَةَ لِاسْتِخْراجِ الأدْواءِ مِنهُ، ولَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الأدْواءُ حَتّى يَكُونَ فِيها هَلاكُهُ.
وَمِنها: أنَّ الشَّهادَةَ عِنْدَهُ مِن أعْلى مَراتِبِ أوْلِيائِهِ، والشُّهَداءُ هم خَواصُّهُ والمُقَرَّبُونَ مِن عِبادِهِ، ولَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ إلّا الشَّهادَةُ، وهو سُبْحانَهُ يُحِبُّ أنْ يَتَّخِذَ مِن عِبادِهِ شُهَداءَ تُراقُ دِماؤُهم في مَحَبَّتِهِ ومَرْضاتِهِ، ويُؤْثِرُونَ رِضاهُ ومَحابَّهُ عَلى نُفُوسِهِمْ، ولا سَبِيلَ إلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إلّا بِتَقْدِيرِ الأسْبابِ المُفْضِيَةِ إلَيْها مِن تَسْلِيطِ العَدُوِّ.
وَمِنها: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إذا أرادَ أنْ يُهْلِكَ أعْداءَهُ ويَمْحَقَهم قَيَّضَ لَهُمُ الأسْبابَ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِها هَلاكَهم ومَحْقَهُمْ، ومِن أعْظَمِها بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهم وطُغْيانُهُمْ، ومُبالَغَتُهم في أذى أوْلِيائِهِ، ومُحارَبَتِهِمْ وقِتالِهِمْ والتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أوْلِياؤُهُ مِن ذُنُوبِهِمْ وعُيُوبِهِمْ، ويَزْدادُ بِذَلِكَ أعْداؤُهُ مِن أسْبابِ مَحْقِهِمْ وهَلاكِهِمْ، وقَدْ ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - إنْ يَمْسَسْكم قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكم شُهَداءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ - ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩،: ١٤٠]، فَجَمَعَ لَهم في هَذا الخِطابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وإحْياءِ عَزائِمِهِمْ وهِمَمِهِمْ، وبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ، وذِكْرِ الحِكَمِ الباهِرَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إدالَةَ الكُفّارِ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿إنْ يَمْسَسْكم قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: ١٤٠]، فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ في القَرْحِ والألَمِ، وتَبايَنْتُمْ في الرَّجاءِ والثَّوابِ، كَما قالَ: ﴿إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهم يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: ١٠٤]، فَما بالُكم تَهِنُونَ وتَضْعُفُونَ عِنْدَ القَرْحِ والألَمِ، فَقَدْ أصابَهم ذَلِكَ في سَبِيلِ الشَّيْطانِ، وأنْتُمْ أُصِبْتُمْ في سَبِيلِي وابْتِغاءِ مَرْضاتِي.
ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ يُداوِلُ أيّامَ هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا بَيْنَ النّاسِ، وأنَّها عَرَضٌ حاضِرٌ، يُقَسِّمُها دُوَلًا بَيْنَ أوْلِيائِهِ وأعْدائِهِ، بِخِلافِ الآخِرَةِ، فَإنَّ عِزَّها ونَصْرَها ورَجاءَها خالِصٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا.
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرى، وهي أنْ يَتَمَيَّزَ المُؤْمِنُونَ مِنَ المُنافِقِينَ فَيَعْلَمُهم عِلْمَ رُؤْيَةٍ ومُشاهَدَةٍ بَعْدَ أنْ كانُوا مَعْلُومِينَ في غَيْبِهِ، وذَلِكَ العِلْمُ الغَيْبِيُّ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوابٌ ولا عِقابٌ، وإنَّما يَتَرَتَّبُ الثَّوابُ والعِقابُ عَلى المَعْلُومِ إذا صارَ مُشاهَدًا واقِعًا في الحِسِّ.
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرى، وهِي اتِّخاذُهُ سُبْحانَهُ مِنهم شُهَداءَ، فَإنَّهُ يُحِبُّ الشُّهَداءَ مِن عِبادِهِ، وقَدْ أعَدَّ لَهم أعْلى المَنازِلِ وأفْضَلَها، وقَدِ اتَّخَذَهم لِنَفْسِهِ، فَلا بُدَّ أنْ يُنِيلَهم دَرَجَةَ الشَّهادَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٠]، تَنْبِيهٌ لَطِيفُ المَوْقِعِ جِدًّا عَلى كَراهَتِهِ وبُغْضِهِ لِلْمُنافِقِينَ الَّذِينَ انْخَذَلُوا عَنْ نَبِيِّهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَشْهَدُوهُ ولَمْ يَتَّخِذْ مِنهم شُهَداءَ، لِأنَّهُ لَمْ يُحِبَّهم فَأرْكَسَهم ورَدَّهم لِيَحْرِمَهم ما خَصَّ بِهِ المُؤْمِنِينَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وما أعْطاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنهُمْ، فَثَبَّطَ هَؤُلاءِ الظّالِمِينَ عَنِ الأسْبابِ الَّتِي وفَّقَ لَها أوْلِياءَهُ وحِزْبَهُ.
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرى فِيما أصابَهم ذَلِكَ اليَوْمَ، وهو تَمْحِيصُ الَّذِينَ آمَنُوا، وهو تَنْقِيَتُهم وتَخْلِيصُهم مِنَ الذُّنُوبِ، ومِن آفاتِ النُّفُوسِ، وأيْضًا فَإنَّهُ خَلَّصَهُمْ، ومَحَّصَهم مِنَ المُنافِقِينَ، فَتَمَيَّزُوا مِنهُمْ، فَحَصَلَ لَهم تَمْحِيصانِ: تَمْحِيصٌ مِن نُفُوسِهِمْ، وتَمْحِيصٌ مِمَّنْ كانَ يُظْهِرُ أنَّهُ مِنهم وهو عَدُوُّهم.
ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرى وهِي مَحْقُ الكافِرِينَ بِطُغْيانِهِمْ وبَغْيِهِمْ وعُدْوانِهِمْ، ثُمَّ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ حُسْبانَهم وظَنَّهم أنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِدُونِ الجِهادِ في سَبِيلِهِ والصَّبْرِ عَلى أذى أعْدائِهِ، وإنَّ هَذا مُمْتَنِعٌ بِحَيْثُ يُنْكَرُ عَلى مَن ظَنَّهُ وحَسِبَهُ.
فَقالَ: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكم ويَعْلَمَ الصّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٢]، أيْ ولَمّا يَقَعْ ذَلِكَ مِنكم فَيَعْلَمُهُ، فَإنَّهُ لَوْ وقَعَ لَعَلِمَهُ فَجازاكم عَلَيْهِ بِالجَنَّةِ، فَيَكُونُ الجَزاءُ عَلى الواقِعِ المَعْلُومِ، لا عَلى مُجَرَّدِ العِلْمِ، فَإنَّ اللَّهَ لا يَجْزِي العَبْدَ عَلى مُجَرَّدِ عِلْمِهِ فِيهِ دُونَ أنْ يَقَعَ مَعْلُومُهُ، ثُمَّ وبَّخَهم عَلى هَزِيمَتِهِمْ مِن أمْرٍ كانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ ويَوَدُّونَ لِقاءَهُ.
فَقالَ: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٤٣].
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ولَمّا أخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ بِما فَعَلَ بِشُهَداءِ بَدْرٍ مِنَ الكَرامَةِ رَغِبُوا في الشَّهادَةِ، فَتَمَنَّوْا قِتالًا يَسْتَشْهِدُونَ فِيهِ، فَيَلْحَقُونَ إخْوانَهُمْ، فَأراهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ وسَبَّبَهُ لَهُمْ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أنِ انْهَزَمُوا إلّا مَن شاءَ اللَّهُ مِنهُمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾.
وَمِنها: أنَّ وقْعَةَ أُحُدٍ كانَتْ مُقَدِّمَةً وإرْهاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَثَبَّتَهم ووَبَّخَهم عَلى انْقِلابِهِمْ عَلى أعْقابِهِمْ إنْ ماتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أوْ قُتِلَ، بَلِ الواجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أنْ يَثْبُتُوا عَلى دِينِهِ وتَوْحِيدِهِ ويَمُوتُوا عَلَيْهِ أوْ يُقْتَلُوا، فَإنَّهم إنّما يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ، وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، فَلَوْ ماتَ مُحَمَّدٌ أوْ قُتِلَ لا يَنْبَغِي لَهم أنْ يَصْرِفَهم ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وما جاءَ بِهِ، فَكُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ، وما بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ لِيُخَلَّدَ لا هو ولا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلى الإسْلامِ والتَّوْحِيدِ، فَإنَّ المَوْتَ لا بُدّ مِنهُ سَواءٌ ماتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أوْ بَقِيَ، ولِهَذا وبَّخَهم عَلى رُجُوعِ مَن رَجَعَ مِنهم عَنْ دِينِهِ، لَمّا صَرَخَ الشّيْطانُ إنّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقالَ: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكم ومَن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤]، والشّاكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ، فَثَبَتُوا عَلَيْها حَتّى ماتُوا أوْ قُتِلُوا، فَظَهَرَ أثَرُ هَذا العِتابِ، وحُكْمُ هَذا الخِطابِ يَوْمَ ماتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ عَلى عَقِبَيْهِ، وثَبَتَ الشّاكِرُونَ عَلى دِينِهِمْ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ وأعَزَّهُمْ، وظَفَّرَهم بِأعْدائِهِمْ، وجَعَلَ العاقِبَةَ لَهم.
ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ أجَلًا لا بُدَّ أنْ تَسْتَوْفِيَهُ، ثُمَّ تَلْحَقَ بِهِ، فَيَرِدُ النّاسُ كُلُّهم حَوْضَ المَنايا مَوْرِدًا واحِدًا، وإنْ تَنَوَّعَتْ أسْبابُهُ ويَصْدُرُونَ عَنْ مَوْقِفِ القِيامَةِ مَصادِرَ شَتّى، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ، وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ.
ثُمّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ جَماعَةً كَثِيرَةً مِن أنْبِيائِهِ قُتِلُوا وقُتِلَ مَعَهم أتْباعٌ لَهم كَثِيرُونَ فَما وهَنَ مَن بَقِيَ مِنهم لِما أصابَهم في سَبِيلِهِ وما ضَعُفُوا وما اسْتَكانُوا وما وهَنُوا عِنْدَ القَتْلِ، ولا ضَعُفُوا ولا اسْتَكانُوا، بَلْ تَلَقَّوُا الشَّهادَةَ بِالقُوَّةِ والعَزِيمَةِ والإقْدامِ، فَلَمْ يُسْتُشْهِدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أذِلَّةً، بَلِ اسْتُشْهِدُوا أعِزَّةً كِرامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ، والصَّحِيحُ أنَّ الآيَةَ تَتَناوَلُ الفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِما.
ثُمّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَمّا اسْتَنْصَرَتْ بِهِ الأنْبِياءُ وأُمَمُهم عَلى قَوْمِهِمْ مِنَ اعْتِرافِهِمْ وتَوْبَتِهِمْ واسْتِغْفارِهِمْ وسُؤالِهِمْ رَبَّهم أنْ يُثَبِّتَ أقْدامَهم وأنْ يَنْصُرَهم عَلى أعْدائِهِمْ، فَقالَ: ﴿وَما كانَ قَوْلَهم إلّا أنْ قالُوا رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإسْرافَنا في أمْرِنا وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ - فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٧].
لَمّا عَلِمَ القَوْمُ أنَّ العَدُوَّ إنّما يُدالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وأنَّ الشّيْطانَ إنّما يَسْتَزِلُّهم ويَهْزِمُهم بِها، وأنَّها نَوْعانِ: تَقْصِيرٌ في حَقٍّ، أوْ تَجاوُزٌ لِحَدٍّ، وأنَّ النَّصْرَةَ مَنُوطَةٌ بِالطّاعَةِ، قالُوا: رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وإسْرافَنا في أمْرِنا، ثُمَّ عَلِمُوا أنَّ رَبَّهم تَبارَكَ وتَعالى إنْ لَمْ يُثَبِّتْ أقْدامَهم ويَنْصُرْهم لَمْ يَقْدِرُوا هم عَلى تَثْبِيتِ أقْدامِ أنْفُسِهِمْ ونَصْرِها عَلى أعْدائِهِمْ، فَسَألُوهُ ما يَعْلَمُونَ أنَّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ، وأنّهُ إنْ لَمْ يُثَبِّتْ أقْدامَهم ويَنْصُرْهم لَمْ يَثْبُتُوا ولَمْ يَنْتَصِرُوا، فَوَفَّوُا المَقامَيْنِ حَقَّهُما: مَقامَ المُقْتَضِي، وهو التَّوْحِيدُ والِالتِجاءُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، ومَقامَ إزالَةِ المانِعِ مِنَ النَّصْرَةِ، وهو الذُّنُوبُ والإسْرافُ، ثُمَّ حَذَّرَهم سُبْحانَهُ مِن طاعَةِ عَدُوِّهِمْ، وأخْبَرَ أنَّهم إنْ أطاعُوهم خَسِرُوا الدُّنْيا والآخِرَةَ، وفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالمُنافِقِينَ الَّذِينَ أطاعُوا المُشْرِكِينَ لَمّا انْتَصَرُوا وظَفِرُوا يَوْمَ أُحُدٍ.
ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ مَوْلى المُؤْمِنِينَ، وهو خَيْرُ النّاصِرِينَ فَمَن والاهُ فَهو المَنصُورُ.
ثُمَّ أخْبَرَهم أنَّهُ سَيُلْقِي في قُلُوبِ أعْدائِهِمُ الرُّعْبَ الَّذِي يَمْنَعُهم مِنَ الهُجُومِ عَلَيْهِمْ والإقْدامِ عَلى حَرْبِهِمْ، وأنَّهُ يُؤَيِّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِنَ الرُّعْبِ يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلى أعْدائِهِمْ، وذَلِكَ الرُّعْبُ بِسَبَبِ ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وعَلى قَدْرِ الشِّرْكِ يَكُونُ الرُّعْبُ، فالمُشْرِكُ بِاللَّهِ أشَدُّ شَيْءٍ خَوْفًا ورُعْبًا والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِالشِّرْكِ لَهُمُ الأمْنُ والهُدى والفَلاحُ، والمُشْرِكُ لَهُ الخَوْفُ والضَّلالُ والشَّقاءُ.
ثُمّ أخْبَرَهم أنَّهُ صَدَقَهم وعْدَهُ في نُصْرَتِهِمْ عَلى عَدُوِّهِمْ، وهو الصّادِقُ الوَعْدِ، وأنّهم لَوِ اسْتَمَرُّوا عَلى الطّاعَةِ ولُزُومِ أمْرِ الرَّسُولِ لاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُمْ، ولَكِنِ انْخَلَعُوا عَنِ الطّاعَةِ، وفارَقُوا مَرْكَزَهُمْ، فانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطّاعَةِ، فَفارَقَتْهُمُ النُّصْرَةُ، فَصَرَفَهم عَنْ عَدُوِّهِمْ عُقُوبَةً وابْتِلاءً وتَعْرِيفًا لَهم بِسُوءِ عَواقِبِ المَعْصِيَةِ، وحُسْنِ عاقِبَةِ الطّاعَةِ.
ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ عَفا عَنْهم بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وأنّهُ ذُو فَضْلٍ عَلى عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ. قِيلَ للحسن: كَيْفَ يَعْفُو عَنْهم وقَدْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أعْداءَهم حَتّى قَتَلُوا مِنهم مَن قَتَلُوا، ومَثَّلُوا بِهِمْ ونالُوا مِنهم ما نالُوهُ؟ فَقالَ: لَوْلا عَفْوُهُ عَنْهم لاسْتَأْصَلَهُمْ، ولَكِنْ بِعَفْوِهِ عَنْهم دَفَعَ عَنْهم عَدُوَّهم بَعْدَ أنْ كانُوا مُجْمِعِينَ عَلى اسْتِئْصالِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَّرَهم بِحالِهِمْ وقْتَ الفِرارِ مُصْعِدِينَ أيْ جادِّينَ في الهَرَبِ والذِّهابِ في الأرْضِ، أوْ صاعِدِينَ في الجَبَلِ لا يَلْوُونَ عَلى أحَدٍ مِن نَبِيِّهِمْ ولا أصْحابِهِمْ، والرَّسُولُ يَدْعُوهم في أُخْراهم إلى عِبادِ اللَّهِ أنا رَسُولُ اللَّهِ.
فَأثابَهم بِهَذا الهَرَبِ والفِرارِ غَمًّا بَعْدَ غَمٍّ: غَمُّ الهَزِيمَةِ والكَسْرَةِ، وغَمُّ صَرْخَةِ الشَّيْطانِ فِيهِمْ بِأنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ.
وَقِيلَ: جازاكم غَمًّا بِما غَمَمْتُمْ رَسُولَهُ بِفِرارِكم عَنْهُ وأسْلَمْتُمُوهُ إلى عَدُوِّهِ، فالغَمُّ الَّذِي حَصَلَ لَكم جَزاءً عَلى الغَمٍّ الَّذِي أوْقَعْتُمُوهُ بِنَبِيِّهِ، والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكم ولا ما أصابَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٣] تَنْبِيهٌ عَلى حِكْمَةِ هَذا الغَمِّ بَعْدَ الغَمِّ، وهو أنْ يُنْسِيَهُمُ الحُزْنَ عَلى ما فاتَهم مِنَ الظَّفَرِ وعَلى ما أصابَهم مِنَ الهَزِيمَةِ والجِراحِ، فَنَسُوا بِذَلِكَ السَّبَبَ، وهَذا إنّما يَحْصُلُ بِالغَمِّ الَّذِي يَعْقُبُهُ غَمٌّ آخَرُ.
الثّانِي: أنَّهُ مُطابِقٌ لِلْواقِعِ، فَإنَّهُ حَصَلَ لَهم غَمُّ فَواتِ الغَنِيمَةِ، ثُمَّ أعْقَبَهُ غَمُّ الهَزِيمَةِ، ثُمَّ غَمُّ الجِراحِ الَّتِي أصابَتْهُمْ، ثُمَّ غَمُّ القَتْلِ، ثُمَّ غَمُّ سَماعِهِمْ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ قُتِلَ، ثُمَّ غَمُّ ظُهُورِ أعْدائِهِمْ عَلى الجَبَلِ فَوْقَهُمْ، ولَيْسَ المُرادُ غَمَّيْنِ اثْنَيْنِ خاصَّةً، بَلْ غَمًّا مُتَتابِعًا لِتَمامِ الِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: " بِغَمٍّ " مِن تَمامِ الثَّوابِ، لا أنَّهُ سَبَبُ جَزاءِ الثَّوابِ، والمَعْنى: أثابَكم غَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ جَزاءً عَلى ما وقَعَ مِنهم مِنَ الهُرُوبِ، وإسْلامِهِمْ نَبِيَّهم ﷺ وأصْحابَهُ، وتَرْكِ اسْتِجابَتِهِمْ لَهُ، وهو يَدْعُوهُمْ، ومُخالَفَتِهِمْ لَهُ في لُزُومِ مَرْكَزِهِمْ، وتَنازُعِهِمْ في الأمْرِ وفَشَلِهِمْ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأُمُورِ يُوجِبُ غَمًّا يَخُصُّهُ، فَتَرادَفَتْ عَلَيْهِمُ الغُمُومُ، كَما تَرادَفَتْ مِنهم أسْبابُها ومُوجِباتُها، ولَوْلا أنْ تَدارَكَهم بِعَفْوِهِ لَكانَ أمْرًا آخَرَ.
وَمِن لُطْفِهِ بِهِمْ ورَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنهم كانَتْ مِن مُوجِباتِ الطِّباعِ، وهِي مِن بَقايا النُّفُوسِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ النُّصْرَةِ المُسْتَقِرَّةِ، فَقَيَّضَ لَهم بِلُطْفِهِ أسْبابًا أخْرَجَها مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْها آثارُها المَكْرُوهَةُ، فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أنَّ التَّوْبَةَ مِنها، والِاحْتِرازَ مِن أمْثالِها، ودَفْعَها بِأضْدادِها أمْرٌ مُتَعَيِّنٌ لا يَتِمُّ لَهُمُ الفَلاحُ والنُّصْرَةُ الدّائِمَةُ المُسْتَقِرَّةُ إلّا بِهِ، فَكانُوا أشَدَّ حَذَرًا بَعْدَها ومَعْرِفَةً بِالأبْوابِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنها.
وَرُبَّما صَحَّتِ الأجْسامُ بِالعِلَلِ
ثُمَّ إنّهُ تَدارَكَهم سُبْحانَهُ بِرَحْمَتِهِ، وخَفَّفَ عَنْهم ذَلِكَ الغَمَّ، وغَيَّبَهُ عَنْهم بِالنُّعاسِ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ أمْنًا مِنهُ ورَحْمَةً، والنُّعاسُ في الحَرْبِ عَلامَةُ النُّصْرَةِ والأمْنِ، كَما أنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وأخْبَرَ أنَّ مَن لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ النُّعاسُ فَهو مِمَّنْ أهَمَّتْهُ نَفْسُهُ لا دِينُهُ ولا نَبِيُّهُ ولا أصْحابُهُ، وأنَّهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ.
وَقَدْ فُسِّرَ هَذا الظَّنُّ الَّذِي لا يَلِيقُ بِاللَّهِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وأنَّ أمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وأنّهُ يُسْلِمُهُ لِلْقَتْلِ، وقَدْ فُسِّرَ بِظَنِّهِمْ أنَّ ما أصابَهم لَمْ يَكُنْ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ، ولا حِكْمَةَ لَهُ فِيهِ، فَفُسِّرَ بِإنْكارِ الحِكْمَةِ، وإنْكارِ القَدَرِ، وإنْكارِ أنْ يُتِمَّ أمْرَ رَسُولِهِ، ويُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ، وهَذا هو ظَنُّ السَّوْءِ الَّذِي ظَنَّهُ المُنافِقُونَ والمُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في (سُورَةِ الفَتْحِ) حَيْثُ يَقُولُ: ﴿وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولَعَنَهم وأعَدَّ لَهم جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: ٦]، وإنَّما كانَ هَذا ظَنَّ السَّوْءِ، وظَنَّ الجاهِلِيَّةِ المَنسُوبَ إلى أهْلِ الجَهْلِ، وظَنَّ غَيْرِ الحَقِّ لِأنّهُ ظَنُّ غَيْرِ ما يَلِيقُ بِأسْمائِهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلْيا وذاتِهِ المُبَرَّأةِ مِن كُلِّ عَيْبٍ وسُوءٍ، بِخِلافِ ما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ وتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ والإلَهِيَّهِ، وما يَلِيقُ بِوَعْدِهِ الصّادِقِ الَّذِي لا يُخْلِفُهُ وبِكَلِمَتِهِ الَّتِي سَبَقَتْ لِرُسُلِهِ أنَّهُ يَنْصُرُهم ولا يَخْذُلُهُمْ، ولِجُنْدِهِ بِأنَّهم هُمُ الغالِبُونَ، فَمَن ظَنَّ بِأنَّهُ لا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، ولا يُتِمُّ أمْرَهُ، ولا يُؤَيِّدُهُ ويُؤَيِّدُ حِزْبَهُ، ويُعْلِيهِمْ ويُظْفِرُهم بِأعْدائِهِ، ويُظْهِرُهم عَلَيْهِمْ، وأنَّهُ لا يَنْصُرُ دِينَهُ وكِتابَهُ، وأنّهُ يُدِيلُ الشِّرْكَ عَلى التَّوْحِيدِ، والباطِلَ عَلى الحَقِّ إدالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَها التَّوْحِيدُ والحَقُّ اضْمِحْلالًا لا يَقُومُ بَعْدَهُ أبَدًا، فَقَدْ ظَنَّ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، ونَسَبَهُ إلى خِلافِ ما يَلِيقُ بِكَمالِهِ وجَلالِهِ وصِفاتِهِ ونُعُوتِهِ، فَإنَّ حَمْدَهُ وعِزَّتَهُ وحِكْمَتَهُ وإلَهِيَّتَهُ تَأْبى ذَلِكَ، وتَأْبى أنْ يُذَلَّ حِزْبُهُ وجُنْدُهُ، وأنْ تَكُونَ النُّصْرَةُ المُسْتَقِرَّةُ والظَّفَرُ الدّائِمُ لِأعْدائِهِ المُشْرِكِينَ بِهِ العادِلِينَ بِهِ، فَمَن ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ فَما عَرَفَهُ ولا عَرَفَ أسَماءَهُ ولا عَرَفَ صِفاتَهُ وكَمالَهُ، وكَذَلِكَ مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ فَما عَرَفَهُ ولا عَرَفَ رُبُوبِيَّتَهُ ومُلْكَهُ وعَظَمَتَهُ، وكَذَلِكَ مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ قَدَّرَ ما قَدَّرَهُ مِن ذَلِكَ وغَيْرِهِ لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ وغايَةٍ مَحْمُودَةٍ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلَيْها، وأنَّ ذَلِكَ إنّما صَدَرَ عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ حِكْمَةٍ وغايَةٍ مَطْلُوبَةٍ هِي أحَبُّ إلَيْهِ مِن فَوْتِها، وأنَّ تِلْكَ الأسْبابَ المَكْرُوهَةَ المُفْضِيَةَ إلَيْها لا يَخْرُجُ تَقْدِيرُها عَنِ الحِكْمَةِ لِإفْضائِها إلى ما يُحِبُّ، وإنْ كانَتْ مَكْرُوهَةً لَهُ فَما قَدَّرَها سُدًى، ولا أنْشَأها عَبَثًا، ولا خَلَقَها باطِلًا، ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ﴾ [ص: ٢٧] وأكْثَرُ النّاسِ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ السَّوْءِ فِيما يَخْتَصُّ بِهِمْ وفِيما يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، ولا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ إلّا مَن عَرَفَ اللَّهَ وعَرَفَ أسْماءَهُ وصِفاتِهِ، وعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وحِكْمَتِهِ، فَمَن قَنَطَ مِن رَحْمَتِهِ وأيِسَ مِن رَوْحِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن جَوَّزَ عَلَيْهِ أنْ يُعَذِّبَ أوْلِياءَهُ مَعَ إحْسانِهِمْ وإخْلاصِهِمْ ويُسَوِّي بَيْنَهم وبَيْنَ أعْدائِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنْ يَتْرُكَ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطَّلِينَ عَنِ الأمْرِ والنَّهْي، ولا يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، ولا يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، بَلْ يَتْرُكُهم هَمَلًا كالأنْعامِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ أنَّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثَّوابِ والعِقابِ في دارٍ يُجازِي المُحْسِنَ فِيها بِإحْسانِهِ والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ، ويُبَيِّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ ما اخْتَلَفُوا فِيهِ، ويُظْهِرَ لِلْعالَمِينَ كُلِّهِمْ صِدْقَهُ وصِدْقَ رُسُلِهِ، وأنَّ أعْداءَهُ كانُوا هُمُ الكاذِبِينَ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ أنَّهُ يُضَيِّعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصّالِحَ الَّذِي عَمِلَهُ خالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَلى امْتِثالِ أمْرِهِ، ويُبْطِلُهُ عَلَيْهِ بِلا سَبَبٍ مِنَ العَبْدِ، أوْ أنَّهُ يُعاقِبُهُ بِما لا صُنْعَ فِيهِ ولا اخْتِيارَ لَهُ ولا قُدْرَةَ ولا إرادَةَ في حُصُولِهِ، بَلْ يُعاقِبُهُ عَلى فِعْلِهِ هو سُبْحانَهُ بِهِ، أوْ ظَنَّ بِهِ أنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أنْ يُؤَيِّدَ أعْداءَهُ الكاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالمُعْجِزاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِها أنْبِياءَهُ ورُسُلَهُ، ويُجْرِيَها عَلى أيْدِيهِمْ يُضِلُّونَ بِها عِبادَهُ، وأنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتّى تَعْذِيبُ مَن أفْنى عُمْرَهُ في طاعَتِهِ فَيُخَلِّدُهُ في الجَحِيمِ أسْفَلَ السّافِلِينَ، ويُنَعِّمُ مَنِ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ في عَداوَتِهِ وعَداوَةِ رُسُلِهِ ودِينِهِ، فَيَرْفَعُهُ إلى أعْلى عِلِّيِّينَ، وكِلا الأمْرَيْنِ عِنْدَهُ في الحُسْنِ سَواءٌ، ولا يُعْرَفُ امْتِناعُ أحَدِهِما ووُقُوعُ الآخَرِ إلّا بِخَبَرٍ صادِقٍ، وإلّا فالعَقْلُ لا يَقْضِي بِقُبْحِ أحَدِهِما وحُسْنِ الآخَرِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَبِالجُمْلَةِ فَمَن ظَنَّ بِهِ خِلافَ ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ووَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ، أوْ عَطَّلَ حَقائِقَ ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، ووَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ أنَّ لَهُ ولَدًا أوْ شَرِيكًا، أوْ أنَّ أحَدًا يَشْفَعُ عِنْدَهُ بِدُونِ إذْنِهِ، أوْ أنَّ بَيْنَهُ وبَيْنَ خَلْقِهِ وسائِطَ يَرْفَعُونَ حَوائِجَهم إلَيْهِ، أوْ أنَّهُ نَصَبَ لِعِبادِهِ أوْلِياءَ مِن دُونِهِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ ويَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إلَيْهِ ويَجْعَلُونَهم وسائِطَ بَيْنَهم وبَيْنَهُ فَيَدْعُونَهم ويُحِبُّونَهم كَحُبِّهِ ويَخافُونَهم ويَرْجُونَهم فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أقْبَحَ الظَّنِّ وأسْوَأهُ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ يَنالُ ما عِنْدَهُ بِمَعْصِيَتِهِ ومُخالَفَتِهِ كَما يَنالُهُ بِطاعَتِهِ والتَّقَرُّبِ إلَيْهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ خِلافَ حِكْمَتِهِ وخِلافَ مُوجِبِ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وهو مِن ظَنِّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ إذا تَرَكَ لِأجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوِّضْهُ خَيْرًا مِنهُ أوْ مَن فَعَلَ لِأجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أفْضَلَ مِنهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ يَغْضَبُ عَلى عَبْدِهِ ويُعاقِبُهُ ويَحْرِمُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ ولا سَبَبٍ مِنَ العَبْدِ إلّا بِمُجَرَّدِ المَشِيئَةِ ومَحْضِ الإرادَةِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ إذا صَدَقَهُ في الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، وتَضَرَّعَ إلَيْهِ وسَألَهُ، واسْتَعانَ بِهِ وتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أنَّهُ يُخَيِّبُهُ ولا يُعْطِيهِ ما سَألَهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وظَنَّ بِهِ خِلافَ ما هو أهْلُهُ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ يُثِيبُهُ إذا عَصاهُ بِما يُثِيبُهُ بِهِ إذا أطاعَهُ، وسَألَهُ ذَلِكَ في دُعائِهِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ خِلافَ ما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وحَمْدُهُ وخِلافَ ما هو أهْلُهُ وما لا يَفْعَلُهُ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ إذا أغْضَبَهُ وأسْخَطَهُ، وأوْضَعَ في مَعاصِيهِ ثُمَّ اتَّخَذَ مِن دُونِهِ ولِيًّا، ودَعا مِن دُونِهِ مَلَكًا أوْ بَشَرًا حَيًّا أوْ مَيِّتًا يَرْجُو بِذَلِكَ أنْ يَنْفَعَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ويُخَلِّصَهُ مِن عَذابِهِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وذَلِكَ زِيادَةٌ في بُعْدِهِ مِنَ اللَّهِ وفي عَذابِهِ.
وَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ يُسَلِّطُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أعْداءَهُ تَسْلِيطًا مُسْتَقِرًّا دائِمًا في حَياتِهِ وفي مَماتِهِ، وابْتَلاهُ بِهِمْ لا يُفارِقُونَهُ، فَلَمّا ماتَ اسْتَبَدُّوا بِالأمْرِ دُونَ وصِيَّةٍ وظَلَمُوا أهْلَ بَيْتِهِ، وسَلَبُوهم حَقَّهم وأذَلُّوهُمْ، وكانَتِ العِزَّةُ والغَلَبَةُ والقَهْرُ لِأعْدائِهِ وأعْدائِهِمْ دائِمًا مِن غَيْرِ جُرْمٍ ولا ذَنْبٍ لِأوْلِيائِهِ وأهْلِ الحَقِّ، وهو يَرى قَهْرَهم لَهم وغَصْبَهم إيّاهم حَقَّهم وتَبْدِيلَهم دِينَ نَبِيِّهِمْ وهو يَقْدِرُ عَلى نُصْرَةِ أوْلِيائِهِ وحِزْبِهِ وجُنْدِهِ، ولا يَنْصُرُهم ولا يُدِيلُهُمْ، بَلْ يُدِيلُ أعْداءَهم عَلَيْهِمْ أبَدًا، أوْ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ بَلْ حَصَلَ هَذا بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ ولا مَشِيئَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ المُبَدِّلِينَ لِدِينِهِ مُضاجِعِيهِ في حُفْرَتِهِ تُسَلِّمُ أُمَّتُهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ كُلَّ وقْتٍ كَما تَظُنُّهُ الرّافِضَةُ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أقْبَحَ الظَّنِّ وأسْوَأهُ، سَواءٌ قالُوا: إنّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَنْصُرَهم ويَجْعَلَ لَهُمُ الدَّوْلَةَ والظَّفَرَ، أوْ أنَّهُ غَيْرُ قادِرٍ عَلى ذَلِكَ فَهم قادِحُونَ في قُدْرَتِهِ أوْ في حِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ، وذَلِكَ مِن ظَنِّ السَّوْءِ بِهِ، ولا رَيْبَ أنَّ الرَّبَّ الَّذِي فَعَلَ هَذا بَغِيضٌ إلى مَن ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْمُودٍ عِنْدَهُمْ، وكانَ الواجِبُ أنْ يَفْعَلَ خِلافَ ذَلِكَ لَكِنْ رَفَوْا هَذا الظَّنَّ الفاسِدَ بِخَرْقٍ أعْظَمَ مِنهُ، واسْتَجارُوا مِنَ الرَّمْضاءِ بِالنّارِ، فَقالُوا: لَمْ يَكُنْ هَذا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، ولا لَهُ قُدْرَةٌ عَلى دَفْعِهِ ونَصْرِ أوْلِيائِهِ، فَإنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى أفْعالِ عِبادِهِ، ولا هي داخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَظَنُّوا بِهِ ظَنَّ إخْوانِهِمُ المَجُوسِ والثَّنَوِيَّةِ بِرَبِّهِمْ، وكُلِّ مُبْطِلٍ وكافِرٍ ومُبْتَدِعٍ مَقْهُورٍ مُسْتَذَلٍّ، فَهو يَظُنُّ بِرَبِّهِ هَذا الظَّنَّ وأنَّهُ أوْلى بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ والعُلُوِّ مِن خُصُومِهِ، فَأكْثَرُ الخَلْقِ بَلْ كُلُّهم إلّا مَن شاءَ اللَّهُ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ السَّوْءِ، فَإنَّ غالِبَ بَنِي آدَمَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ مَبْخُوسُ الحَقِّ ناقِصُ الحَظِّ، وأنّهُ يَسْتَحِقُّ فَوْقَ ما أعْطاهُ اللَّهُ ولِسانُ حالِهِ يَقُولُ: ظَلَمَنِي رَبِّي ومَنَعَنِي ما أسْتَحِقُّهُ، ونَفْسُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وهو بِلِسانِهِ يُنْكِرُهُ، ولا يَتَجاسَرُ عَلى التَّصْرِيحِ بِهِ، ومَن فَتَّشَ نَفْسَهُ وتَغَلْغَلَ في مَعْرِفَةِ دَفائِنِها وطَواياها رَأى ذَلِكَ فِيها كامِنًا كُمُونَ النّارِ في الزِّنادِ، فاقْدَحْ زِنادَ مَن شِئْتَ يُنْبِئْكَ شَرارُهُ عَمّا في زِنادِهِ، ولَوْ فَتَّشْتَ مَن فَتَّشْتَهُ لَرَأيْتَ عِنْدَهُ تَعَتُّبًا عَلى القَدَرِ ومَلامَةً لَهُ واقْتِراحًا عَلَيْهِ خِلافَ ما جَرى بِهِ، وأنّهُ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ كَذا وكَذا، فَمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ، وفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أنْتَ سالِمٌ مِن ذَلِكَ.
؎فَإنْ تَنْجُ مِنها تَنْجُ مِن ذِي عظيمَةٍ ∗∗∗ وإلّا فَإنِّي لا إخالُكُ ناجِيًا
فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذا المَوْضِعِ، ولْيَتُبْ إلى اللَّهِ تَعالى، ولِيَسْتَغْفِرْهُ كُلَّ وقْتٍ مِن ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، ولْيَظُنَّ السَّوءَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِي مَأْوى كُلَّ سُوءٍ، ومَنبَعُ كُلَّ شَرٍّ المُرَكَّبَةِ عَلى الجَهْلِ والظُّلْمِ، فَهي أوْلى بِظَنِّ السَّوءِ مِن أحْكَمِ الحاكِمِينَ وأعْدَلِ العادِلِينَ وأرْحَمِ الرّاحِمِينَ، الغَنِيِّ الحَمِيدِ الَّذِي لَهُ الغِنى التّامُّ والحَمْدُ التّامُّ والحِكْمَةُ التّامُّةُ، المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأسْمائِهِ، فَذاتُهُ لَها الكَمالُ المُطْلَقُ مِن كُلِّ وجْهٍ، وصِفاتُهُ كَذَلِكَ، وأفْعالُهُ كَذَلِكَ، كُلُّها حِكْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ ورَحْمَةٌ وعَدْلٌ، وأسْماؤُهُ كُلُّها حُسْنى.
؎فَلا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ ∗∗∗ فَإنَّ اللَّهَ أوْلى بِالجَمِيلِ
وَلا تَظُنَّنَّ بِنَفْسِكَ قَطُّ خَيْرًا
؎وَكَيْفَ بِظالِمٍ جانٍ جَهُولِ ∗∗∗ وقُلْ يا نَفْسُ مَأْوى كُلِّ سُوءٍ
؎أيُرْجى الخَيْرُ مِن مَيْتٍ بَخِيلِ ∗∗∗ وظُنَّ بِنَفْسِكَ السُّوأى تَجِدْها
؎كَذاكَ وخَيْرُها كالمُسْتَحِيلِ ∗∗∗ وما بِكَ مِن تُقًى فِيها وخَيْرٍ
؎فَتِلْكَ مَواهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ ∗∗∗ ولَيْسَ بِها ولا مِنها ولَكِنْ
مِنَ الرَّحْمَنِ فاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ
والمَقْصُودِ ما ساقَنا إلى هَذا الكَلامِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتْهم أنْفُسُهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: ١٥٤]، ثُمَّ أخْبَرَ عَنِ الكَلامِ الَّذِي صَدَرَ عَنْ ظَنِّهِمُ الباطِلِ وهو قَوْلُهُمْ: ﴿هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ﴾، وقَوْلُهُمْ: ﴿لَوْ كانَ لَنا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا﴾، فَلَيْسَ مَقْصُودُهم بِالكَلِمَةِ الأُولى والثّانِيَةِ إثْباتَ القَدَرِ ورَدَّ الأمْرِ كُلِّهِ إلى اللَّهِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهم بِالكَلِمَةِ الأُولى لَما ذُمُّوا عَلَيْهِ، ولَما حَسُنَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾
وَلا كانَ مَصْدَرُ هَذا الكَلامِ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ، ولِهَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنّ ظَنَّهُمُ الباطِلَ هاهُنا: هو التَّكْذِيبُ بِالقَدَرِ وظَنُّهم أنَّ الأمْرَ لَوْ كانَ إلَيْهِمْ وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ تَبَعًا لَهم يَسْمَعُونَ مِنهم لَما أصابَهُمُ القَتْلُ، ولَكانَ النَّصْرُ والظَّفَرُ لَهم فَأكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في هَذا الظَّنِّ الباطِلِ الَّذِي هو ظَنُّ الجاهِلِيَّةِ، وهو الظَّنُّ المَنسُوبُ إلى أهْلِ الجَهْلِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ بَعْدَ نَفاذِ القَضاءِ والقَدَرِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن نَفاذِهِ أنَّهم كانُوا قادِرِينَ عَلى دَفْعِهِ، وأنَّ الأمْرَ لَوْ كانَ إلَيْهِمْ لَما نَفَذَ القَضاءُ، فَأكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ فَلا يَكُونُ إلّا ما سَبَقَ بِهِ قَضاؤُهُ وقَدَرُهُ، وجَرى بِهِ عِلْمُهُ وكِتابُهُ السّابِقُ، وما شاءَ اللَّهُ كانَ، ولا بُدَّ، شاءَ النّاسُ أمْ أبَوْا، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، شاءَهُ النّاسُ أمْ لَمْ يَشاءُوهُ، وما جَرى عَلَيْكم مِنَ الهَزِيمَةِ والقَتْلِ فَبِأمْرِهِ الكَوْنِيِّ الَّذِي لا سَبِيلَ إلى دَفْعِهِ، سَواءٌ كانَ لَكم مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ، وأنَّكم لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكم وقَدْ كُتِبَ القَتْلُ عَلى بَعْضِكم لَخَرَجَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ مِن بُيُوتِهِمْ إلى مَضاجِعِهِمْ ولا بُدَّ، سَواءٌ كانَ لَهم مِنَ الأمْرِ
شَيْءٌ أوْ لَمْ يَكُنْ، وهَذا مِن أظْهَرِ الأشْياءِ إبْطالًا لِقَوْلِ القَدَرِيَّةِ النُّفاةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ أنْ يَقَعَ ما لا يَشاؤُهُ اللَّهُ، وأنْ يَشاءَ ما لا يَقَعُ.
{"ayah":"وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق